الشكوى

قلت: لمن أشكو وأحتكم؟ قالوا: للإمام؛ فهو حاكمنا. قلت: هل أشكو منه إليه؟ قالوا: كلنا نشكو منه إليه، والشكوى لغير الله مذلَّة. وطويت الشكوى في صدري لا يراها أحد. لمحتني عيون الإمام، وكانت عيونه في كل مكان. قالوا: ماذا تُخبئين في صدرك؟ قلت: لا شيء. وفتحوا صدري ووجدوا الشكوى مطوية، وفوقها الحروف بخط يدي. أطبقوا عليها أصابعهم وقالوا: وجدنا الدليل المادي على الجريمة الكبرى، فكيف تكتبين فوق الورق بخط يدك شكوى ضد الله؟ قلت: إنها شكوى ضد الإمام. قالوا: ألا تعرفين أن الإمام هو خليفة الله في الأرض، وما هو ضد الإمام يكون ضد الله. قلت: لا أعرف. قالوا: كيف لا تعرفين؟ ألا تقرئين الصحف؟ ألا تعيشين في هذه الدنيا؟ قلت: لا أقرأ الصحف ولا أعيش في دنياكم. قالوا: هذه جريمةٌ أخرى وبدعةٌ جديدة، ومن أبدعت فينا ما ليس فينا فهي شر وفتنة، والفتنة أشد من القتل.

نطق القاضي الحكم بالإعدام، وجرائهما ثلاث؛ الفتنة والعار والكفر. وقبل تنفيذ الحكم والصلاة على روحها الغائبة، قالوا بصوتٍ حنون: ماذا تريدين قبل أن تودِّعي هذه الدنيا؟ قالت: أريد محاكمةً علنية ومُحاميًا شرعيًّا. قالوا: عندنا مُعارض شرعي، ولم نسمع عن مُحامٍ شرعي.

وذهبوا وعادوا وفي أيديهم المُعارض الشرعي. وقف أمامها ورأسه ملفوف بعمامةٍ بيضاء، دليل الولاء للعدل، ونجمةٌ حمراء فوق الصدر، الشعار الرسمي لحزب الشيطان. وقال بصوتٍ رخيم: أفندم؟ قالت: أنا بريئة بغير ذنب، وبغير أم وبغير أب و… وقاطعها باضطراب: بغير أب؟ قالت: نعم. قال: هذا بلاءٌ من عند الله، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. أتعرفين هذه الآية؟ لا أعرفها. قال باندهاش: إنها آيةٌ مشهورة جدًّا، الآية الخامسة والثلاثون من سورة الأنبياء، ألا تعرفينها؟ قلت: لا أعرفها. قال: جهلك بهذه الآية إثمٌ كبير، وعليك حفظ الآية عن ظهر قلب قبل الموت لتدخلي الجنة بدل النار.

وضع يده في جيب سرواله الغالي من أجود الأنواع، وأخرج ورقةً وقلمًا له غطاء من الذهب. أمسك القلم بأطراف أنامله الناعمة كأنامل الزوجات الشرعيات، وكتب بخط يده على الورقة حروفًا دقيقةً سوداء: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. وأغلق القلم بالغطاء الذهبي ولفَّه ثلاث مرات، ثم وضعه في جيب سرواله الغالي، وخرجت أنامله الخمسة من جيب السروال ناعمةً بيضاء من غير سوء، وقال بصوتٍ رخيم: ردِّدي هذه الآية ثلاث مرات في اليوم قبل الأكل وبعده، وفي اليوم الثالث تجدين نفسك في الجنة بإذن الله.

أمسكت الورقة بأصابعها كالطفلة تُمسك قشة في مهب الريح، وحفظت الآية عن ظهر قلب تردِّدها الليل والنهار. ومن الشق كالثقب في الباب رأتهم يحفرون لها الحفرة في الأرض، وربطوها بالحبال وهي تردِّد: «ونبلوكم بالخير والشر فتنة.» وسمعتها آذان الإمام، وكانت له آذان في كل مكان، وقال غاضبًا: حتى كلام الله تُخطئين في تلاوته؟ قلت: ما الخطأ وهي آية في القرآن؟ قال: كل الأخطاء مغفورة إلا الخطأ في كلام الله؛ فهذه إحدى الكبائر. قلت: وما هو الخطأ في الآية؟ قال: ألا تعرفين الآية الصحيحة؟ قلت: لا أعرفها. قال: الآية الصحيحة هي: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. وأنت تعكسين الآية وتقولين: «ونبلوكم بالخير والشر فتنة.» وهذا خطأٌ جسيم في حق الله؛ لأن بلاء الله يكون بالشر وليس بالخير. قلت: لم أعرف الآية الصحيحة. قال: ومن أين لك بالآية الخاطئة؟ قلت: من المُعارض الشرعي. قال: أنت كاذبة، والمُعارض الشرعي لا يُخطئ في كلام الله. دق الإمام الجرس بطرف إصبعه الصغير، فظهر المُعارض الشرعي على الفور، رأسه ملفوف بالعمامة البيضاء، وفوق صدره النجمة الحمراء، وقال: أفندم؟ سأله الإمام عن الآية الخاطئة، وأنكر المُعارض الشرعي صلته بالمرأة، وقال: أنا لا ألتقي إلا بالنساء الصالحات. وصدَّقه الجميع من أعضاء حزب الله والشيطان، ولم يُصدقوا المرأة الآثمة. أخرجت من صدرها الورقة المكتوبة بخط يده. قالوا: هذا ليس خط يده، وهذه جريمةٌ أخرى، وهي التزوير في آيات الله والأوراق الرسمية. قلت: أُقسِم لكم أنه كتبها أمامي بقلم له غطاءٌ من الذهب. قالوا: ماذا قلت؟ غطاء من الذهب؟ قلت: نعم، رأيته بعيني. قالوا: أتتَّهمين المُعارض الشرعي بالاختلاس؟ قلت: لا أتَّهمه بشيء، ولكنه … وقالوا: ألا تعرفين أن المُعارض الشرعي معيَّن بأمر الإمام؟ قلت: لا أعرف، ولكني أريد أن أقول … وقالوا: وماذا تقولين بعد هذا الذي قلته بلسانك الآن؟ وهذا دليلٌ جديد على أن لسانك هو مصدر الإشاعات، ووجب قطعه من جذوره وفق الشريعة.

•••

كانت أذناها قد كفَّت عن سماع الأصوات، وظلَّت ثابتةً في مكانها بغير حراك، عيناها تلمعان كالنجمَين في سماءٍ سوداء، ورأسها مرفوعٌ نحو الله، وإلى جوارها كلبها مرزوق، مرفوع الرأس مثلها، وأذناه مُنتصبتان مُرهفتان يسمع أصواتهم ويتعرف على وجوههم، وينبح بصوتٍ عالٍ حين يرى وجه الإمام. يشدُّه من الخلف من السروال، يُمسكه بأسنانه لا يتركه، وهم يشدُّونه بعيدًا عنه دون جدوى. أطلقوا عليه الرصاص في ظهره. سقط إلى جوارها يقبض بين أسنانه قطعةً من السروال الغالي من أجود الأنواع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤