القوى العظمى

كنت رافعًا رأسي نحو السماء رافعًا يدي نحو ملايين البشر يهتفون لي حين دوَّت الطلقات، ورأيت وجهي يسقط من فوق رأسي العاري تحت مقعد العرش. أخفيه في الأرض بعيدًا عن عيون الناس. أستبدل به الوجه الآخر له ملامح الإمام، وأنهض مرةً أخرى فوق المنصة. لم يلحظ أحدٌ السقوط ولا النهوض، لكن العالم من حولي ليس هو العالم، وفوق صدري لا أرى النياشين ولا الأوسمة، ولا نجمة العدل مشبوكة بالدبوس، ولا خاتم الحكم في إصبعي، ولا أحد حولي من أعواني، ولا أعضاء حزب الله أو الشيطان، حتى زوجتي الشرعية اختفت، وأنا وحدي لا أحد معي، ومن حولي أرض كالصحراء، والنهر على مدى البصر تُطل من ورائه هضبة خضراء. قلت أنا في العالم الآخر، وهذه هي الجنة تلوح من بعيد. حلقي جافٌّ منذ الطفولة، والظمأ شديد، وثقتي في دخول الجنة مائة في المائة مثل ثقتي بالله. في جيبي توصية من النبي وبعض صكوك التوبة من بنك الإيمان، أخرجتها كلها من جيبي لحارس الباب رضوان عليه السلام. كان أميًّا لا يقرأ الحروف المكتوبة. قلت له: أنا الإمام. وألقيت عليه إحدى خطبي المعروفة. لم يفهم شيئًا؛ فهو لا يتكلم اللغة العربية. تركني عند الباب أنتظر طويلًا تحت شمس حارقة ورأسي عارٍ. سألته: ما بالك لا تحفل بخطبي وكان يحفل بها الناس في كل أنحاء العالم؟ هزَّ رأسه علامة عدم الفهم، ثم لمحت وجه امرأة يقترب من بعيد. تصوَّرت أنها أمي فأسرعت نحوها. لم تكن أمي. كانت زوجتي القديمة. توسَّلت إليها أن تتوسط لي لدى رضوان. قالت: لن تشفع لك إلا زوجتك الجديدة. قلت: وأين هي؟ عليك بها. ورأيت المُنادي يُنادي: يا أهل الآخرة غُضوا أبصاركم حتى تمرَّ زوجة الإمام. ومرَّت امرأةٌ بيضاء ملامحها أجنبية في عمر ابنتي، ولها ملامح زوجتي الشرعية، فسلَّمت عليها وقلت لها: لقد كتبت في الدنيا خطبًا كثيرة، كنت أبدؤها باسم الله، وأختمها بالصلاة على النبي، فحُقَّ لي بذلك دخول الجنة. وأشارت إلى الصليب فوق صدرها، وقالت: المسيح ومريم العذراء، ألم يرد ذكرهما في القرآن؟ قلت: توسَّطي لي لديهما. وأشارت إليَّ أن أتبعها فتعلَّقت بذيل فرستها. ولم تكن الفرسة تمشي على الأرض لشدة الزحام وكثرة إشارات المرور. رأيتها تطير في الجو لها أجنحة من الفولاذ، ورأسٌ صغير مدبَّب كرأس صاروخ في آخر طراز. قلت: ما هذا؟ قالت: أنعم الله عليك بطائرةٍ جديدة بدل الفرسة القديمة. ركبت في مقعدي في الصف الأول وإلى جواري رئيس الأمن. ومن شقِّ الباب لمحت وجه قائد الطائرة، مُستدير أبيض مليء باللحم ونقط سوداء كالنمش، ولهجته أجنبية. رحَّبت به كعادتي مع مندوبي القوى العظمى، وقدَّم لي قطعةً من الكافيار في صحن من الفضة، وزجاجة خمر معتَّقة من أجواد الأنواع. عند الإقلاع جاءنا صوته من سقفها بعون الله، وانبعث من سقف الطائرة لحنٌ راقص وأصابع امرأة تُطرقع بالصاجات. تعرَّفت على وجهها وقلت: جواهر؟ قالت: من هي جواهر؟ قلت: كانت في «بيت السعادة»، وكنت في سن البراءة والطيش. اهتزَّت الطائرة فربطنا الأحزمة على البطون، وعاد الصوت من السقف يقرأ القرآن، ويدعو الله أن يحميَ الطائرة من السقوط أثناء الهبوط، وانزلقت عجلات الطائرة فوق أرض خضراء ملساء ناعمة كالسندس، وقلت: وصلنا الجنة؟

قالت زوجتي الشرعية: ليس بعد، ولن تدخل الجنة قبل أن يشفع لك المسيح وتسدِّد ديونك في الدنيا. وقال الرجل ذو النمش الأسود في وجهه: ألم تسدِّد ديونك بعد؟ قلت: أمهلني عامًا واحدًا وسوف أطلب من الله أن يمدَّ أجلي حتى أسدِّد الديون. وناولته الكأس لنشرب نخب الصداقة. رفضها وقال بلهجةٍ أجنبية إن الخمر حرام، وإنه أمر بإلقاء الخمور من نوافذ الطائرة. ولماذا تُحرم ما حلَّل الله يا خواجة؟ انظر إلى جنة الله وما فيها من خمورٍ تجري كالأنهر وحورياتٍ بياضهن كالشهد؟ وأطلَّ بعينَيه من فوق السور ولم يرَ شيئًا، وقال: أين هي الجنة يا سيدنا الإمام؟ قلت: انتظر. إن الصبر طيب، ولا يمكن لأحدٍ أن يتعجل الله، وسوف ندخل الجنة معًا بإذن الله. وقال: اذهب وحدك وسأنتظرك هنا بالطائرة، وموعد الإقلاع في السادسة تمامًا بتوقيت جرينتش، واعلم أنني في انتظارك لأطير بك لو أصابك مكروهٌ لا قدَّر الله.

تأبَّطت زوجتي الشرعية ذراعي وسِرنا معًا حتى المسيح. همست في أذنه بلغةٍ لم أفهمها. هزَّ المسيح رأسه، وشفع لي، وأمرنا بالسير إلى الصراط المستقيم. وحين وضعت قدمي على الصراط لم أستطع السير قيد إصبع، وقالت زوجتي الشرعية: هنا أتركك في رعاية الله والرسول. وتركتني وجسدي يرتعد. ورأيت امرأةً سوداء مُقبِلة تجري فوق الصراط. أمسكتني من يدي قبل أن أقع، وعرفتها من وجهها، كانت جاريتي قبل أن يفتح الله لي أبواب الرزق. هربت منها في الليل قبل أن تلد ابنتي. قلت لها: أنت حبي الأول والأخير. وسِرت إلى جوارها تسندني من ناحية اليمين فأميل ناحية اليسار، وتعود تسندني ناحية اليسار فأميل إلى اليمين، حتى أعياها ذلك وأعياني، فقلت لها: يا جواهر، إن أردت سلامتي فاستعملي معي قول القائل في الدنيا: ستي إن أعياك أمري فاحمليني زقفونة. قالت: وما زقفونة؟ قلت: أن يطرح الإنسان يدَيه على كتفي الآخر، ويُمسك بيدَيه ويحمله وبطنه إلى ظهره. أما سمعت قول الجحجول من أهل الدنيا: صلحت حالتي إلى الخلف حتى صرت أمشي إلى الوراء زقفونة. قالت: ما سمعت بزقفونة ولا الجحجول، ولكني سأحملك إلى الرسول محمد. وحلمتني فوق صدرها كالطفل، فلما وصلنا النبي عليه السلام قال: وهبنا لك هذه الجارية، فخذها كي تخدمك في الجنة. حين صرت إلى باب الجنة قال لي رضوان: هل معك جواز؟ قلت: لا. قال: لا سبيل للدخول إلا به. وانتظرت طويلًا تحت الشمس الحارقة ورأسي عارٍ، وموعد الطائرة أزف، ثم لمحت على باب الجنة شجرة صفصاف. قلت: أعطِني ورقةً من هذه الصفصافة حتى أرجع إلى النبي بسرعة فآخذ عليها جوازًا. قال: لا أُخرج ورقةً من الجنة إلا بإذن من صاحب الجلالة. قلت: لو رآني فسوف يعرفني، وكان في الدنيا دائمًا معي، وكان لي في الدنيا أعوانٌ كثيرون في حزب الله، وأصدقاء بلا عددٍ داخل البلاد وخارج البلاد من الملوك والزعماء، وجميعهم جاءوا وساروا في جنازتي، كان المشهد مهيبًا. ألم تر الصورة على غلاف النيوزويك؟ قال رضوان: ما سمعت عن النيوزويك إلا الآن. قلت: إذا كنت لا تعرف النيوزويك فأنت لا تعرف العظماء ولا القوى العظمى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤