الاحتمال المستبعد الثامن: إيقاعات العصر الجليدي وتطوُّر الإنسان: شعب الجليد

طالما كان تطوُّر الكائنات على الأرض متأثِّرًا بالتغيُّرات البيئية والمناخية. وكان من أكبر تلك التغيُّرات ذلك الحدث — أو سلسلة الأحداث — الذي وقع منذ ما يقرب من ٦٥ مليون سنة وأدَّى إلى نهاية عصر الديناصورات. وهذا الحدث تضمَّن، على نحو شبه مؤكَّد، اصطدام نيزك كبير نوعًا ما بكوكب الأرض، على الرغم من إمكانية مشاركة عوامل أخرى. لمَّا كان موت الديناصورات قد أدَّى إلى نشأة الثدييات، فتلك نقطة جيدة للبدء في سرد قصة أصل الإنسان ونشأته. لكن لنضع في الاعتبار أن ٦٥ مليون تعادِل أكثر من ٣ بالمائة من مليارين بقليل. وبذلك ظلَّت الكائنات الحقيقية النوى في طور التطوُّر لمدة ٩٧ بالمائة من الزمن منذ نشأتها إلى نشأة الإنسان قبل اصطدام النيزك بالأرض.

توضِّح مجموعة من الأدلة الجيولوجية أنه في غضون الستين مليون سنة أو نحو ذلك التي أعقبت موت الديناصورات، وقت أن كانت الثدييات في طور التنوُّع وشغل العديد من المواقع البيئية التي خلَّفتها أسلافها، انخفضت درجة حرارة الأرض ببطء وعلى نحو غير متساوٍ بفعل الطريقة التي كانت تتحرَّك بها القارات على سطح الكرة الأرضية، ما أدَّى إلى تغيُّر طريقة امتصاص أشعة الشمس وانعكاسها، وغير جريان التيارات المحيطية. لكن منذ ما يقرب من ٤ ملايين سنة، وُصِل إلى نقطة ذروة.

تشير الأدلة إلى أنه منذ ٦٥ مليون سنة، لم تكن هناك صفائح جليدية كبيرة على الأرض، على الرغم من احتمالية هطول ثلوج موسمية على قمم الجبال. بدأ هذا الوضع يتغيَّر منذ نحو ١٣ مليون سنة، عندما انجرفت قارة أنتاركتيكا ببطء نحو القطب الجنوبي، وبدأت الصفائح الجليدية تتشكل فيما يُعرَف الآن باسم شرق قارة أنتاركتيكا. قبل ١٠ ملايين سنة، كانت هناك أنهار جليدية صغيرة على جبال ألاسكا. ومنذ ما يقرب من ٦ ملايين سنة، ابتعدت أستراليا وأمريكا الجنوبية عن قارة أنتاركتيكا، تاركتين ممرًّا خاليًا لتيار محيطي قوي — التيار القطبي للقطب الجنوبي — أحاط بقارة أنتاركتيكا، ما جعل المياه الدافئة بعيدًا في القاع، واحتجز القارة في عصر جليدي كامل. اختلفت الأمور في نصف الكرة الشمالي، حيث تدفَّقت التيارات الدافئة أولًا إلى القطب؛ ما جعل محيط القطب الشمالي خاليًا من الجليد. لكن ظلَّت القارات المنجرفة هناك تنزلق ببطء إلى المواقع التي نعرفها اليوم، لتحيط تدريجيًّا بالمحيط القطبي، وتقلِّل تدفُّق التيارات الدافئة عن الوصول إلى المحيط القطبي على نحو هائل. في الجنوب، كانت توجد قارة يغطِّيها الجليد دومًا، أمَّا في الشمال، فتكوَّن محيط مغطًّى بالجليد، وانتشر الجليد على نطاق واسع على اليابسة المحيطة بذلك المحيط منذ ما يقرب من ٣٫٦ مليون سنة. غرق العالم في حقبة جليدية تكوَّنت خلاله الصفائح الجليدية ثم تقلَّصت، ولكنها لم تختفِ بالكامل. إن الموقف الذي نعتقد أنه طبيعي — أي تغطية الجليد للمنطقتَين القطبيتَين كلتَيهما — نادر إلى أقصى حد، وربما كان حدثًا فريدًا في تاريخ الأرض الطويل. وأيضًا حقيقة وجود أنواع مختلفة من الجليد في كل نصف من نصفَي الكرة الأرضية مستبعدة إلى حد بعيد. والطبيعة غير العادية للغطاء الجليدي الشمالي يمكن أن تجعل العالم بأكمله شديد التأثُّر بالتقلُّبات المناخية التي تعتبر من العوامل الأساسية فيما يتعلَّق بأصول الإنسان. فليست مصادفة أن تتطوَّر سلالتنا خلال الحقبة الجليدية؛ لكن لم تكن برودة الجو هي القوة الدافعة، بل الجفاف.

يتسم عصر الجليد بالجفاف أيضًا. فالمياه المحتجزة في الصفائح الجليدية كان من المفترض أن تكون في البحار لولا ذلك، ومِن ثَم ينخفض مستوى سطح البحر كلما زاد الجليد على اليابسة.١ فمنذ أقل من ٦ ملايين سنة، كانت الصفائح الجليدية فوق قارة أنتاركتيكا أعلى ممَّا هي عليه الآن بعدة مئات من الأمتار، ومِن ثَم احتُجز قدر كبير من المياه بداخلها، حتى إن مستوى سطح البحر انخفض بمقدار ٥٠ مترًا (مقارنة بمستواه في الوقت الحاضر). كان هذا الارتفاع أقل من أن يتيح للمياه أن تتدفَّق عبر المناطق الضحلة في مضيق جبل طارق، ومِن ثَم جفَّ البحر الأبيض المتوسط؛ والواقع أنه قد جفَّ وامتلأ بصورة متكرِّرة بفعل التذبذبات في حجم الصفائح الجليدية. كذلك كانت هناك صحراء فيما يعرف بالنمسا اليوم. وارتبط هذا التصحُّر ببرودة الكرة الأرضية؛ لأنه عندما يبرد العالم يقل البخار الناتج عن الرطوبة القادمة من المحيطات، ومِن ثَم يقل تساقط المطر. ومع انخفاض مستويات سطح البحر، ابتعد الحد الفاصل بين اليابسة والبحر أكثر عن المناطق الداخلية من القارات، ومِن ثَم أتيحت فرصة جيدة للسحب التي تحمل الأمطار حتى تُسقط حمولتها قبل حتى أن تصل إلى أماكن مثل النمسا. الأهم من ذلك في قصة أصل الإنسان، أن فترات الجفاف المرتبطة بالعصور الجليدية أثَّرت كذلك على غابات شرق أفريقيا. لم تتغيَّر درجات الحرارة كثيرًا هناك مع انحسار الصفائح الجليدية وتدفُّقها نحو الشمال؛ ولكن نظام هطول الأمطار تغيَّر. سأتناول سبب انحسار الصفائح الجليدية وتدفُّقها بعد قليل، ولكن أيًّا كان السبب، فما يُهم أنه على مدى ملايين السنين القليلة الماضية، تعرَّض شرق أفريقيا إلى نمط شبه إيقاعي بين زيادة هطول الأمطار وانخفاضه؛ فشهدت فترات من الوفرة وفترات من المجاعة.
تعلَّمت الحذر من الخوض في تفاصيل أكثر ممَّا ينبغي عن سمات السلالة التطوُّرية التي أدَّت إلى وجود الإنسان بصورته الحالية؛ لأن ثمة أدلة لم تظهر حتى الآن، وأحيانًا ما يراجع الخبراء تفاصيل الصورة. ولكن الصورة بوجه عام لم تتغيَّر، بناءً على مجموعة من الأدلة الأحفورية وتسلسلات الحمض النووي. وسأركِّز على كيفية تطوُّر الأمور منذ انفصال سلالة أسلاف الإنسان عن سلالات أسلاف أقرب أقربائنا؛ وهي القردة الأفريقية التي تسمَّى الغوريلا والشمبانزي.٢ تنتمي هذه القردة إلى مجموعة ينتمي إليها الإنسان، تصنَّف ضمن فصيلة القردة العليا؛ ويشمل مصطلح القردة العليا مجموعة أكبر من القرود ومنهم أبناء عمومة الإنسان البعيدين. حدث الانفصال الذي أدَّى إلى ظهور الإنسان تقريبًا منذ مدة تتراوح بين ٣٫٥ و٤ ملايين سنة، مع وجود أدلة تشير إلى أن السلالة التي انحدرت منها الغوريلا انفصلت أولًا، ثم وقع الانفصال بين سلالة الإنسان وسلالة الشمبانزي. من الناحية الجيولوجية، يعتبر هذا الوقت قريبًا على نحو مثير للاهتمام من الوقت الذي انجرفت فيه قارة أنتاركتيكا إلى القطب الجنوبي، وبدأ مناخ شرق أفريقيا في التغيُّر. وبتجميع الأدلة من مصادر مختلفة، يتبيَّن أن نوعًا من القردة الأولية كانت تعيش في غابات شرق أفريقيا على مدى ملايين السنين القليلة التالية أدَّى إلى نشأة ثلاث سلالات من القردة قريبة الشبه بعضها من بعض ولكن لها سمات مميزة، وذلك في الوقت الذي شهد تغيُّرًا ملحوظًا في المناخ. والتخمين الأكثر منطقية لذلك أن التغيُّرات التطوُّرية حدثت استجابة للتغيُّرات البيئية.

ليس من الصعب فهم كيفية حدوث ذلك. فعندما تجف الغابات، تقل مساحتها. وهذا يقلِّل من توافر الموارد ويزيد المنافسة بين الأفراد. وحري بنا أن نوضِّح معنى المنافسة من منظور التطوُّر. لا يدخل أفراد نوع في منافسة مع أفراد نوع آخر، بل فيما بينهم. فعندما تصطاد الأسود أيلًا، تتنافس الأسود فيما بينها على الإمساك بالفريسة، وتتنافس الأيائل بعضها مع بعض من أجل الفرار. ويؤدِّي سباق التسلُّح الناجم عن تلك المنافسة إلى أسود تتمتَّع بمهارات صيد أفضل، وأيائل تتمتَّع بمهارات عَدو أفضل؛ إذ يتضوَّر الصيادون السيئون جوعًا، ويُؤكَل العدَّاءون البطيئون. في الغابات التي تقلَّصت مساحتها، حصلت أفراد القردة التي حظيت بمهارة أفضل في تسلُّق الأشجار، على سبيل المثال، على مزيد من الثمار، ومِن ثَم عاشت وأنجبت أكثر من منافسيها. ولكن على حافة الغابة، كان ثمة خيار آخر مفتوح أمام القردة الأقل براعة في التسلُّق. فقد طُردوا من الغابة واضطُروا إلى بذل أقصى ما لديهم للتكيُّف على العيش وسط غابات السافانا، حيث كانت القردة التي لديها قدرة أفضل على التكيُّف مع نمط الحياة الجديدة — كأن تكون أفضل في المشي باستقامة مثلًا — تفعل أقصى ما لديها وتركت معظم الأحفاد. وربما كان في ذلك تفسير للتغيُّرات التي فصلتنا عن سلالات القردة الأخرى وحوَّلتنا إلى الصورة البشرية.

ليس واضحًا دائمًا أي فصيل إنساني بالضبط هو السلف المباشر لفصيل بعينه من الإنسان الحديث، ولكن أول جنس اكتسب اسم «إنسان» — وهو الإنسان الماهر أو «الهومو هابيليس» — كان في شرق أفريقيا منذ ما يقرب من ٢٫٥ مليون سنة. كان الإنسان الماهر قردًا يسير مستقيم القامة وكان طوله نحو ١٫٢ متر، وله جسد نحيل ولكن رأسه كبير نسبيًّا وحجم دماغه يبلغ ٦٧٥ سنتيمترًا مكعبًا؛ أي حوالي نصف دماغ الإنسان في الوقت الحاضر، «الهومو سابين» أو الإنسان العاقل. قبل ١٫٥ مليون سنة، ظهر الإنسان المنتصب أو «هومو إريكتوس» على الساحة، وكان طوله ١٫٦ مترًا وحجم دماغه ٩٢٥ سنتيمترًا مكعبًا. وكان هذا هو النوع الذي نشر سلالتنا من أفريقيا إلى آسيا. ولم يكن قبل ٥٠٠٠٠٠ سنة، حتى تطور الإنسان المنتصب إلى الإنسان العاقل، وهو نموذج الإنسان الحديث الذي انتشر في كل قارة على الأرض في النهاية.

لكن التغيُّرات البيئية التي صاحبت هذا التطوُّر، وربما كانت سببًا له، كانت أكبر من مجرَّد انزلاق بسيط إلى ظروف مناخية أكثر برودة وجفافًا. فمن الغريب أن السجلات الجيولوجية توضِّح أنه على مدى ملايين السنين القليلة الماضية، تفكَّكت الحقبة الجليدية إلى نمط متكرِّر تتزايد فيه الكتلة الجليدية وينشأ عصر كامل من الجليد يمتد لنحو ١٠٠٠٠٠ سنة، ثم يحدث احترار طفيف وتتراجع الكتلة الجليدية إلى ما يسمَّى بحالة بين جليدية لنحو ١٠٠٠٠ سنة. تطوَّرت الحضارة الإنسانية بأكملها خلال أحدث فترة من العصر بين الجليدي، ولكننا لا نزال في حقبة جليدية. وهذا يعني، في شرق أفريقيا، أن الغابات تجف وتمر أوقات عصيبة لمدة ١٠٠٠٠٠ سنة أو نحو ذلك. في قلب الغابة، لا يتأثَّر ساكنو الأشجار المهرة إلى حد كبير، ويستمر نمط حياتهم دون تغيير. أمَّا على حدود الغابة، فيوجد ضغط تطوُّري قوي إذ يموت العديد من الأفراد. ويزداد تأقلم الناجين القلائل على الظروف المحيطة بهم على نحو جيد، ولكن ربما تقل أعدادهم حتى يشارِفوا على الاندثار والفناء. بعد ذلك، يكون هناك ١٠٠٠٠ سنة أو نحو ذلك تتسم بوفرة الموارد، ومِن ثَم ينطلق الناجون ويتضاعف عددهم. وكل منعطف في الدُّوَّامة البيئية يدعم التطوُّر تدريجيًّا بخطوة أخرى.

ما مقوِّمات البقاء التي ستتطوَّر بتلك الطريقة في المنطقة الحدودية بين الغابة والسافانا؟ تتلخَّص الإجابة في كلمتَين: قابلية التكيُّف والذكاء. ومن بين الكلمتَين، يمكن القول إن التكيُّف هو الأهم. بعض الحيوانات أسرع من الإنسان في الركض وبعضها أفضل في السباحة، وبعضها يتمتَّع بمخالب وأسنان أقوى للقتل وأكل اللحم، وبعضها له أجهزة هضمية أكثر ملاءمة لهضم النباتات من الجهاز الهضمي لدى الإنسان. لكننا نجيد القيام بقدر من كل هذه الأشياء بمهارة كبيرة؛ وتلك تحديدًا هي سمات البقاء اللازمة عندما تشح الموارد وتحتد المنافسة عليها. ويُعد الذكاء، لا سيما القدرة على معرفة المكان الذي ستأتي منه الوجبة التالية مقدمًا، هو السمة المميزة للإنسان. ما كان لتصبح هناك حاجة إلى كل هذا٣ لو لم يكن هناك حقبة جليدية، وكانت هناك وفرة من الغابات الخصيبة الوارفة الزاخرة بالموارد. على النقيض من ذلك، لو لم ينحسر الجفاف، لربما اندثرت فصيلة القردة التي سيقت إلى حدود الغابة قبل أن تتطوَّر لديها تلك السمات. وهذا الإيقاع الغريب الذي تميَّزت به العصور الجليدية هو ما جعل منَّا بشرًا.
هذا ليس مجرَّد تكهُّن؛ لأن لدينا دليلًا دامغًا على هذا النمط من التغيُّر المناخي. تتكشَّف الصورة الكبرى من خلال مجموعة من السجلات الجيولوجية تمتد لملايين السنين، ولكن الدليل القاطع على ما كان يجري يأتي من السجلات التفصيلية لمليون سنة ماضية أو نحو ذلك. تتوفَّر التفاصيل من خلال نظائر عناصر مثل الكربون والأكسجين، محتبسة في فقاعات الهواء في جليد قارة أنتاركتيكا، أو في شكل الكربونات التي تحتوي عليها أصداف مخلوقات نفقت منذ مدة طويلة في الطين في قاع البحر. يحتوي لباب هذه الكائنات الذي يُنقَّب عنه بالحفر في الجليد أو الطين على عينات ترسَّبت عامًا بعد عام، ومِن ثَم فإن التعمُّق في اللب يُشبه العودة بالزمن، ويمكن تحديد تاريخ الطبقات المختلفة باستخدام مجموعة تقنيات لا يتسع المجال لذكرها هنا.٤ إن النظائر تروي قصة؛ لأن نِسب تواجدها في الهواء، ومِن ثَم في الفقاعات أو الأصداف، تعتمد على درجة الحرارة. على سبيل المثال، الأكسجين-١٨ أثقل من الأكسجين-١٦، ولذلك تكون المياه (H2O) التي تحتوي على الأكسجين-١٨ أصعب في التبخُّر من البحر؛ والتوازن بين نسب نظائر الكربون في الكربونات الموجودة في رواسب أعماق البحار يوضِّح أيضًا للباحثين كيف كانت درجة الحرارة عندما تكوَّنت تلك الرواسب. تُستخدم آثار أخرى للكشف عن درجات الحرارة في الماضي من عينات لب الجليد. تشير النتائج إلى وجود نمط معقَّد من التغيُّرات على المليونَي السنة الماضيَين، ولكن يمكن كشف خيوط هذا النمط (فيما يُعَد مهمة أخرى لتحليل طيف الطاقة) للكشف عن أن العنصر المسيطر عليه هو عبارة عن مزيج من ثلاث دورات متكرِّرة وبعض المكوِّنات الثانوية. وتلك الدورات هي التي تسبَّبت في هذا النمط المميز للعصور الجليدية والفترات الفاصلة بينها. لكن اكتشاف هذه الإيقاعات في أواسط سبعينيات القرن العشرين لم يكن مفاجأة؛ نظرًا لسابقة التنبُّؤ بهذا النمط للعصور الجليدية قبل ظهور أي دليل جيولوجي، وقبل أن يعرف أحد أي شيء عن تفاصيل أصول الإنسان.

نشأ التنبُّؤ من دراسة للعالم الاسكتلندي ويليام كرول في القرن التاسع عشر، ولكن الصربي ميلوتين ميلانكوفيتش صاغه بتفصيل دقيق من خلال إجراء عمليات حسابية مطولة للغاية بالورقة والقلم، ومعظم تلك الحسابات أجراها بينما كان أسير حرب في المجر إبَّان الحرب العالمية الأولى. يشار إلى النتائج التي توصَّل إليها في بعض الأحيان باسم النظرية الفلكية للعصور الجليدية، ولكن الاسم الأكثر شيوعًا هو نموذج ميلانكوفيتش. يعتمد التنبُّؤ بالكامل على الجغرافيا غير العادية للعالم في الوقت الحاضر، بالنظر إلى أن محيط القطب الشمالي المغطى بالجليد تحيط به اليابسة من جميع الجهات تقريبًا. وبسبب هذا التكوين، يهطل الجليد كل شتاء على اليابسة عند خطوط العرض العالية. في الوقت الحاضر، في الفترة بين عصرَين جليديَّين، يذوب الجليد في كل صيف. ولكن ما الذي سيحدث إن لم يذب؟ الثلج أبيض، ويمتاز بخصائص عاكسة قوية. ومن خلال عكس حرارة الشمس، سيؤدِّي إلى خفض حرارة العالم، وهو ما يحدث بغض النظر عن مدى رقة سُمك طبقة الجليد. في الشتاء التالي، الذي يبدأ بدرجة حرارة أقل من الشتاء السابق، يهطل المزيد من الجليد على قمة الجليد المتبقي من الأعوام الماضية وامتدادًا إلى أقصى الجنوب. ومن الناحية الجيولوجية، تتكوَّن صفيحة جليدية تنمو طوليًّا وعرضيًّا في فترة زمنية قصيرة. ثمة ارتجاع إيجابي سوف يحافظ على العصر الجليدي إلى أن يحدث تغيير ملحوظ. فلا يمكن أن يحدث شيء من هذا فوق سطح البحر؛ حيث يذوب جليد الشتاء عند الاحتكاك بالماء لكونه أدفأ من نقطة التجمُّد. والسؤال المهم هنا ليس عن سبب وجود عصور جليدية. فالوضع الطبيعي لنصف الكرة الشمالي، بناءً على جغرافيا العالم في الوقت الحاضر، أن يعيش في عصر جليدي؛ إذ إن قارة أنتاركتيكا مغطاة بالجليد دائمًا على أي حال. السؤال الذي ينبغي طرحه هو لماذا توجد عصور بين جليدية. ومن هنا تأتي حسابات ميلانكوفيتش وخلفائه.

ليس المهم مدى برودة فصول الشتاء، بل مدى حرارة فصول الصيف. فلا ينتهي عصر جليدي إلا مع تعاقب سلسلة من فصول صيف حارة تعيد إذابة أطراف الجليد كاشفة عن أرض داكنة تمتص المزيد من حرارة الشمس وتسرِّع ذوبان الجليد في عملية ارتجاعية أخرى. المفاجأة — لغير علماء الفلك — أن التوازن بين الفصول يتغيَّر على هذا النحو، وذلك بفعل التغيُّرات في مدار الأرض وهي تدور حول الشمس، وبفعل الطريقة التي تتذبذب بها على محورها وهي تدور في مدارها. وهذا ما عكف ميلانكوفيتش سنوات على حسابه بيده، قبل عقود من ظهور أجهزة الكمبيوتر الكهربية.

figure
ميلوتين ميلانكوفيتش (ساينس فوتو ليبراري).

لن تتفاجأ عندما تعلم بوجود ثلاثة مكونات أساسية لتلك التغييرات. تتعلَّق الدورة الأطول بالمدار نفسه؛ لأن بسبب تأثيرات جاذبية الأجسام الأخرى في المجموعة الشمسية، يتغيَّر شكله من بيضاوي قليلًا ليصبح أقرب إلى الشكل الدائري ويعود مرة أخرى إلى أصله كل ١٠٠٠٠٠ سنة تقريبًا. في الوقت الحاضر، يميل المدار كثيرًا إلى الشكل الدائري (إذ يقترب الانحراف المركزي من صفر)، لكن منذ بضعة آلاف سنة، كان المدار مستطيلًا نسبيًّا بنسبة انحراف بلغت نحو ٦ بالمائة. ثمة تأثير آخر يسمَّى مبادرة الاعتدالَين، وينتج عن تذبذب الأرض مثل البلبل الدوار. إن الخط الوهمي الذي يربط القطب الشمالي بالقطب الجنوبي ليس عموديًّا على الخط الذي يربط مركز الأرض بمركز الشمس، ولكنه يميل بنحو ٢٣٫٤ درجة عن الخط العمودي. والميل، كما ذكرت من قبل، هو الذي يعطينا دورة الفصول؛ ففي الجزء من مدار الأرض حيث يميل القطب الشمالي نحو الشمس، يحل فصل الصيف على الشمال. وبعد ستة أشهر، يحل الشتاء على الشمال. وبالطبع يكون العكس في الجنوب على الدوام. وعلى مدى دورة واحدة، «يتجه» القطب الجنوبي دومًا إلى الجزء نفسه من السماء (في المكان نفسه في خلفية النجوم)، ولكن على مدى دورة يبلغ طولها نحو ٢٠٠٠٠ سنة تقريبًا، فإنه يتبع دائرة بطيئة في السماء.

ولكن ليس هذا كل شيء. على نطاق زمني أطول، حوالي ٤١٠٠٠ سنة، يتغيَّر الميل نفسه؛ إذ يظل بين صعود وهبوط في نطاق يتراوح بين ٢٤٫٤ درجة (مائل في الأغلب) و٢١٫٨ درجة (مستقيم في الأغلب). يقع الميل الحالي في المنتصف تقريبًا بين هذَين الطرفَين، وظل يتضاءل على مدى عشرة الآلاف السنة الماضية. وهذا يعني أنه على مدى عشرة الآلاف السنة الماضية، ظل الفرق بين الفصول يتضاءل. ليس من قبيل المصادفة أن العصر الجليدي الأحدث قد انتهى وبدأ العصر بين الجليدي؛ إذ كان الميل في أقصى نقطة، وكان هناك تباين أكبر بين الفصول. وعلى الرغم من أن إجمالي كم الحرارة التي نتلقاها من الشمس على مدى عام كامل واحد على الدوام، فإن ما يهم هو مدى حرارة الصيف في نصف الكرة الشمالي بغض النظر عن مدى برودة الشتاء.

بمعالجة جميع الأرقام على أجهزة الكمبيوتر الحديثة وإدراج بعض التأثيرات البسيطة، يتضح وجود تطابق بالغ بين حسابات كمية الحرارة التي يتلقَّاها نصف الكرة الشمالي في الصيف وبين نمط العصور الجليدية والفترات بين الجليدية التي تكشف عنها عينات الجليد وعينات رواسب أعماق البحار. إذن فالنظرية الفلكية عن العصور الجليدية صحيحة.

لكن لم تنتهِ القصة بعد. ما الذي يتحكَّم في ميل الأرض وتذبذبها؟ القمر. فمن دون تأثير القمر المثبت، كما ذكرت آنفًا، كان من الممكن أن يتفاوت ميل الأرض بمقدار يصل إلى ٨٥ درجة. وفي حالة كهذه، كانت التقلُّبات الحادة في المناخ ستجعل من المستحيل على الكائنات الحية مثل الإنسان أن تتطوَّر. والفضل يعود إلى القمر في وجود إيقاعات نموذج ميلانكوفيتش التي صنعت البشر من قردة الغابة. وذلك احتمال مستبعد مناسب لنترككم عنده.

هوامش

(١) ليس للجليد العائم تأثير على مستوى البحر؛ لأنه يشغل المساحة التي يشغلها الماء الذي يزيحه.
(٢) في أي نظام تصنيفي منطقي، كنَّا لنعتبر قردة أفريقية نحن أيضًا، ولكن بما أن من وضعوا هذا التصنيف كانوا بشرًا، فقد أُدرجنا في فئة مستقلة.
(٣) ما أعنيه بذلك أنه لم يكن ليصبح هناك أي ضغط انتقائي يدعو إلى تطوُّر هذه السمات.
(٤) انظر كتاب جون إمبري وكاثرين إمبري، «العصر الجليدي»، مطبعة جامعة هارفارد، ١٩٨٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤