الفصل الأول

أقريطون يروي البداية

[نعود إلى أثينا القديمة، قبل أربعة وعشرين قرنًا؛ أي منذ أكثر من أربعة قرون ونصف قبل ميلاد المسيح، حينما كانت روما مدينة ريفية تافهة، وحينما كانت إنجلترا أسطورة من أساطير الملَّاحين، وأمريكا قارة في سبات عميق، والعالم الغربي يتطلع إلى بلاد اليونان.

ولكن أحدًا لم يرَ في مدينة أثينا الإغريقية صبيًّا باسم سقراط بدأ يتطوَّر إلى فيلسوف، أقول: إن أحدًا لم ير ذلك، اللهم إلا إن كان صديقه أقريطون، فلربما رأى ذلك أقريطون وذكره عندما صار شيخًا، ورواه في شيءٍ يُشبه ما يلي، أما بقية القصة حتى نهايتها فمصدره جهات متعددة، فهو يصدر عن كتاب التاريخ، كما يصدر عن الحجارة القديمة، وعن الصغار من أصدقاء سقراط، وبخاصة صديقه أفلاطون، بيد أن هذا الفصل الأول لا يمكن أن يذكره إلا أقريطون وحده، وعلى أقريطون أن يرويه لنا.]

•••

عندما رأيت سقراط لأول مرة — وكان ذلك في المدرسة فيما أذكر، أو ربما كان قبل أيام الدراسة؛ لأن بيته لم يكن يبعد عن منزلي — حَسبته أقبح صبيٍّ في أثينا، ولم تكن هذه الفكرة صادقة كل الصدق؛ إذ لم تكن بوجهه كآبة أو ندوب أو علَّة، إنما كانت المادة التي صيغ منها كأنها أكثر خشونة وأشد صلابة من المادة التي صيغ منها غيره من الأطفال، عيناه تجحظان كعيني ضفدعة، وشفتاه غليظتان، وأنفه الأفطس يبدو كأنه دُلك على طريقة خاطئة وهو في المعهد، وكانوا يسمونه في المدرسة «وجه الضفدع».

إني أحدثكم عن وجهه، وإن كنت أنا نفسي كففت عن النظر إليه — والصديق يختلف إحساسه بجلد الوجه وعظامه — لأنكم هكذا ستنظرون إليه لأنكم غرباء، ثم إني أعرف أن الأمر يختلف لديه، فلقد سمعته يضحك منه منذ ذلك الحين، سمعته يزعم أن العيون التي تشبه عينيه إنما خُلِقَت لتنظر في جميع الجهات، وأن الأنف الأفطس يلتقط الروائح أحسن مما يلتقطها أنف طويل مستقيم، ولكني أعرف أنه قبل أن يتعلم المزاح بشأن خلقته كان كثيرًا ما يتشاجر بسببها مع الصبية الآخرين، وأنه أحيانًا — بعد أن يكف عن الصراع في الخارج — كان يُعاني صراعًا داخليًّا.

ولذا كان للقبح تأثير عليه — تأثير أكبر مما يظن أي إنسان — لأنه كان في جملته طفلًا سعيدًا متطلعًا إلى الخارج، ولقد حدَّثني محدث عن دعاء سمع سقراط مرة يدعوه بعد ذلك بسنوات؛ خرجا معًا إلى الريف، وأراد سقراط أن يؤدي صلاة لآلهة المكان الذي قصد إليه، وما أكثر ما كان يفعل سقراط ذلك؛ يصلي عندما يستمتع بحياته، وكذلك كانت صلاته تتفق وما جبلت عليه نفسه، دعا الآلهة أن تهبه كنوز الحكمة، ونفسًا متزنة تحمل هذه الكنوز، كما دعاها أن تهبه البساطة، وأن يتفق مظهره مع مخبره، ولكن فاتحة الدعاء هي أشد ما أذهلني، فلقد قال: «اجعليني جميلًا في داخلي.» وتذكرت عندما سمعت ذلك أنني كنت هناك عندما بدأت الفكرة لديه، عندما بدأ يوجِّه الأسئلة عن الجمال منذ سنوات مضت.

وعندما أقول «الجميل» قد تحسبونني في أذهانكم أعني «الظريف»؛ لأنكم أجانب، ولكن لكي تفهموا قصدي اعلموا أنني إنما أعني «الفاخر» أو «الجليل»، ذلك ما يعنيه لنا لفظنا «الجميل»، وكثيرًا ما نستخدم هذا اللفظ، ولكن عندما بدأ سقراط يتساءل عن الجميل لم نفهمه بادئ الأمر أكثر مما لو كنتم أنتم تفهمونه.

وأول ما لحظت ذلك كان في درس من دروس الموسيقى، فلقد طلب إلينا جلوكس العجوز أن ننشد الأغاني المألوفة من «الشاعر» في ذلك اليوم، وكثيرًا ما كنت لا ألتفت البتة لما كنا نقول إلا أن أصيب في إلقاء الكلمات، بسبب العصا التي كانت في ركن من الأركان، غير أن جلوكس اختار هذه المرة أنشودة من الأجزاء التي كنت أحبها؛ ولذا فقد تَنبَّهت كما تنبَّه سقراط الذي كان يجلس إلى جواري.

لا شكَّ أنكم تعرفون القصة: كيف تشاجر البطل أخيل مع الملك ورفض أن يقاتل من أجله في المعركة بعد ذلك، غير أن صديقه قُتِلَ وهو يحاول أن يحل محل أخيل، وبعدئذ لم يستطع أي شيء أن يَصُدَّ أخيل عن القتال، بالرغم من أن أمه الإلهة أنذرته بأنه إنما يسير نحو حتفه، فأجابها أخيل بخطابٍ جليلٍ عندئذٍ، قائلًا إنه يُؤثِر الموت على أن يتخلى عن الصديق، وأنه إن ابتعد عن المعركة في ذلك الحين فإنما يصبح عبئًا على وجه الأرض.

وكان خطابًا جليلًا ترن فيه أصداء المعركة، وقد عرفتم أن أم أخيل كانت على صواب في رأيها عما سيحدث، وأنه كان يعلم صواب رأيها، وأن خيوله ذاتها سوف تحزن عليه بعد وقت قريب، ومِن ثَمَّ فقد أحسست أن الخطاب كان جليلًا، فصوَّبت نظري نحو سقراط لأعلم رأيه فيه، إذ كان بالفعل يهمني أن أعرف رأي سقراط في كل شيء.

ألقيت عليه نظرة من علٍ — وكان أقصر مني قامة، وإن كنا في سنٍّ واحدة — فرأيت عليه مسحة أحببت من ذلك الحين أن أراها عليه في كثيرٍ من الأحيان، انفرجت عيناه العجيبتان الجاحظتان، وتألق وجهه القبيح الصغير بِشرًا مصدره القلب، وهمس قائلًا: «كان خطابًا جميلًا يا أقريطون، أفسمعت؟» ثم اضطرَّ كلانا إلى الصمت بسبب العصا، وسرعان بعد ذلك ما أطلق شخص ما صرصورًا استقر تحت أنف جلوكس تمامًا، فنسيت ما كان بشأن أخيل.

تذكرت هذا فيما بعد عقب مباراة المصارعة، وكنت بطلًا فيها بين أترابي في ذلك الحين رغم حداثتي في التمرين بطبيعة الحال، ولم أتقدم قط للألعاب الكبرى، ولكني أحسنت في ذلك اليوم وعرفت ذلك، وسرني أن سقراط كان حاضرًا يشهدني.

ودخلنا معًا بعد ذلك غرفة الملابس، وذراعانا متشابكتان، وكلانا تشمله السعادة الكاملة، وقال سقراط: «مصارعة جميلة يا أقريطون.» وأخذ يُكرر هذه العبارة، وهي كلمات قد تصدر عن أي إنسان، وإن يكن حمَّلها من المعني أكثر من ذلك، ثم وقف ونظر إليَّ، وصَمت لأني أدركت أنه كان يفكر في أمر ما.

وبعد لحظة قال لي: «أجل جميلة يا أقريطون، وكان الصباح جميلًا كذلك، هل تذكر أخيل؟ كان الأمر مختلفًا في ذلك الحين، ولكنه جميل أيضًا، إني لأعجب …» ثم شرع يفكر ثانية حتى نبهته فأقلع عن التفكير، ثم انصرفنا معًا للتدريب.

ولم أفهم حينئذٍ ما كان يدور بخلده، بل ولم أعجب له، حتى كان ذات مساء بعد ذلك في نفس الأسبوع وبينما نحن جلوس بمصنع ماوس، ولم يكن ماوس هذا إلَّا صانع فخار، أجنبي المولد، ولكنه كان ذائع الصيت في أثينا في تلك الأيام لإتقانه صنع الأواني، وكان فظًّا مع الناس، ولم يسبق لي قبل اليوم أن اقتربت من بابه إلى هذا الحد، بيد أن سقراط قد تعرَّف إليه بطريقة ما، وصحبني ذلك المساء لكي نراقبه.

وعندما دخلنا المصنع وجدنا ماوس قد شرع في صناعة إناء جديد على عجلته، فأشار إليَّ سقراط أن ألزم الصمت، وجلسنا على الأرض قريبًا منه وبعيدًا عن الطريق، ولست أدري إن كنتم شاهدتم من قبل خبيرًا بصناعة الفخار وهو يقوم بأداء عمله، فإن كنتم قد شاهدتموه، فستدركون لماذا لم يدركنا ملل عندما جلسنا لديه نراقبه.

كانت على عجلته كتلة ضخمة من الصلصال، وظل فترة طويلة كأنه لا يفعل شيئًا إلا أن يلعب بها، دافعًا بها إلى أعلى وإلى أسفل بين يديه، بينما احتفظ طفل من الرقيق بالعجلة دائرة، وبدا كأنه سيبقى على ذلك طيلة المساء، ولكن الموقف تغير فجأة، وإذا بماوس يقلِّب يديه، ويدفع بإبهاميه إلى وسط الصلصال ويقبض ويرفع حتى تشكَّل الإناء بشكل ما.

ارتفع الإناء من جذوره كأنه مادة حية، وإن المرء ليحسب من غير شك أن به حياة، ولكن الحياة لم تكن بطبيعة الحال سوى الخطة التي دبرها ماوس في رأسه، وإنك لتراقبه ويصيبك شيء من الدوَّار، وإنك لتستطيع أن تشهد الخطة وهي تنطلق من ماوس، ومن بين يديه إلى الصلصال، والخطة تخلق من الصلصال شيئًا، إن الصلصال لم يكن من قبل شيئًا، ولكنه الآن إناء.

ونظرت إلى سقراط، وعرفت أن أمره الآن مثل حاله عند خطاب أخيل وفي المصارعة، وأحسسنا ذلك معًا، وبعد برهة أوقف ماوس العجلة لكي يقيس شيئًا ما، ووجَّه إليه سقراط هذا السؤال: إن هذا لجميل يا ماوس، وكان جميلًا وهو يتكون، ولكن ما هذا الشيء الذي نسميه بالجميل يا ماوس؟ وما معناه؟

قال ماوس وقد بدت عليه الحيرة لحظة، ولمس طرف الإناء الذي كان يصنعه: «جميل؟ عجبًا! إنه مثل هذا فيما أحسب، ومثل ذاك الذي تراه، وليس الذي شهدتني أصنعه بالأمس، لقد أفسدته وإن كان أكثر الناس لا يعلمون.»

ووضع سقراط يده على الإناء كذلك لكي يلمس استدارته، وكان جليًّا أنه لم يكن راضيًا.

– كلا يا ماوس، ليس الأمر كذلك! ذلك ما يفعله الناس دائمًا، إنهم يشيرون إلى الأشياء، يشيرون إليها ويقولون: «هذا جميل، وذاك جميل.» والأشياء كلها على خلاف، إناء جميل ومصارعة جميلة وشجاعة جميلة، كل هذه أمور مختلفة، ولكن ماذا عسى أن يكون بينهما من تشابه؟ لا بُدَّ أن يكون هناك تشابه ما، وليس الأمر مجرد أن يكون هذا جميل وذاك جميل، وإنما لا بُدَّ أن يكون هناك «الجميل» يا ماوس، هذا ما كنت أفكر فيه، وأنت تصنع الأشياء الجميلة، فلا بُدَّ أن تكون على علم.

وعرفت عندئذٍ ماذا يعني، وإن كنت لم أفكر من قبل قط في مثل ذلك، وأدرك ماوس الأمر كذلك، ولكنه لم يُبادر بالجواب، وأخيرًا قال: «إنني لا أعرف شيئًا عن «الجميل» يا سقراط، ولست أعرف سوى الأواني الجيدة، والإناء الجيد عندي إناء جميل.»

فسأله سقراط: «ولكن لماذا يكون جيدًا يا ماوس؟»

فقال ماوس مشيرًا مرة أخرى حتى حسبته قد نسي: «انظر إلى تلك الجرة، إنها جرة جيدة، إنها جيدة لسبب ما، إنها جيدة في انصبابها، ولو أنك زدت قليلًا من تجويف حافتها لانسكب منها النبيذ، ولو فلطحت جوانبها أكثر من ذلك قليلًا لسهل سقوطها، وعندئذٍ تكون جرة رديئة، ولا يسميها من يعرف جرة جميلة، وفي الحق أن من رأيي أنها إذا لم تؤد الغرض الذي قُصِدَ منها شق علينا أن نطلق عليها اسم الجرة إطلاقًا، إنها مجرد كتلة من الطين.»

فقال سقراط متثاقلًا: «إذن لا بُدَّ أن تكون الجودة في الأشياء هي التي تجعلها جميلة ونافعة، لا بُدَّ أن تكون جودتها هي التي تجعلها أيَّ شيءٍ إطلاقًا.»

فأومأ ماوس رأسه بالإيجاب وأضاف قائلًا: «هذا ما يبدو لي كذلك، وإني لأحسب أن كلَّ من يصنع الجرار يجب أن يجيد صنعها.»

فسأله سقراط: «ولماذا لا يفعلون؟»

وأجاب ماوس: «إنهم لا يعرفون الطريقة، والحق أنهم لا يعرفون نموذج الجرة الجيدة، الجرة الحقيقية.»

وقال سقراط: «أجل، وبالطبع إنهم ليحبون أن يحاكوا النموذج لو أنهم حقًّا عرفوه، ولكن مَنْ ذا الذي صنع النموذج يا ماوس؟»

– «لست أنا، وليس أبي، لقد استغرق زمنًا طويلًا، وما زلنا — في الواقع — نُدْخِل عليه تعديلات صغيرة، وربما لم يصنع قط النموذج الحقيقي، إنه دائمًا في طريق الكشف، ولكنه قد وُجِدَ فعلًا على صورة ما.»

فسأله سقراط: «وإذن فكيف تكشف عنه؟ هذا ما أريد أن أعرفه يا ماوس، كيف يكون ذلك؟»

وكان هذا آخر سؤال، وقد تطلب من الشيخ العجوز زمنًا طويلًا لكي يجيب عنه، وفي نهاية الأمر قال: «أشك أنني أستطيع أن أخبرك بذلك يا سقراط، ولكن ينبغي لك أولًا أن تعرف الجرار، ولا يكفي أن تعرف شكلها، كما يشاهدها أي زائر للمصنع، ينبغي لك أن تعرف ماذا بها مما يجعلها جرارًا جيدة، جرارًا حقيقية، تؤدي ما يجب للجرة أن تؤديه، المعرفة هامة جدًّا يا سقراط.»

وكان الحوار في ذاك المساء بمصنع ماوس كمباراة الكرة، رمي ومتابعة، إلى الخلف وإلى الأمام، وأحسست قرب النهاية كأن المباراة فوق مستواي، وإن كنت قد بدأت من ذلك الحين أحسن فهمها، وربما كان الأمر فوق مستوى سقراط نفسه قليلًا في ذلك الوقت، ولم يكن ماوس سوى صانع فخار يتحدث عن الأواني الفخارية، فإن ذكر شيئًا عن الجودة على اعتبار أنها نموذج يبحث عنه، فإنه لم يذكره إلا عرضًا، بيد أني ما زلت أعتقد أن هذا الحديث مع ماوس كان بداية لشيء هام بالنسبة لسقراط، بداية — على الأقل — كأية بداية أخرى يحتمل أن تصادفك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤