الفصل الأول

النوم والأرق

لعلَّ أكثر الأشياء اتِّصالًا بحواسِّ الإنسان أكثرها غموضًا عليه، ولعلَّ النوم هو أكثر ما نألفه من هذه الأشياء جميعًا، ومع ذلك فقلَّ أن يوجد من الناس من يستطيع أن يشرح في دقة سبب ميلنا إلى الإغفاء واستسلامنا في آخر الأمر إلى النوم.

ويُفهَم من لفظ النوم دائمًا «حالة اللاوعي الطبيعية» التي يصل إليها الشخص السليم، وهي حال تكون فيها الجفون مُطبقة على الدوام، وتلحظ فيها مظاهر أخرى فسيولوجية، سنُشير إلى بعضها فيما يلي من صفحات الكتاب.

وعلى أثر كشف حالات النوم الاصطناعي الغريبة، وفي إبان الفوضى التي أشاعتْها في الناس شعوذة مسمر Mesmer١ ظهرت الحاجة إلى إيجاد اسم لهذا اللون من النوم، وفي عام ١٨٤٣ وُفِّق جيمس بريد James Braid٢ الطبيب الأسكتلندي الذي كان وقتئذٍ يعمل جرَّاحًا في بلاد الهند إلى إطلاق لفظ هبنوتزم Hypnotism على ذلك النوع من النوم، واشتق اللفظ من كلمة hopnos اليونانية ومعناها النوم، وكان اللفظ الذي وضعه له في بادئ الأمر النوم العصبي Neuohypnotism، إلا أن المقطع الأول وهو Neuo ما لبث أن حُذِف لما هو معلوم من أن النوم على اختلاف أنواعه ليس إلا حالة عصبية؛ لاتِّصاله بالجهاز العصبي، ومن هنا نشأ التعبير بلفظة منوِّم Hypnotic عن العقار الذي يزجي النوم إلى الأعصاب.
ويعبَّر في الطب عن الأرق بكلمة Insomnia، وهي مشتقة من كلمتين لاتينيتين: الأولى Ins وتفيد النفي، والثانية Somnius ومعناها النوم.

والنوم الصحي في الواقع نتيجة اجتماع عدة حالات أو عوامل كما يسمِّيها المختصُّون، وأوضح ما يعرفه الناس عن النوم هو أن الإنسان يكون فاقد الوعي طوال مدته، وما الحلم إلا تعطيل حالة اللاوعي أو السبات هذه إلى حد قليل أو كثير.

فالنوم إذن من الناحية العقلية أو النفسية حالة من اللاوعي تتكرَّر بانتظام في كل أربع وعشرين ساعة، وتستمر ما بين ست ساعات وثمان. إلا أنَّ هذه الحال من حالات اللاوعي تتصل بحال من سكون المخ؛ أي عدم نشاطه، ونعني بالمخ هنا أكثر أجزائه نظامًا؛ أي القشرة المخية، وهي مركز الإدراك، فهي إن كانت نشيطة قائمة بعملها كان الوعي، وإن كان نشاطها جزئيًّا أو كانت ساكنة سكونًا كاملًا انعدم، أو صحبته يقظة غير كاملة. فالنوم لا يُطلَق بحقٍّ إلا على عضو الإدراك؛ ولهذا نرى الحيوانات التي انتُزعت أمخاخُها لا تنام أبدًا، وكل جزء مِن الجهاز العصبي واقع أسفل مستوى قشرة المخ لا يَصِّح أن يُقال عنه إنه ينام فعلًا؛ فمِن المؤكَّد أن مركز التنفُّس في بصلة المخِّ يقوم بعمله المعتاد بانتظام في أثناء النوم، إلا ما استطعنا أن نتنفَّس على الإطلاق، فما سمعنا أن كائنًا مَن كان قد اختنق في أثناء نومه، والمراكز الأخرى في هذا الجزء من المخ كالتي تتحكم منها في القلب أو في الأوعية الدموية أو في غدد الهضم، تؤدِّي كلها وظيفته العضوية في أثناء النوم، وإن كان من المحتمَل ألا يكون عملها كاملًا كما يكون في حالة اليقظة. أمَّا المراكز العصبية في النُّخاع الشوكي فتكون أثناء النوم في حالة راحة لا حالة «نوم»، ويتَّضح ذلك من أن أفعالًا عاكسة يمكن حدوثها وقتئذٍ بواسطة هذه المراكز، فاللص في بلاد الهند يحتال على سرقة الحشية من تحت النائم بأن يَجذبها إليه تدريجًا وفي رفق وأناة، ويحدث عند كل مرة يجذبها فيها اضطراب في موضع الجسم، يعقبه رد فعل عضلي يَعدل به الجسم نفسه إلى وضعه الجديد عقب انتقاله من الحشية إلى الأرض، ويحدث ذلك كله من غير أن يَستيقِظَ النائم.

وفي أثناء النوم تكون أنسجة الجسم جميعها أقلَّ نشاطًا مما هي في حالة اليقظة، فتبطئ دقات القلب وتضعف، ويكون التنفُّس أقلَّ عمقًا، والمعدة تتخلص في بطء مما بها، والبول تنقص كمية ما يفرز منه، وهذا النقص في عمل الأنسجة ينشأ عنه انخفاض كبير في الحرارة الحيوانية التي تتولد في كل ساعة من ساعات النوم بالنسبة لما يتولَّد منها في اليقظة، فتهبط إلى الثلث تقريبًا (تنزل من ١٣٠ سُعرًا في الساعة إلى ٤٠ سُعرًا).

وتتولَّد معظم هذه الحرارة الحيوانية في العضلات، ويتولَّد منها في النوم أقل ما يتولد في اليقظة، ولكن الجلد مع ذلك يظل يفقد حرارته أثناء النوم بالقدر الذي يفقده في يقظته؛ ولهذا كان لا بدَّ من أخذ الحيطة ليكون الغطاء مُدفئًا وإلا فقدنا حرارة أجسامنا سريعًا فأصابنا البرد، ومن أجل هذا كان الخطر شديدًا على من يَستسلم للنوم دون أن يَحسِبَ لهذه الحرارة وهبوطها أثناء السُّبات حسابًا. ويُطلَق على الموت الذي مردُّه إمَّا هبوط هذه الحرارة هبوطًا سريعًا أو ضياعها ضياعًا مُتواصِلًا اسم «موت التعرُّض للعوامل الجوية»، وهو يُصيب الغرقى ومدمني الخمر الذين يَنامون في الخلاء، والذين يُعرِّضون أنفسهم للبرد القارس في منطقتي القطب الشمالي أو الجنوبي مثلًا، أو في أعالي الجبال وما إلى ذلك؛ ولهذا كان من الضروري أن يكون الغطاء مكوَّنًا من البطاطين وما شابهها من الأغطية الرديئة التوصيل للحرارة؛ حتى تُصان الحرارة الحيوانية من الضياع.

وهذه الحالة من حالات السكون وما تزجيه من نوم تَحدث بانتظام، أو كما يقول علماء وظائف الأعضاء تتكرَّر في نظام موسيقي أي في فترات مُنتظمة، وللنوم في نظامه صلة على نحوٍ ما بالنظام الكوني العام، نظام تعاقب الليل والنهار، فإذا جنَّ الليل رأيتَ الحيوانات والطيور جميعها تأوي إلى حيث الظلمة والسكون، مع استثناء الحيوانات الليلية كالآساد والهِرَرة وبنات آوى والوطاويط والبوم وما إليها. ومن أغرب الشواهد على ذلك النظام المطَّرد في النوم قصة ذلك الغلام الذي كان يبلغ السابعة عشرة من عمره والذي تُرِكَ وحيدًا في شوارع مدينة نورمبرج Nuremberg الألمانية.
كان ذلك الغلام قد قضى أيام طفولته في عُزلة تامة، فلم يكن يعرف شيئًا ما عن الناس أو الحيوان أو النبات، ولقد لوحظ أنه كان يَنام بمجرد أن تغرب الشمس، وما من شكٍّ إذن في أن الإنسان قد فُرِضَ عليه أن يُريح مخه وعقله مدة تبلغ نحو ثلث عمره، والحيوان الذي يقضي طوال أيام الشتاء في النوم إنما يُمضي نصفَ عمره في الراحة، ومن المُمتع أن نذكر أن مور More في كتابه «المدينة الفاضلة»٣ يذكر أن أهلها المثاليِّين يقضون ثماني ساعات من يومهم نائمين.

وليس لنا في النوم حيلة أو خيار، فهو أمر لا بدَّ للإنسان منه، كما لا بُدَّ أن يأكل ليعيش. بل إن فقدان النوم أشدُّ خطرًا عليه من فقدان الغذاء، وقد أيَّدت ذلك التجاريب التي أُجريت على الحيوانات، كما أيَّدته الأعراض التي شُوهدت على الناس في أوقات المجاعات وفي الأوقات التي حُرِموا فيها من النوم؛ فقد كان الجنود في الحرب العظمى يجدون حرمانهم من النوم أشق عليهم من حرمانهم من الطعام. وإذن فالنوم في حقيقة أمره بعض الطعام، وقد لوحظ أن المرء بعد أن يستيقظ من نومه المعتاد، وبعد أن يكون قد انصرف عن الطعام ثماني ساعات، يجد نفسه أقل جوعًا منه لو قضى هذه المدة مستيقظًا، وقد صوَّر شيكسبير هذه الناحية من النوم تصويرًا دقيقًا في رواية مكبث، حيث يصف النوم بقوله: «إنه الصِّنف الثاني من أصناف الطعام التي تقدمها لنا الطبيعة العظيمة، وإنه الغذاء الرئيسي في وليمة الحياة.»

ولقد أثبتت التجارب التي أُجريت على صغار الكلاب أنها تموت بعد خمسة أيام إن حُرِمَت من النوم ولم تُحرَم من الطعام، وأنها تموت بعد عشرين يومًا إن هي تمكَّنت من النوم وَفْق هواها وإن مُنِع عنها الطعام.

ولا حاجة إلى القول بأنَّ نقص القوة العضلية هو سبب تلك الظاهرة المألوفة، ظاهرة انحناء رأس الإنسان على صدره حين يَغفو وهو جالس، ومن المعلوم أيضًا أن النائم في الأحوال العادية لا يستطيع أن ينام وهو مُنتصِب القامة، كما لا تستطيع جثة رجل ميت أن تقف منتظمة على قدميها. على أن النوم قد يحدث في أحوال قليلة غير عادية والنائم واقف دون أن يختلَّ توازن الجسم، وفي استطاعة بعض الحيوانات أن تنام أو أن تكون في حالة شبيهة بالنوم عند الإنسان من غير أن تسقط على الأرض، وهذا يَصدُق على الطيور وعلى بعض ذوات الأربع. وتنام الطيور المائية وهي جالسة على سطح الماء، ويستطيع طائر اللقلق أن ينام وهو واقف على ساق واحدة؛ لأنَّ في ركبة هذا الطير جهازًا «يغلقها» ويمنعها أن تنثني. وكلنا يعرف أن في مقدور الحصان أن ينام وهو واقف، وما من شك في أن الحيوانات الدنيا لا تفقد قواها العضلية في أثناء النوم بالقدر الذي يفقده الإنسان، ولعل لهذا صلة بما هو معروف من أن نومها أقل عُمقًا من نومه، وفي وسع الكلب أن ينام وإحدى عينيه مفتوحة، ويقول علماء الحيوان إن خنازير غانا لا تنام أبدًا.

وتنام صغار الحيوانات التي لم يتم نموها زمنًا طويلًا، ولعلَّ السبب في هذا أن عملية بناء الأنسجة عند صغار الحيوانات أعظم قوةً من عملية تحليلها. وعملية البناء في المخ تقابلها حالة من حالات اللاوعي، وفي أثناء النوم تظلُّ عملية إصلاح الجهاز العصبي المركزي قائمة، ويَستريح الجهاز ويزول عنه ما عاناه من التعَب، ومن ذلك تُدرك مقدار ما يُصيب هذا الجهاز من الضرر بسبب الأرق الطويل، وفيه يُحرَم الدم والأنسجة من الماء إلى حدٍّ ما؛ ولهذا يغلظ الدم فتُبطئ دورته في الجسم وتقل شهية الطعام.

وبين النوم والموت فارق كبير من الناحية الفسيولوجية؛ فالنوم هو استعادة القوة الحيوية، في حين أن الموت هو انعدام هذه القوة، ونحن نَنام لنستيقظ، ونستريح في الغفوة لنُجيد العمل في اليقظة.

وأعمق ما يكون النوم في الساعة الأولى منه، وهو أقل منه بعض الشيء في الساعة الثانية، وأخفُّ من ذلك كثيرًا في الساعات التالية جميعها في الأحوال العادية. وقد وصل إلى ذلك علماء وظائف الأعضاء بقياس شدة الأصوات أو الصدمات الكهربائية اللازمة لإيقاظ النائم، ولما كان أكثر النوم إنعاشًا للجسم هو أعمقه، وهو الذي يحدث في الساعة الأولى منه، فقد سُمِّيَ «نوم الجمال».

أما الأسباب التي تؤدي إلى النوم فأول ما يخطر منها بالبال هو التعب؛ فالإنسان لا يستطيع النوم إلا إذا كان مُتعَبًا إلى حدٍّ ما، وما ألذَّ النوم الذي يغشى الرجل السليم الجسم على إثر قدر معقول من التعب، وقد جاء في سفر الجامعة … «ونوم المُشتغل حلو»،٤ ولا يَخرج عن هذا المعنى قول بليريس في رواية سمبلين:٥ «إنَّ الإنسان المُتعَب ينام ملء جفنَيه على حجارة الصوان، أما الكسول المستريح فيجد حشية الزغب جامِدةً مُتعِبة.» وليس التعب من الناحية المادية الموضوعية إلا نوعًا خفيفًا من تسمُّم الدم؛ ذلك أن الإنسان في ساعات يقظته تتكوَّن في عضلاته وفي جهازه العصبي وفي سائر أنسجته مواد قابلة للذوبان، ثمَّ تنتقل هذه المواد إلى الدم، حتى إذا وصلت إلى مادة المخ السنجابية قلَّلت كثيرًا من نشاطها. ويظنُّ أنَّ هذه السموم الكيميائية الناشئة من التعب تزيد المقاومة التي تَلقاها التنبيهات العصبية في مرورها بخلايا المادة السنجابية المُغطية للمخ (الجوهر القشري) إلى حدٍّ تفقد معه نشاطها، فينعدم الإحساس لهذا السبب. ومهما تكن الطريقة التي تؤثِّر بها هذه السموم، فإن الذي لا شكَّ فيه أن التعب الشديد يمكن أن يؤدِّي إلى أعمق أنواع النوم.

وفي وسعنا أن نُسمِّي هذا السبب من أسباب النوم أو هذا النوع من أنواعه بالسبب الكيميائي، وقد وصفه بعضهم بقوله: «إننا نُخمد جذوة مخِّنا برماد نارِ يقظتنا.» ولدينا كثير من الشواهد على هذا النوم الكيميائي الأصل الناشئ من التعب الشديد، من ذلك أن بعض رجال المدفعية في الأزمنة «الطيبة الماضية» كانوا ينامون من فَرط تعبهم بجوار مدافعهم التي تظلُّ تنطلق بجوار آذانهم.

وقد حدَّثنا سير فليب جبس Sir Fhilip Gihbs٦ حديثًا من هذا النوع في وصفه للارتداد عن منز Mons فقال: «وكان الشيء الوحيد الذي منع عنهم النوم هو هجوم العدو عليهم، حتى إذا أوشكت الحرب أن تضع أوزارها كان أشد ما يرغبون فيه هو النوم، فكانوا ينامون وهم وقوف فوق الأسوار، ويَنامون وهم جلوس مُتربِّعون في الخنادق، وينامون كالموتى وهم مستلقون على الأرض. لقد كان هؤلاء الرجال متعبين جسمًا وعقلًا تعبًا يكاد يؤدِّي بهم إلى الموت، ولما طُلِبَ إليهم بعد ستة أيام وستِّ ليالٍ من السير والقتال أن يبذلوا آخر مجهود لديهم أخذوا يترنَّحون كالسكارى أو المُخدَّرين، وقد زاغت أبصارهم، وتمدَّدت وجوههم، وعُقِدت ألسنتهم، وصُمَّت آذانهم، وعميَتْ عيونهم عن الخطر المحدق بهم.» ذلك وصف صادق لأثر التسمُّم الناشئ من التعب في خلايا المخ، لقد بلغ من أثره أن مراكز السمع والبصر والكلام كلها فقدَت قواها كأنها خُدِّرت.
ويُحدِّثنا المرحوم المستر إستيفنز Stevens أن سائقي الجِمال في حالة اللورد كتشنر الشهيرة على الخرطوم كانوا من فرط تَعبهم يسقطون على الأرض ويظلُّون نائمين على الرمل، وفِرَق الجيش تمرُّ بجوارهم، وكان يحدث أحيانًا أنَّ جنود الحرس ينامون على ظهور الخيل، وكانوا مع ذلك لا يَسقُطون عنها، وقد كتب ده كونسي٧  رؤيا الموت المفاجئ The Vision of Sudden Death بعد رحلة في عربة من هذا النوع تسير بسرعة ثلاثة عشر ميلًا في الساعة، ويسوقها سائق مُستغرِق في النوم على مقعده.
وكثيرًا ما كان مُراقبو السبَّاح الشهير هلبين Hoblein عابر بحر المانش يُشاهدونه من قاربهم يسبح وهو نائم. وقد حدثني صديقٌ لي، وهو ضابط في فرقة «المتطوعين»، فقال: إنه كان عائدًا إلى منزله بعد أن قاسى من التعب أشده مدة أربع وعشرين ساعة في استعراض إدنبرة عام ١٨٨١، فنام في الطريق وسار وهو نائم عدة أميال في طريق اعتاد السير فيه من قبل، وليس هذا هو ما يسمُّونه «جولان النوم» Somnombulism، بل هو نشاط عضلي متناسق في أثناء النوم الناشئ من أسباب كيميائية. وقد وصف كبلنج٨ حادثة مشابهة لهذه في «استوكي وشركائه» Stalky & Co فقال: «وبعد ذلك استغرقت في النوم، وأنتَ تعرف أن في وسعك أن تنام وأنت سائر إذا خدَّرت ساقاك تخديرًا كافيًا، ويقسم ماك Mac أننا كُنَّا جميعًا نسير إلى المعسكر ونحن نغطُّ في النوم، فلما وقفنا سقطنا من فورنا على الأرض.»
والبؤس الشديد ومُعاناة الألم الطويل يؤديان آخر الأمر إلى النوم، وقد كان الناس في «الأيام الطيبة الماضية» أيام التعذيب يَنامون فوق آلاته، ولم يصل علماء وظائف الأعضاء حتى الآن إلى معرفة هذه المواد التي تؤدِّي إلى التعب، وإن كانت جهود كثيرة قد بُذِلَت لعزلها. على أنه مهما تكن حقيقة هذه المواد من الناحية الكيميائية، فإن الذي لا شك فيه أن عملها شبيه بعمل السموم النباتية القلوية، كالمورفين والنيكوتين والسكورال٩ والأتروبين، وغيرها من المواد التي تعطِّل مرور التنبيهات في خلايا الجهاز العصبي، ومن ثمَّ فإن أثر هذا العامل الكيميائي في النوم العادي يختلف عن أثر النوم المُصطَنع الناشئ من المخدِّرات كالبروميد والأثير والكلوروفورم والكحل والكلورال والسلفوتال وغيرها من المنوِّمات التي استُخدِمَت في هذه الأيام.

ومما يتَّصل بعامل التعب هذا الأرق الناشئ من فرط التعب المانع من النوم، وقد يكون منشأ هذا الأرق التعب أو الألم المسبِّب عن الإفراط في إجهاد العضلات أو الأربطة أو الأوتار، ولكن بعضه ينشأ دون شك من أن المواد التي تتكوَّن من التعب تهيج خلايا الحس بدل أن تُنيمها.

والأرق الناشئ من كثرة المواد الناشئة من التعب في الدم وثيق الصلة بالتسمُّم الدموي البسيط، وهذا بالضبط هو ما يشير إليه شيكسبير في مسرحية «قصة الشتاء»، حين يقول: «ليخرج منه المادة التي تنقله وتَحول بينه وبين النوم.» وقد أبان لنا البحث المِجهري عن بعض الضرر الذي يُصيب خلايا المخ الحية من السموم الناشئة من التعب؛ ذلك أنه إذا كبر الجزء الأوسط (النواة) من خلية المخ السليمة الحية المُستريحة ظهر فيها عدد كبير من الأجسام المعنوية الدقيقة يمكن تلوينها باللون الأزرق الفاتح أو اللون البنفسجي، وقد شُوهد أنه إذا قُتِل الحيوان بعد أن أنهكه التعب، فإن هذه الأجسام العضوية «حبيبات نسل Granules of Nissl» يتغير شكلها وتبدو كأنها قد أخذت تمتص، وهذه المُشاهَدات تُخرج التعب من دائرة الأشياء الغامضة وتضعه بين الحقائق المؤكَّدة المعروفة عن الأنسجة، وقد عُرِفَ أيضًا أن حبيبات نسل يذوب بعضها في أحوال أخرى كالتسمُّم الناشئ من الكحُلِّ، ومن الصرع والجنون، وهي الأحوال التي تضمحلُّ فيها خلايا المخ.

والعامل الثاني في حدوث الأرق عام سلبيٌّ وهو انعدام الإحساس، وليس مِنَّا من لا يعرف أن خيرة وسيلة للنوم أن يأوي الإنسان إلى مكان مظلم، ويُغمض عينيه، ويَمنع قدر استطاعته الأصوات المنبِّهة أن تصل إليه من العالم الخارجي، وقلَّما ينام الإنسان في ضوء ساطع، أو في وسط ضجيج، أو إذا كان يتألَّم ألمًا شديدًا، بل لا بدَّ من منع التنبيهات جميعها أو إنقاصها إلى أدنى حد. ولقد سبق القول أن الإنسان لا تُهمُّه التنبيهات إذا كان مُتعَبًا تعبًا شديدًا، ولكن النوم المعتاد يُهيِّئ أسبابه قدرٌ مُعتدل من التعب وانعدام التنبيهات انعدامًا تامًّا قدر المستطاع.

وفي وسع كل تنبيه للحواسِّ أن يمنع عنَّا النوم، ومن أمثلة ذلك الألم، والبرد الشديد والحر الشديد، وخفة الغطاء أو ثقله أكثر مما يجب، وبرودة القدمين، سواء كانت هي برودة قدمي الشخص نفسه أو قدمي شخص آخر مُلامس له، من أسباب الأرق العادية.

ومن الشواهد على النوم الذي يحدث نتيجةً لمنع التنبيهات الحادثة التالية: كان صبي في السادسة عشرة من عمره يعيش في مدينة ليبزج Leipzig، وكان هذا الصبي محرومًا من حواس اللمس والشم والذوق، وكانت عضلاته لا تحسُّ، ولا يشعر هو بالألم، ولا يسمع بأذنه اليمنى، ولا يرى بعينه اليسرى، لما سُدَّت أذنُه اليسرى وعُصبت عينه اليمنى استغرق في النوم بعد دقيقتين أو ثلاث دقائق، ويُفسِّر أثر هذا العامل السلبي في إحداث النوم بأن الحواس لا تنقل إحساسات الوعي فتشغله بها.

وتنبيه الحواس تنبيهًا مُستمرًّا غير شديد يؤدي إلى النتيجة عينها التي يؤدِّي إليها عدم تنبيهها مطلقًا؛ فالقراءة على وتيرة واحدة، أو الوعظ بصوت مملٍّ إذا طال لا يشغل البال ويُصبح مجلبة للنوم، ومن المعروف أيضًا أن الإحساس الطويل بشيء ما إذا لم يَزِد أو ينقص في شدته — كملامسة الجسم للملابس، أو وجود الهواء الساكن حول الجسم في درجة حرارته — لا ينبِّه الإنسان مطلقًا، وفي وسع الإنسان لهذا السبب عينه أن يَنام وسط ضجيج القطار والباخرة ما داما سائرَين، حتى إذا وقفا استيقظ النائم من فوره، والتنبيه في هذه الحال هو الانتقال من صوت إلى سكوت، ومن أجل هذا يمتنع النوم عادة على الشخص الذي تعود أن يَنام في ضجيج المدن في أول ليلة ينتقل فيها إلى الريف، والمنبِّه في هذه الحالة هو عين المنبه في الحالة السابقة، وهو سكون الريف المخالف لضجيج المدن.

ومن الشواهد الأخرى على ما للإحساسات التي على وتيرة واحدة من أثر في جلب النوم السريرُ الهزَّاز الذي اختُرِعَ أخيرًا؛ ذلك أن رحالةً معروفًا قد وجد أنه ينام نومًا هادئًا في القطار، فأمر أن يُوضع له سرير يهتزُّ اهتزازًا رأسيًّا كاهتزاز القطار نفسه، والذي يحدث في هذه الحال هو أن الاهتزاز المتَّصل، وحدوثه على وتيرة واحدة، يصبح عديم الأثر في تنبيه المخِّ، فيبقى هادئًا حتى يغلبه النوم، وما من شك في أن هذا العامل نفسه هو سبب نوم الطفل في مهده الذي يهتزُّ اهتزازًا دائمًا خفيفًا.

ومما له صلة وثيقة بحدوث النوم إذا امتنع تنبيه المخ، ذلك العامل الثالث في إحداث النوم؛ وهو انعدام الأفكار والانفعالات وغيرها من ضروب النشاط العقلي، وليس مِنَّا من يجهل أن كل ما يشغل العقل يَمنع النوم، سواء كان ذلك فرحًا أو حزنًا أو مسألة رياضية لم تُحلَّ، فالأفكار التي لا نستطيع طردَها من العقل تمنع عنَّا النوم، أما هدوء العقل المستريح الذي لا يشغله شاغل فإنه يؤدي إلى النوم. والأرق الناشئ من هذا العامل الثالث هو الذي يُحدث للشخص ما يسمُّونه «تأنيب الضمير». والنشاط الذهني هو الذي يمنع النوم عن الطفل بعد زيارته الأولى لحديقة الحيوان أو لأول رواية هزلية في المسرح أو نحوها. وجدير بنا أن نذكر هنا أثر العامل الشخصي في هذا الأرق؛ فمِن الناس من لا ينامون طوال الليل إذا عرفوا أنهم لا بدَّ لهم أن يستيقظوا في اليوم التالي قبل الموعد الذي يَستيقِظون فيه عادةً، في حين أنَّ بعض المُجرمين المَحْكوم عليهم بالإعدام ينامون ملء جفونهم في الليلة السابقة ليوم إعدامهم، وسبب هذا أن النوم يكون مستحيلًا ما دام المخُّ مضطربًا؛ ذلك أن النوم معناه سكون المخ، والتفكير يعني نشاطه، وإذن فالتفكير والنوم عاملان لا يَجتمعان، وما أصدق قول شيكسبير في مسرحية روميو وجلييت:
إن انشغال البال يبقي عين الشبح يقظة،
وحيث يوجد القلق لا يوجد النوم.

وقد وصف ورد سورث الأرق المسبَّب عن هذا العامل الثالث أحسن وصف حين خاطب النوم بقوله: «إنك آخر مَن يُلبي النداء حين تشتدُّ الحاجة إليك.» ومن هذا النوع نفسه أرق المعتوهين الطويل؛ وذلك لأن اضطراب عقلهم وهذيانهم وما إليهما هو الذي يمنع عنهم النوم.

وقد لاحظ الأستاذ بلفوف أحد أساتذة لنينغراد أثناء بحثه فيما يسمُّونه «الأفعال العاكسة الشرطية» ميلًا غريبًا في الكلاب إلى النوم، وقد أجرى تجاربه عليها في النمط الآتي أو ما يشابهه: أظهر الأستاذ بعض اللحم للكلاب فسالت عصارتها المَعِدية، ودقَّ في الوقت نفسه الناقوس. وبعد أن كرَّر إظهار اللحم ودق الناقوس مرارًا كثيرة، وجد الأستاذ أنَّ العصارة المعدية تُفرَز إذا اقتصر على دقِّ الناقوس دون إظهار اللحم. وكان الكلب في العادة يُكافأ بإعطائه اللحم، ولكنه إذا لم يُعطَه بعد دقِّ الجرس فإنَّ العصارة لا تُفرَز وينام الكلب. ويُفسِّر الأستاذ هذا بأنه إذا مُنِع عن الحيوان ما يشغل باله في وقت من الأوقات، ولم يبق له ما يعيش من أجله إلى حين فإنه يَنام، وهذا مثل من أمثلة النوم الناشئ من عدم وجود حالة منبِّهة للعقل.

وفي وسعنا بعد ذلك أن نَنتقل إلى السبب الرابع من أسباب النوم، وهو نقص نشاط الدورة الدموية في المخ، فنقول: إن قيام أي جزء من أجزاء الجسم بوظيفته موقوف على وصول مقدار من الدم إليه، وإذا كان الجسم سليمًا فإنَّ العضو يزداد نشاطه كلما زادت كمية الدم التي تصل إليه، وليس المخ بخارج عن هذه القاعدة، فإذا نقص الدم الواصل إليه قلَّ نشاطه، ولا يزال يقل حتى يدركه النوم.

ولدينا شواهد مباشرة على أن ما يصل من الدم إلى المخ يَنقُص في أثناء النوم؛ فقد شوهد من خلال جُرح في جمجمة كلبٍ أن مخَّه — أو على الأصح الجوهر القشري لمخِّه — يصفرُّ لونه في أثناء النوم؛ وذلك أن العلماء نزعوا جزءًا من عظام جمجمة الكلب ووضعوا في مكانه قطعةً من الزجاج، فشاهدوا منها أن الكلب إذا نام لا يصفرُّ لون سطح مخه الخارجي فحسب، بل إنَّ مخه يَبتعد أيضًا عن قطعة الزجاج، وقد كان قبل النوم ملاصقًا لها، وما مِن أم إلا وهي تعرف أن في رأس الطفل جزءًا خاليًا من العظم يغطِّيه غشاء من الجلد ويُسمَّى يافوخًا، وهو يعلو ويهبط مع حركات التنفس، وكلما زادت كمية الدم في مخ الطفل علا هذا الغشاء بطبيعة الحال، ومِن السهل على كل إنسان أن يُشاهد هذا الغشاء يهبط في النوم ويعلو في اليقظة، وإذا صرَخ الطفل ومنع بصراخه الدم الذي في رأسه أن ينصبَّ بسهولة في قلبه، فإن الدم الذي احتُجِزَ بهذه الطريقة يسبِّب ارتفاع يافوخ الطفل.

وهناك شاهد آخر: إنَّ الشبكية التي في باطن العين قطعة من المخ نفسه، وإذا فحَص عن هذه الشبكية — بالمنظار العيني الخاص — شخص عارف مقدار ما يصل إلى عين المستيقِظ من الدم، وجد أن هذه الشبكية يحول لونها في أثناء النوم.

ولدينا غير هذين الدليلين شواهد غير مباشرة، ولكنها لا تقلُّ عنها قيمة في نظر العالم بوظائف الأعضاء؛ فقد استطاع العالم الإيطالي مسيو Masso الأخصائي في وظائف الأعضاء أن ينوِّم رجلًا وهو متَّزن على لوح خشب أو منضدة كالأرجوحة، فلما نام الرجل وجد أن طرف المنضدة الذي عند القدمين قد انخفض بزاوية مُقابلة لما زنته ٢٦٠ سنتيمترًا مكعَّبًا من الدم، وما من شك في أن هذا التغير كانت نتيجة لتغير في توزيع الدم؛ فقد زاد مقداره عند القدمين وقل عند الرأس.

وفي وسعنا أن ندرس هذا التغير في توزيع الدم وقت النوم بطرُق أخرى غير هذه الطريقة؛ فنحن نعرف أن الجلد يحمرُّ لونه قليلًا في أثناء النوم، وأكثر ما يُلاحظ ذلك في جلد الأطفال وفي ذوي البشرة الشفافة، وهذا بلا شك منشأ القول المأثور «الجمال النائم»، لكنَّ زيادة الدم في الجلد يقابلها نقصه في المخ.

وليس الجلد هو وحده المكان الذي يذهب إليه الدم الذي غادر المخ؛ فقد يجد بعضه مكانًا له في الأعضاء الداخلية، وبخاصة في أعضاء الهضم، وشاهد ذلك ما يشعر به الإنسان من ميل إلى النوم بعد أكلة ثقيلة، وتفسير ذلك الشعور سهل هين؛ ذلك أنَّ المعدة وهي تشتغل بهضم الطعام تحتاج إلى كمية من الدم أكثر مما فيها وهي لا تعمل، وتأخذ هذا الدم من المخ.

وإذا استقصَيت السبب الوعائي١٠ للنوم، وجدت في آخر الأمر أن هذا السبب هو نقص الضغط الواقع على جدران الأوعية الدموية والمخ؛ ولذلك فإن كل ما يقلِّل من هذا الضغط على هذه الأوعية يؤدِّي إلى النوم؛ فالدم يغادر رأس راكب البحر قبل أن يُصاب بالدوار، كما يدلُّ على ذلك اصفرار وجهه. ويَعرف الكثيرون مِنَّا أن الإنسان يشعر بميل إلى النوم قبل حدوث القَيء، والذين يتعرضون إلى البرد الشديد يحسُّون بالميل إلى النوم بسبب ما يُصيب قلبهم من ضعف ناشئ من انخفاض درجة الحرارة، وكثيرًا ما ينام كبار السن وهم جالسون، وبخاصة إذا كانوا متعَبين؛ وذلك لضعف الدورة الدموية في أمخاخهم، ويجدر بنا أن نلاحظ هنا أن شيكسبير لا يشير إلى هذا السبب من أسباب النوم، وهو السبب الوعائي، وإن كان يُشير في أكثر من موضع واحد إلى الأسباب الثلاثة الأخرى.
وتعليل ذلك أنَّ الإنسان يحتاج إلى علم بنظام الدورة الدموية لكي يفهم كيف يكون ضعفها سببًا من أسباب النوم، ولم يكن في مقدور شيكسبير أن يعرف حقيقة هذه الدورة؛ لأنه مات قبل أن يُعلن معاصره العظيم وليم هارفي١١ كشفه الخطير في عام ١٦٢٨، وقد حاول بعضهم أن يُثبت أن شيكسبير كان على علم بها، ولكني مقتنع بعد أن درست هذا الموضوع دراسة مفصلة أنه لم يكن يعرف آراء هارفي في الدورة الدموية، بل كل ما كان يعرفه عن حركة الدم في الجسم هو ما قاله جالينوس، وما كان يُدرَّس منها في مدارس أوربا الطبية في وقته ومن قبله بألف وأربعمائة سنة.

وأكبر الظن أنَّ النوم الصحي يحدث نتيجة لفعل العوامل الأربعة التي شرحناها في هذا الفصل، فإذا كان العقلُ خاليًا من الأفكار والإحساسات التي تشغله كثيرًا وتُضايقه، وإذا كان المخ متعَبًا بعض الشيء قل الضغط في الأوعية الدموية التي في المخ ونام الإنسان.

فإذا امتنع شرط واحد من هذه الشروط الأربعة، وهي الشرط النفساني والإحساسي والوعائي والتعب، أدى انعدامه إلى الأرق، ولا حاجة إلى القول إنَّ حالةً من حالات الأرق قد تكون نتيجة لفعل عاملَين أو أكثر من هذه العوامل المانعة من النوم، فإذا كان الإنسان مُنفعلًا أثَّر انفعاله هذا في قلبه، فزاد نشاطه، وأدى ذلك إلى حالة من الأرق كان يكفي لإحداثها أحد العاملين وحده.

ومن أشكال النوم غير السويِّ المتصلة بالعامل الوعائي وفقد الشعور الناتج من ضغط واقع على الشريانيَين السباتيين١٢ وتلك وسيلة تُستخدم بنجاح في تَنويم المجانيين.
وجدير بنا أن نشير هنا إلى ما يُحدثه التعب من ضعف في الجسم، وبخاصة إذا صحبه الأرق. إن كلا العاملَين يُهيئ الجسم للإصابة بالمرض؛ لأنه يقلِّل مقاومته لجراثيم الأمراض، ومن مظاهر التعب العضلي-العصبي في التلاميذ سوء خطِّهم، وقد قرأ الدكتور ديك أكلند١٣ من بضع سنين بحثًا في اجتماع الجمعية البريطانية، شرح فيه سوء الأثر الذي يحدثه النوم في خط تلاميذ المدارس، وعرض في هذا البحث نماذج من خط التلاميذ، بعضها كُتِبَ في فترة لم يأخذوا قبلها قِسطًا كافيًا من النوم، وكان موضع نومهم شديد الجلبة، وبعضها كُتِبَ بعد ست ليالٍ ناموا في كل منها عشر ساعات، وقد ظهر تحسُّن ملحوظ في خط التلاميذ بعد نوم لا يزيد على سبع ساعات وثلاثة أرباع الساعة في الليلة، بشرط أن يكون هذا النوم في مكان ساكن.

وكلنا يعرف أن في مقدور بعض الناس أن يَستيقظوا من نومهم في الوقت الذين يرغبون أن يستيقظوا فيه؛ فهم يحددون ساعة ما يَستيقظون فيها ثمَّ يستيقظون في هذه الساعة نفسها، وليس الوصول إلى هذه القدرة على تقدير الزمن مع فقد الإدراك بالأمر الصعب، بل هو أمر في غاية السهولة، ولسنا نحب أن نجزم بتفسير معين لهذه الظاهرة، ولكنا نقول أن بعضهم يفسِّرُ هذه القدرة بأنها مظهر من مظاهر عمل العقل الباطن أو النِّصف الواعي، وهذا يتطلب الافتراض أن العقل الباطن يستطيع أن يحسب ما يمر من الزمن، ولما كانت معلوماتنا اليقينية عن العقل الباطن قليلة جدًّا، فإنا نَستسمِح القارئ إذا لجأنا إلى تشبيه سهل نشرح له به هذه المسألة؛ فالعقل الباطن في هذه الحالة شبيه بساعة منبِّهة يُدار لَولبها قصدًا لتُملأ، وتُضبَط لكي تدق في وقت معين، وتظل عدتها «دائرة» حتى تَنطلق في هذا الوقت المحدد.

وثمَّة مسألة أخرى جديرة بالذكر؛ وهي أننا نسمع من حين إلى حين عن أشخاص — وهم عادة من النساء صغيرات السن — يَنامون فترات طويلة من الزمن، والناس يسمُّون هذه الحالة غيبوبة أو غشية، وهي من حيث وظائف الأعضاء ذات صِلة بنوم الشتاء عند بعض الحيوانات، والكلمة الإنجليزية Trance مشتقة من أصل لاتيني حديث معناه الانتقال، وهو تعبير شعريٌّ عن الموت.
وثمَّة نوع من السُّبات شديدٌ يُعرَف بالسُّبات المستغرق Coma، واسمه الإنجليزي مُشتق من اللفظ اليوناني Koimoa، ومعناه الهَدهدة للنوم. ومِن الناس من يظنُّون أنهم ينامون أطول مما يجب، وأن هذا النوم قد يضرُّ بأعصابهم، ولكنَّ الحالات التي يطول فيها النوم حتى يضرَّ بالجهاز العصبي جد نادرة؛ ذلك أن مشاغل الحياة الحاضرة وما فيها من أسباب القلق لا تسمَح لمعظم الناس بأن يناموا من الوقت أكثر مما يلزمهم. إن النوم يسدُّ حاجة من حاجات الجسم، وهو في أغلب الأحيان نتيجة انخفاض ضغط الدم، وأكثر الناس يُرحِّبون به لأنه يُنجيهم من متاعب الحياة اليومية ومشاغلها، غير أنه إذا كان في الناس من هُم شديدو الحرص على أن يظلُّوا يقظين، فإنَّا نذكِّرهم بالمثل الإسباني الذي يقول: «من كان ينام أطول مما يجب، فليَستعِرْ وسادة مَدين.»١٤
والنوم مظهَر خارجي لعدة حالاتٍ من اضطراب الجسم، ولكنَّ اللفظ يُستعمَل أحيانًا في حالتين شهيرتين من حالات المرض. أما أولاهما فهي «مرض النوم»؛ وهو مِن الأمراض المُستوطنة الخاصة بقارة أفريقية، وينشأ من وجود كائن حيواني دقيق في النوم، والنوم الناشئ من هذا المرض يكون نومًا طويلًا عميقًا. على أن هناك مرضًا آخر وهو الميل إلى النوم ينتج من تسمُّم المخِّ بفعل مكروب نباتي، وهو يُصيب الأجزاء العليا من أعضاء الإدراك، ويسبِّب حالةً من الترهُّل والخمول العقلي١٥ وكثيرًا ما يجد الشُّبَّان الذين يُشفون من هذا المرض أنَّ حالتهم العقلية والخلقية قد تدهورت تدهورًا ظاهرًا.

بقيَ علينا أن نقول كلمة قصيرة عن نوع آخر مِن النوم كان اليونان والرومان يسمُّونه «نوم الحضانة» أو «نوم المعابد»، وكان هذا النوم يُمارَس في بلاد اليونان وإيطاليا القديمتَين، فكان يؤتى بالمريض مُرتديًا ملابس بيضاء، وينوَّم في داخل أسوار المعبد، وكثيرًا ما كان يُستعان على ذلك بجرعة تُنيِّمه نومًا يتعرض فيه للأحلام، فإذا استيقظ في الصباح وقصَّ أحلامه إن كان قد رأى شيئًا منها فسَّرها له كاهن المعبد تفسيرًا يشير فيه إلى ما يجب عليه أن يتَّبِعَه من أنواع العلاج.

١  وُلِدَ الدكتور فريد ريخ أنطون مسمر في سنة ١٧٣٣ في مدينة «فايل Weil» بسويسرا، وكانت وفاته ١٨١٥. وهو طبيب نمساوي، درس الطب في فينا على أيدي مشاهير الأطباء، وأُولع منذ صباه بعلم الفلك، وكان يعتقد أن للنجوم تأثيرًا في الكائنات الحية في الأرض بواسطة الكهربائية، ثمَّ عزا ذلك التأثير فيما بعد إلى قوة المغنطيسية، وكان يرى أن المرضى يمكن إبراؤهم بلمس مكان الداء بالمغنطيس، وقد وضع كتابًا في ذلك سنة ١٧٦٦. على أنه الْتقى في سويسرا في سنة ١٧٧٦ بالراهب جاسنر، ولاحَظ عليه أنه يشفي المرضى بسلسلة حركات جثمانية، وهنا اطَّرح «مسمر» مبدأ المغنطيسية ظهريًّا، وبدأ يتوهَّم أن في جسمه قوة خفية كامنة يستطيع التأثير بها في غيره من الناس، وأن هذه القوة شائعة في الكون، وأنها تؤثِّر بصفة خاصة في الجهاز العصبي للإنسان، وفي سنة ١٧٧٨ انتقل مسمر إلى باريس، وسرعان ما أخذ سُكَّانها يتندَّرون بالأعمال المغنطيسية الباهرة التي يقوم بها، وكان طبيعيًّا أن يثير نشاطه عاصفة غضب في الدوائر الطبية التي وصفتْه بأنه أفَّاق، ولكن الجماهير ظلَّت تحيطه بهالة من الإعجاب إلى أن تدخلت الحكومة وعرضت عليه مبلغ ٢٠٠٠٠ فرنك في مقابل إذاعة أسرار أعماله المغنطيسية. وكانت «عيادته» في شبه ظلام، وقد عُلِّقت المرايا على جدرانها، بينما كانت نغمات الموسيقى تنبعث بين لحظة وأخرى حول جفنة كبيرة تُطهى فيها مختلف المساحيق الكيميائية، حتى إذا طال بالمرضى الانتظار شرع مسمر يتجول بينهم في ثوب السحَرة، وأخذ يلمس أحدهم بإصبعه، ويشمل غيره بنظرة، ويشير إلى الثالث بيده، وهكذا دواليك، وكثيرًا ما كان الصرع يَستولي على السيدات العصبيات، أو يُصاب الرجال بخفقان القلب، مما حمل الحكومة على تعيين لجنة من الأطباء ورجال مجمع العلوم للتحقيق في الظواهر التي يأتي بها مسمر، وقد وضعت اللجنة تقريرًا سلَّمت فيه بكثير من آرائه، ولكنها عارضت ما يدَّعيه مسمر من وجود وسيط يُدعى المغنطيسية الحيوانية، وعلَّلت التأثيرات التي شاهدتها بعِلَل فسيولوجية. ولم يكن هناك شكٌّ في أن مسمر كان رجلًا غامضًا، ولكنه كان أمينًا في اعتقاده بأنَّ ما يأتيه من التأثيرات كان حقيقة لا ريب فيه. على أنه ما لبث أن خاب رأيُ الناس فيه واتَّهموه بالنصب، فغادر باريس، وأدركته الوفاة في سويسرا سنة ١٨١٥ تاركًا خلفه عددًا كبيرًا من التلاميذ، وفي طليعتهم الماركيز دي بوسيجور.
٢  جيمس بريد James Braid ١٧٩٥–١٨٦٠: طبيب وكاتب أسكتلندي، اشتهر بأبحاثه في النوم المغنطيسي، وقد سمَّاه أوَّلًا «النوم العصبي» Neuohypnotism.
٣  Utopia تأليف Thomas More.
٤  سفر الجامعة ٥: ١٢.
٥  إحدى روايات شيكسبير.
٦  سير فلب جبس Sir Fhilip Gihbs، وُلِدَ في عام ١٨٧٧، وهو صحفي معروف، اشتغل بالصحافة من عام ١٩٠٢، وكان مُحرِّرًا أدبيًّا للديلي ميل Daily Mail والديلي كرنكل Daily Chronicle ثمَّ أصبح مراسِلًا خاصًّا لعدة صحف، ومراسِلًا حربيًّا مع جيوش الحلفاء في الحرب الأوربية الأولى: ١٩١٤–١٩١٨.
٧  تومس دكونسي Thomas de Quincy ١٧٨٥–١٨٥٩: كاتب إنجليزي معروف، من مشهوري كُتَّاب المقالة الأدبية، درس في أكسفرد، ولكنه لم يُتمَّ تعليمه. وقد أُولع بالأفيون ولعًا شديدًا، وتملكته هذه العادة حتى استطاع في آخر أيامه أن يتعاطى منه مقدار يبلغ ٣٤٠ حبة في اليوم، ثمَّ أعجزه الأفيون عن مواصلة الأعمال الأدبية. وقد نشر في عام ١٨٢١ كتابه المشهور «اعترافات آكل أفيون إنجليزي»، وكان سببًا في شهرته.
٨  رد يرد كبلنج: وُلِدَ في سنة ١٨٦٥، ومات في أثناء الحرب، من وقت قريب. وهو شاعر ومؤلف معروف، نال جائزة نوبل في الأدب عام ١٩٠٧، وقد كتب Stalky & Co في عام ١٨٩٩. ومن قصائده المعروفة «الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيَ الاثنان أبدًا.»
٩  سم نباتي من فصيلة الجوز المقيء.
١٠  المتصل بالأوعية الدموية.
١١  وليم هارفي William Harvey، ١٥٧٨–١٦٥٧: طبيب وعالم في التشريح ووظائف الأعضاء، تعلم في كمبردج وتخرَّج فيها عام ١٦٠٢، وهو كاشف الدورة الدموية، وأعظم ما كتب رسالته عن حركة القلب والدم في سنة ١٦٢٨.
١٢  شريانان في العنق، واسمهما الإنجليزي مشتق من كلمة كاروس Caros اليونانية، ومعناها النوم العميق.
١٣  الدكتور تيودور ديك أكلند Dr Theodore Dyke Acland، ١٨٥١: من كبار الأطباء الإنجليز، أُرسِلَ لمكافحة الكلرا في مصر سنة ١٨٨٣، وخدم مع الجيش المصري، وكان مُمتحِنًا في مدرسة الطب عام ١٩٠٦، ومُنِحَ النيشان المجيدي من الحكومة العثمانية.
١٤  أو بالمثل العربي القائل: «الدَّين همٌّ بالليل وذُلٌّ بالنهار». (المترجم)
١٥  يعبَّر عن هذه الحالة من الخمول في الإنجليزية بلفظ Lerhargy، وفي اشتقاق هذا اللفظ كثيرٌ من الطرافة؛ فهو مشتَقٌّ من لفظ Lethe اليوناني وهو نهر النسيان في العالم السُّفلي، والشخص المُصاب بهذا المرض يكون كأنه قطعة من الخشب غافل عن كل ما يَحدث حوله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤