أطفال الله

حين دوَّت الطلقات رأيته يسقط، وفي لحظة السقوط تغيَّر وجهه. أصبح له وجهٌ آخر. ليس هو الوجه الذي عرفته؛ وجهٌ غريب لم أرَه من قبل. ليس وجه رجل ولا أب ولا إمام، ليس وجه إنسان ولا حيوان، كالوجه المُخيف في كوابيس الطفولة، وحكايات الجدة العجوز أرضعتني مع اللبن حكايات العفاريت والجان. جدتي الحقيقية لم أرَها مثل كل الأطفال في ذلك البيت. أطفالٌ كثيرون بلا أم ولا أب ولا جدة، يُسمونهم أطفال الله، وأنا اسمي بنت الله. لم أكُن رأيت الله وجهًا لوجه. تصوَّرت أن الله هو أبي، وأمي هي زوجة الله. وفي النوم أرى أمي واقفةً تنتظر الله. الليل مُظلم والناس نامت وهي واقفة، وأنا راقدةٌ ورأسها عالٍ في السماء. عيناها مليئتان بالضوء وصوتها كالهمس: بنت الله، تعالَي. أنهض من سريري وأسير حافيةً نحو الصوت. يأتي من بعيد من وراء الباب. أفتح الباب وأنظر، لا أحد. أسير في الممر الطويل حتى نهايته، لا أحد. بابٌ آخر مغلق لا ينفتح. النافذة مفتوحة تُطل على الفناء. أصعد إلى النافذة بقفزةٍ واحدة. أسير على حافة الجدار. أمدُّ ذراعي أمامي وجسمي يحفظ توازنه. حركتي خفيفة كالريشة. قدماي لا تُلامسان الأرض. كالروح بغير جسد أسير على الحافة دون أن أقع، ثم أقفز في الفناء فوق يدي وقدمي كالقطة. أتوقف في الظلمة أتسمَّع الصوت. من وراء الباب يأتيني الهمس. باب من الخشب طلاؤه أخضر بلون الزرع، مفتوح عن شقٍّ صغير ينفُذ منه ضوء.

– من هناك في الظلام؟

– أنا.

– مين انت؟

– بنت الله.

– تعالي يا بنت الله.

أدخل إلى الغرفة الصغيرة نصف المُعتمة. زوجة الحارس واقفةٌ وراء الباب. يداها ممدودتان نحوي بلون الأرض. جلبابها أسود واسع. رأسها مربوط بمنديلٍ أبيض. عيناها واسعتان تلمعان. وجهها ناعم كصدر الأم. أنفاسها تعلو وتهبط في نشيجٍ خافت. ثدياها مملوءان باللبن. الحلمة السوداء مُنتصبة نافرة، تضغطها بين إصبعين تعتصر الألم. قطرات اللبن تتساقط قطرةً قطرة. فراش طفلتها إلى جوارها خالٍ. زوجها نائمٌ شخيره مسموع. وجهه مليء بالتجاعيد والشعر، مُتكور تحت بطانية منحولة الوبر. رأسه يُطل من تحتها منحول الشعر. جفناه مغلقان انفتحا فجأةً ورآني بين ذراعَيها. حملق في وجهي بعينَين حمراوين، وصاح: ليست بنتي، بنت مين هي؟ قالت إنها بنت الله. ارتفع كفه في الهواء وسقط على وجهها: يا زانية يا بنت الزانية.

•••

فتحت عيني في الظلمة. أسرةٌ كثيرة تُطل منها رءوس الأطفال. إلى جواري سرير طفلة من عمري اسمها نعمة الله، أقول لها أختي. شعرها أسود ناعم يُطل من تحت الغطاء. عيناها مفتوحتان. أنفاسها مُتقطعة كالنشيج، تهمس بصوتٍ خافت: بنت الله، تعالي. أنهض من سريري وأنام إلى جوارها. تحوطني بذراعَيها وجسمها يرتعد: أنا خائفة. ماذا تخافين؟ أخاف الله. لماذا؟ لا أعرف. ألا تخافين الله؟ أنا بنت الله، فهل أخاف من أبي؟ تلفُّ ذراعَيها حولي، وتحت أذني قلبها يدق. صدرها ناعم كصدر الأم. ننام مُتعانقتين حتى الفجر. قبل شروق الشمس توقظني: بنت الله، عودي إلى سريرك.

كانت الأوامر مشدَّدة. النوم له موعدٌ محدَّد وجرس، لا أحد يُغادر السرير بعد النوم. إذا ضُبطت اثنتان في سريرٍ واحد فالعقاب شديد. غرفة التأديب في الفناء الخلفي. سمعت عنها قصصًا مُخيفة. أمام بابها يقف رجلٌ طويلٌ ضخم. رأسه يلمع تحت الشمس بغير شعر. وجهه عريض يُغطيه الشعر. عيناه ضيقتان غائرتان. في يده اليمنى عصًا طويلة، وفي اليد اليسرى مسبحةٌ صفراء.

في الليل تحوطني أختها بذراعَيها. تنشج بصوتٍ مكتوم وتحكي قصة أمها. زارها الله في الحلم وحملت منه مثل مريم العذراء. ارتدت ثوبًا واسعًا لتُخفي ارتفاع البطن. ولدتها في الليل بعد أن نام الناس، لكن عيون الأم رأتها. ربطوها بالحبال ورجموها حجرًا حجرًا. قلت لها وأنا أُعانقها: إذا كان الله هو السبب، فلماذا يقتلونها؟ ولا تعرف نعمة الله الجواب. يغلبني النوم دون أن أعرف السر. في الحلم يتراءى لي الله على شكل رجل. واقف في الظلمة ويده اليمنى خلف ظهره. رأسه يلمع تحت الضوء بغير شعر ووجهه يُغطيه الشعر. يرتعد جسمي تحت الغطاء وعيناي مغلقتان. يُحرك يده اليمنى خلف ظهره، يرفعها أمامي ويفتح أصابعه. ليس في يده العصا. يهمس بصوتٍ ناعم: بنت الله، تعالي. يقترب مني حتى يُلامسني بيده. أتحسَّس كفه الكبير الحاني. بشرته ناعمة كصدر الأم. أضع رأسي على صدره وأُغمض عيني. يده تُربت على وجهي، ثم تهبط لتُربت على صدري وبطني. رجفة غامضة تهزُّني وقشعريرة. يهمس بصوتٍ ناعم: لا تخافي، أنا الله وسوف تلدين المسيح.

أصحو من النوم والدنيا ظلام. جسمي مُبلَّل بالعرق وله رائحة الله. الرجفة لا تزال والقشعريرة. يدي تزحف فوق بطني أتحسَّس الحمل. شيء في أحشائي يتحرك كالجنين. قلبه يدقُّ تحت يدي مع دقَّات قلبي. الظلمة كثيفة والفجر لم يطلع. ضوءٌ خافت يتسلل من شقوق النافذة. السقف عالٍ رمادي، يتدلَّى منه سلك النور. فوق السلك ذبابٌ أسود ناعم. رءوس الأطفال سوداء صغيرة تُطل من تحت الأغطية. أختي نائمة وشعرها يُغطي وجهها. أغمضت عيني لأنام. رائحة الله في أنفي. صوته كالهمس في أذني، يده خلف ظهره، لكني لم أعد أخاف؛ فهو لا يحمل العصا، ويده ناعمة كصدر أمي. ما زال يقترب مني بخطواتٍ بطيئة. وجهه يظهر تحت الضوء. ليس الوجه الذي رأيته. عيناه حمراوان فيهما شرر، وأصابع يده غليظةٌ حديدية تلتفُّ حول عنقي. أحاول الجري وجسمي مربوط في الأرض. أفتح فمي لأنادي على أمي، صوتي لا يطلع، وفي أذني الدوي.

ما هذا الصوت؟ صواريخ العيد؟ زغاريد أم صراخ؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤