الفصل الثامن

الرسالة

ولذا ترى سقراط في فترة من فترات كهولته وقد بدأ في أداء الرسالة التي سوف تستغرق بقية حياته، وكانت لديه وسائل عديدة يصف بها طبيعة هذه الرسالة، كان جنديًّا للآلهة يجب أن يلزم مكانه، وكان شوكة حادة أرسلتها الآلهة لتخز المدينة، وطبيبًا يولِّد أفكار غيره من الناس كما تولِّد أمه الأطفال، وقال إنه دعا الناس إلى الإدلاء بطريقة عيشهم، وإنه اختبرهم أو فحصهم، أو إنه «تفلسف» وهو تعبيره عن «ممارسة حب الحكمة».

ومهما ظن في بحثه أول الأمر، فقد بات الآن في جلاء واجبًا عامًّا يؤديه من أجل غيره من الناس كما يؤديه من أجل نفسه، وكان إدراك الخير الذي كان يبحث عنه دائمًا بعيدًا جد البعد عنه، ولكنه أدرك وجوده، كما أدرك أن الأحياء جميعًا يجب أن تتجه إليه، أما جيرانه الذين أحبهم فإنهم لم يَعمَوْا فقط عما رأى، وإنما يظهر أنهم — كالسجناء في الكهف — قد قنعوا بالعمى وظنوا أنه الإبصار الطبيعي، والواقع أننا لو وضعنا نصب أعيننا تصوير أفلاطون للكهف سهل علينا أن نفهم إحساس سقراط إزاء الحياة الغافلة التي كانت تتصيد الظلال، الحياة التي كان يحياها الناس في مدينته، كما سهل علينا أن نفهم ما كان يحسب أن الآلهة تريد أداءه إزاء ذلك.

كانت أثينا مدينة تتصيد الظلال، ولكنها كانت مع ذلك مدينة عجيبة، مدينة جريئة حُرَّة جليلة، وأحبَّ سقراط أثينا وما كان ليهجرها حتى في عطلة لو استطاع ذلك، وعرف أكثر من أغلب الناس الأشياء الجميلة التي كانت تؤدى في مدينته كل يوم، فالصناع يقومون بالعمل مخلصين بغير رقابة، والأصدقاء يخلصون للأصدقاء، ورجال الأعمال يوفون العهود، والمواطنون في المجلس يُنادون بما يظنونه الحق.

وإنما كان سقراط يتوجع لهذا الخير عينه في مدينته؛ لأن كل هذه الأشياء الجميلة كانت تحدث في أكثر الأحيان ولا تحدث دائمًا، وتحدث بغير إدراك لها، كان الناس يكادون يصطدمون بالخير عفوًا، دون أن يعرفوا ماذا هم فاعلون، وربما اصطدموا بالشر في اللحظة التالية، بهذه المعرفة الضئيلة عينها، وأسوأ من هذا كله تقريبًا إن أي خير يحصلون عليه لا يستطيعون أن يورثوه أبناءهم، انظر مثلًا إلى أبناء بركليز: إنهم لا يَفضُلون الأبناء العاديين، بل لقد كانوا في الواقع أشد منهم سوءًا، فإما أن بركليز لم يأبه بأبنائه، وإما أنه لم يعرف كيف يعلمهم الصفات التي جعلت منه رجلًا عظيمًا.

ووجد سقراط أن المعلمين المحترفين لم يكونوا خيرًا من ذلك، فلم يكن لديهم شيء لا تملكه عامة الناس، سوى مدد كبير من المعارف وتدريب على براعة الحديث، وحتى أكثرهم شهرة بين الناس: السفسطائيون أو «المفكرون الحكماء» الذين زعموا أنهم يبشرون بفن الحياة الخيرة الناجحة، يظهر أنه لم تكن لديهم معرفة حقة بما كانوا يبشرون به.

وتلقَّى سقراط على أحد السفسطائيين درسًا قصيرًا لم يكلفه كثيرًا، وتحدث إلى أكثرهم، وتخلى عن محاولة التعلم على يديهم، كما تخلَّى عن محاولة التعلم على أيدي رجال العلم من قبل، وقرر أن الخبراء في الخير ليسوا أولئك الذين يعلمون الخير، إنما هم من يملكونه.

ولذا فحيثما ذهب سقراط كان يبحث عن خبير، وكان يختبر الناس في صيغ الخير نفسها التي كان مفروضًا أن يعرفوا أكبر قدر عنها، وكانت تلك ميزة للطرفين، كانت ميزة لسقراط في بحثه عن الإدراك، كما تبين أنها في صالح الخبراء أنفسهم كذلك.

لم يسبق سقراط سائل مثله، ويلذ لنا أن نرى كيف كان يفعل ذلك، خذ لذلك مثلًا حديثه مع لاخيس، إن أي حديث لسقراط مما دوَّنه أفلاطون جدير بالتمعن في قراءته، ولكن حديثه مع لاخيس حديث يصلح للبدء به، لم يكن لاخيس رجلًا بارعًا جدًّا، وقد تحدث مع سقراط عن لون من ألوان الخير يعرف عنه كل امرئ شيئًا ما، وذلك هو الشجاعة.

وكما اعتاد سقراط، اختار الرجل الصحيح ليوجه إليه السؤال، وكان لاخيس قائدًا أثينيًّا معروفًا، ولم يكن مجرد سياسي كبعض الآخرين، وإنما كان رجلًا يجعل من الحرب عملًا له أهميته، ولو كان هناك من الأمور ما يعلمه، فذلك هو القتال، وقد سأله وزميله القائد نسياس بعض الأصدقاء النصيحة بشأن تربية أبنائهم تربية عسكرية، واستدعوا سقراط يستعينون به.

ونزل القواد إلى الملعب مع أصدقائهم وأبناء أصدقائهم لكي يشهدوا عرضًا، وكان أحد معلمي القتال بالدرع يقوم بالعرض، ويأمل أن يجتذب إليه بعض التلاميذ الجدد، وراقبه لاخيس ونسياس برهة من الزمن، ثم شرعا يتناقشان إن كان هذا الضرب من التدريب نافعًا أو غير نافع في المعركة الحقة.

وظنَّ نسياس أنه نافع، أما لاخيس فلم يكن واثقًا من ذلك مثله، وقال: «بمناسبة الحديث عن العروض، لقد شهدت هذا الرجل عينه يعرض فنه على صورة أخرى من زمان ليس ببعيد، كان واحدًا من رجالي، وقد أتى على ظهر السفينة برمحٍ جديدٍ من اختراعه، مقوس كالمنجل، وكان مفروضًا أنه يؤدي أعمالًا جليلة، ولكي أوجز الكلام أقول: إن رمحه الذي يُشبه المنجل اشتبك في حبال سفينة من سفن العدو أثناء قتالنا ونحن مبحرون، فاجتذبه ولم يستطع تخليصه، واضطر إلى أن يعدو على ظهر السفينة خلال مجراها كي يمسك بالمقبض، وأخيرًا ألقى عليه أحدهم حجرًا سقطت عند قدميه، فترك الرمح وانطلق، وقد ضحك منه الملَّاحون في كلتا السفينتين، ولم يسعنا غير ذلك، ويا ليتك رأيت الرمح مدلى من الحبال!» وضحك لاخيس من هذه الذكرى، ثم أضاف قائلًا: «وإني لجاد حين أشك في أن هذا المعلم بما لديه من مهارات آلية ومن حيل يصلح لمهام الأمور، ماذا ترى يا سقراط؟ بعضهم يؤيده، وبعضهم يعارضه، وعندك الصوت المرجح.»

ولم يكن سقراط يحب أن يتبين الحق من الباطل بعدِّ الأنوف، فأشار قائلًا: «ألا تظن أن في أمرٍ هامٍّ كتربية أبناء أصدقائك ينبغي لنا أن نبحث عن خبير لنأخذ بمشورته؟»

وبدا هذا الاقتراح مقبولًا.

فتساءل سقراط قائلًا: «إذن فيم ينبغي أن يكون خبيرنا خبيرًا؟»

وأجاب نسياس جوابًا معقولًا وقال: «ألم نكن الآن نتباحث في أمر القتال بالدروع، وإذا كان من واجب شبابنا أن يتعلمه أو لا يتعلمه؟»

فقال سقراط: «أجل يا نسياس، ولكن أليس هناك أمر آخر ينبغي أن نقرره أولًا؟ فإذا سأل المرء مثلًا عن وضع دواء في عينيه، فما الذي يهمه في الواقع: الدواء أو العينان؟»

قال نسياس: «العينان طبعًا.»

– «وعندما يفكر هل يلجم الجواد أو لا يلجمه، فإن الجواد بالتأكيد هو الذي يفكر فيه وليس اللجام، أليس كذلك؟»

فأجاب نسياس: «حقًّا ما تقول.»

– «ألست ترى إذن يا نسياس أن تعلم القتال بالدروع يشبه الدواء كما يشبه اللجام، ليس سوى وسيلة لغاية، إن ما نفكر فيه حقًّا عندما نتحدث عن ألوان مختلفة من المعرفة هو الشباب، فإن هذا التدريب سوف يتناول نفوس الشباب أو أرواحهم، إن الطبيب يعرف ما ينفع العين، ومدرب الجياد يعرف ما ينفع الخيل، ولكن مَنْ منا يعرف ما ينفع الروح؟ ذلك هو السؤال الحق.»

وضحك نسياس وقال إنه كان يتوقع ذلك من أول الأمر، لقد تحدث مع سقراط من قبل، وكان شديد الرغبة في أن يتعرض للامتحان الذي أدرك اقترابه منه. «ولكن ماذا ترى في ذلك يا لاخيس؟ إني أحذرك!»

وقال لاخيس: إنه ليس بالعادة رجل كلام، اللهم إلا إن عرف أن الرجل الذي يتحدث إليه فعال كما هو قوَّال، ثم قال: «ولكني كنت مع سقراط ونحن نتقهقر بعدما خسرنا معركة دليم، ولو أن كل امرئ سلك مسلك سقراط لكسبنا المعركة، وإني على استعداد لأن أتلقى الأسئلة في أيِّ يوم من الأيام من رجل كهذا.»

ولذا تلقى لاخيس السؤال الأول، قال له سقراط: «إن الخير كله أوسع من أن نتناوله بالبحث، ولكنا نستطيع أن نتناول منه الجانب الذي يهم في التدريب العسكري، ما هي الشجاعة «عمومًا» يا لاخيس؟»

وسُرَّ لاخيس إذ كان بالشجاعة عليمًا.

– ذلك أمر هين يا سقراط، الرجل الشجاع يلزم مكانه ولا يهرب.

فأجاب سقراط: «حسنًا، هذا تعريف جيد للشجاعة كما يراها أحد الجنود المشاة، ولكن ما الرأي في الفرسان الذين يتحركون دائمًا؟ وأعتقد أن من المناورات المحببة لأهل سيثيا أن يفروا أثناء الصيد إلى الوراء، وماذا ترى في الشجاعة في العواصف البحرية وفي المرض والفقر أو في الحياة السياسية؟ وبعض الناس شجعان عند مواجهة الألم، ولكنهم خائرون حينما تغريهم ملذات الحياة، ما هي الشجاعة «عمومًا» يا لاخيس؟»

وحاول لاخيس مرة أخرى.

– يبدو لي أن الشجاعة ضرب من ضروب احتمال الروح.

وظنَّ سقراط أن هذا التعريف أوسع مما ينبغي، كانت الشجاعة دائمًا فضيلة، وكانت شيئًا حسنًا، أليس كذلك؟ وإذن فالاحتمال الذي لا ينطوي على معنى ليس من الشجاعة في شيء، أليس كذلك؟

ولم يفكر لاخيس في ذلك من قبل.

وقال: «إنما قصدت الاحتمال «الحكيم» وحده.»

فسأله سقراط: «ولكن ماذا تعني بالاحتمال الحكيم؟» وأورد بعض الأمثلة، قال: «ما الرأي في رجل يحتمل في الحرب ويرغب في القتال، ويقدر تقديرًا حكيمًا، ويعلم أن غيره سيعاونه، وأنه يقاتل ضد رجال أقل عددًا ممن يقاتلون إلى جانبه وأشد منهم ضعفًا، وأنه أقوى مركزًا، هل تقول: إن الرجل الذي يحتمل بهذه الحكمة وهذا الاستعداد أشجع من الرجل الذي يريد أن يقف ثابتًا في الجانب الآخر؟»

ولم يشك لاخيس في أن الجندي الذي لم يحسب للمخاطر حسابًا أشجع من الآخر.

– إذن فالرجل الذي يغطس في بئر ولا يعرف كيف يغطس، أشجع من الغطاس المدرب وإن يكن أشد منه حماقة.

ووافق على ذلك لاخيس مرة أخرى، مع أنه كان يناقض ما ذكره من قبل من ضرورة الحكمة للشجاعة، غير أنه أضحى الآن أكثر اهتمامًا من ذي قبل، ومن الجلي أن الشجاعة صفة أعظم مما ارتأى من قبل.

وأصرَّ قائلًا: «لا زلت أعتقد أني أعرف ما الشجاعة، ولكنها فرَّت من بين يدي بطريقة ما، ولا أستطيع أن أقبض عليها.»

وجاء دور نسياس في النقاش الآن، وسُرَّ لاخيس لكي يرى صديقه في موقف سيئ كما كان هو منذ حين، وزعم سقراط بطبيعة الحال أنه لا يدري من الأمر شيئًا.

وأنهى الحديث بقوله: «يحسن بنا أن نلتمس لنا معلمًا في الحال، فلسنا الآن بالتأكيد خبراء، ولسنا صالحين لإسداء النصح في شئون التربية!»

وقد تحسب أن الحديث لم يؤد إلى غاية، وهكذا كان يبدو عادة، غير أن أصدقاء سقراط سرعان ما تعلموا أن ينتبهوا إلى الأفكار التي ترد أثناء الحديث.

وقد تعلم لاخيس في الواقع الشيء الكثير، وكانت فكرة جديدة عنده أن تتعلق بالشجاعة بأية ناحية سوى الحرب، وأكثر من ذلك جدة أن تكون للشجاعة علاقة بالحكمة، وفي الواقع أن هذه الفكرة — وهي أن المعرفة كالعمل ضرورية للشجاعة الحقة — كانت جد غريبة على لاخيس حتى لقد حيرته كما يبهر الضوء الحبيس عند أول خروجه من الكهف، بيد أنه كان يتجه في تفكيره اتجاهًا سليمًا برغم حيرته.

ومشكلة لاخيس التي لا بُدَّ أن يلمسها لو أنه واصل الحديث مع سقراط هي أن الشجاعة عنده كانت محصورة في مجال ضيق لمجرد العادة، عرف لاخيس طريقة معينة للسلوك الصحيح في المعركة، ولكنه لم يعرف المبدأ الذي يجعل سلوك المرء صحيحًا في جميع الظروف والحالات، هل هذا الضرب من الشجاعة الذي يمنعه من الفرار من المعركة يمكنه من مقاومة الأسباب الأخرى التي تغري المرء بارتكاب الخطأ؟ ما يغري المرء مثلًا بالهروب من المتاعب بالكذب الهين اليسير؟ كيف يمكن للتدريب على شجاعة المعركة أن يعين لاخيس على الوقوف في وجه ذلك؟

وكانت أفكار لاخيس محدودة من ناحية أخرى، كما تبين عندما قال: إن الشجاع خير دائمًا، ومع ذلك زعم أن من الشجاعة أن يقفز في البئر غطاس غير مدرب! إنه لم يفكر في أهمية «الغرض»، وإنما اعتاد أن يفكر في عمل بعينه — التقدم وعدم التقهقر — يعده الشجاعة، والخير في ذاته، بيد أن البئر يمكن أن يثب فيها إما حيوان خائف أو رجل شجاع لكي ينقذ طفلًا، والغرض أو السبب (لماذا) في قرار الوثب يجعل الأمر خيرًا أو شرًّا، ويقول سقراط: إنه لا يكفي أن يتقدم المرء، إنما يجب أن تتقدم نحو الخير، والموضوع الأساسي لبحث سقراط كان يندفع إلى قمة النقاش عند هذه النقطة، غير أن سقراط لحظ أن لاخيس قد اكتفى بذلك وتخلى عن الموضوع، وكان سقراط يستطيع أن يرد على لاخيس قائلًا: «إن الشجاعة هي المعرفة، هي المعرفة التي تكفي المرء أن يختار الخير وينبذ الشر في «كل» حالة من الحالات»، ولكن ما جدوى لاخيس من ذلك لو خبر به، إنه سوف يصل إلى ذلك بنفسه في يوم من الأيام.

ولم يكن لاخيس سوى أحد الخبراء الذين وُجِّه إليهم السؤال في اختصاصهم، وأية صورة جديدة من صور الخير كانت بالنسبة إلى سقراط كالشهد بالنسبة إلى النحلة.

ومرَّ ذات يوم — وقد عاد حديثًا من الجيش — بإحدى مدارس المصارعة، وتجمَّع حوله الناس يتسقطون أنباء المعركة، ثم ظهر كارميدس في أقصى الغرفة، وهو أكثر الشبان أناقة وشهرة في المدينة في ذلك الحين، ويتناقل عنه الناس أنه جميل في مخبره كما هو جميل في مظهره، طاهر لم يلحقه دنس، وهرع كارميدس للقاء سقراط، وكان قد نمى إليه أن لدى سقراط علاجًا للدوَّار الذي كان يشكوه، وقبل أن يعرف سقراط ماذا كان يجري جرَّه بشدة إلى بحثٍ في التواضع والسيطرة على النفس.

وعاون ثيتياتوس الشاب، الذي كان يبشِّر بأنه سيصبح عالمًا رياضيًّا عظيمًا في يوم من الأيام، عاون سقراط على دراسة ما يقصد بالمعرفة، وتساءل سقراط: «هل المعرفة والرؤية والإحساس سواء؟»

وسئل ليسيز ومنكسينس — وهما من زملائه في المدرسة: «ما الصداقة؟ هل هي أن تُحَب أو أن تُحِب؟»

أما أوطيفرون — الخبير في شئون الدين — فكان يعبر السوق في طريقه إلى اتهام أبيه الشيخ بالإساءة إلى الآلهة، فالتقى بسقراط وألفاه يتحدث عن التقوى، وأراد سقراط أن يعرف «إن كانت الفعال تعد حقًّا لأن الآلهة تتطلبها، أم هل تتطلبها الآلهة لأنها حق؟»

وكان هناك قوم آخرون يتساءلون هنا وهناك في أثينا وبخاصة في سني سقراط الأخيرة، وبعضهم ممن استمع إلى سقراط وتعلموا طريقته في السؤال ولكنهم لم يأخذوا عنه الروح والغرض، ومهما يكن من شيءٍ فقد كان ذلك ضربًا من ضروب التلاعب يلذ لهم أن يحتذوه، فالمرء يستطيع أن يبرهن بالسؤال على أيِّ أمر تقريبًا، لو أنه لم يكترث لتحريف معاني الألفاظ.

فقال السفسطائي ديونيسو دورس — على سبيل المثال — لشابٍ أثيني، وهما يتحدثان في الملعب: «هل أبرهن لك على أن أباك كلب؟» (وسمع سقراط هذا الحديث وضحك منه، وكان هذا السفسطائي ممن يزعمون التبشير بالخير بطريقة أحسن وأسرع من طريقة أي إنسان آخر على وجه الأرض).

وواصل السفسطائي كلامه قائلًا: «هل تقول إن لديك كلبًا؟»

– أجل، وهو متوحش.

– وهل عند الكلب جراء؟

– أجل، وهي شديدة الشبه به.

– وهل الكلب أبوهم.

– أجل، وأنا من ذلك على ثقة.

– أوليس الكلب لك؟

– إنه بالتأكيد لي.

فقال السفسطائي، وقد تلفَّت حواليه ظافرًا: «الكلب إذن أب، وهو لك، وإذن فهو أبوك وأنت أخ للجراء!»

وكان سقراط يستطيع أن يقوم بهذه الألاعيب لو أراد، كان يستطيع أن يوجِّه الأسئلة ليتظاهر، كما كان يفعل بعض أصحابه مع أسرهم عند عودتهم إلى بيوتهم للغداء، بل كان يستطيع أن يقوم بلعبة أخرى أشد من ذلك خطرًا كان يؤديها بعض السفسطائيين، إذ كانوا يعلِّمون تلاميذهم أنهم لن يجدوا الحق مهما بحثوا عنه، وكانت رسالة سقراط تختلف جد الاختلاف عن التلاعب بالسؤال والجواب الذي كان يقوم به غيره، كان يبحث عن أساسٍ متينٍ للحياة، وكان يفعل ذلك من أجل أصدقائه.

وقد أخذ سقراط أمر الصداقة مأخذًا جديًّا، كان له أصدقاء لا تلاميذ؛ ولذلك عنده أهميته، وقد رفض أن يقبل أجرًا لما أسماه بعض الناس تعليمًا منه، برغم استحثاث زانثب له وإصرارها على ذلك، كيف يستطيع أن يعلم وهو إنما يحاول أن يعرف فحسب؟ وفوق ذلك، يستطيع كلُّ امرئ أن يقصده إذا هو لم يتناول أجرًا، وكان يريدهم جميعًا، ولا يحب أن يستبعد أحدًا، ويمكن أن يتبين للشيوخ والشبان والطلاب والمواطنين والأجانب بل وللنساء والعبيد أن في رءوسهم أفكارًا طيبة، ويود لو أن كلَّ امرئ في أثينا كان له صديقًا لو شاء أن يكون، وكان يحزنه أن بعض الناس — وبخاصة الشيوخ الذين ثبتوا على طرائقهم ولا يريدون لها أن تهتز بعد ذلك — يُسيئون إدراك ما كان يفعل.

وأكثر أصدقاء سقراط الذين قصدوه كانوا شبابًا في بداية طور النمو، وأحبوا سقراط لأنه كان مثلهم عاشقًا للحياة شغوفًا بالمعرفة، ورأوا نوعًا من الجمال بداخله جعلهم يتمنون أن يكونوا مكانه، وكذلك رأى سقراط فيهم جمالًا وقوة، وربما أحسوا هم أنفسهم بذلك، ورأى أنه يمكن لهم أن يسارعوا جريًا وراء الفكرة وأن يصارعوا الرأي المتناقض، كما يسارعون في الجري ويصارعون في الملاعب، إنهم لم يتقاعدوا حذرين حينما كان الجدل يدفعهم إلى الأمام، كما عشقوا الخير بمجرد إدراكهم له.

واعتقد سقراط أن الصداقة حق، وأن من أثمن ما في هذه الدنيا: أن يرى الناس جمال الخير في دخائل أنفسهم وأن يهيموا به حبًّا، إن الناس الذين يتصادقون لهذا، ولا يتصادقون لأن كلًّا منهم يعشق ملامح الآخر، إنما يترابطون لإنماء الخير في أنفسهم وفي نفوس الآخرين؛ لأن الصديق يحب الخير لصديقه كما يحبه لنفسه، كما ينمي في نفسه ما يحبه الصديق، إن الآراء الجميلة والصفات الطيبة إنما تتولد من هذا اللون من الصداقة، والأصدقاء الذين يبدءون بحبِّ الخير لأصدقائهم يرون كذلك الخير ويحبونه حيثما يكون.

قال سقراط مرة: «إنني أكتسب من الأصدقاء الطيبين متعة لا يكتسبها غيري من الجياد المطهمة أو الكلاب الجيدة أو ديوك القتال، وإذا كان لدي شيء من الخير علمته أصدقائي، ووضعتهم مع غيرهم ممن يكتسبون منهم جانبًا من الخير فيما أحسب.»

ومن الجلي أن زمرة الأصدقاء كانت لسقراط البيئة الصحيحة الطبيعية التي يواصل فيها بحثه في طبيعة الخير، وفي الحق لقد بلغ البحث إلى حد ما عند سقراط هذا المبلغ؛ لأنه لم يكن أولًا معلمًا أو مناظرًا وإنما كان صديقًا، وللكلمات وقع مختلف حينما تصدر من صديق، وروح ما يقال وما لا يقال كانت تثب من فرد إلى آخر كما تشتعل النار من النار، وتذكر أصدقاء سقراط صداقته بقدر ما تذكروا قوله، ولما دوَّن أفلاطون ما ذكر من أحاديث أستاذه كان لا بُدَّ له أن يصوغه في ملابساته الودية: في الملعب أو السوق أو حفل العشاء أو في نزهة ريفية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤