جواهر

في الصندوق وهو راقدٌ كان ينظر إليها وعيناه تلمعان بالعشق، ويدها تدور على رأسه من القمة إلى السفح، ثم تزحف بطيئةً فوق العنق. تدور حول رقبته كالخيط الحرير تشدُّه حتى يشهق ويختنق، لكنه يضحك فتشدُّه أكثر حتى يكفَّ عن الضحك وتشوبه زرقة، فترتخي أناملها الناعمة من حول عنقه، وتزحف بين الشعر الأشيب الناحل فوق صدره لتُمسك الخرزة الزرقاء باقية، لم يخلعها منذ علَّقتها أمه في الطفولة. تلتقطها بطرف الأنملتَين كفكَّي الملقاط، وتقول: أمك خافت عليك من العين، وأنا أخاف عليك من الأذن. ثم تشدُّه من أذنه وتضحك، وتُلقي بشعرها الكثيف خلف ظهرها، وأذنه تشرئبُّ مُرهفةً لصوتها يهمس بالعشق، وعينها ثابتة في عينَيه حتى ينتصب الشعر في جذور الرأس، ويُخفي منابت شعره الأبيض بلونٍ أسود، صبغة من الحنة السوداء تُرسلها إليه أمه في كيسٍ من الدمور، يُذيب المسحوق في الماء، ويصبغ خطوط الشيب حتى يصبح شعره بلون الليل، لكن الشعر الأبيض فوق صدره وأسفل بطنه يكشف حقيقة العمر. يتحسَّس التجاعيد فوق وجهه، وعيناه تتَّسعان بالدهشة، كأنما الشيخوخة تسرَّبت إليه خلسةً وهو غارق في النوم. وتلتقي عيناه بعينَيها في المرآة، فتُحرك رأسها بعيدًا تخشى العدوى، كأنما الشيخوخة مرضٌ تنتقل بتلامس العيون، وفي عينَيها يرى نظرة الإشفاق على نفسها؛ فهي شابةٌ تعيش، وهو عجوزٌ ميت. ويحوطها بذراعَيه ينشج بين نهدَيها: أنا مهزوم يا جواهر. وبيدها تُبعده عنها. في أعماقها تُدرك أنه يريد أن ينقل عجزه إليها، وبعد كل لقاءٍ يزداد فشله، ومع ذلك يأتي إليها لا يكف، كنوعٍ من الإدمان، كالخمر يشتاق إليها ولا يعيش أو يموت بغيرها.

لم يعترف لها بالهزيمة أبدًا. كان قد أدمنها إلى حد الإحساس بالنصر، كالسمِّ يبتلعه المُدمن بلذةٍ مُتزايدة. وحين يلتقي بها يرمق جسدها من تحت الثوب، في عينَيها بريق كنصل السيف. تنظر إلى جسده الميت فتدبُّ فيه الحياة تحت بريق العين، وينتفض بين ذراعَيها كالفرخ المذبوح وهي لا تنتفض، ويقول: أنت امرأةٌ غير النساء. وتقول: كيف؟ يقول: أنت امرأة لا تشعر بجسمها مع إحساسها الدائم بعقلها. ويتثاءب كأنما يُداهمه النوم فجأةً، ثم يفتح عينَين مليئتين بالغيرة، يغار من عقلها أكثر من أي شيء آخر. يُحاول اغتصابها، كأنما بالاغتصاب يستعيد التوازن، لكن عجزه يتأكد المرة بعد المرة، ويخرج من عندها يجري إلى زوجته الشرعية، يدفن رأسه بين نهدَيها وينشج كطفلٍ في حضن الأم. تحوطه بذراعَيها وهي غارقة في النوم. لا تفتح جفنَيها، وتُحس أنفاسه الساخنة فوق عنقها، فتُدرك أنه محموم بالحب، ليس لها، وإنما لامرأةٍ أخرى يعجز عن امتلاكها. وتكتشف وهي نائمةٌ أن المرأة غير المملوكة لأحد هي معبودة الرجال؛ فهي الوحيدة القادرة على إيلامهم. وتقول لنفسها في النوم:

لا يُحب الرجال إلا تلك التي تؤلمهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤