الفصل الخامس عشر

التابو وظواهر العرس العربي المختلط

وإذا ما انتهينا من ممارسات وظواهر انتقالات الزواج تمهيدًا لتقديم ما يصاحبها من مواويل خضراء — فرحة — وأغاني، للوقوف على كيفية تحكم القرابة الطوطمية في تقاليد وروابط — اتصالية وطبقية — للزواج، ولإيضاح كيف أن مثل هذه الاحتفالات وما يعقبها من إنجاب للأطفال، وبالتالي ممارساتهم وأغانيهم، اعتبرت على الدوام مجالًا وحقلًا مخصبًا للملمح القرابي والقبائلي لفولكلورنا العربي، بالإضافة إلى بقية الملامح التي تحدد سمات وخصائص رقعة فولكلورنا المتوحدة — لكل من يتكلم العربية وشقيقاتها من عبرية وسريانية — من ذلك التابو — أو المباح والمحظور — الذي لم تعد دراسته قاصرة على الاجتماعيين الأنثروبولوجيين بأكثر من الفولكلوريين.

والتابو يشمل كل حالات وممارسات المنع والتحريم والتجريم لحالات بعينها، بدءًا من شعائر الطهارة والنجاسة، والبدء والنهاية، وأخذ الوش، والطهارة، وعليه فدراسته لا تبعد بنا عن موضوعنا، حول أغاني وممارسات الزواج والموت والميلاد.

لذا فالتابو يجد بالطبع أرضه الخصبة الجديرة بكل ملاحظة وتدوين ودراسة خلال شعائر الانتقالات الكبرى من «المهد إلى اللحد»، أو الولادة والزواج والموت، التي تراعى بكل دقة، وفي الخروج عليها مروق، يستلزم في بعض الحالات العقاب والطرد، بل القتل.

فمنذ أن دخل تعريف أو مصطلح تابو أو تفوه Tafoo إلى اللغات الأوروبية، فاستخدمه كتاب عصر التنوير أو القرن ١٨ ومنهم جان جاك روسو.
إلى أن شغلت فيما بعد دراسته عديد من المشتغلين١ بالعلوم الاجتماعية أو الإنسانيات زمنًا طويلًا، وهل المقصود بالتابو هو إتيان أفعال مباحة أو مقدسة، والإقلاع والامتناع عن أفعال أخرى محرمة أو ممنوعة، أو ما يتصل «بكلا» الحلال والحرام، مثل لمس أشياء أو الذهاب إلى أماكن بعينها، أو حتى مجرد النظر أو الشم أو السمع إلى أشياء، أو جهات — مثل القبلي — أو منازعات، أو حروب٢ بعينها.

واللافت أن مكتشفي القرن ١٧ للعالم خارج الغرب، مثل الرحالة كابتن كوك وغيره، وقد تحرجوا في المطابقة بين التابو وبين المقدس؛ وذلك لملاحظتهم أن النظام الذي يحدده التابو يتصل بمعاملات وممارسات الرجل ابتداء من الجنس، حتى عادات الولادة وتربية الأطفال، وعادات الطعام، كان لا يسمح لشخصين بالأكل معًا على مائدة واحدة، وكذلك لا يسمح للمرأة مشاركة الرجل طعامه، بنفس ما كان يحدث داخل مجتمعاتنا إلى أيامنا هذه.

واللافت هنا أن تحريم أكل المرأة مع الرجل عندنا يجيء على اعتبار أن المرأة — هنا في بلداننا — ما هي — بدورها — إلا حريم، أو حرام، أو محرمة، وهو ما يطلق على طريقة أخذ الوش والبكارة في ليلة الدخلة وما يصاحبها من أغاني وممارسات، وسيرد العديد من أنماطها.

فعدم مشاركة المرأة للرجل الطعام، بل والكثير من الأفعال، مرجعه — كما سبق أن أوضحنا — أنها مدانة وأقل منزلة منه، كما يتبدى في أساطير الخلق والخطيئة والسقوط العربية والسامية، أما بالنسبة لتلك المجتمعات البولونزية، فالتابو يتبدى كمؤسسات راسخة، فزارتهم عشرات البعثات المتعاقبة لدراسة مجمل أنشطة حياتهم وشعائرهم الدينية، التي يقيمها ويتحكم فيها التابو، فحتى المعاملات اليومية من تجارة واستثمار وعمل أُخضعت لنظام التابوات المتوارثة السائدة.

وما إن تجمعت المواد الميدانية أو الخام التي جمعها الرحالة والمبشرون في القرن الثامن عشر لدى الدارسين الأوروبيين حول ظاهرة أو النسق البنائي للتابو في تسانده الوظيفي وعلاقاته المتبادلة مع بقية الأنساق، مثل البناء الاقتصادي والسياسي والقرابي؛ حتى نشطت حركة دراسات ملفتة حول هذا النسق داخل مختلف المجتمعات، خاصة مجتمعاتنا العربية، سواء في غرب آسيا أو الشمال الإفريقي، أو بالنسبة للغات السامية، وأخصها المعاصرة العربية والعبرية أو على مستوى الممارسات والنظم الاجتماعية والسياسية ودورهما في حماية الملكية والميراث والتوريث … إلخ.

فعن طريق الاستطراد في دراسة مختلف الأنشطة والممارسات والتصورات التي يحكم ناصيتها التابو داخل هذه المجتمعات، أمكن التوصل إلى أن الكثير من مختلف العادات والممارسات التي ما تزال تواصل سيطرتها على مختلف أنشطة الذهن والمخيلة البدائية عند مختلف القبائل والشعوب خاصة في عالمنا العربي، مثل طرق القسم والحلفان سواء بالآلهة أو الموتى أو الأشياء والأماكن المقدسة، ومنها أجزاء الجسم البشري، مثل الشعر والعينين والفرج والنصوص، ومثل الدعاء والتوسل بحلول الكوارث والمصائب بالآخرين والأعداء، ثم عكسه أو نقيضه الذي يهب الرزق والبركة، وهو ما كان يحدث بكثرة مفرطة وعلى مستوى مختلف مؤسساتنا في حروبنا الأخيرة مع «الأعداء»، مثل الفرنسيين والإنكليز، بل واليهود في أيامنا هذه.

بل إن دراسة طرق وقنوات التابو كشفت عن أن الكثير من بقايا الممارسات السحرية التي ما تزال تواصل سريانها، خاصة خلال انتقالات أو احتفالات الدورة الثلاثينية الرئيسية للميلاد والزواج والموت، مثل الشبشبة، والكلمات السحرية، وحرق وإحراق وإفساد تماثيل العوازل والأعداء الورقية والطينية والمصنوعة من العجين؛ وهكذا.

بل إن متنوعات التابو شملت كيفية التعامل مع المواسم المختلفة والشهور، وأيام الأسبوع السبعة، وما يصاحب بعضها من مصنوعات: السبت عند اليهود، والأحد عند المسيحيين، والجمعة عند المسلمين، الذي به ساعة نحس أو هي تابو بدورها.

فيلاحظ أنه على الرغم من أن الالتفات للتابو لم يعرف فيما قبل العصر الفيكتوري بالنسبة للمجتمعات الأوروبية، إلا أن الالتفات إليه واصل سريانه داخلها حتى فيما بعد الثورة الصناعية، فكثرت التساؤلات، حول ما يتصل بتابوات الطهارة والنجاسة، والجهات والجنس، وما يتصل بالأكل والطهي، وإباحة أطعمة — لحوم وبقول وأسماك وخضراوات — بعينها، والإقلاع عن أخرى، وكذا ما يتصل بالدم ورءوس الحيوانات والطيور، واللبن، والنصوص المتواترة بالحفظ والأنيمزم.

بل هو أيضًا تحكم في مخيلة الطبقات الشعبية الأوروبية، ويمكن القول بأن العصر الفيكتوري كان واقعًا بدوره تحت تأثير «الذهن التابو»، فكانوا ينظرون للمرض على أنه جريمة أو خطيئة، وقالوا بأن «المريض مكانه السجن».

•••

وبالنسبة للمرأة يشمل تابو مجرد النظر لها كمحرم — أو عورة — عند مجمل الشعوب الشرقية إلى حد رفض الأنثى في مطلقها العام كنوعية، وهو ما عبر عنه في الإخوة كرامازوف بطل ديستوفسكي، الأب الرافض «فيدور بافلوفتش» في حديثه التهكمي مع الراهب «هل تعلم أن زيارات النساء في «دير» جبل آتوس، ليست وحدها ممنوعة، وإنما يمنع هناك أيضًا وجود الإناث من أي نوع من أنواع الحيوان، فلا دجاجة ولا إوزة، ولا أية عجلة صغيرة يمكن أن يحتمل وجودها هناك».

ولعل أخطر التابوات عندنا — في مصر والمنطقة العربية — هو ما يتصل بالمرأة والجنس، سواء على مستوى الرجل بالمرأة، أو الرجل بالرجل، أو المرأة بالمرأة، خاصة عبر شعائر الانتقال — الوسيط — للزواج وما يُعرف بفض البكارى وأخذ الوش، وعلى طول كيانات الوطن العربي.

فنحن ما نزال ننظر للمرأة تبعًا لتواتر النظرة الحجرية، أو الطوطمية، أو الأسطورية السالفة، على اعتبار أنها منبت الخطيئة الأم، كذا شملها التحريم، أو الحرام، أو الحريم والحرمة فاعتُبرت من المحرمات، وربط التابو بين النظر إليها والخطيئة على اعتبار أن «العين تزني».

وفي تقديري أنه لو كانت هناك دراسات علمية جادة تغطي تابو المرأة في مختلف مراحله وأبعاده، لأصبح في الإمكان التوصل إلى نتائج مفزعة سالبة، تتصل بأفرع النشاطات الإبداعية والإنتاجية والعقلية والتسلطية، لعل أبسطها هنا تصورنا لمدى التخلف الذي انتهت إليه المرأة ركيزة الأسرة العربية، نتيجة لظروف القهر والإدانة المنحدرة الممتدة من عصور ما قبل العلم، وبالطبع والضرورة يواصل هذا التخلف تفريخه داخل الأسرة العربية التي هي نواة وركيزة المجتمع الأولى.

كذلك ستقودنا الدراسة إلى مدى العلاقة الوثيقة بين تابو المرأة والجنس، وبين آفة الانفجارات السكانية المهددة التي تعانيها شعوبنا، خاصة في مصر، ووادي النيل بعامة.

ويُلاحظ أنه قد يبدو للوهلة الأولى أن جدلية العلاقة بين تابو المرأة أو «الحرام Haram» كما تنبه إليه وسماه وتعرفه روبرت سميث منذ مطلع هذا القرن، وبين الانفجارات السكانية المخيفة التي أصبحت تتهددنا على المستوى الكوني، وبخاصة في العالم النامي.

وبمعنى آخر هل يؤدي تابو المرأة والجنس المتواتر منذ منبعه على طول منطقتنا العربية، وأخصها مصر، إلى خدمة النسق، أو البناء السكاني، أو أن ما يحدث وتؤكده إحصاءات الأمم المتحدة هو العكس؟

بل إن في الحلول المتعسفة التي مداها التحلل الجنسي في اتجاه عقلنة هذه العلاقة، والتي يلجأ إليها الغرب ومجتمعات ما فوق التصنيع، وأن من أهدافها الأخيرة — بالطبع — التوصل إلى انضباطات سكانية أقرب إلى الدقة والنفع.

كذلك ستوقفنا مثل هذه الدراسة إلى الارتباط الشديد بين معوقات وتابوات الجنس وبين تخلفنا العقلي والحضاري.

ولا يمكن تصور مدى الارتباط بين حلول تابوات وموروثات الجنس، وبين الاندفاعات العقلية والحضارية في العالم المتقدم من حولنا، بشقيه الاشتراكي العلمي، والرأسمالي الإمبريالي، فما يحدث حولنا من ارتباط بين الجنس والثقافة، ممثلًا في مختلف الأنشطة من نوادي، لمجلات ودوريات وكتب وأفلام ومسرح وسينما وتليفزيون، وتربية وشارع وسرير … إلخ، لا يحدث اعتباطًا أو انحلالًا كما يدعي الجهلاء الفاشست المخربون.

ولعل في ظاهرة انفكاك وتفجر تابوات الجنس في الخفاء والظلام والزحام، بالشكل والكم الذي نشهده ونعرفه جميعًا، ما يشير بوضوح إلى ظواهره المرضية.

•••

ولعل أكثر الحالات أمنًا والتي لا يعيرها الكثيرون التفاتًا هي حالة الشذوذ النسائي أو البناتي — السحاق — وهي أقل حالات التابو عندنا، وتبدو كما لو كانت طبيعية أو غير متصورة، على عكس ظاهريتها في الغرب اللافتة جدًّا كتابو خاصة إنجلترا وأمريكا.

فإذا ما تعمقنا قليلًا في جدلية العلاقة بين تابوات الجنس والزحام في مدننا، لهالنا ما وجدنا أنها ردة لا شعورية لمراحل الإباحة وليس القباحة التي مرت بها مجتمعاتنا التي قدست عشتار والتعشير منذ ٦ آلاف عام.

ولوجدنا أيضًا أنها حالة يمكن تصنيفها مع ظاهرة الثقافة أو المواقف المضادة التي تتمثل أول ما تتمثل في النكت، والنكت الجنسية بشكل خاص، في تلخيصها لرغبات دفينة — كما سيتبدى في أغاني الزواج وفي مجابهتها لمختلف الضغوط الفوقية والممنوعات أو التابوات، ممثلة في الموقف الرافض المضاد للعرف المثالي أو العاطفي للمجتمع المغلق.

وخير حقل ميداني لمثل هذه النكات الجنسية الفاضحة، هي احتفالات انتقالات الزواج وما يجري عبرها من انفلات إباحي، تذكرنا بتقاليد العرس المختلط.

بدءًا بالتفريج الذي يجده المراهقين والمراهقات في مجال، أو حقل الأغاني والموال والأشعار والمأثورات الشعبية بعامة، ومرورًا باحتفالات الحناء وليلة الدخلة،٣ ومسرحيات حجرات النوم النسائية، أو القاصرة على النساء، التي كان يجري تقديمها حتى وقت قريب في بعض المناطق والكيانات العربية، والتي أشرنا إليها في أماكن لاحقة.

وأيضًا احتفالات الشباب بزفة العريس على طول البلد، أو القرية، والتي يتخللها تعريته ملط تمامًا، ويروحون يقرصونه ويغزونه بالإبر والأشياء الحادة في جسده، وفي أكثر أماكن جسده حساسية، وهم يلامسون إيره بهدف استثارته جنسيًّا، سواء بفواحش القول، أو الممارسة لحين دخوله على عروسه والاختلاء بها، بعد أن تقوم الداية أو القابلة بتعريفهما، وتعرية العروس أو ما يُعرف «بفك دكتها» أو لباسها تمهيدًا لقيام العريس، بعد أن يدفع «نقوطًا» للقابلة أو العروس أو الاثنين معًا، بأخذ منديل حريري ناصع البياض يلفه على أصبعيه ليغرزه في فرج العروس لإغراقه بدم العروس البكر.

حيث في الخارج تتعالى أغاني الفتيات التي تدور في مجملها حول فض البكارة ودم العروس، الذي ما أن تقوم القابلة بإشهاره، حتى تتعالى الزغاريد، بل والطلقات النارية، ويروحون يطوفون به البلدة، مصحوبًا بالأغاني التي تهيب «بتابو» دم العروس المشهر، وبأبيها:

قولوا لابوها إن كان جعان يتعشى
قولوا لابوها إن كان عريان يتغطى

أما في سوريا فالفتيات يتغنين: «يا مبيضة شاش ابوكي مع تنا امك.»

ويبدو أن الأمر أكثر صعوبة وتعقيدًا في السودان وفي بعض الكيانات العربية التي تمارس «تخييط» أو حياكة فرج البنات، وتقطيع أشفار فروجهن تبعًا لشعائر الطهور المتوارثة الموغلة في بهيميتها وطوطميتها وتابواتها.

لكن ممارسات أخذ الوش وفض البكارة تبدو أكثر توحدًا في مصر وسوريا وفلسطين وما بين النهرين.

ففي سوريا لا يختلف الأمر بحسب دراسة د. حسن الحمامي سواء في «شعائر» سرقة بعض الأواني كتابوات تموية «وتلفيق» وتلهية استجلابًا لإنجاب الأطفال الذكور.

وهي شعيرة أو مأثورة — تابو — فلسطين المنشأ، مطلع الألف الثاني ق.م ويحضرني هنا أن القصصي الفلسطيني المرموق يحيى يخلف، قد أقام عليه إحدى قصصه العذبة باسم «تلك المرأة الوردة»، حيث يقع حادث سرقة خلال عرس في منزل القاص الراوي وتتهم فيه حبيبته — المرأة الوردة — المدعوة، إلى أن تختفي من حياته ويروح ينشدها حبيبها عبر عواصم العالم ومنافيه.

ويرجع عمر هذا المأثور الفلسطيني إلى قرابة الأربعة آلاف عام، فأقدم أنماطه يجيء مصاحبًا لزواج يعقوب الذي سُمي إسرائيل عقب زواجه من راحيل أو راشيل ابنة خاله لابان بن ناحور الآرامي اللبناني الأصل واختطافها على هودجها، ولم يفت راحيل «تلفيقها» لحادث سرقة أصنام أبيها بعد أن خدعه عريسها يعقوب، كما يرد في العهد القديم كالتالي: «وخدع يعقوب قلب لابان الآرامي» حين سافر لبضعة أيام في عيد أو مولد جز الأغنام، عند ذاك — كما يقول سير جيمس فريزر — «همت القافلة بالرحيل، حيث ركب النساء والأطفال الإبل فسارت من أمامهم وإلى الخلف قطعان الماشية التي ملأت الجو بثغائها، وقد كان سير القافلة بطيئًا بالضرورة طيلة يومين، إلى أن لحقهم خال يعقوب لابان بن ناحور الآرامي في اليوم الثالث حين علم بهربه، فأخذ إخوته — قبيلته — معه.

وسعى وراءه مسيرة سبعة أيام، فأدركه في جبل جلعاد، وأتى الله إلى لابان الآرامي في حلم الليل، وقال له: احترز من أن تكلم يعقوب بخير أو شر، فلحق لابان يعقوب ويعقوب قد ضرب خيمته في الجبل، فضرب لابان مع إخوته في جبل جلعان.

وقال لابان ليعقوب: ماذا فعلت وقد خدعت قلبي وسقت بناتي كسبايا السيف، لماذا هربت خفية وخدعتني ولم تخبرني حتى أشيعك بالفرح والأغاني بالدف والعود، ولم تدعني أقبل بني وبناتي، الآن بغباوة فعلت في قدرة يدي أن أصنع بكم شرًّا، ولكن إله أبيكم كلمني البارحة قائلًا: احترز من أن تكلم يعقوب بخير أو شر، والآن أنت ذهبت لأنك قد اشتقت إلى بيت أبيك، ولكن لماذا سرقت آلهتي؟

فأجاب يعقوب وقال للابان: إني خفت لأني قلت لعلك تغتصب ابنتيك مني الذي تجد آلهتك معه لا يعيش، قدام أخوتنا انظر ماذا معي وخذه لنفسك، ولم يكن يعقوب يعلم أن راحيل سرقتها.

فدخل لابان خباء يعقوب وخباء ليئة وخباء الجاريتين ولم يجد، وخرج من خباء ليئة ودخل خباء راحيل، وكانت راحيل قد أخذت الأصنام ووضعتها في حداجة الجمل وجلست عليها، فجس لابان كل الخباء ولم يجد، وقالت لأبيها: لا يغتظ سيدي إني لا أستطيع أن أقوم أمامك لأن عليَّ عادة النساء — تابو دم الحيض — ففتش ولم يجد الأصنام.»

فيلاحظ هنا أن شعيرة أو تقليدة أو تابو تدبير، أو تلفيق حادث سرقة، عادة ما يجيء مصاحب «لشعائر انتقالات» الزواج ليلة الدخلة هدفه إحداث صدمة أو استفزاز «جنسي»، حتى يمكن «لكلا العريسين» أداء دوره المبشر أو المشير في النهاية إلى الخلف الذكوري، وليس أبدًا كما فسره فريزر؛ أي إن هدفه هو مجرد السرقة والتحايل للتاجر السامي — العربي — يعقوب وزوجته.

بل إن فريزر قد أخطأ وتجنب عدم اعتباره تابو أو مجرد سرقة عادية لأصنام آرامية أو لبنانية، ذلك أنه هو بذاته ما أورد كيف أن راحيل الذكية كانت قد أخفت «المسروقات» في محفة — أو بردعة — أو هودج الجمل، وجلست فوقها وهي تضحك في أكمامها، بينما كان والدها ينقب بدقة في خيمتها.

أي أن راحيل اللصة السارقة، كانت تضحك «كآلهة» أنثى مستبشرة بكلا الاستثارة الجنسية التي أحدثتها الصدمة ليعقوب الذي لم يكن يعلم بما درته، ويدور «هذا التابو» في الخلق وإنجاب الأطفال البنين.

ذلك أن راشيل كانت تعاني إلى أقصى حد، من عقورتها وحاجتها إلى إنجاب الأطفال الذكور، وكانت دائمة التوجع والشكوى لحاجتها إلى الإنجاب «هب لي بنين وإلا فأنا أموت».

وهكذا توالت معاناة راشيل — كإلهة أنثى — من اسمها تواترت تسمية إسرائيل عقب زواجها من يعقوب الذي تسمى برجل راشيل، إلى أن أنجبت يوسف أو النبي يوسف.

مما يرجح كفة تفسير أن هدفها «من تلفيق» حادث أو شعيرة السرقة هو إنجاب الأبناء الذكور وهو ما توارى عن إدراك سير جيمس فريزر، وكذا قصاصنا الفلسطيني يحيى يخلف للسرقة «الملفقة» داخل عرس بيتهم بفلسطين الذي حضرته امرأته — الوردة — ولحقها ذلك الاتهام الملفق الشعائري.

يضاف إلى هذا أن شعيرة السرقة — الملفقة — خلال «شعائر انتقالات» العرس المختلط، ما تزال تمارس إلى أيامنا، سواء في فلسطين كما تشير قصة المرأة، أو سوريا كما يذكر د. الحمامي، عن «سرقة بعض الأواني معلقة أو إبريقًا، وحجتهن في ذلك أن تدخل العروس به، فتنجب أولادًا من الذكور» فيبدو أنها شعيرة سامية ذات أصل آرامي، أو لبناني، والأقرب إلى أن يكون فلسطيني، تواتر بالهجرة والتجاور إلى التراث العبري، ومنه إلى سفر التكوين.

كما قد يكون من أغراضه الاستحواذ على العريس وعلى حواسه ومشاعره، التي من أهدافها بالتالي: حمايته — ولو بالسيوف والبنادق — لحين دخوله على عروسته وفض وإشهار بكارتها، فهي شعائر حماية لرجولة العريس، التي عادة ما تمر بسلسلة من شعائر الحماية، سواء تمثلت في أخطار الجسد، الذي قد يدفع بإنسان عدو أو عزول للعريس لأن يربطه، وافتقاده لرجولته، وقد يتمثل هذا في العراق، حين يمرق حيوانًا معينًا — أو تابو — من أمام موكب زفة عريس أو عرسه، كالثعلب أو ابن آوى، كما قد يتمثل في سوريا في امرأة تمسك بيدها إبرة وخيطًا — غير معقود — تخيط بها عن بعد وهي ملازمة لزفته، بهدف إحلال السحر المضاد — أو الإيجابي — الذي تقوم بعقده، سواء القرينة، أو خصوم العريس وعزاله.

كل هذا الوخز بالدبابيس يلاحق مناطق العريس الجنسية، ومن جانب ثان تشديد الحراسات بالبنادق والسكاكين والعصي والخناجر، كما في العراق، حيث يمكن العثور بطريقة ملفتة إلى مدى التوحد التراثي العربي مع مأثورات «ليلة عرسك اذبح بسك» أو قطتك، لإخافة العروس من هول وتسيد رجلها.

بل عادة ما يتعرض العريس للمحاكمة في حالة فشله وإخفاقه جنسيًّا مع عروسته، سواء من جانبه أو من جانبها، ففي حالة إخفاقه هو فما إن يتسرب خبر إخفاق السرير حتى يستقدمه رفاقه ويعقدون محاكمة قاسية حيث يهجمون عليه ويربطونه ويتكاثرون عليه ضربًا مبرحًا إلى أن تأتي العروس وتتشفع له عندهم، على أن يطول رقبتها معهم في الفراش في الليلة القادمة وينتصب ويشتد حيله، وإلا فستعاود الشكوى والعقاب.

أما في العراق فتبدو شعائر فض البكارة أكثر تعقيدًا، حيث تخيم عليهم مجموعة من التابوات، منها ما يتصل بالرجولة والخرافات ونشدان الأمن، فما إن يحبط العريس أو يُربط أو يُصاب «بالحبسة» حتى يقتضي هذا سلسلة من «التعزيم والكضبة» لإبطال سحره، باستخدام سحر الشبيه — الذي يلد الشبيه — أو الأثر، يأخذ أثر من العريس، أو من تحوم حوله أو حولها الشكوك في ربطه، قد يكون قفل منزله، والتعزيم عليه، ثم إلقائه في النهر أو إحراقه، وهنا تفك ضائقة العريس، وتعاوده رجولته وانتصابه.

والأمر بالطبع ليس بعيدًا عن ممارسات هذا التابو الجنسي الفاجع، المبدد للكثير من الطاقات، التي تفت في عضد الأسرة العربية في عصر العلم.

الأمر ليس ببعيد عما يجري في المجتمعات البدوية العربية، خاصة أقصى مغربه وجنوبه، بالإضافة إلى ما يجري ممارسته في لبنان والأردن ومصر من مخالطة للدم والجنس، أو «الدم واللبن» وتابواتهما المتسيدة.

١  شارك فيها جيش من الرواد الأوائل أمثال: ماريت، وفريزر، وتيلور، وفرويد، ودافيدسون، سبشر، رادكليف براون، وسنيث، وروبرت سميث، والأخير هنا هو فرانز شتينر — ١٨٥٢–١٩٠٩ — وأهميته هنا أنه أنثروبولوجست متخصص في الساميات، أو عالمنا العربي متضمنًا الجانب العبري. ووجه شتينر أقسى نقده ومعارضته لنظريات سميث التي ضمنها موسوعته الهامة عن الأديان السامية، أما شتينر في دراسته عن التابو، فيرى أنه «ليست كل التابوات تنتمي لأغراض دينية» كما ذكر روبرت سميث.
٢  من ذلك تابو منع الحرب، خلال الأشهر الحرم، عند عرب الجاهلية، مرورًا لحين مجيء الإسلام.
٣  تعرضت لها في كتابي عن مسرح الفلاحين المرتجل. شوقي عبد الحكيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤