الفصل العاشر

الحرب العظمى

إن السنوات التي جعلت من ألقبيادس بطلًا فاشلًا، السنوات التي كان ينمو فيها أفلاطون ويقوم فيها سقراط بأداء الرسالة التي تلقاها من الآلهة، كانت سنوات الحرب العظمى مع إسبرطة، وكان سقراط في نحو التاسعة والثلاثين من عمره عندما نشبت الحرب، وكان في نحو السادسة والستين من عمره عندما انتهت.

وكان الجيش الأثيني يخرج تباعًا كل صيف، كما يبحر الأسطول إلى الأصقاع النائية، وخدم سقراط نفسه في حملتين عرفناهما، وليس من شك في أنه خدم في كثير غيرهما، ولا بُدَّ أن تكون زانثب قد أنزلت خوذته البرنزية وصداره الحديدي من الصندوق الذي أودعا فيه بحجرة النوم، كما خلعت الدرع والرمح من جدار حجرة الجلوس، وربما كانت مشابك الصدار الحديدي بحاجة إلى ربط، وهل تتحرك المقابض عند الكتفين في يسرٍ يا ترى؟ ويجب أن يذكر شارة الشرف المصنوعة من شعر الخيل ويتأكد من ملاءمتها وثباتها في الثغرة التي أُعِدَّت لها بالخوذة.

ويصقل الدرع حتى يلمع كالمرآة بالرغم مما به من ندوب، وتغسل زانثب رداء سقراط العتيق وتصلحه، ويصر على أنه حسن على هيئته، ولكنها لا ترضى له بالمظهر الحقير بين زملائه، ثم تحزم له طعام ثلاثة أيام، من سمك مجفَّف وزيتون، وخبز الشعير والجبن، وتهبط كي تراه وهو ينطلق مع الآخرين من باب المدينة، وبعدما تُرْزَق بطفلها الأول — «الذي وُلِدَ متأخرًا، وبعد كثير من الدعاء فكان إلى القلوب حبيبًا» كما جاء في الشعر القديم — تراها تحمله على كتفها.

لم تكن الحياة يسيرة على زانثب في ذلك الحين أو فيما بعد، وربما اقترن بها سقراط قبل الحرب بزمن ليس بطويل، وربما بعد نشوب الحرب بسنوات، وقد انتقاها عن طريق خاطبة أو عن طريق إحدى قريباته، كما كانت تتم الزيجات في أثينا في ذلك الحين، وربما كانت ابنة جاره، فتاة رآها تحمل جرة الماء إلى البئر من بيت في أقصى الشارع، لم يعرفها قبل أن يقترن بها ولم تعرفه، تزوج منها لأنه كان يريد لنفسه ذرية، وتزوجت منه لأن ذلك ما كانت تتمناه لنفسها دائمًا، أن تتزوج وأن تنسل وأن تكون ربة بيتها، وحتى لو كان شاذًّا قبيحًا فهو يستطيع أن يكفل لها أمنًا وعطفًا، وكانت تصغره بعدة سنوات.

وكان سقراط عطوفًا على زانثب، وربما تبادلا شيئًا من الحب، وإن كانا لم يتبادلا منه الكثير، فالأزواج والزوجات لم يتوقعوا عادة أن يتبادلوا حبًّا عميقًا في أثينا، وكان على الأقل صبورًا كلما أنَّبَتْه وكانت معروفة بتأنيبها، وكان من اليسير عليه أن يبتسم، وأن يدرك أن نيتها طيبة، فيوجه تفكيره إلى أمور أخرى، وكان يقول للأطفال: «إن الكلمات لا تؤذيكم، واذكروا كيف كانت تسهر عليكم في مرضكم.»

وهكذا منح سقراط زانثب عطفه، وإن يكن لم يمنحها ما كانت تعده ضمانًا لها، ومنحته هي الأطفال، وكان له أبناء ثلاثة عرفناهم: لامبروكليز، سفرونسكس، ومنكسينس الصغير، وربما كان له كذلك بنات، وإن لم تعش واحدة منهن حتى تكبر؛ إذ لم يعش له أطفال ويكبروا ممن ولدوا قبل أن يبلغ أبوهم الخمسين، ولكن سقراط في سنواته الأخيرة على الأقل كانت له الأسرة التي تمناها، وكان لذلك شاكرًا، وأراد أن تكون زانثب معه في الليلة التي سبقت وفاته.

وبخلاف زانثب والأطفال كان له بطبيعة الحال أصدقاء: أصدقاء قدامى وأصدقاء جدد، وقد نما جيل جديد بأسره من الصبا إلى الشباب خلال الحرب، وأتى أقريطون بابنه كريتوبيولس، وكان يتوقف أحيانًا للاستماع شاب صغير طيب القلب يُدْعَى زنفون شديد الاهتمام بالخيل والكلاب، وكان هناك أجاثون الشاعر الشاب، الذي أقام حفل العشاء المشهور، كما كان هناك سفالس الصقلي العجوز صاحب مصنع الدروع، الذي كان بيته عند الميناء مجالًا لنقاشٍ آخر لا يقل عن سابقه شهرة وذيوعًا، وكان هناك كريتاس وكارميدز من أقرباء أم أفلاطون، ومن قواد الثورة فيما بعد، وقد كانا مثل ألقبيادس خطرًا على سمعة سقراط الطيبة، كما كان هناك جلوكن واديمانتس الأخوان الأكبران لأفلاطون، وأخيرًا عندما أوشكت الحرب أن تضع أوزارها، كان هناك أفلاطون الشاب نفسه.

ولا يكاد أفلاطون يذكر متى بدأت تبلغه أنباء سقراط من أحد أفراد أسرته، وكان قد سمع عنه قبل أن ينضج للكلام معه بنفسه، وحتى في ذلك الحين بقي في محيط الدائرة لفترة من الزمن، ولو أنك قلت له في تلك السنوات: إنه سوف يصبح فيلسوفًا وينشئ مدرسة من الفلاسفة ذات يوم لسخر منك؛ لأن الحياة السياسية كانت الحياة العملية الملائمة الوحيدة لشاب من أسرة كأسرة أفلاطون: أسرة نبيلة، تنحدر من سولون المشرع، بل إنك لو رجعت حقًّا إلى الزمن السالف القديم، لقلت: إنها تنحدر من بوزيدون إله البحر ذاته.

وقد اختط أفلاطون لنفسه أن يكون من رجال السياسة، ولن يكون بطبيعة الحال رجلًا ممن يطعنون الناس من الخلف كما كان الساسة في سني الحرب تلك الذين تزدريهم أسرته، وإنما يرمي أن يكون زعيمًا وطنيًّا محافظًا للمدينة بأسرها كسلفه سولون، وقد أحس في نفسه القدرة على الزعامة، وسيكون كرتياس ابن عم أمه عونًا له على ولوج باب السياسة بمجرد ما تتاح للمحافظين الفرصة مرة أخرى.

وفي غضون ذلك ربما كان يدرس فن التصوير وتأليف الشعر أو «صناعته» كما كان التأليف يسمى في لغته، وكان يلزمه دائمًا ضرب من ضروب «الصناعة» كما كان البحث لازمًا لسقراط، وإن كان لا يستطيع صنع القوانين فهو يستطيع صناعة المسرحيات، وبعدما كتب مسرحيته الأولى — إذا صدقت القصة القديمة المشكوك في صحتها — بدأت كلمات سقراط بعدما كانت من قبل لا تمس إلا ظاهر فكره أولًا؛ بدأت تخزه كما وخزت من قبل ألقبيادس وجعلته ساخطًا على كلِّ شيء فكر فيه أو أداه فيما سبق، وبدت له مسرحيته ضحلة فألقى بها في النار، ولم يكتب بعد ذلك مسرحيات إلا بعد سنوات، وكانت في صيغة جديدة تعلمها من سقراط.

ونستطيع الآن أن ندرك أن اكتساب أفلاطون كان يفوق كثيرًا في أهميته فقدان ألقبيادس، غير أن سقراط بطبيعة الحال لم يستطع أن يتصور ذلك، ولم تكن سني الحرب هذه سهلة مريحة في جملتها لأي امرئ في أثينا، وبخاصة لرجل متوسط العمر ذي أسرة يعولها، وموارد مالية قليلة للانفاق عليها، عنده إدراك للحق أسمى حتى من مستوى الأخلاق في زمن السلم في مدينته، ولديه رسالة تجعله يقف في وجه الظلم والجهالة، ومرت بسقراط أوقات كان مجرد بقائه وبقاء أسرته أحياءً مشكلة من المشكلات، وقد صاحب المعركة طاعون لم يكن أقل منها فزعًا، وأمسى كل شيء ناقصًا لعدة سنوات، نقص في الدفء ونقص في المسكن وفي الطعام، وعانت المدينة أشهرًا من الجوع في أعقاب الحرب، وذلك حينما امتلأت باللاجئين، واستولى الأسطول الإسبرطي — الذي كان يسد نفقاته الذهب الفارسي — على البحار من البسفور إلى خليج سلامس، ولم ترد في ذلك الحين السفن محملة بالحبوب. وأُغْلِقَت الأسواق لقلة ما يُباع فيها من طعام.

وكابد سقراط وزانثب شظف العيش خلال الحرب والطاعون والمجاعة، وكابدت كذلك أسر أخرى، غير أن ما أزعج المفكرين في ذلك الحين، وجعل رسالة سقراط أوجب من أيِّ عهد سبق هو التغير الذي طرأ على قلوب الناس نتيجة فيما يظهر لما كابدوا من الآلام وأعمال العنف، فإن عشرين عامًا من القتال كانت أمدًا طويلًا برغم ما توسطها من سلم شاق تنفس فيه الناس قليلًا، ويبدو أن التقاليد والعادات الثابتة في حسن المعاملة قد أخذت تنهار في سرعة فائقة، كما يبدو أن ثقة بركليز في أن الأثينيين يستطيعون أن يقوموا بأيِّ شيءٍ فيه رقة وجمال — على حساب جيرانهم مؤقتًا — قد انقلبت إلى ثقة ألقبيادس في أن من يملك القوة يستطيع أن يقوم بأيِّ شيءٍ، وبدأ التصدع القديم الذي أشاح عصر بركليز بوجهه عن رؤيته، والذي كان يمكن خلال سنوات الدعة — وأقصد به أن الغاية تبرر الوسيلة — بدأ يظهر ثغرات قبيحة في أسس المدينة ذاتها.

فكان من الدلائل السيئة مثلًا أن يصوت أهل المدينة في صراحة وجرأة في المجلس على قتل الرجال واسترقاق النساء والأطفال جميعًا في جزيرة ملس العاجزة الصغيرة، وكان من الدلائل السيئة كذلك أن يكف كثير من الأثينيين عن العناية بالمرضى من ذوي قرباهم وعن الاهتمام بدفن موتاهم أثناء انتشار الطاعون، وقد أذهلت هذه الأمور القوم من جيل بركليز، أما القوم من جيل ألقبيادس، وأما معلموهم من الشبان السفسطائيين، فقد زعموا أنهم لا يعتقدون في شيء ولا يصعقون لأمر، وكانوا يقولون: «إن القواعد القديمة التي تتعلق بالحق والباطل إنما سنَّها رجال جبناء في الماضي، ولا يمكن لرجلٍ قويٍّ أن يتقيد بها، إن قانون الطبيعة يتضح من الطريقة التي يسلكها الحيوان، وإن الناس جميعًا ليسيرون وفقًا لهذه القاعدة لو كانوا شجعانًا: انج بحياتك، وخذ ما تريد لنفسك.»

وكثير من الأثينيين المحتشمين المهذبين كان يزعجهم ما يزعم السفسطائيون، وأرادوا أن يبرموا بشأنه أمرًا، والتقى سقراط بأنيتس ذات يوم، وهو الصديق الذي ضحك عندما سرق ألقبيادس نصف أدوات المائدة قبل الحفل، ولم يكن أنيتس هذه المرة ضاحكًا، وقال لسقراط: إن السفسطائيين ينبغي أن يبعدوا عن المدينة.

وسأله سقراط: «هل استمعت لهم مرة لتعرف ما يقولون؟»

فأجاب أنيتس: «لست في حاجة إلى ذلك، وخير لك أن تراقب لنفسك كذلك يا سقراط، خلال تجوالك ونقدك ساستنا كما تفعل، إنه لأمر خطر!»

ولم يكن أنيتس الرجل الوحيد في أثينا الذي خلط بين سقراط والسفسطائيين، فلما كتب الشاعر أرستوفان مسرحيته الهزلية المشهورة «السحب» ضد السفسطائيين، جعل سقراط بطلها الشرير، وضحك الناس عندما رأوا سقراط يظهر كأستاذ «لزمرة المفكرين» من السفسطائيين، الذين يعلمون الشباب أن ينكروا الآلهة ويهاجموا آباءهم، ويجادلوا فيما عليهم من ديون فلا يدفعونها.

ضحك الناس، بَيْدَ أنهم ذكروا المسرحية، وقد كانت سببًا في متاعب سقراط فيما بعد، ولم يدرك الكثيرون أنه يملك الوسيلة الوحيدة الفعَّالة حقًّا في معالجة السفسطائيين، فإن أحدًا لم يستطع أن يسوق الأسئلة نحو إجابات أحسن، وسأل كالكليز السياسي قائلًا: «هل تختار أن تحيا حياتك بجسم عليل؟ بله أن تريد حقًّا أن تعيش بروح عليل!»

وسأل سقراط السفسطائي ثراسيماكس — الذي كان يفخر بقوله: إن الشر أقوى من الخير: «هل فكرت مرة يا ثراسيماكس فيما يمسك الناس بعضهم إلى بعض؟ وهل تستطيع حتى ثلة من اللصوص أن تبقى قوية موحدة إلا إن كان لديهم شيء من الإحساس بالعدالة فيما بينهم؟ ماذا ينجزون لو أن كلَّ واحد منهم سرق من الآخرين؟ فكيف إذن تكون حال مدينة يقسمها الشر شيعًا وأحزابًا، وكيف تكون حال الروح إن اضطربت وعارض جانب منها جانبًا آخر؟ إن الضعف دون القوة هو بالتأكيد ما ينجم عن الشر!»

وفيما بين حرب جيش مع جيش تدور رحاها خارج المدينة، وصراع الخير والشر تدور معركته في أذهان القوم، كان لدى سقراط عمل يكفي رجلين من عامة الناس، فبقي بعيدًا عن ميدان السياسة، كما شجعته حقًّا إشارته على ذلك، وبرغم هذا كان لا بُدَّ أن يستلفت الأنظار لما كان عليه من صفات، وقد اضطرَّ إلى أن يخوضَ في معمعان الشئون العامة مرتين خلال الأوقات العنيفة التي أعقبت الحرب، وفي كلِّ مرة منهما كاد الأمر أن يكلفه حياته.

وكانت المرة الأولى عند محاكمة القواد الستة بعد معركة آرجنيوزي البحرية الكبرى بعيدًا عن ساحل آسيا الصغرى، وقد عُبِّئت السفن لهذه المعركة بكلِّ أثيني تقريبًا — عبدًا كان أو حرًّا — يستطيع أن يستخدم المجداف أو يحمل السلاح، أما سقراط الذي كان آنئذٍ في منتصف عقده السابع، فالأرجح أنه تخلف في وطنه ليقوم بواجب الحراسة، ولكن صديقه الشاب أفلاطون قد خاض المعركة بالتأكيد وأسهم فيما أحرزته من نصر وما أعقبها من عار بعد ذلك، إذ إنه بعد انتهاء المعركة وبينما كان القادة يتجادلون بشأن من يجمع منهم شمل الأحياء وينقذ حُطام السفن التي ظلَّت طافيةً حول ميدان القتال، هبت عاصفة ولم ينج البتة أحد في النهاية، وتُرِكَت للغرق على مرأى من الساحل اثنتا عشرة سفينة أثينية حربية على الأقل بُنِيَت للسرعة لا للنجاة كما كان ينبغي، فلم تزوَّد بقوارب النجاة أو بوسائل الوقاية من الغرق، ولم تبحر سفينة واحدة لإنقاذ السابحين.

وصعق الناس وغضبوا لما بلغت أثينا رسائل القادة التي تصف النصر والعاصفة وعدد الموتى، وأُعْفِي من القيادة القواد التسعة جميعًا الذين كانوا بالمعركة، وأُعِيدوا إلى الوطن للمحاكمة وقد أدركت المنية أحدهم خلال ذلك، وصمَّم اثنان منهما ألا يعودا، وعاد إلى أثينا الستة الباقون، وكان أحدهم ابن بركليز وإسبسيا، وكلهم من الموظفين العاملين المعروفين، وطُلِبَ إليهم أن يتقدموا بتقاريرهم إلى مجلس الخمسمائة للتحقيق المبدئي.

وكان مجلس الخمسمائة هو الهيئة التنفيذية الكبرى التي تعد العمل «للمجلس»، وحدث أن انتُخِبَ سقراط بالاقتراع لكي يكون أحد أفراد مجلس الخمسمائة في ذلك العام، وكان فوق ذلك أحد أفراد المجلس الخمسيني لقبيلته الذين كانوا يقومون بالرياسة في ذلك الشهر، وتكلَّل بإكليل رسمي من الريحان، وكان يقضي كل يوم في قاعة المدينة حيث كان الأعضاء والرؤساء يعقدون اجتماعاتهم ويتناولون طعامهم، ولا بُدَّ أن تكون زانثب قد ارتأت في ذلك وفرًا عظيمًا، بل كان يقضي الليالي هناك أحيانًا، إذ كان من المفروض أن يكون بعض الرؤساء ميسورًا دائمًا للحالات الطارئة.

وبعد التحقيق أمام مجلس الخمسمائة، جيء بالقادة الستة أمام المجلس، وهنا بدأت تثور الخواطر، وكان المتهم واحدًا من قوادهم البحريين، سياسيًّا واسع الحيلة يُدْعَى ثرامينس، كانوا قد أصدروا إليه أمرًا — متأخرًا جدًّا على الأرجح — لكي يبحر في مهمة الإنقاذ، واستطاع سقراط — الذي تمرس على ملاحظة دوافع الناس الحقيقية — أن يدرك لماذا كان ثرامينس عنيفًا جدًّا في اتهامه القادة، فقد كان ثرامينس يرى أن التهمة سوف تلتصق بشخص معين لم يرد له أن تلصق به، وربما أدرك قوم آخرون كذلك أن ثرامينس قد تكون لديه دوافعه الشخصية، ومهما يكن من الأمر، فما إن انتهت الخطب المطولة، ووصف الشهود العاصفة التي حالت دون الإنقاذ حتى بدأت الأكثرية تعتقد أن القادة ينبغي أن يبرَّءوا، غير أن الظلام قد احلولك في تلك اللحظة حتى أمسى من العسير أن يرى المرء أيدي الرجال مرفوعة للتصويت، فأشار أحدهم — ولم يلاحظ فرد منهم من هو على التحديد — بإعادة القضية إلى مجلس الخمسمائة لتوصي بما يتبع قبل انعقاد المجلس القادم، وكانت الأيام الثلاثة لعيد الأسرة مقبلة، ومن المنظور أن تبرد حرارة القضية عند عرضها مرة أخرى بعد عطلة العيد.

ولما توجَّه سقراط إلى منزله ذلك المساء سيرًا على قدميه سره أن يجد المدينة هادئة بعد أن ثارت خواطرها نهارًا، ولم يسمع سوى العويل هنا وهناك حيث كانت الأسر تعلن حزنها على ابن أو أخ ابتلعه اليم، وإذ هو يسير في المدينة انفتح أحد الأبواب وأطل منه رجلان ومعهما الغلام الذي يحمل الشعلة، واستودعا صديقًا، حليقًا، في ثياب الحزن السوداء، وقف كالظل خلف الباب، ثم أخذا طريقهما وانصرفا، وقد عرفهما كليهما سقراط، إذ كان أحدهما كالكسينس، عضو له نفوذه في مجلس الخمسمائة، والآخر ثرامينس.

وفي اليوم التالي وما بعده وما تلاه؛ كرر ثرامينس زياراته، وازداد في المدينة ظهور الثياب السوداء، وكان عيد الأسرة في العادة عيدًا بهيجًا في جملته، تقيم فيه العشائر ولائم العشاء، ويرحب فيه الناس بمن استجد من المواليد ومَنْ بلغ سن الرشد في غضون العام، بَيْدَ أن عيد الأسرة هذا العام كان مختلفًا، زعم الناس فيه أن أشباح الموتى — الذين لم تُدْفَن جثتهم والذين قُضي عليهم بالتجوال في عالم الظلام السفلي بغير راحة — ترفع الصوت مطالبة بالانتقام، ولما اجتمع مجلس الخمسمائة في الصباح الرابع ليستأنف النظر في قضية القواد الستة، احتشد خلف قضبان غرفة المجلس جمهور ساخط من المحزونين ذوي الثياب السوداء، ثم نهض كالكسينس للكلام.

واقترح كالكسينس قرارًا غير شرعي، ذهل له سقراط عندئذ، واشتدَّ ذهوله حينما عرض القرار على المجلس فيما بعد، قال كالكسينس متئدًا: «لقد تعطلنا طويلًا في هذا الموضوع التعس الذي يتعلَّق بالقواد الستة، إن بين أيدينا من الدلائل ما يكفي، والشعب الأثيني الثائر يطالبنا بالعمل، وإني لذلك أقترح أن يُصوِّت المجلس فورًا، ولنعدَّ للتصويت وعاءين، يخصَّص أحدهما لمن يرون أنهم مذنبون، ويخصص الآخر لمن يرونهم غير مذنبين، وليبرأ القواد جميعًا أو يدانوا معًا بصوت واحد.»

وكان الجدل في مجلس الخمسمائة طويلًا حارًّا رغم ضجيج الشعب المحتشد عند الباب، وطبقًا للقانون الأثيني كان لكلِّ امرئ الحق في أن يستدعي شهوده ويعرض قضيته كاملة، وكان له — قبل كل شيء — الحق في المحاكمة الفردية، وكان أحد القواد المقدمين للمحاكمة على ظهر إحدى السفن التي تحطمت، فكيف يمكن أن يُعَدَّ مسئولًا مثل الآخرين؟!

غير أن كالكسينس أصرَّ على موقفه، واشتدَّ ضغط الجماهير على القضبان، وعزى كل عضو في المجلس نفسه بأنه فرد واحد بين عدد كبير، وإن هذا التصويت لم يكن على قرار وإنما كان على توصية بقرار، وكان سقراط وقليل آخرون من المعارضين لكالكسينس أقلية، فحُوِّلَت القضية على المجلس بتوصية كالكسينس، وتحوَّل معها الجمهور المجلل في الثياب السوداء.

وبدأ هذا اليوم في المجلس الأثيني — كما ارتآه سقراط من مكانه بجوار منصة الكلام — كالكابوس الذي لا يفوقه فزعًا أي شيء عرف فيما مضى، وبدت وجوه أصدقائه وجيرانه الطيبين من تحته كأنها غريبة عنه، وحتى قبل البدء في الخطب بدا له كأن علة من علل النفوس قد أخذت تنتشر في صمت من الرجال ذوي الثياب السوداء المحتشدين حول درجات المنصة إلى الجماهير، وأخذ العضو المجاور له، الشيخ الطيب أرستوجينس الذي ينتمي إلى الجناح الآخر من الحراس، يعبث بعصاه في حالة عصبية، وقال: «إنهم لم يظهروا بهذا المظهر منذ سنوات، منذ الأيام السيئة التي أعقبت الهزيمة في صقلية، ويبدو أن اقتراح كالكسينس المضحك قد يُعْرَض للتصويت فعلًا، فماذا عسانا إذن فاعلين؟»

وطاف القوم بالخنزير الرضيع حول مكان الاجتماع في حفل التطهير التقليدي، وقيلت دعوات الافتتاح، وصبَّت اللعنة على أيِّ فرد يعمل بما يخالف القوانين في هذا المجلس، وقرأ الرائد اقتراح كالكسينس، ووقف صديق من أصدقاء القادة يعلن بطلانه شرعًا، وكاد القوم أن ينزلوه من فوق المنصة، واقترح خطيب شعبي «أن يتركوه يموت مع القادة، وأن يدينوهم جميعًا دفعة واحدة!» وصاحت الجماهير بالتأييد.

وفي غضون ذلك اندفع صوب المنصة ملَّاح زعم أنه يحمل رسالة من رفاقه الموتى، وقال لهم: «لقد كنت أنا نفسي في غمرة المياه عدة ساعات بعد المعركة، ونجوت بتعلقي ببرميل دقيق، وعهد إليَّ صحابي بهذه الرسالة قبل أن يفارقوا الحياة، قالوا: «قل للأثينيين: إننا متنا بعد المعركة، بعد قتال خاطرنا فيه بكلِّ شيءٍ من أجلهم، وقد تركنا قادتنا للموت»، وكانت الدموع تنهمر على وجه الملاح، واستحال صياح الجماهير إلى زئير، وسواء كان القادة أبرياء أو مذنبين، لم يَعُد لهم بعد ذلك أمل.»

ولم يكن لسقراط مفر — وهو قريب من المنصة — من أن يسمع ويرى الخطأ الجسيم الذي كان القوم يسيرون فيه، وكان يعرف كل رجل في الحشد تقريبًا، وكانوا في جملتهم قومًا عطوفين مهذبين يحبون الأطفال، وأكثر من عدول في أكثر الأحيان حتى مع عبيدهم؛ لأنهم مهما عاد بعضهم بالذاكرة إلى الماضي لا يذكرون إلا أنهم كانوا يخوضون معركة من أجل مدينتهم، وأما الآن فهم في عماهم يشنون القتال على بلدهم وعلى أنفسهم وبنيهم، كانوا يحاولون أن يحطموا العقل والعدالة واحترام الأفراد الذي من أجله كافحت أثينا، والأمر الآن أكبر من موت ستة رجال أو حياتهم.

ومال سقراط على أرستوجنيز وقال: «سوف أرفض عرض الأمر في هذا الاجتماع، فهل تؤيدني؟ إنهم لا يستطيعون التصويت ما دمنا نرفضه.»

وابيضَّ لون أرستوجنيز، وكان يفكر في ذلك من قبل، غير أن الفكرة كانت أكبر منه وصاح قائلًا: «هل جُنِنْتَ يا سقراط؟! إن القواد سوف يموتون، وتموت معهم لو حاولت أن تتدخل.»

وقال سقراط في تؤدة: «إنني لا أفكر في القادة، وإنما أفكر في وجوه القوم تلك التي أشاهدها، لقد جُنَّ أكثرهم، والباقون في خوف شديد، أعتقد أننا جميعًا سوف نموت ذات يوم، غير أن هذا الأمر يجب أن يقف عند حد، ونستطيع نحن على الأقل أن نذكر اليمين التي أقسمناها للاستمساك بالقانون، فهل تؤيدني؟»

فأجابه أرستوجنيز: «لست بطلًا، وعندي زوجتي وأطفالي أفكر فيهم.» ولكن لما وقف سقراط، وقف كذلك أرستوجنيز.

ومن العسير أن نفهم ما حدث بعد ذلك، ونعلم أن سقراط عندما قدَّم احتجاجه كانت تحوطه جماعة صغيرة من الرؤساء، ولا بُدَّ أنهم أدركوا ما سوف يحدث، فقد شهدوا ما حدث لصديق القادة الذي حاول أن يتهم كالكسينس قبل ذلك، ومع ذلك فقد نهضوا ورفضوا أن يقدموا الاقتراح للشعب، ولا بُدَّ أن يكون ضغط الجماهير شديدًا بعد ذلك؛ لأن هؤلاء الرجال الأمناء الشجعان تخلوا عن المعارضة واحدًا بعد الآخر، وبقي سقراط وحده، وأصر أنه أقسم أن يطيع القوانين وأنه سوف يطيعها، وليس من شك في أنه قد اتضح بعد وقت قصير أنه كان يعني ما يقول، ومع ذلك فقد عاد سقراط إلى به وإلى زانثب ذلك المساء كعادته، ليس حيًّا لم يصبه أذًى فحسب، لكنه كذلك من الأحرار.

وقدم الاقتراح بطبيعة الحال بالرغم من احتجاج سقراط، وتمت عملية التصويت، وتحقق لثرامينس وكالكسينس ما أرادا، وأوشك القادة أن يُعْدَموا، غير أنه من العسير أن نتصور أن سقراط قد عاش، في حين أن كثيرًا من الرجال الآخرين قد اعتقدوا أنه لم تكن له فرصة في الحياة، لولا أن حدث في الاجتماع شيء عجيب، وانقشع الكابوس وعاد للجماهير شيء من الإحساس باللياقة ولو لبرهة من الزمان، ولم ينقض بالتأكيد وقت طويل قبل أن يشعر الأثينيون بالخجل مما فعلوا.

وأوقعوا بكالكسينس العقوبة من أجل ذلك، في حين أنه كان من الأجدر بهم ألا يلوموا إلا أنفسهم، وليس من شك في أن موقف سقراط كان له أثره، وحتى بعد مضي زمن طويل لا بُدَّ أن يكون بعض من الأثينيين — وربما كانت قلة منهم، ولكن الفرد الواحد كان عند سقراط ذا قيمة كبرى — قد ذكروا ما شهدوه في ذلك اليوم وعلَّموه أبناءهم.

أما القصة الأخرى فلا تستغرق روايتها وقتًا طويلًا، لما انتهت الحرب بهزيمة أثينا واستسلامها، عاون القائد الأسبرطي ثرامينس على إقامة حكم دكتاتوري في المدينة، وحل ثرامينس وتسعة وثلاثون رجلًا آخرون — يسمون الثلاثين — حلُّوا محل الجمعية في الحكم، وهم رجال معروفون بمودتهم لإسبرطة أو على الأقل بمعارضتهم للديمقراطية، ولما اتضح أن قوة الشرطة التي تخضع لهم وتُسمى ﺑ «الجلادين» لم تستطع أن تقمع المعارضة، أسلمهم القائد حامية من ستمائة جندي إسبرطي ليعسكروا فوق الأكروبول وينفذوا لهم ما يأمرون به.

وانقلب الجنود الإسبرطيون دمارًا على «الثلاثين»: أولًا لأنهم كانوا مكروهين من الجميع، وثانيًا لأنه كان لا بُدَّ من دفع أجورهم، والوسيلة الهينة على «الثلاثين» للحصول على المال هي أن يأخذوه، ومِن ثَمَّ فقد ساروا من سيئ إلى أسوأ: يقتلون أولًا خصومهم السياسيين، ثم مَنْ قد ينقلبون عليهم خصومًا سياسيين، وأخيرًا أولئك الذين لا سياسة البتة لهم ولكنهم أثرياء، وكان من عادتهم أن يزجُّوا بالرجال الأمناء في مشاركتهم فيمن يلقون القبض عليهم لكي تمسهم الجريمة، ويلزموا بتأييد الثلاثين فيما بعد، وبطبيعة الحال سقط الثلاثون في النهاية وعادت الديمقراطية، بَيْدَ أنها لم تعد إلا بعد مقتل المئات من الرجال الأبرياء، وتحويل مئات آخرين يفوقونهم عددًا إلى سفاكين قاتلين.

ولما بلغ الإرهاب ذروته، دُعِيَ سقراط مع أربعة رجال آخرين للمثول أمام الثلاثين وطلبوا إليه أن يقبض على رجل ما، وكان الثلاثون يجلسون كعادتهم في قاعة المدينة، حيث كانت مكاتبهم مجاورة لغرفة مجلس الخمسمائة، وقد أبقوا على هذا المجلس — مؤلفًا من خاصة رجالهم — وحولوه إلى محكمة لمحاكمة الناس الذين يُلْقَى القبض عليهم، إلا أنهم كانوا يحبون حضور هذه المحاكمات بأنفسهم حتى يتأكدوا أن أحدًا منهم لا يبرأ، وقد مَثُل سقراط أمام الثلاثين مرة قبل هذه، وأمر أن يكفَّ عن «تعليمه»، وهو أمر لم يفكر في طاعته؛ ولذا فلا بُدَّ أن يكون الشك قد ساوره هذه المرة، حينما دعاه الداعي، إن كان سوف يعود ذلك المساء إلى العشاء.

وكان سقراط يعرف بعض أفراد الثلاثين معرفة جيدة، عرف ثرامينس بطبيعة الحال في مشكلة القواد الستة، وكان أكثر معرفة بكرتياس ابن عم أم أفلاطون، الذي بدأ ينتزع الزعامة من ثرامينس الذي كان أكثر منه اعتدالًا، وذلك كلما اشتدت الدكتاتورية عنفًا، وكان كرتياس ينتمي إلى جماعة سقراط في وقت من الأوقات، منذ سنوات، وإن يكن من الجلي أن مهارة سقراط في الجدل هي التي اجتذبته ولم يجتذبه ما لديه من أفكار، وسُرَّ سقراط أن يرى أن أفلاطون لم يكن من بينهم، فإن كارميدس عم أفلاطون قد انضم إلى كرتياس، ولكن أفلاطون نفسه رفض ذلك.

وكانت الأوامر التي تلقاها سقراط والرجال الأربعة الآخرون من الثلاثين مماثلة للأوامر التي صدرت من قبل لكثيرين غيرهم من العاجزين، كان عليهم أن يهبطوا إلى الميناء ثم يعبروا البحر إلى جزيرة سلامس ليلقوا القبض على «الخائن» ليون ليحاكَمَ أمام المجلس، وكان ليون رجلًا غنيًّا، وإن كان الثلاثون لم يذكروا ذلك، ومما لا جدال فيه أنهم سيصمونه بالإثم، ثم ينفذون فيه الإعدام، وقد تم ذلك فعلًا؛ لأن الرجال الأربعة الذين صدر إليهم الأمر بالتنفيذ اقتفوا أثر ليون وعادوا به إلى الثلاثين، وتوجه سقراط إلى بيته.

وقد حذر سقراط — كما حذر الآخرون — مما يحيق به لو أنه عصى الأمر، وكان هو وزانثب وأبناؤه يتوقعون وقْع أقدام الحرس الإسبرطي عند الباب ساعة بعد أخرى، ولكنهم لم يحضروا لسبب من الأسباب، ولم ينقض وقت طويل بعد ذلك حتى أذهل ثرامينس الأثينيين جميعًا بالمخاطرة بحياته في سبيل وقف أحكام الإعدام، ويعتقد زنفون — صديق سقراط الذي دوَّن تاريخ هذه الفترة — أن موضوع ليون السلامسي كان في ذهن ثرامينس عندما قدَّم دفاعه أمام المجلس في نهاية الأمر، وفشل ثرامينس وقتله كرتياس، واستمر الإرهاب حتى قاتل الديمقراطيون المنفيون وشقوا طريقهم عائدين إلى المدينة.

غير أنه قد حدث بعد ذلك أمر عجيب مرة أخرى، وبقي سقراط دون مساس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤