المقالة الرابعة

نفحص في هذه المقالة مذهب داروِن بالنظر إلى مذهب التقدم ونواميسه في الطبيعة والتاريخ.

تقدم فيما مرَّ أنَّ الارتقاء في التحول نتيجة غالبة لا لازمة، وقد ذكرت شاهدًا على ذلك الأصول الباقية على حالها للحيوانات البحرية الدنيا، فإنها لم تستفد شيئًا بالانتخاب الطبيعي، أو استفادت شيئًا لا يُذكر؛ لشدة بساطة تركيبها، ولاستواء أحوال الأشياء التي من خارج المحيطة بها. وذكرت أيضًا بعض أمثلة تدل على تقهقر بعض الأحياء، وقلت: إنَّ الانتخاب الطبيعي قد تكون نتيجته في بعض الأحوال تقهقرًا لا تقدمًا. وفي وسعي أنْ أضيف إلى ذلك أيضًا بعض طوائف من الحيوانات الدنيا خاصة، كانت في الأصل أعلى تركيبًا، وأكثر اختلافًا منها اليوم.

فبناءً على ذلك وعلى أمور أخرى، قد أنكر بعض العلماء الارتقاء في الأحياء، ومنهم قوم من مذهب داروِن، وليل مع كونه من مذهب الارتقاء مرتاب في مسائل كثيرة، وخصومه مع اضطرارهم للإقرار بارتقاء بعض الطوائف والأجناس، يزعمون أنَّ ذلك لا يدل دلالة صريحة على أنَّ الارتقاء مطَّرد في سائر الأحوال.

فالعلماء، ولا سيما علماء الإنكليز الذين بحثوا كثيرًا في هذه المسألة، منقسمون إلى قسمين: أصحاب مذهب التحول، وأصحاب مذهب الارتقاء. فمن القسم الأول من ينكر الارتقاء، ومن القسم الثاني من ينكر التحول. ومثل هذا الاختلاف حصل بين العلماء في ألمانيا أيضًا، وقد اشتدَّ بينهم الخصام، ولا سيما على مذهب جيولوجي وضعه أولًا الأستاذ بيشوف من «بون». فأصحاب هذا المذهب ينكرون كل ارتقاء في العالم العضوي، ولا يستغربون وجود آثار بشرية في الصخور السيلورية والدفونية؛ أي في باطن الطبقات المشهورة أنها أقدم المتكونات الأرضية، وذلك موافق لرأيهم في تكوين الأرض؛ إذ يعتقدون أنَّ الأرض لم تتغير في أحوالها منذ الأزل، فلم تتغير في موجوداتها، وكل دور من أدوارها عود على بدءٍ. على أنَّ الجيولوجيا لا تستطيع فصل المسألة وحدها، بل يلزم في ذلك اعتبار البالنتوجيا والتشريح، والفيزيولوجيا والأمبريولوجيا أيضًا، فلا يصح الحكم إلَّا بعد اتفاق سائر هذه العلوم.

ومن زعماء هذا الرأي أطوفولجر ظهر أولًا بكتاب سماه «الأرض والأزل» (سنة ١٨٥٧)، ثم برسالة تلاها على مجمع الطبيعيين في ستيبين (سنة ١٨٦٣). فهو يرى أنَّ المذهب القديم المعول عليه حتى اليوم؛ أي «العالم الأول للأسماك»، و«العالم الثاني للجرذان»، و«العالم الثالث لذوات الثدي وللطيور»، و«العالم الرابع للإنسان» تنقضه الاكتشافات الحديثة، وأنَّ أصل طوائف الحيوان المختلفة أبعد كثيرًا مما يُظن، فإنه تُعلم الآن ذوات ثدي وطيور من الدور الثاني، وجرذان من الطبقة الكلسية الصدفية حتى في الشيست١ النحاسي، وفي أنتراسيت٢ الدور الأول أيضًا … إلخ. ولا يزال يوجد اليوم صور متوسطة غير الأحفورية مثل الخفاش، فإنه بين ذوات الثدي والطيور، ومثل طوائف الحيتان فإنها بين ذوات الثدي والسمك … إلخ. ويوجد اليوم أيضًا أحياء أو طبائع مركبة تعتبر أصولًا خاصة بالأدوار الأولى تنحل بالنمو، ولا يندر وجود طوائف في الأدوار الأولى تكونت قبل طوائف أدنى منها. وكما أنَّه يحصل تقدم في بعض الأحوال يحصل تأخر كذلك في البعض الآخر. ويظهر أنَّ الصور العليا تتعاقب مع الصور الدنيا غالبًا بدون ناموس ظاهر، فيحصل تجدد دائم في الصور — كما يقول فولجر — لا يُعلم ناموسه. ولا يوجد ناموس عام للارتقاء، ففولجر يسلم بالتحول في أهم معانيه، ولكنه لا يسلم بالارتقاء.
وقد ذكر الدكتور «موهر» في كتابه «تاريخ الأرض» (سنة ١٨٦٦) ما يشبه ذلك، قال:

إنَّ التمييز الذي يميزون به تاريخ الأدوار الأرضية المختلفة بحسب نظامها مغلوط، وإنَّ الارتقاء والتقهقر في عالم الأحياء، وإنْ كانا يحصلان في الجزء قبل ملاشاته، إلَّا أنهما متعادلان في الكل، فالارتقاء الدائم إلى ما لا نهاية له حلم جميل.

وهكذا يقال عن التاريخ أيضًا على رأْيه ورأْى باقي خصوم الارتقاء، والبراهين التي يستندون إليها واحدة في التاريخ والطبيعة.

والبراهين المأخوذة من الطبيعة هي:
  • أولًا: إنَّ الأحياء والحيوانات البحرية الأولى الدنيا٣ هي اليوم كما كانت في ابتداء العالم، فأين الارتقاء هنا؟٤
  • ثانيًا: إنَّ طوائف الأحياء الأربع أو الخمس الكبرى؛ أي النباتات والحيوانات الأولى والمشععة والرخوة والمفصلة، حتى ذوات الفِقرات توجد منها آثار مجتمعة أو متجاورة في أسفل طبقات الأرض. فلو كان مذهب الارتقاء صحيحًا، لاقتضى أنْ يكون الأعلى منها بعد الأدنى، فتكون النباتات أولًا، ثم الحيوانات الأولى، ثم وثم … إلى الحيوانات الفِقرية التي يقتضي أنْ تكون في الآخر. وقد يكون أقدم الصور بالغًا من التكوين درجة عالية؛ فإن أقدم النباتات البحرية المعروفة يعادل اليوم أعلى صور طائفتها الدنيئة جدًّا في سلم الأحياء كما لا يخفى.
  • ثالثًا: إننا نجد في الطبقات الحديثة أجناسًا أو أنواعًا أدنى منها في الماضي، وبعض حيوانات دنيئة فوق حيوانات عالية جدًّا. وبعض الأكينيودرم والحيوانات المشععة — على قول أجاسيز — ذو تكوين أعلى منه في الرخوة أو المفصلة، وربما في بعض ذوات الفِقر أيضًا. ويوجد أيضًا في طائفة الحيوانات المفصلة ذباب يصعب إظهار ارتفاعه على القشرية، وإنْ كانت أدنى منه جدًّا في سلم الأحياء. وبعض الديدان قد يكون أعلى من بعض القشرية، وبعض عديمات الرأس قد يكون أحسن تكوينًا من بعض البطنية الأرجل أو الحلزون … إلخ.
  • رابعًا وأخيرًا: إنَّ كثيرًا من الأجناس والطوائف كان في الأيام الأولى أكمل منه اليوم، فلو كان الارتقاء يحصل دائمًا وأبدًا لما كان فيه ذلك. والحيوانات الرخوة كالسفالوبود٥ والبراشيوبود٦ كانت في الدَّور الأول بالغة في النمو، ومتنوعة جدًّا في الصور خلافًا لليوم، فإنه لم يبقَ من هاتين الطائفتين إلَّا الشيءُ القليل المعروف. ويلتقي أيضًا في هذه الأدوار القديمة صور نامية جدًّا وبالغة في التكوين، مثل «ليس» البحر الموجود في المتكونات الأولية والثلاثية للأرض، فإن صدفته مؤلفة من ثلاثين ألف قطعة متميزة، موضوعة أحسن وضع لموافقة سائر احتياجاته. وليس ذلك خاصَّا بالحيوانات الرخوة، بل يوجد في سائر طوائف الحيوان؛ فإن تكوين بعض حشرات الدور الثاني أكمل منه في أمثالها اليوم كالتمساح مثلًا. وكان للحشرات أنواع تفوق حد الحصر، وبعضها كان يبلغ كبرًا هائلًا، ولم تقل إلَّا بعد حينٍ؛ لمنازعة ما كان من ذوات الفِقرات أكمل منها لها. وكانت الطيور وذوات الثدي في الدور الثلاثي تبلغ نموًّا كبيرًا جدًّا هي في الحاضر دونه، وقد ذكرت فيما تقدم تقهقر بعض الأنواع كالديدان البطنية والحيوانات الحلمية … إلخ.

ومن الأمثلة الدالة على تقهقر بعض الصفوف يذكرون الحيَّات مثالًا لصف الحشرات، والطيور الكبيرة والإوَز الدهني بسبب ضمار جناحيه مثالًا لصف الطيور، ثم الحيتان لصف ذوات الثدي … إلخ.

ويدفعون الارتقاء في التاريخ بنفس الحجج أيضًا قالوا:
  • أولًا: إنَّ بعض الشعوب لا يزالون حتى الآن كما كانوا في الأصل؛ أي لا يزالون على عادات الإنسان السابق العهد التاريخي المعاصر للمموث، ولدب الكهوف، وللأيل العظيم، ولوحيد القرن الأول. ومنهم حتى يحارب حتى اليوم بأسلحة من الحجر وله آلات مصطنعة من الحجر، ويسكن أكواخًا من ورق الشجر أو ما شاكل، ويعيش كالحيوان وهو واقف لا يتقدم لا جسديًّا ولا عقليًّا.
  • ثانيًا: إنَّ بعض الشعوب يقف بعد أنْ يبلغ درجة معلومة من التمدن ساكنًا زمانًا طويلًا، ربما كان ألف سنة مثال ذلك الصينيون.
  • ثالثًا وأخيرًا: إنَّ بعض الشعوب بعد أنْ بلغ ذرا المجد والتمدن انحطَّ إلى حضيض الجهل والغباوة: قابلِ العصور القديمة الزاهية لليونان والرومان بما عقبها من العصور التي انحطت فيها العلوم والصنائع عندهم، وقابلْ عصر بريكلس بالعصور المظلمة بعده، وافتكرْ بما كانت عليه بلاد مصر والعجم والهند وآسيا الوسطى وأفريقيا الرومانية واليونان وإيطاليا وإسبانيا ومكسيكا … إلخ، وبابل ونينوى وأكبتان وبرسبوليس ورومة وغيرها، ثم افتكر بما لحق بها من السقوط. واعلم أنَّ الاكتشافات الجديدة ترينا التمدن في الماضي أبعد فأبعد يومًا عن يوم كما في بلاد مصر.
ولقد تقهقرنا كذلك في أمور عديدة عقليًّا وأدبيَّا: قابل سياسة اليونان والرومان الناضجة المستقلة بسياستنا العجزاء المذبذبة، والفلسفة الحرة قبل عهد المسيح بما آلت إليه بعده؛ إذ صارت خادمة لعلم اللاهوت. أو قابل كذلك الفضائل النبيلة للجمهوريات القديمة بحب الملاذ الدنيئة، والأميال الذاتية، وحب المكسب حلالًا كان أم حرامًا، التي هي صفات بالغة في هيئتنا السياسية والاجتماعية. واعتبر أيضًا أنَّ ارتقاء ما نسميه الحق لم يفد بعد أكثر من ألف سنة، إلَّا لتنصيب القوة الوحشية والقساوة البربرية على تخت أعظم الأمم تمدنًا.٧

فمجرى الأشياء إذن واحد في التاريخ والطبيعة؛ أي إنَّه يحصل تغير دائم في الزمان والمكان والبشر، فيحصل تعاقب دائم بين التقدم والتأخر، والعمار والخراب، والنمو والوقوف، والولادة والموت. وأمَّا الارتقاء الدائم فيعد من الأمانيِّ التي لا تُنال، بل كل شيء يتحرك في دائرة مصمتة أشبه بالحية الرمزية التي تعض ذنبها، أو أنَّ الأشياء تجري كما في مرسح تتغير فيه المناظر والأشخاص على الدوام، حيث يظهر أنَّ كل شيء يتحرك بنشاط مع أنَّه لا يزال في مكانه.

وقد أشار أحد شعراء الألمان روكرت إلى مشهد هذا التغير في التاريخ بقصيدة غنَّاء، جعل موضوعها سياحة أحد أشخاص ميثولوجيا الفُرس، واسمه الخضر٨ في العالم، وهو نبي لا يزال حيًّا، ولا يفارقه الشباب، وقد التزمنا تعريبها بحسب ترتيبها، قال:
قال الخضر الشباب الأزلي: مررت ذات يوم بإحدى المدن فرأيت رجلًا يقطف أثمارًا من بستان، فسألته عن عمر المدينة، فقال وقد رجع إلى عمله: «المدينة موجودة منذ الأزل، وستبقى إلى الأبد.»
ثم بعد خمسمائة سنة مررت ثانية بالمكان عينه، فلم أجد للمدينة أثرًا، بل وجدت راعيًا منفردًا يعزف على مزماره، والقطيع يرعى النبات والشجر، فسألته: من عهد كم اختفت المدينة؟ فقال وقد عاد إلى النفخ في قصبته: «هذا ينبت متى يبس ذاك وهذا المكان مرعًى منذ القديم.»
ثم بعد خمسمائة سنة مررت ثالثة بنفس المكان، فوجدت بحرًا متلاطم الأمواج، وعلى شاطئه صياد يلقي شبكته، فسألته وكان قد وقف ليستريح: من عهد كم البحر هنا؟ فقال وقد ضحك من سؤالي: «من عهد وجود الأمواج المزبدة، اصطاد الناس ويصطادون في هذا المرفأ.»
ثم بعد خمسمائة سنة مررت رابعة بالمكان عينه، فوجدت غابة ورجلًا يقطع شجرة فيها فسألته عن عمر هذه الغابة، فقال: «الغابة مسكن أزلي ومنذ زمان أقطن فيها، وهذه الأشجار ستنبت هنا إلى الأبد.»
ثم بعد خمسمائة سنة مررت خامسة بهذا المكان، فوجدت مدينة زاهرة تتزاحم فيها الأقدام، فسألت عن عهد بنائها، وأين الغابة والبحر، وقصة الراعي، فقيل لي ولم يُعبأ بقولي: «الحال هنا لم تتغير منذ القديم، وستبقى كذلك إلى الأبد.»
وسأجد نفس الشيءِ بعد خمسمائة سنة أيضًا.

فتاريخ الأرض وتاريخ الإنسان على مذهب الذين ينكرون الارتقاء معبر عنهما بتصور هذا الشاعر. وهذا التصور يوافق أيضًا أصحاب الارتقاء؛ إذ يريهم أعظم التغيرات يتعاقب في الطبيعة، وفي تاريخ الإنسان، إلَّا أنَّ الأزمنة التي يقتضيها ذلك لا يدركها الإنسان الذي يرى أنَّ كل شيء حوله ساكن، ولا يدركها إلَّا من أُعطي له علم كل شيء. وإله هذا الشاعر حقيقة هو العلم الذي لا يقتصر نظره على الحاضر القصير، بل يمتد إلى ما وراء ذلك. وما يؤاخذ به على الشاعر روكرت علميَّا إنما هو قصر الزمان الذي اعتمد عليه في أدوار سياحة سائحه، فلو قال: خمسة آلاف سنة عوضًا عن خمسمائة؛ لكان أقرب إلى الحقيقة، ولزاد شعره رونقًا أيضًا.

فلو صحَّ ذلك وصحت الاعتراضات على الارتقاء، لكنا في أسوأ الحالات التي كشفها لنا العلم وأضعفها للعزيمة؛ إذ يكون وجودنا ووجود الشعوب والأمم والحياة في عموم الطبيعة منذ ملايين من السنين، عبارة عن عود الأشياء على نفسها لا بدأَة ولا آخر، ولا غاية ولا تكميل، فتظهر الأفراد والشعوب والأمم والنظامات، وتختفي كأمواج البحر بدون أنْ تترك لوجودها أثرًا إلَّا مكانًا فارغًا تملؤه موجة جديدة تنسحب، ثم يأتي غيرها وهكذا إلى ما لا نهاية له.٩

على أنَّ ما نعلمه يجعلنا نجزم بأن القول بسكون أبدي أو بحركة دائمة لا تقدم فيها خطأ، وأي خطأ! فإن الأشياء في الطبيعة والتاريخ تدلنا بالضد من ذلك على تقدم دائم ولو بطيء، ولا يراد من هذا القول أنَّ الاعتراضات المذكورة غير صحيحة أو لا قيمة لها، كلَّا، وإنما تدل على أنَّ الأشياء ليست بسيطة كما كان يظن، وكما لا يزال يظن أيضًا كثيرون. فقد كان الاعتقاد زمانًا طويلًا أنَّ جميع الأجسام الحية تؤلف من أعلى إلى أدنى سلسلة بسيطة منتظمة، وأنَّه لم يكن للنمو في الماضي والحاضر إلَّا سيرٌ صاعد، وهذه السلسلة التي آخرها الإنسان لا بُدَّ أنْ كان أولها في ذي الكرية الواحدة، أو الإسفنج، أو بعض الصور النباتية الدنيئة جدًّا. وعليه، فالنباتات لاعتبارها أدنى الأحياء وجدت أولًا، ثم الحيوانات الدنيا التي خرجت منها الحيوانات المشععة والرخوة، ثم المفصلة الناشئة من الرخوة، ثم الأسماك من المفصلة، فالحشرات من الأسماك، ثم ذوات الثدي والطيور من الحشرات، ثم الإنسان. واعتقدوا كذلك أنَّ مثل هذا الترتيب كائن في نفس الصف، وأنَّ كل صورة ناشئة من صورة أدنى منها، فهذا المذهب قد انتقض اليوم؛ إذ لا يتفق مع سائر الأشياء، ولا سيما مع تحوُّل طائفة كبيرة إلى أخرى.

فسير النمو العضوي والارتقاء المتعلق به هو غير ذلك، وأكثر اختلاطًا أيضًا، فهو ليس سلسلة واحدة فقط، بل سلاسل كثيرة متوازية نشأت في الأصل من أصول واحدة، أو من أصل واحد، ثم انبثت متشعبة إلى ما يفوق حد الحصر عدًّا واختلافًا، وقبل بسط هذه القضية المهمة لا بُدَّ من تفنيد الاعتراضات المعترض بها على مذهب الارتقاء واحدًا واحدًا، فأقول:

إنَّ الحجة التي يستند إليها أوطو فولجر؛ أي وجود صور ذات تكوين عالٍ في الطبقات القديمة جدًّا للأرض حيث لم يكن يظن — على فرض صحتها — لا تنقض مذهب الارتقاء، وإنما تبعد أصل الحياة ومتفرعاتها إلى أزمنة أبعد وأدوار جيولوجية أقدم. ومن المسلم به أنَّ الحيَّ كلما كان أرقى كان زمان تكوينه أطول، ولا صعوبة في قبول ذلك، إذ إنَّ الزمان لا ينقص الجيولوجيا، فلا ينبغي أنْ نتوهم أننا نعرف أقدم طبقات الأرض، كلَّا، بل يجب أنْ ننتظر اكتشاف طبقات أقدم فأقدم يومًا فيومًا. وبقطع النظر عن النظام الكمبري١٠ السابق الطبقات السيلوريَّة١١ السميك جدًّا، والذي لزم لتكوُّنه ملايين من السنين، والذي ليس للحياة فيه إلَّا آثار مشتبه فيها، قد اكتشفوا حديثًا في أميركا كما مرَّ في مقالتي السابقة في الكلام على «الأيوزون كنادنس» عدة طبقات بلورية سموها الطبقة اللورنسية، وهذه الصخور أسبق من أقدم الطبقات الأوروباوية التي تسرعوا في اعتبارها الأولى، وقد وجدوا فيها بقايا حيوان اسمه «الأيوزون كنادنس». قال السير شارل ليل في خطاب ألقاه في افتتاح مجمع الطبيعيين الإنكليز في باث سنة ١٨٦٤ ما نصه:
إنه يحق لنا الظن بأن هذه الحجار الموجود فيها هذه الآثار الحيوانية، هي من عمر طبقات أوروبا المسماة عديمة الحيوان إنْ لم تكن أقدم منها؛ أي إنها تقدمت الطبقات التي كانوا يعتبرونها سابقة كل حياة.١٢

فالحياة لم تبتدئْ حيث توجد الآثار العضوية بكثرة فقط. ولا بُدَّ أنْ يكون قد مضى عليها آلاف من القرون قبل أنْ أمكنها ترك آثارها في قلب الحجار، فالمتكونات الحيوانية الأولى لا تقع إذن تحت المشاهدة، والحجارة التي اعتبروها حتى اليوم كأنها أول المتكونات الجيولوجية، والتي ليس فيها أثر أو فيها آثار مشبهة للحياة، لا بُدَّ أن مضى عليها زمان طويل حتى تكونت؛ نظرًا لعظم سماكتها. فإذا لم نجد آثار الأحياء الأولى بكثرة؛ فلعدم حفظها لصغرها، ولقلة متانتها، ولنقص تكوينها من جهة، ولشدة تغير الحجار القديمة جدًّا في جوف الأرض من جهة أخرى. وكما تقدم يجب أنْ ننتظر العثور على حجار أقدم فأقدم يومًا عن يوم، كما يدل على ذلك اكتشاف الطبقة اللورنسية الحديث.

وهكل يقول: إنَّ الطبقات النبتونية أو السيلورية التي اعتبرت خطأ حتى اليوم أقدم الطبقات، والتي يوجد فيها آثار حيوانات نامية جدًّا ومتميزة كذلك، هي حديثة العهد بالنسبة إلى غيرها، ويظن أنَّ الزمان الذي اقتضاه تكون الطبقات السابقة في الجيولوجيا العضوية أطول جدًّا منه في اللاحقة، كما يستدل من عظم سماكة النظامين الكمبري واللورنسي. وهذه الاعتبارات تضعف أيضًا قيمة الاعتراض المأخوذ من وجود آثار الأربعة، أو الخمسة صفوف الحيوانية معًا في أعمق طبقات الأرض؛ لأنَّه لما كنا لا نعرف — أو نعرف ولكن معرفة ناقصة — أقدم الطبقات حقيقة، ولا نعرف الأحياء التي تتضمنها، لم يكن يجوز لنا أنْ نستنتج من طبيعة ما نجده في الطبقات المتكونة حديثًا بالنسبة إلى سواها أنَّ التقدم غير حاصل، بل بالضد من ذلك ينبغي أنْ نسلم بأن الحياة موجودة منذ ملايين من السنين قبل تكون هذه الطبقات؛ أي منذ الزمان اللازم لبلوغ الحياة مبلغ الحيوان العالي في الارتقاء البطيءِ.

وفي هذا الاعتراض خطأ آخر أيضًا، فإن الصفوف الأربعة أو الخمسة الكبرى لعالم الحيوان لم تنشأ بعضها من بعض، ولم ينشأ أدناها من عالم النبات كما يُفهم منه، بل تكونت بعضها بجانب بعض كأغصان الشجرة. فالمشععة ليست أصلًا للرخوة، ولا الرخوة أصلًا للمفصلة، ولا المفصلة أصلًا لذوات الفِقر، ولا النبات أصلًا للحيوان، بل كل من ذلك تكون بعضه بجانب بعض من عناصر واحدة. وربما ارتسمت صور الفروع الفِقرية الأصلية منذ الأول، وبعد أنْ تكونت أخذ كل واحد منها ينمو على حدته، بدون أنْ يكون بينها صلة إلَّا ما كان في أول الأمر، وكلما خطت خطوة ابتعدت بعضها عن بعض كذلك.١٣
على أنَّ ذوات الفِقر لم تكن موجودة في الأدوار القديمة جدًّا؛ لأن رسومها أو أشكالها الأولى غير موجودة في الطبقات السفلى المعتبرة أقدم المتكونات الأرضية، فالقول أنَّ الفروع الكبرى لعالم الحيوان موجودة في الطبقات السيلورية خطأٌ. وليل الذي يعتمد عليه في هذه المادة يتفق مع باقي المؤلفين، وهو يقول ما نصه:

كان يظن قبل سنة ١٨٣٨ أنَّ أصل السمك الأحفوري لا يتجاوز طبقات الفحم الحجري، على أنَّه قد وُجد في الطبقات الدفونية حتى في السيلورية أيضًا في طبقاتها العليا، لا في طبقاتها السفلى، حيث لا يوجد له أثر، ولا في المنطقة «لبرند» الأولية الأقدم منها. ويستنتج من ذلك أنَّ الأصل الفِقري لم يكن موجودًا، أو كان نادرًا جدًّا في أقدم الطبقات المعروفة التي اعتبرت خطأ أنها أول الطبقات، مع أنها آخر سلسلة طويلة من الطبقات التي كانت مأهولة بالأحياء.

واعلم أنَّ أقدم السمك المعروف هو من أدنى السمك؛ أي من السمك الغضروفي، ولا يظهر السمك العظمي الحقيقي إلَّا بعده بزمانٍ طويل. ولئن كان السمك ذا مقام عالٍ في الأصل الفِقري، إلَّا أنَّه ابتداء بأصل ذي تكوين دنيء جدًّا بحيث كان يشتبه بالديدان، أو بنوع من الحلزون لا صدف له. مثال ذلك: الأمفيوكسوس والمكسين، فالأمفيوكسوس الرمحي أو السمك الرمحي لا يزال موجودًا حتى اليوم في البحر الشمالي، ويظهر أنَّ أصله من هذه الصور الأولى الدنيئة، وليس له جمجمة ولا دماغ ولا قلب ولا دم أحمر، وتكوينه التشريحي يضعه تحت أكمل أصول الحيوانات الرخوة والمفصلة، مع أنها من صف أدنى جدًّا من صفِّه؛ أي من صف ذوات الفِقر.١٤ وفي وسعي إيراد كثير من هذه الأمثلة التي يتضح منها أنَّ الصفوف المختلفة لا تتصل بعضها ببعض رأسًا، بل كل أصلٍ متى انفصل من المنبت الأول ينمو نموَّه الخاص به، والتي يتضح منها أيضًا أنَّ بعض الأصول أصلح من بعض في قابليته للارتقاء. والأصل الفِقري هو في الواقع أصلحها من هذا القبيل؛ ولذلك قد سبق باقي الصفوف جدًّا، ولو أنَّه ابتداء — كما قلت — بصور أدنى جدًّا من أكمل صور هذه الصفوف.
فلا نستغرب بعد ذلك إذا بلغ بعض الفروع أو الطوائف نموًّا أكمل من نمو بعض الطوائف المعاصرة له والأعلى منه؛ لأنه أمر واضح أنَّ مجاميع الأجسام الحيَّة كالأفراد لها دورة حياة معلومة، فإذا قطعتها فإمَّا أنْ تقف عند النقطة التي وصلت إليها، وإمَّا أنْ ترجع متقهقرة، بينما يبقى غيرها متقدمًا حتى يبلغ درجةً أعلى منها سواء نشأ معها، أو نشأ بعدها بزمانٍ طويل، كالشجرة التي تيبس فروعها السفلى، أو تبقى على حالة واحدة حال كون أغصانها العليا تمتد وتفرخ وتكبر يومًا عن يوم. قال توطل: «إنَّ الأغصان تبقى ما دامت قادرة أنْ تنمو، فإذا وقف نموها ضعفت، وتلاشت مع الزمان.»١٥

فلا شبهة في أنَّ هذا النمو في الأنواع سار سيرًا صاعدًا، وكل صف ابتدأَ بصور بسيطة أخذت تنمو بعد ذلك شيئًا فشيئًا، كما يُعلم من الاختبار في الماضي والحال، وإلَّا لو كان مذهب الارتقاء غير صحيح لحصل ضد ذلك، إنْ لم يكن في الكل ففي البعض.

فبهذا التعليل البسيط يفهم لماذا هذه المناقضات الكثيرة، وهذا الخروج عن القياس، وهذا التقهقر أيضًا في البالنتولوجيا من غير أنْ يكون في ذلك داعٍ إلى إنكار مذهب الارتقاء؛ إذ لا شبهة في أنَّ الطوائف العليا من حيث ارتقاؤها الكلي جاءت أخيرًا. وكلامنا في الكلي لا في الجزئي؛ وعليه فعالم الحيوان هو فوق عالم النبات الذي سبقه بوجه العموم، والأصل الفِقري أعلى من الأصل العديم الفِقر المتكون قبله. وما كان من الأصل الفِقري أتم وأكمل جاء بعدما كان منه دونه، فجاءت الحشرات بعد الأسماك، وذوات الثدي والطيور بعد الحشرات، والإنسان بعد الطيور، وهكذا في كل صف من صفوف ذوات الفِقر. ولا يُعلم أنَّه حصل عكس ذلك في الطبيعة البتة. ولئن كانت نواميس الارتقاء الجيولوجي في الحيوانات العديمة الفِقر غير واضحة، وكان فيها عدم انتظام في التقدم والتأخر كثيرًا، إلَّا أنَّ الصور الأبسط تتقدم دائمًا الصور الأكمل، كما يتضح جليًّا من «السفالوبد» الذي هو أعلى صف الحيوانات الرخوة، وإذا كانت صور الحيوانات الرخوة أكثر تنوعًا في متكونات الأرض الأولى، فينبغي أنْ نعتبر أيضًا أنَّه كلما كانت تلك الأصول الدنيا تنقص كانت الأصول العليا تزيد كذلك.

وقد ذكروا ضد الارتقاء أيضًا أنَّ بعض الأنواع الأولى، كليس البحر المار ذكره ذو تكوين كثير الاختلاط جدًّا. على أنَّ الاختلاط ليس بنفسه علامة على الارتقاء، بل بالضد من ذلك المختلط يسبق البسيط غالبًا؛ لأن الطبيعة تحاول دائمًا أنْ توزع الصفات المجتمعة في تكوين واحد أولًا، وتفصل بينها على صور متميزة، وأن تسهل بهذه القسمة ارتقاء الصورة المتميزة ارتقاءً عظيمًا. وهذا المبدأ في قسمة العمل جوهري في الطبيعة، كما في حياة الإنسان الاجتماعية والسياسية والصناعية، فكل فرد يكون أقدر على قضاء أمر كلما كان تكوينه أكثر استعدادًا له، وكلما تخصصت وظائف جسم؛ أي كان لها أعضاءٌ خصوصية كان هذا الجسم أرقى؛ فإن الحيوانات الدنيا ليس لها أعضاءٌ خاصة، بل جسمها يقضي كل وظائفها بتبادل بسيط بينه وبين ما يحيط به. وأمَّا الحيوانات العليا فبالضد من ذلك لها عضوٌ خاص لكل وظيفة، فالقلب للدورة، والرئتان للتنفس، والقناة الهضمية للهضم، والكليتان لإفراز البول، والدماغ لوظائف العقل … إلخ، وهذا ما يجعل هذه الحيوانات راقية.١٦
ويجب الحذر من الوقوع في خطأ آخر أيضًا، وهو أنَّ الأصل الفِقري الذي يكون الارتقاء فيه أظهر من الجميع لا يؤلف صفًّا بسيطًا، بل يوجد فيه تحت صفوف كثيرة أيضًا يُرى فيها بعض المجاميع، إذ يبلغ نموه ما يفوق مجاميع أخرى مع أنها مستعدة لنمو أعلى منه جدًّا. وهذا صحيح، ولا سيما على مجموع لذوات الفِقر العليا يهمنا جدًّا؛ لأن الإنسان منه، أعني به مجموع ذوات الأربع أيدي أو البريمات — كما يقول لينوس وهكسلي — فهذا المجموع الذي يوجد الإنسان في أعلاه، والذي فيه عدة صور متوسطة (مثال ذلك القرود الشبيهة بالإنسان بجانب الإنسان)، تمتدٌّ أصوله بواسطة حيواناته الدنيا، ليس إلى أعلا طبقات أصل ذوات الثدي المشيمية كما ربما يظن، بل إلى أدناها. فمع أنَّ هذا المجموع عالٍ جدًّا بنفسه فهو يتاخم صفًّا دنيئًا أيضًا. وهكسلي الذي يقسم البريمات إلى سبعة تحت صفوف أو طوائف يصف ذلك جيدًا إذ يقول: «ليس في صفوف ذوات الثدي ما يتضمن فيه درجات كثيرة أكثر من صف البريمات؛ فإنه يهبط فيه على نوع غير محسوس من أعلى الخلق إلى مخلوقات لا تفصلها عن أدنى ذوات الثدي المشيمية، وأقلها إدراكًا إلَّا خطوة واحدة.»١٧

إلى أنْ يقول أيضًا: «كأن الطبيعة نفسها شعرت بما سيكون للإنسان من العُجب بنفسه، فأرادت أنْ تجعل عقل الإنسان يتذكر عند انتصاره، كما كان يذكِّر العبيد في رومه الظافر بأنه ليس إلَّا ترابًا.»

فلم يبقَ علينا إلَّا اعتراض واحد على مذهب الارتقاء أريد تفنيده، وهو وجود أصولٍ ثابتة أو واقفة. وقد تقدم في المقالة الأولى أنَّ مثل هذه الصور الأولية الدنيا ما زال يتولد في جميع الأدوار، حتى وإنْ لم يكن كذلك فوجودها لا يفيد شيئًا ضد الارتقاء عمومًا، وإنْ أفاد خصوصًا؛ لأنَّه إذا لم تتغير هذه الصور الحقيرة لشدة بساطة تكوينها ولاستواء أحوالها الخارجية البسيطة، فلا ينكر أنَّ أحياء أخرى أعلى تكوينًا، وأكثر اختلافًا في أحوال حياتها ترتقي على الدوام. ولا عجب في ذلك، فإن في التاريخ أيضًا شعوبًا واقفين، لم يتغيروا عن خشونتهم التي كانوا فيها منذ آلاف من السنين، فيوجد في أقاصي القارات الكبيرة كما في جزائر المناطق الحارة شعوب متوحشون، قلما يفرقون عن الحيوان،١٨ وآخرون لا يزالون كما كان في أوروبا الإنسان السابق العهد التاريخي؛ أي إنهم يصنعون أسلحتهم من الحجر، ويشتغلون الخشب والعظم لاحتياجات شتى، يعيشون ويموتون وهم واقفون عند حدٍّ واحد. وهذا يرينا أنَّه لا يوجد في طبيعة الإنسان، ولا في الطبيعة الكبرى ميل غريزي للارتقاء، بل هو نتيجة فعل بعض الأحوال الخارجية والداخلية.

على أنَّ وقوف بعض الشعوب في الخشونة الأولى، لم يمنع تقدم البعض الآخر في التمدن طبقًا لما يحصل في الطبيعة.

وكما أننا نجد صورًا بالغة في التكوين في أقدم الطبقات الأرضية المعروفة هكذا نجد تمدنًا بالغًا أيضًا في العصور القديمة للتاريخ، مثال ذلك بلاد مصر التي كانت مهد التمدن والعلم، فلا يخفى ما انتهت إليه أبحاث العلماء ونقبهم في أرض هذه البلاد القديمة، ولا سيما أبحاث ماريت الفرنسوي الحديثة؛ فإنه اكتشف نقوشًا وكتابات وأصنامًا من عهد ٤٠٠٠ إلى ٤٥٠٠ سنة قبل المسيح، وقد وجد على جدران قبور هذه العصور رسومًا وكتابات، تدل على أنَّ مصر كانت في درجة عالية من التمدن.١٩ فإذا أنكرنا الارتقاء لأجل ذلك، فإننا نسقط في نفس الخطأ الذي يتظاهر لنا في الجيولوجيا. وكل ما ينبغي أنْ نستنتجه من هذا التمدن، هو أنه آخر المراحل التي بلغها الإنسان في سيره الطويل، والتي لا يخبرنا التاريخ عنها بشيءٍ. وهذا القول لا شيءَ من الغلو فيه؛ لأن الأبحاث في أصل الإنسان وقدمه قد صيرت الأربعة آلاف أو الخمسة آلاف سنة التي يفرضها له التاريخ، لا شيء بالنسبة إلى وجوده قبل العهد التاريخي؛ فإن وجود الإنسان على الأرض ليس من عهد الطوفان الذي يصعد إلى ما قبل دورنا في تكوين الأرض، بل من عهدٍ أبعد جدًّا؛ أي من عهد الدور الثلاثي من عهد طبقاته الأخيرة أو الوسطى. وهذا كما يصح هنا يصح أيضًا على الأشياء في الطبيعة.

وهكذا تنقض أيضًا باقي الاعتراضات على الارتقاء في التاريخ، فالأمم أو الممالك التي بعد أنْ بلغت درجة عالية من التمدن، إمَّا هلكت أو بقيت واقفة، أو تقهقرت، تشبه هذه المجاميع التي ذكرناها في تاريخ عالم الأحياء، والتي بعد أنْ بلغت مبلغًا معلومًا من الكمال وقفت، وقام مقامها فروع أخرى من جنسها أكثر فتوة وأعظم قوة. هكذا أيضًا في التاريخ؛ فإن بلاد اليونان قامت على أثر مصر ورومه على أثر اليونان، والشعوب الجرمانية على أثر رومه متدرجات على سلم التقدم العظيم، ولم يصب التقدم إلَّا وقوف زمني فقط. وأوروبا بكل مجدها وعظمة تمدنها ستسقط يومًا ما، ويقوم على أثرها فرع من البشر أكثر فتوة وأعظم قوة، فتسقط المدن العظيمة، وتنطفي الأسماء الشهيرة، وتفتقر البلاد الغنية، ويزول التمدن الرفيع:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر٢٠
ثم تقوم أمم أقل استكمالًا لهذه المزايا، إلَّا أنَّه يكون فيها جرثومة ارتقاء أعلى، فلا تلبث أنْ تبلغها وتزيد عنها، فالتقهقر ليس سوى ظرف مكان وزمان بخلاف الارتقاء، فإنه مستمر وعام. وإنْ كان ارتقاء الأمم الحديثة متوقفًا على قيامها على آثارها، مستعينة بمتروكاتها، مغتذية بها، بدون أنْ تكون استكمال اتصالها. فأوجه الشبه في ذلك واحدة أيضًا مع الطبيعة؛ لأن المجاميع العضوية الحديثة تأخذ معظم ارتقائها من الارتقاء العالي الذي بلغته في تقدمها بدون أنْ تتصل به رأسًا، وأمَّا باقي الأجسام الحية الموجودة اليوم في الطبيعة كما كانت في الماضي (كالجرابية وكثير من أنواع السمك)، والتي بعد أنْ بلغت مبلغًا معلومًا من الارتقاء، وقفت ولم تتقدم، فلنا في تاريخ البشر ما يحاكيها أيضًا؛ فإن مملكة الصين القديمة العهد في التمدن بعد أنْ بلغت منه ما بلغت منذ زمان قديم وقفت، ولم تزل واقفة لا تتقدم حتى اليوم، وربما لم يعد في طاقتها أنْ تتقدم، فهي ستهلك مع الزمان من دون ريب.٢١
وقد شبهوا الارتقاء البشري الذي ليس هو حقيقة حسب مذهب التحول إلَّا استمرار ارتقاء العالم العضوي منذ الأزمان الأولى، بلولب صاعد يظهر بدورانه أنَّه يتقهقر، والحال أنَّه يرتفع دائمًا، وعلى نوع منتظم، ويمكن تشبيهه بالشجرة على ما ذكر فيما مرَّ؛ إذ تنبت أغصان جديدة على أغصان قديمة، وكل نابت جديد أكثر قوة، وأعلى مما نبت عليه،٢٢ وربما شبهوه بغير ذلك أيضًا.

وهذا الارتقاء لا يتم بسرعة، بل ببطء كلي. وكما أنَّ تاريخ العالم الماضي لا يحسب إلَّا بالملايين من السنين، هكذا أسباب الارتقاء لا تتيسر إلَّا مع الزمان الطويل جدًّا. ولكن ما هو الزمان بالنظر إلى السير الطويل في الطبيعة والتاريخ، فالإنسان يبخل بالدقائق؛ لأنَّه يرى نفسه يقترب من نهايته ساعة عن ساعة، ويومًا عن يوم، وأمَّا العالم فيسير من الأزل وإلى الأبد، والملايين من السنين كيوم واحدٍ فيه.

وللفروغ من هذا الباب لا بدَّ من التنبيه إلى أنَّ مبدأ التربية يكون أشد وأقوى كلما كانت الصور الفاعل فيها أكمل. وسبب ذلك بسيط وواحد في الطبيعة والتاريخ، فكلما كان التكوين وأحوال الحياة الخارجية أكثر اختلافًا، كان العقل والاحتياجات والأفكار وكل ما يتعلق بها أعلى مطلبًا، وكانت المهيجات ووسائط التكميل أكثر وأقوى كذلك. قال ليل في ذلك ما معناه: إنَّ الارتقاء الصناعي والعلمي في عصرنا هو على نسبة هندسية مع التمدن والمعارف العمومية، وينقص على نفس هذه النسبة كلما تقهقرنا في الماضي، بحيث إنَّ التقدم الحاصل في عشرة قرون في الماضي لا يقتضي له أكثر من قرن فيما يأتي بعده. وقال أيضًا: إنَّ الإنسان في القديم كان يشبه الحيوان أكثر جدًّا بالميل الغريزي لأن يتقلد كل فرع من فروعه الفرع الذي تقدمه؛ أي يشبهه بميله للوقوف. وإذا قابلنا تقدم المدن بتقدم القرى نرى أنَّ الأشياء تسير فيها على نفس هذا الناموس؛ فإن القرى لقلة المهيجات الداخلية والخارجية فيها ترى أنها شديدة الحرص على الأشياء المقررة، كثيرة الاحترام لنظامها.

فلا غروَ أنْ مرَّ على الإنسان في العهد السابق التاريخ ألوف من السنين، وربما ألوف من القرون قبل أنْ بلغ درجة راقية من التهذيب أو صار له تاريخ فقط، وأمَّا بعد ذلك؛ أي بعد أنْ رسخت قدمه في التمدن، فصار ارتقاؤُه أسرع فأسرع يومًا عن يوم. وما قيل عن الإنسان صحيح أيضًا على سائر العالم العضوي؛ فإن الارتقاء في الحيوان لا يكون واضحًا ومنتظمًا وسريعًا، إلَّا فيما كان منه أكمل من غيره،ِ كذوات الفِقر وذوات الثدي خاصَّةً. وأعظم ارتقاء في الطبيعة والتاريخ هو ما حصل في الإنسان؛ إذ تفلَّت من الأصول العليا لذوات الثدي حتى صار بينها وبينه بون شاسع. ولا نستغرب هذا الفرق بينهما؛ لأن من أمكنه أنْ يقطع العقبة الموصلة إلى الإنسان لا شك أنَّه قابل لضروب متنوعة من الارتقاء، وبعد أنْ سار على طريق التمدن صارت كل خطوة من خطواته تبعده أكثر فأكثر عن صورته الأولى.

وللإنسان إخوة كثيرون لا يزالون متأخرين جدًّا، فلا يظن من كان بالغًا شيئًا كبيرًا من الارتقاء أنَّ ذلك موهبة مجانية معطاة له من فوق، بل فليعلم أنَّه نتيجة تربية متمهلة وارتقاء صعب، وعلمه هذا أعظم منشط له يحثه للسير في هذا السبيل. ولا يُعلم إلى أين يبلغ به هذا الارتقاء، على أنني متيقن بأنَّه لا يوجد أمر مستحيل على الإنسان إذا أحسن استعمال ما فيه من القوى، وما له من العقل، فتزداد قابليته، ويتسع نطاق سلطانه على الطبيعة إلى ما وراء الحد الذي يظهر أنَّه مفروض له الآن.

وقبل الفراغ من هذا الموضوع لا بُدَّ لي من بسط الكلام قليلًا على رأْي أحد علماء الإنكليز «ألفرد ولاس» في مستقبل الإنسان، وهو قريب جدًّا من داروِن في المبدأ والأفكار، قال: «إنَّ الإنسان في أوَّل أمره وقبل أنْ تنمو قواه العقلية، إذ كان بلا ريب يقطن الأماكن المحرقة في المنطقة الحارة في زمن الأيوسن والميوسن،٢٣ كان خاضعًا للانتخاب الطبيعي كالحيوان، ثم لما أخذ عقله ودماغه وقواه الاجتماعية ترتقي أخذ يتخلص أيضًا من فعل هذا الناموس. وربما لم يتغير في جسده من بعد أنْ صار قادرًا على التكلم؛ لأن التكاثف الذي يحصل في الجمعية وتهيئة الكساء والأسلحة والمساكن، كل ذلك قويَ به الإنسان على مقاومة الأحوال الخارجية إلى حد معلوم، فأضعف فعل تنازع البقاء فيه بحماية الضعيف منه، والاعتناء به عوضًا عن قتله، وسَهُل لقليل النشاط سبل الكسب في الحياة الاجتماعية إذ قسَّم الأعمال، فالإنسان يداوي المريض، ويعتني بالمسكين عوضًا عن أنْ يتركهما ليهلكا كما يفعل الحيوان، كل ذلك يجعله في حالة موافقة لطبيعة ما يحيط به بدون أنْ يتغير جسده تغيرًا جوهريًّا.

وأول ما اتخِذ جلد الحيوان كساءً واصطُنع السهم للصيد وبُذرت الحبوب وزُرع النبات، حصل في الطبيعة ثورة عظيمة لا مثال لها فيما تقدم من تاريخ الأرض؛ إذ ظهر فيها كائن لا يلزمه أنْ يتغير ضرورةً مع العالم، له سلطان على الطبيعة، وإنْ كان محدودًا؛ لأنَّه يدرك عمله ويزنه ويتفق معها لا بتغيير جسده، بل بتقدم في عقله.

ولا يقتصر الإنسان على الخروج بنفسه من تحت حكم الانتخاب الطبيعي، بل يُخرج معه غيرَه أيضًا من تحت حكمه، وسوف يأتي زمن لا يبقى فيه سوى الحيوانات الأهلية والنباتات المزروعة؛ إذ يقوم فيه الانتخاب الصناعي مقام الانتخاب الطبيعي إلَّا في البحر.

على أنَّ ما تحرَّر الإنسان منه جسديًّا لا يزال يفعل فيه عقليًّا؛ ونتيجة ذلك أنَّ الشعوب التي ترتقي بعقلها فوق غيرها، تبقى وحدها أخيرًا إذ تُلاشي غيرها، وتحكم على الأرض حتى لا يبقى إلَّا شعب واحد أضعف أفراده عقلًا يعادل أكبر عقولنا، وربما كان أعلى منه أيضًا. وكل واحد حينئذٍ يجد أنَّ سعادته قائمة بسعادة قريبه، وتكون الحرية كاملةً إذ لا يتعدى الواحد على الآخر، ولا يعود لزوم للشرائع الصارمة، وتقوم مقامها الجمعيات الاختيارية للقيام بالمصالح العمومية المفيدة؛ حتى تستحيل الأرض أخيرًا من وادي البُكا وميدان المطامع غير المرتبة إلى فردوس جميل لم يخطر على قلب ملهم، ولا تصوره فكر شاعر.»

فهذا المذهب الذي لا أسلم به كله حرفًا بحرف، والذي لم أبسطه هنا إلَّا إجماليًّا، إذا كان صحيحًا فلعل فيه ما يعوض على الإنسان في مستقبله ما قد خسره من أصله بإطلاق مذهب التحوُّل عليه. ولئن لم يكن فيه شيءٌ يجعل فينا أملًا بأن سنصير يومًا ما ملائكة بأجنحة، إلَّا أن نظرنا به إلى مستقبل الجنس البشري أَرضى حينئذٍ لكبريائنا من النظر إلى ماضيه في كل حال.

١  طبقة معدنية ذات صفائح أشبه بلوح الحجر.
٢  نوع من فحم الحجر.
٣  كالربزوبود والنقاعيات والفورامينيفارا — المثقبة أو ذات العيون — والأسفنج والطحالب … إلخ.
٤  إنَّ أقدم أنواع البراشيبود المعروف يعادل الأنواع الحاضرة بكل الصفات الجوهرية، والفرق أنَّه كان في الماضي أكثر عددًا منه في الحاضر، وأكثر اختلافًا في الصور. ويزعم هكسلي أنَّ مثل هذا الوقوف عرض أيضًا للأسماك في بعض الأدوار الجيولوجية مع تغير كل شيءٍ حوله. وأقدم حيوان معروف من الحيوانات الرخوة هو البراشيبود لينكولا، وهو نوع من الصدف يوجد في سائر طبقات الأرض، ويوجد حيًّا اليوم، ولكن بدون أنْ تخرج منه فروع.
٥  الرأسية الأرجل.
٦  الذراعية الأرجل.
٧  إنَّ أشد نتائج هذه الحال الاستبداد وحشد الجنود، والأمم الذين يسطو ذلك عليهم لا تفقد ثروتهم فقط، بل هم في خطر من زوال كل مزية عقلية وأدبية منهم أيضًا.
٨  الخضر: اسم نبيٍّ شرب من عين ماء الحياة الدائمة، وقد لا يفرقون بينه وبين إيليا النبي. وعلى ما يُتحصل من رواية العرب أنَّ الخضر قائد لأحد ملوك الفرس الأقدمين خريجو باد شرب من عين ماء الحياة، وصار خالدًا، وبحث الإسكندر عن هذه العين في القوقاس فلم يجدها.
٩  بخنر — مع أنَّه من غلاة الماديين المعاصرين — لم يستطع في هذا القول أنْ ينجو من مفعول تربية الأحلام الخيالية، التي مرت عليه في الأجيال واستعمال معانيها؛ لأن كلامه هذا شعري لا معنى له إذا نظرنا من خلاله إلى مصير الوجود الكلي والجزئي، لأن المعاد هنا لا يهم الفرد حقيقة، ولو قال: إنَّ هذا القول لو صحَّ لانتفت غاية العلم، وهي الوقوف على أسرار الارتقاء الطبيعية، واستخدام الإنسان لها في كل أموره المعاشية والاجتماعية، ولوقف به عن كل سعي لإصلاح حال لا تصلح هي نفسها، مع أنَّ الحقيقة هي غير ذلك، ولو قال هذا القول لكان كلامه أنصع بيانًا، وأقوى حجة، وأثبت حقيقة. وبالواقع هو لا يريد به سواه، ولكنه استهوته المعاني الشعرية وألفاظها الفارغة.
١٠  يراد به أقدم الطبقات الأرضية التي اكتشفت فيها آثار الحياة.
١١  وبالأراضي السيلورية أقدم طبقات الحياة الحيوانية، وهي فوق الطبقات الكمبرية.
١٢  قال الأستاذ قطه في الجيولوجيا ما معناه أنَّ السِر لوجان اكتشف في كندا طبقات يوجد فيها الأيوزون كنادنس، وهي تحت أسفل حجارها السيلورية بنحو ١٨٠٠٠ قدم، وهي بلورية في بعضها. وقد قسموها إلى لورنسية عليا وسمكها نحو ١٠٠٠٠ قدم، ولورنسية سفلى سمكها ٢٠٠٠٠ قدم. وهي مؤلفة من «الغنيس» (نوع من الحجر)، والكوارتز، ومتجمعات كلسية حبيبية، والأيوزون يوجد في الطبقات الكلسية البلورية. وأمَّا الطبقات التي سمكها نحو ١٨٠٠٠ قدم، والممتدة بين الطبقة السيلورية والطبقة اللورنسية، والتي تقابل النظام الكمبري تقريبًا فتسمى في أميركا بالحجار الهيرونية.
وهذه المتكونات اللورنسية التي توجد في بافيارا وبوهيميا، هي أقدم ما يعلم من الطبقات المحتوية على آثار عضوية، وتحت الرواسب المحتوية على آثار عضوية معلومة، تمتد على سمك عظيم المتكونات البلورية للتحول الشستي لأقدم الرواسب، والآثار العضوية التي كانت فيها تكاد لا تعرف بسبب التغير الشديد.
١٣  رسم الأستاذ هكل شجرة فروع العالمين في ثمانية مواضيع، فكل شجرة يخرج من أصلها ثلاثة فروع أصلية: فرع لعالم الحيوان، وفرع لعالم النبات، وفرع لما بينهما؛ أي العالم البروتيست. ثم إنَّ فرع الحيوان يتفرع إلى كولنتار، وأكينودرم، ومفصلة، ورخوة، وفقرية. وفرع الفِقرية يتفرع إلى سمك، ونصف مائية، وحشرات، وطيور، وذوات ثدي أعظمها الإنسان.
١٤  السمك الرمحي: شبيه بورقة رمحية الشكل، وهو دقيق لا لون له، أو هو ذو لون ضارب إلى الحمرة شفاف، وطوله نحو قيراطين، ويعرف أنَّه فقري من حبله الشوكي، ومن الشريطة الغضروفية الموجودة تحته. ولا شك أنَّ هذا الحيوان آخر حي من صفٍّ دونٍ لذوات الفِقر، كان ناميًا كثيرًا في أحد الأدوار الجيولوجيا «قبل عهد السبلور»، وإنما لم يبقَ منه آثار أحفورية لعدم وجود عظام فيهٍ.
١٥  إنَّ دوام النوع هو بالنسبة إلى انتشاره الجغرافي، والنوع على موجب ناموس النمو العددي الذي أثبته درشياك نظريًّا ينشأ ويتكاثر، حتى يبلغ عددًا معلومًا فيأخذ بالتقهقر وينقرض، ويجب اعتبار هذين الناموسين في مذهب داروِن.
١٦  هكل يرى أنَّ هذا التخصص المتزايد في الأجسام الحية، كما في أمور الدنيا هو علة الارتقاء، فالارتقاء ليس له ناموس موضوع يُدفع إليه، بل هو نتيجة لازمة ضرورية للأعمال الميكانيكية والكيماوية. ونتيجة هذه الأعمال الارتقاء غالبًا، وقد تكون التقهقر أحيانًا، بحيث إنَّ ناموس الارتقاء وناموس التباعد ليسا لفظتين مترادفتين لمعنًى واحد، ولا يصح القول بأن الارتقاء ثابت وعام، سواء كان في الطبيعة أو في التاريخ إلَّا بالنظر إلى الكل، وأمَّا في الجزء فقد يحصل تقهقر عظيم أحيانًا كثيرة، فلا يوجد على رأي هكل لا رسم ولا قصد في الارتقاء الحيوي.
١٧  ذوات الثدي المشيمية هي ما كان جنينه يغتذى بواسطة المشيمة؛ تمييزًا لها عن الجرابية التي تحمل صغارها وترضعها في جراب موضوع تحت بطنها، وذوات الثدي المشيمية أعلى أصل ذوات الثدي، الذي هو أعلى أصل ذوات الفِقرات.
١٨  روى الدكتور غليسبرج — والعهدة عليه — أنَّ في بلاد الحبشة فرعًا من السود له ذنَب، إنما لم تقس سعة جمجمته، وله صوت كصوت الحيوان، صغير القد، دقيق العضل، لا نسبة بين بدنه وأطرافه، فهو يشبه القرد، ولا يفرق عنه إلَّا بالنطق والأسنان، وتكوين الرِّجل.
١٩  إنَّ الكهنة المصريين أروا هرودوتس سنة ٤٥٠ قبل المسيح حول جدران هيكل تيبس ٣١٥ مدفنًا فيها موميات الكهنة العظام، الذين تعاقبوا ابنًا عن أب على رياسة المدينة، فهذه السلسلة يقتضي لها بضعة آلاف من القرون.
٢٠  بخنر هنا نسي قياسه الصحيح، وهجر ماديته الراسخة، وعاد إلى نغمته الشعرية الخيالية، والحق الذي لا مرية فيه اليوم، هو أنَّ الإنسان من يوم اهتدى إلى مذهب التحول العام، وأطلقه على الطبيعة كلها، واتجه بمباحثه فيها إلى هذا الصوب، صار ارتقاؤه في العمران أكيدًا مطردًا شاملًا تامًّا عامًّا، بحيث ترتقي فيه الأمم المنحطة إلى مقام الأمم الراقية، ولا تسقط هذه إلى محاذاتها مهما كان الأمر؛ لأن المبادئَ القائم عليها العمران اليوم هي غير تلك التي كانت له في الماضي، فقد كانت في الماضي أدبية محصورة، وأمَّا اليوم فقد صارت طبيعية عامة، وكانت موجباتها دينية خيالية متزعزعة، فصارت معقولة حقيقية ثابتة، وكانت غايتها بعيدة، فصارت قريبة، وسيمتد العمران بمعداته هذه إلى كل المعمورة إلَّا ما يقوم فيها دونه من الحوائل الطبيعية التي لا يستطيع تحويلها إلى ملاءمته منها لا منه، وستزول فواصل الأديان أيضًا، وإنْ كان هناك غلبة فللراقي منه فقط يدمج فيه المنحط فيرقيه إليه، ولكنه لا ينسحب من أمامه ليخلي له المكان، وينحط هو نفسه، وهذه هي مزية ارتقاء العمران بالمبادئ الطبيعية الراسخة على أنواع ارتقائه بالمبادئ الأدبية والدينية المتقلقلة، بحيث صار ارتقاء العمران اليوم مطردًا غير متذبذب كليًّا غير محدود. وهذا وحده كافٍ لإقناع العقلاء بهذه المزية، لا الأغرار الذين هم دائمًا عقبات في سبيل كل إصلاح يعيقونه، ولكنهم لا يمنعونه.
٢١  إنْ هلكت فالقياس طبيعي، وإنْ لم تهلك اليوم كما هو الأرجح، فإنما يكون ذلك بارتقائها إلى مقام سواها من الأمم الراقية، بدون أدنى خوف من انحطاط هذه إلى محاذاتها.
٢٢  داروِن يعتمد جدًّا على هذا التشبيه في وصف سير الارتقاء العضوي، فيشبه الأغصان النضيرة بالأنواع الحاضرة، والأغصان القديمة بالأنواع المنقرضة، وكل الفروع التي تثبت تتنازع بعضها مع بعض، والأغصان الكبيرة كانت في الأول أفانين صغيرة، ولم يبقَ من الأفانين الكثيرة التي كانت في الأصل سوى اثنين أو ثلاثة تحمل الباقي، وفروع كثيرة يبست أو زالت، أو لا تزال واقفة غير نامية … إلخ. فالفروع اليابسة أو الساقطة عبارة عن الصفوف والطوائف، والأنواع المنقرضة والباقية في الأحافير. وهذا الترتيب حسب داروِن لا يقتضي بنفسه لا ارتقاءً ولا تكميلًا، بل هو حركة دائمة، بحيث تتغير الأنواع بدون أنْ ترتقي ضرورة.
٢٣  القسم الأول والمتوسط للدور الثلاثي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤