الفصل الرابع

مُستقبل النوم

قد يكون فُقدان الوعي في بعض الأحوال من أسباب السعادة، كما يكون الجهل من أسبابها، وليس غريبًا أن يُعدَّ النوم من ضروب «الرياضة» البدنية المنشِّطة للجسم؛ كلعب الكرة أو الصيد أو ركوب الخيل.

ولا أقلَّ من أن يعترفَ الناس في مستقبل الأزمان بأن النوم وظيفة من وظائف الجسم اللازمة له لزوم التنفُّس والأكل والشرب والإفراز. ولقد كان حقُّ الإنسان في أن يأكل ويشرب — أي في أن يعيش — من الحقوق التي يَعترف بها الناس في جميع العصور، وتُقرُّها الشرائع حتى أكثرها عيوبًا وأقلها رُقيًّا؛ ولذلك يرأف القضاة بالشخص الذي يَسرق الطعام إذا كان جائعًا، أو إذا كان أبناؤه وزوجه جياعًا.

وسيرى الناس في المستقبل أنَّ النوم خليق بأن يكون من موضوعات الصحة التي يُشرع لها كما يشرع للطعام والشراب والمجاري. ولن يجادل إنسان قط في أن من حق أطفال الأسر جميعًا على اختلاف طبقاتها أن يتمتَّعوا بالراحة المتصلة الكاملة، ولأطباء معهد سنت أندرو St. Andrew ملاحظات طريفة في هذا الموضوع وردَت في تقريرهم السنوي الخامس؛ فقد قالوا: «إنَّ بعض الأطفال الذين ينشئون في بيئة صاخبة مُضطربة لا يَنمون نموًّا حسنًا على الرغم مما يُبذل في تنظيم غذائهم من العناية الفائقة، فإذا نُقل هؤلاء الأطفال إلى أوساط هادئة مريحة ظهر التحسن في صحتهم على الفور.»

وسوف يكون إزعاج الأطفال من نومهم في مدن المُستقبَل من الأعمال التي لا يتصوَّرها العقل، وسيُعَدُّ الأرق من الظواهر الصحية الخطيرة التي تستوجب العناية؛ كالربو وسوء الهضم والإمساك. وسوف يعترف الناس عامة بأن من حق كل كبير أن يَقضيَ ثماني ساعات في كل ليلة في نوم هادئ مريح، وأن هذا الحق مقدَّس كحقِّ الحياة؛ ذلك أن النوم ليس ميزة يختصُّ به القليلون، بل هو ضرورة جسمية واجبة للناس أجمعين؛ ومن أجل ذلك تراه يتغلَّب على الإنسان على الرغم من كل شيء، على الرغم من الجوع والبؤس وأمر الملوك، والاعتقاد الجازم بأنه سيُشنق في صباح اليوم التالي، وإذا كانت القوانين العسكرية تعدُّ نوم الجندي المتولي الحراسة في نوبتِه جريمةً كبرى يستحقُّ عليها الإعدام، فإن النوم لا يعبأ بالأوامر، ويهزأ بالتقاليد وبالعُرف كما «يهزأ الحب بالأقفال والمفاتيح.»

وستنشأ المدن المستقبلة المصمَّمة تصميمًا علميًّا؛ بحيث تكون المستشفيات ودور التمريض متجاورة حتى يُستطاع وقايتها من الجلبة، وسيُراعي ولاة الأمور في هذه المدن أن تمكِّن المرضى من النوم في أي وقت يَشاءون بالليل أو بالنهار، وأن تُمكَّن المُمرِّضات اللاتي يَعملن بالليل من أن ينمْنَ نومًا هادئًا في أثناء النهار، وستُصمَّم المدينة كلها بحيث تطلُّ حجر النوم في البيوت على أماكن هادئة، ولن يكون ذلك من قبيل المصادفات، بل سيعمد إليه عند قصد وتدبير. لقد كان المهندسون الذين يخططون المدن حتى الآن لا يؤمنون بأن النوم ضرورة لازمة للحياة، بل كانوا فيما يبدو يرونه من أسباب الترف، ومن أجل هذا ترانا في هذه الأيام ننام حين نستطيع النوم وحيث نستطيعه، ويكون نومنا عادةً في وسط الجلبة الناشئة من الأصوات المختلفة الأنواع؛ ولذلك نختطف النوم اختطافًا كأنما هو من الفُرَص النادرة أو من الأشياء المحرَّمة.

نرى المَركبات في شوارع المدن تُخرج من الأصوات أعلاها وأنكرها، كأنها وحوشُ ما قبل التاريخ تَلفِظ آخر أنفاسها. وترى حجرات النوم المطلَّة على الشوارع الرئيسية في المدن الكبيرة كأن فيها فرقة موسيقية ليلية، وإنَّ أجراس الكنائس في الصباح الباكر لتُعدُّ أنغامًا شجية إذا قيسَت بهذه الأصوات المزعجة التي تفرض علينا حضارتنا سماعها في كل ساعة من ساعات الليل، وإذا جاءت أيام الآحاد دُقَّت هذه الأجراس فأذكرتْنا دقَّاتها العنيفة بأن قرعها قد نشأ في الأصل من رغبة الناس في طرد الشياطين، وما من شك في أنهم لم يُفلحوا في تحقيق غرضهم هذا. وإذا جنَّ الليل زادت المركبات الثقيلة حجمًا وثِقلًا، فترى مركبات نقل الأثاث رائحةً غاديةً في الطرقات تُزعج النائمين وتهزُّ البيوت هزًّا، وترى القاطرات البخارية بصورتها القبيحة البدائية تخترق المدن وهي تجر عرباتٍ لا تقلُّ عنها قُبحًا وسذاجةً مشحونة بكل ما يتصوره العقل من أمتعة، وكأنَّ صانعيها يَعتقدون أنها تَعظُم فائدتها كلما زاد ثقلها.

وفي الصباح الباكر يوقظ الإنسانَ من نومه بائعو الصحف وهم يردِّدون بأصوات منكَرة شيئًا عن سباق الجياد أو حوادث القتل، أو ما شابهها من الأخبار التي في وسعنا أن نُرجئ سماعها حتى تبدأ متاعب اليوم الجديد. هذا في الأحياء الراقية، أما في الأحياء الأقل منها رُقيًّا فترى بائعي الفاكهة والسمَك وخشب الحريق على عربات اليد يُنادون على سلعهم بأصوات تكفي لإلفات نظرنا إلى معرض ماسة كوهي-نور،١ وليس في وسع الإنسان أن يتبيَّن — لو أراد — ماذا يقول هؤلاء أو ماذا يَبيعون، أهو سمك أم لحم أم سردين؟

أضِف إلى هذا كله صفير القاطرات والبواخر كأنَّ هذه الجمادات قد دبَّت فيها الحياة فجأةً فأزعجها ما فيها من هول، وإذا نجا الإنسان من هذا كله — وهو قلما ينجو منه — فكثيرًا ما يسمع جيرانه في الحُجرة المُجاورة له والتي لا يفصلها عن حجرته إلا حاجز رقيق، يسمع هؤلاء يضربون على البيان أو يغنُّون على نغمات الكمان أو غيره من الآلات، أو تراهم يُديرون أقراص الحاكي ليضايقوا به كل من لا يستطيع لبُعده عنهم أن يتبيَّن ألفاظه بوضوح، وإذا فرغت أسطوانة الحاكي أزعجتك مِن مذياع قريب أصوات لا تستطيع لها ردًّا. وعلى ذِكر الحاكي نقول: إنَّ بلادنا التي تنقصها الحاسة الموسيقية قد حُرِمت في هذه الأيام من سماع الموسيقى الشجية التي كان يُطربنا بها في ماضي الأيام الألمان المنفيُّون من بلادهم، أو الإيطاليُّون الذين كانوا يأتون إلى هذه الديار ويطوفون بشوارعنا في صُحبتهم القِرَدة وآلات العزف.

ثمَّ تمرُّ ساعات الليل وتبدأ الخلائق النِّيام هي الأخرى موسيقاها؛ ففي الريف «الهادئ» تنبح الكلاب نباحًا متواصِلًا، وفي المدن تَقتَتِل القطط قتالًا لا يتناسب قَطُّ مع أسباب النزاع، أو لعلَّها لا تتقاتل ولكن أصواتها لا تفترق قَطُّ عن أصوات القتال.

وفي الصباح الباكر تنطلق صفارات المَصانع وتنتهي وقتئذٍ ساعات الأرق الطويل، وإذا لم تسمع صياح الديك فما ذلك إلا لأن هذه الطيور لا وجود لها في المكان الذي أنت فيه، ثمَّ يأتي بائع اللبن المرح يُصفِّر وهو سائر في طريقه.

ولا بُد أن يذكِّرنا هذا كله بالكاتب الكبير تومس كارليل٢ وهو يُحاول أن يتَّقي أذى دجاج جيرانه ببناء جدران مُزدوجة لداره، ولو أنَّ عِلم كارليل بطبيعة الصوت كان في قوة الأصوات التي يريد اتِّقاءها، لعَرف أن الفضاء الممتلئ بالهواء خير موصِّل للأصوات. ولقد أثبت الأستاذ زوارد ميكر Zwaardmaker من علماء مدينة «أترخت» Utrecht أنَّ في وسع الإنسان أن يُنشئ حجرةً لا تَنفذ إليها الأصوات إلى حدٍّ تسمَع فيها دقات القلب نفسها.
ولقد كانت مدينة برلين في يوم من الأيام مثلًا أعلى للأماكن التي يَحرص فيها ولاة أمورها أشد الحرص على أن يضمَنوا لسُكانها الهدوء التام في أثناء الليل، وكان رجال الشرطة فيها يَقبضون على كل من يَصرُخ أو يغنِّي أو يصفِّر في شوارعها بعد الساعة الحادية عشر مساءً.٣ لكن يُخيَّل إلينا أن هذه الشدة قد تراخت بعض الشيء، على أنَّ مظهر الهدوء الذي يبدو على المدن الألمانية ليلًا رغم هذا التراخي مما يصحُّ أن يكون نموذجًا تنسبح على منواله المدن الكبرى في هذه البلاد.

وما من شك لدينا في أنَّ قوانين للنوم ستُوضع في المستقبل القريب شبيهةً بالقوانين التي سُنَّت في أيامنا الحاضرة لضَمان الهواء النقيِّ، والطعام الصحي، والمجاري الوافية بالغرض، وسينصُّ في هذه الشرائع الصحية الجديدة على أنَّ الأصوات لا تقلُّ خطرًا على الصحة العامة من الصناعات المضرَّة بالصحة والمقلقة للراحة، وستعترف وزارات الصحة في المستقبل القريب بما للنوم من أثر كبير في الصحة العامة، وسترى الرجال والنساء في معامل الصحة في المستقبل يَبحثون في النوم من الناحيتَين الجسمية والنفسية، وفي طبيعة السموم الناشئة من التعب، وفي أسباب الأرق، وسيكون مما يعني به هؤلاء الباحثون ما للحَشايا الهزَّازة التي أشرنا إليها قبل من أثر في إحداث النوم والأسباب التي تُحدث هذا الأثر. وإذا كان سبب الأرق هو ضيق التنفُّس الناشئ من التهاب المجاري التنفُّسية، فسيكون من طرق علاجه إدخال الهواء النقيِّ الخالي من الغبار ومن الروائح إلى أماكن للنوم تنشأ لهذا الغرض خاصة.

ومما يُحزن الإنسان حقًّا أن يضطرَّ ساكن في شارع عظيم كشارع سانت جيمس في لندن، وهو الذي تُقيم فيه طائفة كبيرة ممن يعملون بعقولهم، إلى الخروج من مسكنه في الليل يَستدعي شرطيًّا؛ للقبض على موسيقي جوَّال يُقلق راحته بالضرب على معزفه. إن الواجب والمعقول إذا وُجد جماعة من الناس يُحدثون أصواتٍ منكرة بالعزف على ما يسمُّونه آلات موسيقية ألا يُضطرَّ مَن يُقلق هؤلاء راحتهم إلى الدفاع عن أنفسهم ومقاضاة أولئك المقلقين لراحتهم، أو على الأقل ألا يكون من واجبهم أن يَذهبوا بأنفسهم إلى مراكز الشرطة لشكايتهم، بل يجب أن يتَّسع القانون المدني حتى يشملَ الجرائم التي تقع على الأسماع، وما من شكٍّ في أن رجال الشرطة في المستقبل سيكون لهم من السلطة ما يمكِّنهم من النظر في مثل هذه الحالات. وما قلناه عن حي سانت جيمس يَصدُق كله على أحياء كثيرة راقية يُسمُّونها خطأً الأحياء «الهادئة»، وهي أحياء إذا غنَّى فيها شخص واحد استطاع أن يُقلِقَ راحة ميدان بأكمله تُحاول فيه مربية أن تنيِّم طفلها المضطرب، أو تَنشُد فيه سيدة مرهقة بعملها في النهار بعض الراحة، أو يتقلَّب فيه مريض على جنبيه يطلب النوم ساعة أو بعض ساعة، أو يحاول فيه عالم أو كاتب أن يُدوِّن عصارة ذهنه على الورق.

وسيعجب سكان المدن في المستقبل من هذه الأمور، ويعدُّونها أمثلةً لما كان يسمح به عصر السذاجة والضوضاء.

وفي تلك الأيام المُقبلة سيَنشُد الناس الهدوء ويَستمتعون براحة الأسماع، وسوف لا يَنظرون إلى الجلبة والضجيج على أنهما من الأمور التي لا ضرورة لها فحسب، بل سيعدُّونهما من الأقذار التي تؤذي المسامع، وسوف يشمئزُّ الناس في الأيام المقبلة من هذه الأقذار السمعية كما يشمئزُّون الآن من المَناظر الكريهة، ويحتجُّون عليها بأقوى ما يستطيعون، وستكون الأصوات المُنكَرة المُزعِجة محرَّمة في مدن المستقبل، كتحريم المناظر الكريهة سواء بسواء.

ولقد قال الأستاذ إسبونر٤ من وقت قريب في محاضرة عامة له عن «الأصوات التي يمكِّن اتِّقاؤها والمفكِّرين»: «إن الجلبة المستمرَّة مُتعبة حتى لِمَن يَعتقدون أنهم تعوَّدوها.» وقد أشار في خطابه هذا إلى الموسيقى ذات الأصوات العالية المعروفة «بالجاز» التي لا تستكُّ منها مسامعنا حيث يرقص الناس فحسب، بل وحيث يأكلون أيضًا، وكان مما قاله: إنه يحب أن يتحدَّث في المطعم إلى أصدقائه، ولكنه كثيرًا ما يجد هذا مُستحيلًا.

وأشار المحاضر أيضًا إلى ما يحدث من تحطيم أرضِ الشوارع في الليل، وإلى انحطاط قيمة المساكن في بعض أحياء المدينة حين تُصبح كثيرةَ الجلبة لسبب من الأسباب، تلك كلُّها أمور لن يكون لها في مُستقبَل الأيام وجود. وستكون المطاعم في المستقبل بحيث لا يضطر أحد فيها إلى استنشاق دخان غيره، ولا إلى سماع أصوات غيره، ولن تُحطَّم أرض الشوارع بأصوات مُزعِجة؛ لأنَّ القائمين عليها سيُعنون قبل وصفها بشئون الغد الصحية، وستنشأ وفقًا للأصول الهندسية المَرعية.

ومن الأمور التي سيُعنى بدراستها دراسة خاصَّة العلاقة المزعومة بين النوم والغدة الدرقية.٥ وقد يكون فيما ثبَت من صور هذه الغدة أثناء النوم عند الحيوانات التي تنام في الشتاء مفتاحًا للبحث المُجدي.
وسيكون موضوع الاهتلاس الذي يَحدث في فترةٍ ما بين النوم واليقظة — وهو الذي يسمُّونه الاهتلاس النَّومي، والذي كتب عنه كثيرًا العالم الفرنسي الدكتور لوري Lory — سيكون هذا الموضوع من الموضوعات التي يُعنى علماء النفس بدراستها، وستُبحَث الأحلام بحثًا مُنظَّمًا على أيدي علماء النفس وعلماء وظائف الأعضاء، وسيتَّسعُ نِطاق طريق موري Maury التجريبية فيُلقى بهذه ضوء قوي جديد على أسباب الأحلام من الناحية الجثمانية، وستَلقى الناحية النفسية من هذه المشكلة عناية منظَّمة من العلماء الإخصائيين؛ لأنَّ أكثر ما تلقاه الآن من عناية هي عناية الهُواة، ونخصُّ بالذكر منهم الدكتور ج. و. دن J. W. Dunne وهو يَذكر في كتابه تجربة مع الزمن An Experiment with Time شواهدَ كثيرةً على أن ما تحتويه بعض الأحلام هو حوادث ليست من «تجارب» الحالم الماضية، بل هي حوادث لا تَزال في طيِّ المستقبل.
وسينظر إلى الأحلام على أنها اهتلاسات أشخاص أصحَّاء العقول نائمين، وستُبحث على هذا الأساس بحثًا مُجديًا، وستَلقى أيضًا تلك الطائفة الأخرى من الأحلام التي يزعمون أنها لقحية٦ ما هي جديرة به من البحث النقدي الدقيق، وسيُسفِر هذا البحث عن وضع نظرية للأحلام أصح من النظريات المعروفة في هذه الأيام، وسيُعني بنوع خاص بدراسة الفروض التي يقول بها فرويد عن منشأ الأحلام ومعناها وبيان ما فيها من خطأ أو صواب، وسيُحاول هؤلاء الدارسون في المستقبل تعرُّف العلاقة — إن كان ثمة علاقة — بين الأحلام والشخصية، كما تظهر في ساعات اليقظة المُدرِكة أو فيما يسمُّونه شبه اليقظة.

وسيُطلب إلى من يأخذون بنظريات فرويد أن يُبرهِنوا على صحتها بالدليل القاطع، وسيُدعَى الإخصائيُّون في الأعصاب وفي الأمراض العقلية وفي علم الإجرام إلى التعاون مع علماء النفس ليطمئنَّ الأطباء إلى قيمة النظريات المتصلة باسم سجمند فرويد، وليطمئنَّ معهم الجمهور أيضًا.

وفي وسعنا أن نَعدَّ الأبحاث التي أخرجت في الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الموضوع مثلًا لما يجب أن يكون في المستقبل؛ فقد تقدَّمت جماعات من الرجال والنساء في جامعتي برنجتن وجون هبكنز John Hopkins، وفي معهد ملن Mellen الخاص بالأبحاث الصناعية، لتَجري عليها التجارب الخاصة بقياس عمق النوم وآثار الأرق الطويل، وقد صُنِع لهذا الغرض سرير خاص رُكِّبَت به مرجفة (آلة لقياس الرجفات التي تُقاس بها الزلازل)، تُسجِّل ما يحدثه النائم من رجفات، ولقد تبين أن فترات الأرق التي يستطيع الشخص أن يَتحمَّلها تختلف من أربعين ساعة إلى خمس عشرة ومائة ساعة، واستُخدِمت في هذه التجارب الاختبارات الكثيرة المختلفة، التي يعرفها العاملون في معامل الأبحاث النفسية، لتقاس بها درجة الانتباه الذهني، وقد أثمرت هذه الأبحاث عن طائفة كبيرة من التفاصيل الفسيولوجية تدلُّ على الطريقة التي يؤثِّر بها في الجسم الحرمانُ من النوم، وتُظهر بوضوح ما يُحدثه التعب من آثار سيئة في المخ، ومما قاله أحد الكُتَّاب: «إن الحقائق تظهر على لسان المُتعَب كما تظهر على لسان المخمور.»

والفقرة الآتية جديرة بأن تُقرأ بعناية: يُطلَب من رجال الشرطة الأمريكية أن يقوموا هم أنفسهم بتجارب يَعرفون بها ما ينشأ من اضطراب في سلوك من يتعرَّضون للتعب الشديد والأرق الطويل؛ وذلك بأن يُبقوا الشخص الذي تُجرى التجارب عليه مُستيقظًا، ويُغمر بسيل دائم من الأسئلة زمنًا طويلًا نسبيًّا، ورأيهم في هذا أن الإصرار على سلوك خطة معينة سلوكًا مُصطنعًا لا يطول كما يطول السلوك الأصيل. وكما أن المُجرمين الذين يُعذَّبون يعترفون بجرائم لم يَرتكبوها لينجوا بذلك من التعذيب، ولو أدَّى هذا الاعتراف إلى القتل شنقًا أو حرقًا، فكذلك يظنُّ أن طول الحرمان من النوم والأسئلة المستمرَّة تجعلان المُجرِم المشتبه فيه يقرُّ بكل شيء ليُخلَّى بينه وبين النوم. ويقول زميل لي تعرَّض هو نفسه إلى عدة فترات من الأرق التجريبي: إنَّ ما لاقاه من عناء بسبب هذا الأرق لا يمكن وصفه، وإن خوفه من أن تُجرى عليه تجارب من هذا النوع في المستقبل لا يعدله خوفه من الآلام الجسمية على اختلاف أنواعها.

١  كوهي-نور Koohi-Noor أكبر ماسة في التاج البريطاني، كانت زنتها في الأصل قيراطًا، ولكنها قُطِعَت بعد ذلك فأصبحت تزن ١٠٦ قيراطًا.
٢  تومس كارليل Tomas Carlyle، ١٧٩٥–١٨٨١: الكاتب الأسكتلندي الشهير، تخرج من جامعة إدنبره واختير مديرًا لها في عام ١٨٧٤، ودرس الرياضيات ولكنه اشتغل بالأدب. وقد أثَّرت دراسته الألمانية في أسلوبه الإنجليزي، ومن أهمِّ ما كتب كتابُه عن الثورة الفرنسية، وكتابه عن أبطال العالم، وعبادة الأبطال، وتاريخ فردرك الأكبر.
٣  كُتب هذا الكتاب في عام ١٩٢٨، فهو يشير بطبيعة الحال إلى وقت كتابته.
٤  أسبونر Spooner، ١٨٠٩–١٨٥٩: مؤلف أمريكيٌّ، أهمُّ ما كتبه سِيَر المصوِّرين والحفارين والمثالين والمهندسين المعماريين ونَقدهم سنة ١٨٥٣.
٥  غدة صماء أمام الجزء العلوي من القصبة، يُقال إنَّ لها إفرازًا ذا تأثير في استحالة الغذاء وإساغته.
٦  الأحلام اللقحية هي التي تَنتقل فيها الأفكار من مُخِّ إنسان إلى مخ إنسان آخر بعيد عنه أو قريب منه. انظر هذا البحث في كتاب «الحاسة السادسة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤