مقدمة
ما الذي نعلمه؟

يتعامل العلم مع المجهول. في بعض الأحيان، يتعاطف أصدقائي من غير العلماء عندما تتصدَّر أخبار ما يُعتبَر «فشلًا» لإحدى النظريات العلمية عناوين الصحف. وقد حدث هذا مؤخَّرًا مع ظهور الاكتشاف الخاص بتسارع تمدُّد الكون، والحاجة إلى تعديل نموذجنا المبسَّط للانفجار العظيم. فأجدهم يقولون: «لا بد أنك محبط للغاية لأن نظريتك الجميلة تبيَّن أنها خاطئة.» على النقيض تمامًا! إن العالِم الحاذق يبتهج عندما يشير دليل جديد إلى الحاجة إلى أفكار جديدة لتفسير ما يجري في العالم. فالأفكار الجديدة هي شريان الحياة للعلم، ولو كانت جميع نظرياتنا تقدِّم وصفًا دقيقًا ومثاليًّا للكون (وأعني بذلك كل ما في الكون، وليس كوكب الأرض فقط)؛ لَمَا تبقَّى للعلماء شيء يقومون به.

قد تندهش من وجود أي شيء يمكن أن يقدِّمه العلم على الإطلاق. فمن واقع ما نعرفه عن نواميس الكون، ما الذي يتبقَّى للعلم كي يكتشفه؟ ولكن في التاريخ دَرْس تحذيري يحذِّر من مثل هذا التهاون. فقُبيل نهاية القرن التاسع عشر، ساد شعور واسع النطاق بين الفيزيائيين بأن نظرية إسحاق نيوتن عن الجاذبية، ونظرية كلارك ماكسويل عن الكهرومغناطيسية، صارتا تحوزان كل الأدوات اللازمة لوصف الكون، ولم يَعُد متبقيًا في الكون اكتشافات جوهرية يُسعى إليها. ولكن في عام ١٨٩٤، قال عالم الفيزياء الأمريكي ألبرت أبراهام ميكلسون، المعروف بعمله في قياس سرعة الضوء:

بينما يجب عدم التأكيد على خلو مستقبل علم الفيزياء من خبايا أعجب ممَّا اكتُشف في الماضي، لا يبدو مُستبعدًا أن تكون أغلب المبادئ الأساسية الكبرى قد ترسَّخت بقوة، وأنه ينبغي السعي لتحقيق مزيد من التطورات، لا سيما في التطبيق الصارم لهذه المبادئ على جميع الظواهر التي نرصدها. وهنا تظهر أهمية علم القياس؛ حيث تكون الفيزياء الكَمية مطلوبة أكثر من الفيزياء النوعية. وقد أشار فيزيائي بارز إلى ضرورة البحث عن الحقائق المستقبلية في علم الفيزياء في القياسات الدقيقة.

حسنًا فعل بأن أشار إلى ذلك في هذا التنبيه الاستهلالي؛ لأنه في أعقاب تلك الملاحظة، تواترت اكتشافات النشاط الإشعاعي والنظريات الخاصة والعامة عن النسبية وفيزياء الكم. ولا شك أنها كانت معجزات مدهشة أكثر من اكتشافات الماضي. لم يتعلَّم العلماء قط أن يقولوا إن كل ما يتبقَّى هو التدقيق وإضافة التفاصيل إلى نظرياتهم المفضلة.

كيف يمكن أن يكون هناك الكثير من الخبايا لم تُكتشف بعد، في حين أن ثمة الكثير من الأمور قد عُرف بالفعل؟ ثمة تشبيه قياسي قد يُفيد في هذا الصدد. لنقل إن كل ما نعرفه عن الكون تمثِّله مساحة داخل دائرة صغيرة مرسومة على قطعة ورق كبيرة ومسطحة. كل ما نعرفه داخل تلك الدائرة، وكل ما لا نعرفه خارج تلك الدائرة. كلما اكتشفنا المزيد عن نواميس الكون؛ اتسعت الدائرة. وكلما اتسعت الدائرة؛ اتسع محيطها كذلك؛ أي الحد الفاصل بين ما نعرفه وما لا نعرفه. وكما جاء في أغنية «لافين سبونفول»: «إنها لا تزال لغزًا، كلما رأيت المزيد، علمت أن هناك المزيد لم أرَه بعد.» إن بانتظار العلماء كَمًّا هائلًا من العمل في المستقبل القريب. وهذا العمل يبدأ بوضع فرضيات (أو تخمينات) عن نواميس الكون، ثم إجراء التجارِب أو تسجيل الملاحظات لاستبعاد التخمينات غير الصحيحة.

هل يبتهج أنصار نظرية النسبية عندما تؤكِّد ملحوظة جديدة عن الكون — كما يُحب أن يعبِّر عنها الصحفيون — أن «أينشتاين كان على حق»؟ إلى درجة معيَّنة فحسب. فما كان سيثير حماسهم أكثر هو ملاحظة تُوضِّح أن النظرية العامة للنسبية جيدة إلى حد ما، ولكن ربما لا تثبت صحتها في كل مكان وزمان. وهذا هو السبب وراء إجراء مثل هذه التجارِب. فلا تُجرى التجارِب من أجل «إثبات أن أينشتاين كان على حق»، وإنما تُجرى على أمل الكشف عن الظروف أو المواضع التي يمكن أن تخطئ فيها نظرية أينشتاين في الكون.

لذا على الرغم ممَّا قد يتردَّد في وسائل الإعلام العامة، فالعلماء الحاذقون لا يُجرون التجارِب من أجل إثبات صحة نظرياتهم الأثيرة١ (بالطبع هناك علماء مزيَّفون يفعلون ذلك، ولكن ليس لهم مكان هنا). بل يُجرون التجارِب لاكتشاف مكمن الخطأ في النظرية، وهو ما يرشدهم إلى الطريق نحو الاكتشافات الجديدة (والطريق إلى الفوز بجائزة نوبل، إن كنت تهتم بتلك الأشياء).

وحسب ملاحظة ريتشارد فاينمان الشهيرة التي تقول:

إذا تعارضت النظرية مع التجرِبة؛ فإن النظرية خاطئة. تحمل تلك الجملة البسيطة مفتاح العلم. فلا يهم مدى روعة التخمين، ولا يهم مدى ما تتحلَّى به من ذكاء، أو من وضع التخمين، أو اسمه؛ فإذا تعارضت النظرية مع التجربة؛ فالنظرية خاطئة.

تلك المقولة هي المعادل العلمي لمقولة كونان دويل. فالتجرِبة (أو الملاحظة) هي الوسيلة التي يستبعد بها العلماء المستحيل. وقد أطلق توماس هنري هكسلي على هذا «المأساة الكبرى للعلوم — نحر فرضية جميلة بسكين حقيقة قبيحة.»

لكن العالِم الحاذق لا يذهب إلى حيث يذهب دويل. فبمجرَّد استبعاد المستحيل، فإن ما يتبقَّى يقع تحت بند الاحتمالات بالتأكيد، في ضوء المعرفة المتوافرة في الوقت الحاضر، ولكن ربما لا يكون هو الحقيقة المطلقة. بل قد يأتي دوره ليُذبَح بسكين حقيقة قبيحة. ومع أخذ ذلك في الاعتبار، يكون علينا أن نوجِّه انتباهنا إلى بعض من الحقائق العلمية المستبعدة (في ضوء المعرفة المتوافرة في الوقت الحاضر).

جون جريبين
مايو ٢٠٢٠

هوامش

(١) بالطبع هناك علماء مزيَّفون يفعلون ذلك، ولكن ليس لهم مكان هنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤