مقدمة

بقلم  حسن جلال العروسي

عبارة قصيرة واحدة، أرادت الكاتبة كورا ميسن أن تُعبر بها عما قصدته من هذا الكتاب، وأن تكشف عن الفكرة التي اتخذتها أساسًا لرسم شخصية سقراط هي وصفها له بأنه «الرجل الذي جَرؤ على السؤال».

هذه هي النظرة التي نظرت بها إلى سقراط، تلك الشخصية التي عاشت بين سنتي ٤٦٩ و٣٩٩ قبل الميلاد، وبقيت حية طوال هذه القرون، يحاول الناس والعلماء استجلاء معانيها، وفحص اتجاهاتها ومراميها، فلا يصلون إلَّا إلى نتائج خير ما تُوصف به أنها قريبة إلى آرائه.

فالصعوبة القائمة في معرفة آراء سقراط هي أنه لم يخط حرفًا ولم يترك أثرًا مكتوبًا، بل ظل الاعتماد في معرفة آرائه على ما نقله عنه تلميذاه — أفلاطون وزينوفون — وكل منهما قد رسم له صورة قد تختلف عن صورة الآخر وقد تتعارض في بعض الأحيان، ولكن كلًّا من الصورتين تكمل الأخرى وتنتج عنهما صورة ممتازة تسترعي النظر.

ظل سقراط رجلًا عاديًّا حتى بلغ الثلاثين من عمره، ثم أخذ يشعر بأن عليه رسالة دينية يؤديها، هي أن يعمل على هداية الأثينيين إلى طرق استعمال العقل وإلى فائدة التمسك بالأخلاق، فترك عمله العادي وأهمل أمور نفسه وصار يغشى المجتمعات والمنتديات العامة يتحدث في الفضيلة والعدل والإيمان وما ماثل ذلك من موضوعات، وكانت طريقته هي الجدل والمحاورة، ولم تكن آراؤه حاسمة متصلبة بل كان فيها الكثير من المرونة والكياسة، ولم يكن في أمر الدين متشددًا غير أنه كان من القائلين بالوحدانية، وذاع صيته وصار له أكبر التأثير على حياة الرجال في أثينا لا سيما بين الشبيبة.

وكان من عادة اليونان — في مواسم خاصة — إذا ما أرادوا الاستعانة بالآلهة في أمر من الأمور أن يزوروا معبد أبولو في دلفي ويستطلعوا رأي الآلهة في أمرهم، فكانوا يسمعون من فم الوحي ما يطمئنهم أو ينذرهم، والغالب أن تكون العبارة تحتمل المعنيين، وقد سئل الوحي ذات مرة عن سقراط، فوصفه الوحي بأنه أحكم رجل في بلاد اليونان، وعلَّق سقراط على هذا القول من بعد بأنه لم يفهم معنى لهذا الوصف إلى أن تبين له أنه بينما غيره من المفكرين يعلنون معرفتهم للأمور وهم غارقون في الجهالة، فإنه الوحيد الذي لا يعرف من الأمور شيئًا.

ولا حاجة بنا للإطالة أكثر من ذلك بل يكفي أن نقول: إن إيمانه بآرائه جمع من حوله الأنصار وجرَّ عليه عداوة لم ينطفئ لهيبها إلا بالقضاء على حياته كما حدث لأكثر من واحد من دعاة الحق والفضيلة.

•••

ألَّفت هذا الكتاب كاتبة أمريكية اسمها كورا ميسن درست فقه اللغات القديمة ونالت الدكتوراه من رادكليف، ثم اشتغلت بتدريس الآداب القديمة في عدة مدارس وكليات، وقامت بسياحات واسعة في اليونان، وعرفت أثينا والبلاد المجاورة لها حق المعرفة.

وقد وصفت — في هذا الكتاب — حياة سقراط وصفًا أرادت به أن تصل بين هذا الرجل الذي عاش في فترة بعيدة وبين قلوب الجيل الناشئ في هذه الأيام، فخرجت بهذه الصورة الكريمة، وما أصعب أن ترسم صورة جديدة لرجل رسمه أساتذة في فن القلم مثل أفلاطون في «مجلس شرابه» و«محاوراته» وزينوفون في «ذكرياته».

غير أننا ننبه إلى شيء هو أنها لم تمس الآراء إلا مسًّا رقيقًا، وأنها عنيت بأن تخرج كتابًا أدبيًّا لا كتابًا فلسفيا ولا بحثًا عميقًا.

وسترى أنها نجحت إلى حد بعيد، وأن هذا الكتاب إن يُقْرَأ على أنه مقدمة لدراسة كتب أفلاطون وزينوفون يكن خير مقدمة تدخل إلى النفس مدخلًا سهلًا.

وقد وُفِّقَ المترجم في نقل الكتاب للغة العربية إلى حد كبير، وحافظ على الأصل كل المحافظة، والأستاذ محمود محمود معروف في عالم الترجمة والتأليف.

ولعل القُرَّاء ينعمون بهذه الترجمة العربية ويستمتعون بها كما استمتع آلاف القُرَّاء بكتاب كورا ميسن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤