الفصل الرابع عشر

البنية القرابية وممارسات وأغاني الزواج والإنجاب

وبقدر ما تلتقي دورة طقوس الانفصال والغياب بالموت، عند معظم شعوبنا وكياناتنا العربية وما يتبعها من أغاني وتراتيل جنائزية مصاحبة لنوعية الميت وجيله وصيته، رجلًا ذكر كان أو امرأة أنثى، أو عروس «بكرية» لم تتزوج.

فطقوس الانفصال هنا هدفها حماية الأحياء، بتسكين روح الميت أو المتوفى، وبعث أكبر قدر من الطمأنينة والأمن، لكلا — روح — المتوفى وذويه.

كذلك تلتقي الأغاني والأهازيج والموشحات المصاحبة لدورة الحياة وطقوس تجمعها بالزواج والإنجاب، داخل رقعة فولكلور شعوبنا العربية إلى حد التوحد.

بل إني أتفق مع الباحث الفولكلوري العراقي لطفي الخوري، في أنه لا اختلاف كبير في «الأسرة العراقية وتقاليدها العامة المتعلقة بالزواج عن بقية الأسر في الأقطار العربية»،١ سوى في بعض التفاصيل التي تفرضها البنية السكانية، وكذا القرابية والبيئية، بالإضافة طبعًا للقسمات الدينية التي تشكل الوطن العربي، من مسلمين وأقباط مصر، ونساطرة العراق، وموارنة لبنان وسوريا العليا.

إلا أن القاسم المشترك لها، يتمثل في كونها طقوس «انتقال» تجمعية قوامها الاحتفالات الدنيوية البهيجة وما يصاحب أغانيها من صلوات الشكر في الكنائس، كما يدخلها كراب.

فطقوس٢ الانتقال المصاحبة للزواج والميلاد، لا تخلو على طول الوطن العربي من جذورها الأولى السحرية والطوطمية والقبائلية، بدءًا من استخدامات رش الملح الجماعي، كممارسات لسحر المشاركة، والتزين، والزغاريد ودق النواقيس والأصوات العالية والأعيرة النارية التي هدفها طرد الأرواح الشريرة وشرور العين وإشاعة الأمن على العرس، وذروته هنا هما العروسين.

ومرورًا بالزواج بالأقارب، أو الزواج الاتصالي الأسري القرابي القبائلي، بل إن في تقاليد واحتفالات الزواج والإنجاب والأغاني والأشعار والممارسات المصاحبة لها، على طول الكيانات العربية، أرضًا خصبة حقًّا بالنسبة لدراسة نسق، أو منطلق جوهري، أو استراتيجي لتراثنا العربي بكامله، وهو النسق القرابي القبائلي، الذي يتبدى بكثرة ملحوظة إلى أقصى مدى في تراثنا الفولكلوري العربي بعامة، بخاصة فيما يصاحب الزواج ومراحل انتقالاته، لا فرق كبير فيما يجري في دلتا الرافدين، ومصر، وفلسطين، أو المشرق العربي والسودان.

من ذلك الكثرة الموسمية للزواج ومراسمه، التي عادة ما تجيء في نهاية موسم الحصاد وجمع الغلة، لدفع المهر، أو وحدة مهر العروسة، التي كانت في الجاهلية تحدد وحدتها النوق أو الجمال، وعرف إلى اليوم بزواج المهر، تمييزًا عن زواج «السفطة» لشمال العراق، و«الفصل» في وسطه، ثم «عقد النكاح» لحين الحنة أو ليلة الحناء وما يصاحبها من أغاني الفتيات المراهقات، الكاشفة في معظمها عن محرماتهن وتابواتهن في الحب والجنس والزواج كما سيرد بكثرة في مأثوراتنا القادمة عن أغاني الحناء.

كما أن في دراسة أغاني وممارسات الزواج والإنجاب وما يدور في فلكها من شعائر وخرافات تفصيلية، منها ما يتصل باستخدامات نباتات، بل وعطور ووحدات تشكيلية بعينها، وما يتصل بافتعال العراك والعنف والمشاحنات لحظة خروج العروس بزينتها من بيت أبيها، أو في حالة تخطيها للمرة الأولى عتبة بيتها — الزوجية — الجديد.

وما يتصل بشعائر تقديس عتبات البيوت، التي ترجع جذورها في التراث الأسطوري والفولكلوري السامي إلى ما قبل الألف الثانية ق.م.

مثل سكب الماء، وأحيانًا الملح على العتبات، وكذا التوسع في استخدامات النباتات الخضراء، كالنعناع وسعف النخيل، توسلًا بسحر الشبيه الذي ينتج الشبيه أو الشبشبة، بدءًا من خرق الحيض، وحرق وغز رسوم العوازل والأعداء والحاسدين.

وكذا شعائر انتقالات «أوض» أو حجرات النوم أو الدخلة وأخذ الوش، ودور الداية أو القابلة، بتعريف العروسين، ودفع «فك الدكة» من نقود للداية أو العروس وأغاني أخذ الوش أو فض البكارى التي عادة ما تجري على مشهد من الداية، باستخدام الأصابع وعليها «المحرمة» الحريرية البيضاء، وإشهارها بالأغاني عبر البلدة، أو النجع «قولو لابوها إن كان جعان يتعشى».

بل هي مادة خصبة للمزيد من تكشيف وضع المرأة، وإدانتها «الأسطورية» الأولى، منذ أساطير الخلق الأولى لحواء، وخلقها من الضلع السادس للرجل المنحدرة منذ السومريين — ٥ آلاف عام — وتبديها بكثرة في التراث الشامي، أو الكنعاني، لحين سفر الخلق أو التكوين الأول والثاني.

وكذلك ما يدور حول أشهر الحمل التسع، وممارسات حيض النساء — بالوجع تلدين أطفالًا — وكذا سيادة الرجل الذكر على الأنثى، والسبب في أن الكذب يسود الوجه، وكذا أفكار وتعويذات مثل: الخمسة وخميسة، العين الحاسدة، النفس الخالق، والعائن أو المعيون أو النفس الخالق.

فمع استمرارية أبنية أنساق المجتمع، تظل هذه الظواهر والموروثات تواصل توالدها الذاتي، بنفس ما يحدث في الأساطير والملاحم والحكايات والأمثال، بل والنكت والأسماء والأحاجي أو الحذور٣ والأدعية من سالبة لموجبة.

وجميع هذه الأبنية التي كانت المدرسة الأنثروبولوجية بريادة آرثر تيلور، وتلميذه أندرو لانج، أول من أشار إليهما، فتعاظم دورها فيما بعد لدراسة الفولكلور، وأخصه ثالثه الأزلي، من مجيء أو ولادة، وزواج، وموت.

ومن هنا يمكن القول بإسهام جيل الفولكلوريين الأنثروبولوجيين في المساهمة إلى المنهج البنائي، الذي غرضه النهائي الإلمام الموضوعي لمختلف جوانب الظاهرة، مع إلغاء الحواجز التقليدية بين مختلف النظم والعلوم وتكوين منهج يعتمد على كل العلوم والدراسات، بل إن للباحث البنائي الحق في التعرف على مستويات الحقيقة، أو الظاهرة التي لها قيمة استراتيجية من وجهة نظره ويعزلها.

فمهمة الباحث الفولكلوري لا تقف عند مجرد جمع النصوص، والكشف عن مصادرها وأصولها، بل إن مهامه تسجيل ما يحيط بها من ظواهر وأبنية مختلفة، من اقتصادية، وقرابية، ومهنية، بالإضافة إلى ما تعكسه هذه الأبنية في مجموعها من شعائر وسلوك قد تبدو لغير البنائيين غير ذات أهمية، من ذلك مثلًا ممارسات واحتفالات وأغاني الزواج والميلاد، وتربية الأطفال وتنشئتهم، وكيفية التعامل مع المرأة، والمراهقين، والشيوخ، انتهاء بالعلاقات الأساسية والمتغيرة بين شخص وآخر.

فمثل هذه النظرة المتكاملة أو البنائية، تصبح أكثر فائدة، وأكثر اقترابًا من معرفة الظاهرة أو الحقيقة، وتكثيف الموضوع العيني للبحث، سواء في شعائر «انتقال» التعامل مع المرأة والطفل، والأب الذكر، أو مثلث العائلة الخالد، كما سماه للمرة الأولى ريموند فيرث.

وعلى هذا فإذا ما اتفقنا على أن الملمح الرئيسي لفولكلور وأساطير منطقتنا العربية أو السامية، هو أنه فولكلور قبائلي، وحدته وجوهره القبيلة، ويعبر عن ذلك بأنها مجموعة من الناس لها بناء اقتصادي محدد، ينتج عنه بناء ثقافي متكافئ، أو لنقل متوازٍ.

وإذا ما عرفنا أن من أهم الأساسيات التي تقوم عليها المجتمعات البشرية مبدأ القرابة، أو سلسلة روابط الدم، أو الزواج، أي: نسق الروابط الاجتماعية، القائمة على الاعتراف بالعلاقات الجنيالوجية، أي: العلاقات الناتجة عن الارتباط الجنسي الشرعي، وإنجاب الأطفال كما يحددها ريموند فيرث الذي يرى بأن النسق القرابي يتحكم، حتى في الأوضاع الاقتصادية والسياسية.

وإذا ما عرفنا أن القرابة شيء أساسي لكافة المجتمعات البشرية، فما بالنا بالنسبة لفولكلورنا العربي القبلي، فالقبائلية هي الملمح الجوهري لفولكلور وأساطير وتراث منطقتنا العربية — السامية — بعامة، المحاط إلى اليوم بسياج قوي من الأنيمزم — أو الروحانيات — كما أسماها تيلو منذ أواخر القرن الماضي.

وعلى هذا ففي دراسة بنية، أو نسق القرابة والانتساب على مستوى المنطقة العربية، أو السامية في مجملها، وعلى أدنى الافتراضات داخل كل مجتمع عربي أو سامي، أو البدء من منطلق الجزئي بهدف المعرفة والاستيضاح للكلي، وبمعنى أبسط يمكن القول بأن في الإمكان التوقف طويلًا أمام تقليد العرس العربي، تصرف الأقارب وكذا ممارساتهم، تبعًا لشعائر الانتقالات التجمعية المصاحبة للزواج والإنجاب، أو ظاهرة النعي العلني الذي نشهده في صحف موتانا صبيحة موت المرحوم، وكيف أن الميت ينتمي إلى عائلة كذا، ويتناسب مع عائلة كذا من حيث الأم، وكذا من حيث الأب، وكذا من حيث «ميكانزم» التزاوج العائلي من داخلي وخارجي.

في دراسة مثل هذه الظاهرة أو النسق، انفتاح على بنية كاملة، ووصلت العلوم الأنثروبولوجية في دراستها لهذا النسق، أو البناء القرابي، سواء على المستوى البدائي أو القبائلي في مجتمعات العالم خارج الغرب، خاصة، أو أستراليا وأميركا اللاتينية، أو داخل المجتمعات الغربية المعاصرة، وصلت إلى حد من الدقة الرياضية. فمثل هذا النسق القرابي مثل بقية الأبنية الاجتماعية في تساندها الوظيفي من الاقتصادية والسياسية، بل إن في دراسة أي نسق أو بنية اجتماعية على حدة، خاصة أضلاع هذا المثلث التي تتحكم في المجتمع أي مجتمع من قرابية واقتصادية وسياسية، والتي لا تحقق غايتها إلا في تساندها مع بقية الأنساق.

فدراسة أي نسق لا يصح أن تجري بمعزل عن بقية الأنساق والأبنية التي تؤلف البناء الاجتماعي كنسق متكامل، هدفه تحقيق التساند الوظيفي والطبقي، وهو ما عرفه دور كاييم بالتركيبات المورفولوجية، وعرفه ماركس بالتركيبات السفلى والتركيبات العليا.

ومن السهل تصور أن التركيبات العائلية، بل لنقل القبائلية، تتبدى بوضوح في «نص» نعي الميت من تشابك أو اتصالات عائلية، أو قبيلية، أو بدنته، أو فخدته، أو بقية الأعضاء العائلية القبائلية بما يقود إلى شجرة العائلة أو نخلتها عند العرب الساميين.

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن في دراسة البناء القرابي في علاقاته المتبادلة مع بقية الأنساق، تبصير بالبنية الطبقية الاقتصادية والسياسية، كما قلنا.

ومن هنا فليس مدخلنا إلى دراسة النسق القرابي المصاحب لشعائر وأغاني الانتقالات الجوهرية — الميلاد، الزواج، الموت — أو من المهد إلى اللحد على مستوى العالم العربي، أو المنطقة السامية بهدف التوصل إلى نتائج عنصرية، أو إزكاء النعرات القبائلية الطوطمية في معظم حالاتها.

وهو ما تتوسع فيه الدراسات العبرية اليهودية، ربما بإيقاع قرن إثر قرن منذ كوزمولوجي سفر التكوين إصحاح ٤ بدءًا بآدم أبو البشر «يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله».

بل لقد ظل نسق القرابة متواصلًا داخل التراث العبري متواترًا، وتصر على تدعيمه وإحيائه كثير من القبائل الاثنى عشر العبرية الأولى.

ومرة ثانية من مدخل تنشيط دراسات نسق القرابة وعلى مستوى بلداتنا العربية بهدف استيضاح البنيان الطبقي والقبلي، لا بهدف التوصل العنصري المفضي بالضرورة إلى الفاشية، ستوقفنا مثل هذه الدراسات على واقع بنياننا السكاني والاجتماعي.

فليكن الهدف هنا هو الدخول إلى أحد ميادين العصر الكبيرة، وهو ميدان الاتصال.

فكما يقول ليفي شتراوس: «يجب أن تخضع دراسة القرابة والزواج لبعض المناهج التي تنبع مباشرة من نظرية الاتصال.»

ولعل الملمح الأساسي لتقدم الأنثروبولوجيا الاجتماعية منذ القرن الماضي كانت زيادة الانتباه إلى البناء أو النسق القرابي، ويرجع هذا التقدم إلى عبقرية لويس مورجان في كتابه الرائد في هذا الميدان عن «أنساق روابط الدم والمصاهرة في العائلة الإنسانية» عام ١٨٧١، وساهمت هذه الدراسة في وضع أسس الدراسات الأنثروبولوجية والقرابية، إلى أن اكتملت هذه الدراسات في علوم الاتصال، ثم ما تلا ذلك من جهود العلماء الاجتماعيين في هذا المجال البكر، مثل لومي عام ١٩٤٨، ومردوك عام ١٩٤٩، وسبوشر عام ١٩٥٠، ودراسة العالمين الكبيرين راد كليف براون، وفورد. وجميعها بالطبع تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الدراسات الميدانية؛ أي: التوسع في جمع المعلومات والبيانات، وهو ما نطالب به بالنسبة لقيام مثل هذه البحوث في مصر والعالم العربي، على أن تجيء مثل هذه الدراسات مستهدية ومرتكزة على الجهود الضخمة التي بُذلت منذ مطلع هذا القرن، والتي يرى ليفي شتراوس أنها لم تثمر كما يجب رغم غزارة مواردها وبياناتها الأنثروجرافية المتصلة باختبارات الزواج وأنماطه من داخلي وخارجي، ومن أبوي وأموي، بالإضافة إلى كيفية تنظيم العائلات والعشائر والقبائل وبقية النظم والمعتقدات الطقسية والدينية واللغوية، بل ويمكن القول بأنه حتى لعب الأولاد، أو نظرية الألعاب التي كان كروبير أول من لفت الأنظار إلى أهميتها عام ١٩٤٢، فساعد أكثر في إيضاح النسق القرابي.

ومن المفيد الإشادة بالدور الذي أصبحت تلعبه بعض الدراسات الميدانية لهذا الفرع.

وقد يكون للدور الكبير الذي لعبه راد كليف براون بشكل خاص بالنسبة للدراسات البنائية في عمومها، وبالنسبة للنسق القرابي خاصة، أهمية جديرة بالتوقف عندها، ففي دراسته الميدانية ومنهجه في التصنيف بالنسبة لنظم القرابة في أستراليا، أو في اكتشافه للقوانين المتحكمة في نظام القرابة عند قبائل كاييرا، والتي كما يقول شتراوس: «ستبقى إلى الأبد واحدًا من أعظم النتائج في الدراسات الاجتماعية البنائية ١٩٣٠-١٩٣١»، اعتبرت مقدمة براون الرائعة لكتاب «أنساق القرابة والزواج في إفريقيا» خطوة متقدمة نحو إخضاع نظم القرابة في العالم الغربي، لنظرية عامة في التأويل على مستوى عالمي، كذلك دراسته المتفرقة عن مصطلحات القرابة وسلوك الأقرباء: السلوك المصاحب لأطوار العمر الثلاثة من ولادة وموت وزواج، كيف تتصرف الأم والأعمام والخالات خلال زواج ابنة أو طلاقها، أو موتها أو حملها … إلخ.

السلوك المصاحب لعادات الاقتتال والثأر، أو المصاحب لتصرفات الأسرة أو العشيرة في حالات مولد الإناث أو الذكور، وزواجهم أو زواجهن.

ففي أهمية دراسة السلوك داخل النسق القرابي، كما يقول «أوي» ما يشير ويكشف عن جوهر النسيج الاجتماعي، مثل ملاحظة ظواهر التزاوج الخارجي — الأكسوجامي — وارتباطه من جانب آخر بظواهر وسمات محددة، مثل تأثير مكان الإقامة أو الحقل الميداني موضوع الدراسة، سواء أكان قرية أو مدينة، أو كانت بيئته يدوية أو زراعية على البنوة، وعلى عادات المباح والمحظور من التزاوج والعلاقات الجنسية.

ولقد اعتبر شتراوس أن من أغراض نظم القرابة وقواعد الزواج التي يسودها تناسق وظيفتها في اتجاه حفظ بناء الجماعة عن طريق الربط بين علاقات كلا الدم وعلاقات المصاهرة، بل ومن أهدافها إخراج النساء من العائلات التي ينتمي إليها برابط الدم وإعادة توزيعهن على جماعات أخرى.

ففي رأيه أن النساء في أحسن حالاتهن، أحد مستويات الاتصال، وعلى ذلك فمن الزواج إلى اللغة يمر المرء من سرعة اتصالية منخفضة إلى سرعة اتصالية مرتفعة.

كذلك تمكن رادكليف براون أن يصل في دراساته إلى وضع مصطلحات أو قوانين لها عموميتها، ولها ميكانيزماتها المحددة، سواء بالنسبة للزواج والاحتفالات وسلوك أبناء العمومية في المجتمع الذكوري وأبناء الخالات في مجتمع أموي، وكذا أوضاع الحموات وأقارب الزوجة والعكس.

ويتفق براون مع مالينوفسكي في أن الروابط البيولوجية وروابط الدم، هي في ذات الوقت الأصل الأنموذج لكل نمط من أنماط القرابة، وإن كان لم يرفع نظرية القرابة إلى مستوى نظرية الاتصال، كما فعل شتراوس.

إلا أنه يتفق مع ماكلينان ومالينوفسكي في أن «تنظيم العائلة الذي يسود فيه حق الذكر في كل مكان قد تم بفعل قوة أساسية هي حق الملكية».

وبالنسبة إلى البناءات الطبقية، وصكوك الملكية، ونظم التوريث وعلاقتها بالبناء القرابي والمصاهرة، فإن الأمر يصبح أكثر وضوحًا، فكما يقول وارنر، فإنه «من المستحيل في بعض الحالات أن ينتمي أي فرد تلقائيًّا لطبقة معينة». ووصل الأمر بلويد وارنر إلى حد أنه افترض أن الأهالي يدركون ويفطنون إلى العلاقات البعيدة جدًّا بالنسبة لنظام القرابة، داخل أنموذج أو طراز «مورنجن» الذي انتهى به إلى علاقات رياضية، أو قوانين أثارت الكثير من الجدل، كنظام محقق لحاجات ومطالب الزواج والنظام الطبقي، على اعتبار أن أولهما في خدمة الثاني.

•••

وفي حالة التوريث يمكن الرجوع إلى فكرة الفصل بين الأبوة البيولوجية والأبوة الاجتماعية، كما حققها إلى حد الحسم مالينوفسكي خلال دراسته الميدانية على بعض قبائل أستراليا وسكان الثروبرياند في غينيا الجديدة — قبل أن تحقق انقلابها الثقافي الحضاري الأخير — حيث إن الرجل لا علاقة له بإنجاب الأطفال، ولا يعتبر أبًا، بل مجرد زوج للأم، كل دوره هو أن «يحمل الطفل بين ذراعيه» ويرعاه ويحميه، ومن هنا لا يرث الابن أباه، بل إن وريث الأب هنا يشترط أن يكون ابن أخته، فالتوريث يتم عن طريق سلالة الأم، وبذلك يرث الرجل خاله وليس أبا، كما أنه يورث أولاد أخته وليس أولاده.

كذلك لاحظ مالينوفسكي وغيره داخل هذه المجتمعات الأمومية أن في مقدور أي فرد أن يذكر سلسال انتسابه الأموي حتى الجيل الثالث عشر، دون أن يحفظ ويتذكر أكثر من ثلاثة أجيال أبوية.٤

ويمكن القول بالنسبة لعالمنا العربي، أن كلا التوريث والانتساب للجدود يسير في خطين، صحيح أن السلطة للرجال في هذا المجتمع الذكوري، إلا أن الجنة تحت أقدام الأمهات، إلا أنه من حيث الميراث والتوريث يسير في خطين.

وكان لريموند فيرث سبق التوصل والتبصير بهذه الطريقة الثالثة التي لا هي بالأبوية الذكورية، ولا هي بالأموية الأنثوية، وإنما هي تجمع بين النظامين، وعرفها فيرث بالقرابة من الأب والأم، كما يمكن تتبع ملامحها عبر مختلف الطرق والأبنية أو المداخل، من لغوية، واقتصادية، أو قرابية تتصل بالميراث والتوريث، بالإضافة إلى رواسب نظام التابو والطوطمية.

ومن المفيد هنا الإشارة إلى أنه من الصعب علينا كمجتمعات عربية — أبوية — تصورنا لإمكان استمرار مجتمعات أخرى كثيرة مخالفة يتم نقل السلطة والامتيازات فيها عن طريق الأم، أو السلسال الأموي، وهو ما يحدث فعلًا عند كثير من الشعوب، خصوصًا البدائية في ميلانيزيا وشمال أميركا، وقبائل وسط إفريقيا وشمال روديسيا، وكثير من الولايات الهندية وجزر الهند الشرقية عامة.

وتذكر مسز أودري ريتشاردز، التي سجلت دراساتها الميدانية الأنثروبولوجية داخل قبائل البامبيا في شمال روديسيا، أن الحكومة العنصرية شجعت عن طريق الإرساليات منع انتساب الشبان إلى أمهاتهم، وتشبهًا بالأقلية الإنكليزية، عليهم أن ينتسبوا لآبائهم.

كما أن رحيل الرجل للعمل في مناجم النحاس، قضى على عادة أو نسق مبدأ إقامة الرجل في موطن زوجته، وحتمية أن يجيء من قريته الأصلية، وهي المكان الذي ولدت فيه أمه وأخواله.

كذلك كان لفيرث سبق الريادة في دراسة نظام أو نسق الزواج بأكثر من زوجة واحدة، وهو النمط الشائع في العالم الإسلامي والصين وأجزاء كثيرة من إفريقيا، خاصة الأوقيانوسية.

وسجل ملاحظاته على النحو التالي، بأن مثل هذا الزواج عادة ما يمارسه الأثرياء، وهم عادة رجال تخطوا الخامسة والأربعين.

كما أن من أسبابه الإشباع الجنسي، لا على اعتبار أنه مجرد شهوة، ولكنه إشباع لما يمكن اعتباره رغبة طبيعية، بالإضافة إلى ما يتصل بالمحارم الجنسية، وتابو تحريم ونجاسة المرأة بعد الولادة الذي قد يمتد لعدة شهور، ويستلزم منع الاتصالات الجنسية بها.

بالإضافة إلى علاقة تعدد الزوجات بارتفاع عدد الإناث عن الرجال، وبالأسباب الاقتصادية، وهجرة الزراعة، وزيادة القوة المنتجة، وارتفاع صيت الرجل، فالعائلة المتعددة الزوجات هي عبارة عن عدد من الأسر الصغيرة المتميزة، والتي يكون فيها الزوج — أو الأب الذكر — ملتقى عدة مثلثات لها أب واحد مشترك، في موقع الجد السالف، وداخل مجتمعات تقدس وتعبد السلف والسلفية.

ولعل ما أوردناه عن أهمية دراسة نظم وممارسات القرابة عبر ظواهر دورة الانتقالات المتصلة بالموت والميلاد والزواج واحتفالاته، وما يصاحبه من أغاني ومواويل، لا يبعدنا كثيرًا عن حاجتنا إلى جيل مبشر جديد من الفولكلوريين الإثنوغرافيين.

وحيث لا يقتصر دور باحث الفولكلور عند جمع وتسجيل ودراسة نصوصه الميدانية، بمعزل عن أبنيتها الثقافية المتوارثة أو المتواترة، وأخصه هنا ما يتصل بالبنية القرابية، وكذا التابو، ودوره وأنساقه، وهو ما سنتعرض له في الفصل التالي.

١  العناصر المشتركة في المأثورات الشعبية في الوطن العربي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، إدارة الثقافة … تقاليد الأسرة العراقية واحتفالاتها في الزواج، لطفي الخوري، القاهرة ١٩٧١.
٢  فان جنب، المصدر السابق.
٣  مفردها حذر، وجمعها محذورات أو محظورات.
٤  فورشن وليو أوستن حققا ما سبق إليه مالينوفسكي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤