المحاكمة

قبل أن يقتلعوا رأسها من الجسد رأوا جذورها ممتدةً في بطن الأرض، وبلغ بهم التعب كالخوف، وأخفَوا الخوف في التعب، وجلسوا تحت الظل يحمون رءوسهم من الشمس. يمسحون وجوههم بالمناديل، ومن تحتها تُطل الملامح ممسوحة بلا أثر، ولا شيء يُميز الوجه عن الوجه، ولا تكاد تعرف الواحد من الآخر إلا بشارة على الرأس أو الكتف. وتعرَّفت على كتف رئيس الأمن وهو واقفٌ أمامها يمسح وجهه بالمنديل ويقول:

ألك أقوالٌ أخرى قبل تنفيذ الأمر؟ قالت: أي أمر؟ قال: أمر الله والوطن والإمام. وظلَّت صامتة لا ترد. وقال: ألا تؤمنين بالله والوطن والإمام؟ قالت: الثلاثة كلهم في آنٍ واحد؟ قال: نعم، الإيمان بالكل أو لا شيء. وظلَّت صامتة لا ترد. ودوَّن في الدفتر بالقلم: الصمت يعني أنها تفكر، وكونها تفكر يعني غياب الإيمان. ومسح وجهه بالمنديل وقال: ألك أقوالٌ أخرى؟ قالت: أريد أن أقول إنني بريئةٌ بلا ذنب، ولي أمٌّ واحدة هي الشمس، وآباءٌ كثيرون بلا عدد، لا أعرف منهم لا الاسم ولا الوجه، ولا أقرأ الحروف فوق الورق، وأعيش في بيت السعادة وليس في قلبي إلا الحزن. النهار عندكم هو الليل عندي، والسعادة عندكم هي حزني، واللذة عندكم هي عندي الألم، والنصر عندكم هو هزيمتي، وجنتكم هي جحيمي، وشرفكم هو عاري، وعاري هو شرفكم، وعقلي هو جنونكم، وجنوني هو عقلكم. وإذا مات جسدي فلن يموت قلبي. وآخر ما يموت فيَّ هو العقل؛ فهو يعيش على أقل شيء، وكل شيء يموت فيَّ قبل العقل، ولا أحد فيكم نال عقلي، لا أحد. ومهما نِلتم جسدي ظل عقلي بعيد المنال، كعين الشمس في النهار، كعين السماء في الليل.

ورأتهم واقفين أمامها في طابورٍ طويل يضربون كفًّا بكف، ويتعجبون غاية العجب، وقالوا: ليست ساحرة ولا مجنونة، وإنما عاقلة، وكلامها عين العقل، وأصبح عقلها أخطر من جنونها. فحكموا عليها بالموت بطريقةٍ أسرع من الرجم، وعدم إعطائها أي فرصة أخرى للكلام، وعدم نشر المحاكمة في الصحف، وإغلاق الملف ودفنه في بطن الأرض إلى الأبد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤