الفصل الرابع

الرديء والخسيس والندل وقليل الأصل

ومن ظواهر هذا الموال الشاكي المتوجع الانتقادي الأحمر، الإكثار من الحديث والشكوى من ذلك الإنسان السيئ، أو الرديء، أو الخسيس، أو قليل الأصل.

وما أكثر بالطبع هذا النمط من الناس! الذين تعج بهم الحياة وترجح بهم كفة صراعاتها وتطفح.

فهذا الإنسان الرديء، سواء أكان صديقًا أم شريك حياة أم جارًا أم زميلًا، عادة ما يكون أقرب إلى أن يكون بطبيعة تعبده لكل سانح، وافتقاده لكل قيم، إلى أن يكون سلطويًّا جائرًا منكِّلًا.

وعادة ما يبدأ قائل هذا الموال جمهورَه شكواه بالتنكر وانتقاد عيوبه، حين أقدم على اقتناء أو «شراء» الرديء، سواء أكان صديقًا، أو زوجة، أو رفيق عمل، أو دابة، وهكذا.

والشراء هنا يشير إلى الاقتناء، بالمعنى الاختياري الإرادي، وعادة ما ينتهي بدورة البيع، أي بأخذ هذا الإنسان أو الكائن الرديء وإعادته إلى حيث جلبته وهي السوق — مرادف السوء — وبيعه ولو بأبخس الأثمان وتراب السوق والخسارة، بل وتراب السوق ذاته.

إلا أن الملاحظ أن مثل هذه المأثورات من شعرية وحكايات ومواقف ملحمية وروائية، تتبدى في السير وصراعاتها وحروبها القبائلية، التي تتخذ من نمط أم Prototype الأصيل والخسيس مادتها الرئيسية، كما أن من المألوف أن تسقط في براثن الثنائية، التي موجزها انقسام العالم إلى خير وشر مباشرين، أو نور وظلمة، وعلى هذا النحو أصيل وخسيس.
والثنائية أقرب إلى أن تتحدد داخل العربي كمؤثر «آري» فارسي في الصراع المتصل الذي جاءت به الإيفستا بين «إله» قوى الخير «أهورا مزدا» ونقيضه الشرير «أهريمن»، وتواترت فيما بعد إلى شهنامات الفرس١ المتصلة المتوالية.

ومن أقوالهم: «خسيس من يسدي الخير لخسيس»، وهو ما يتقارب مع مأثوراتنا، ومنها تهديد قائل المربع لحدقة عينه إذا ما عادت إلى اتخاذ الخسيس حبيبًا:

إن عادت العين تعمل الخسسة حبايبها
أنا أهد ظربها واقلع من حبايبها

ويرد هذا الصراع المثالي في معظم السير والملاحم المندثرة أو المهشمة، مثلما وصلنا في السيرة أو الملحمة التي يتعاقب فيها الشعر والنثر حول الملك معروف وابنه الشاطر حجازي، ونقيضهما الرامز للشر والخسة «البين» المتوحد ﺑ «ست» أو «ستخ» أو «طيفون» مرادف الشيطان في التراث العربي، كما يرد في السيرة المندثرة «عبيد الغالبة» وكذا في الحكايات الخرافية «نعناعة والإله – الحمار – سعد الدين»، مرورًا بصراع إبراهيم مع الملك النمرود، وموسى مع فرعون مصر.

فالثنائية سمة بين كلا التراثين المتجاورين أو المتتاخمين الفارسي الآري والعربي السامي، اكتملت في الشعائر، أو تلك الطقوس الهامشية المتصلة بالبدء، سواء أكان البدء في حصد المحصول، أو بدء حرب قبلية، أو هجرة، أو إطعام، وانتهاء بقراءة وتراتيل النصوص الدينية: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

إلا أن هذا الملمح الانقسامي الثنائي لا يقتصر على تراثنا، بل هو يكاد أن يكون ملازمًا لخرافات الجان على رقعة العالم أجمع، كما لا تخلو منه الحكايات التعليمية والوعظية عن أخوين أو شقيقتين، إحداهما تناصر الطيبة والخير المطلق، وثانيتهما تقف في صف الخسة والشرور، كما هي الحال في التراث الأسطوري والشعائري الزرادشتي الفارسي القديم.

كذلك لا تخلو نصوصنا التالية من استهداف التقابل التعليمي الوعظي، والتحذير والابتعاد عن النذل والرديء ومن لا أصل له.

ياللي اشتريت الردي وإيش كان عجبك فيه؟!
أنا اشتريتو ملمع ما كنت أعرف اللي فيه
لما اشتريت الردي بدَّرْبو وروح ع السوق
وكل ما جالك في الردي حمِّل وقوللو سوق
وقفت بيك يا ردي لما شلت تراب السوق
ما حد جاني ولا فصلي بعتماني
رميت حمله على ضهره
وقلت يا ناس معيوب
اللي يسوق يسوق

•••

جرحي القديم الأولاني أنا كنت راضيبو
ولما نز الجديد ع القديم زادت لهاليبو
وسر تربة بني زين وعبد العال ونسيبو
لناخد حقنا من قليل الأصل ونسيبو!

•••

إن عادت العين تعمل الخسسة حبايبها
أنا أهد ظربها واقلع من حبايبها
ولما عملتو الفرح ليه ما دعيتوناش؟
إشمعنى في الغلب طونا نوايبنا؟!

•••

ياللي اشتريت الردي وحملت عنه الدين
وصبحت من عشرته تلطم على الخدين
ساعة جلبت الردي كانت عيونك فين؟
لهو انت بعدما تقبض التمن تدوَّر ع الأصل بعدين؟!
لما اشتريت الردي بدَّرْبو وروح السوق
وكل من فصلَّك فيه اسعى وقوللو سوق
أنا وقفت بالردي لما صفصفت عليَّا السوق
رميتلو حبله على ضهره وقلت اللي يسوق يسوق

•••

زرعت الجميلة في أرض واتاري الأرض مقطوعة
مردومة بالخرسان بالجبس مقطوعة
سافرت برا وجبتلها تقاوي عال
وقلت دي تنفع وتبقى زراعتها عال
أتاريني بانفخ في قِرْبة والقربة مقطوعة

•••

يا نفسي كوني معايا ع الحال والماشي
لاستعملِّك الذل وأكل الحال والماشي
يا نفسي دا انت رضية بتعشقي لندال
إن قابلك الندل في السكة ليه بتقفيلو؟
وإذا سمعتي حسه في تاني حارة ليه تروحيلو؟
والله الأصيل عال كفاية اللفظ وسؤاله
وإن قابلك الندل في السكة وقعد يجر في كلامو
صهين كلامو وفوتو يرن ع الماشي

•••

جرحي في جنبي كلعني
وجار الردي عبتاني
واخويا شجيجي كلعني
زمن الجرح بعدما طاب عبتاني

•••

إن سبني الندل ما انيش ندل أرد عليه
أحفظ لساني عن الغلط ما ارد عليه
أصله وفصله ظهر عنه ما رد عليه
مجرم قبيح وداير في البلد كداب
ما عدت آجي حارتهم أبدًا واخشى الدرب
واذا كان له أب كان يوجب نرد عليه

•••

اللي يعاتب قليل الأصل ملوش عقل
ينسبِّ عرضه واذا كان ابن هوله عقل
يا عم سيبك من اللي داير بالفتن والنقل
واذا كان قليل الأصل يعتب على روحو
دا كان يجيب سم ساعة يسم بو روحو
بينقد على الناس ولا ينقدشي على روحو
دا أصله قليل الأصل وجتلو السعادة نقل

•••

يا ريت نهار اشتريت الردي كان مات جلَّابو
ولا كنت اشتريت الردي من يد جلَّابو
أنا اشتريتو بحسبو حر تخشى الناس جلابو
لقيتو مشنْيَر يلبَّخ في الكلام ويزيد
أنا رحت ابيعه لقيته بينقص في التمن ما يزيد
أنا خدته من إيده واديته لبتاع الوقيد
واشتريت جلابو

•••

أكل الخشن ضرني ما أدرشي على الضاني
فلوسي شحيحة وآدي الايام عضاني
لو كان لي أب زي الناس رباني
ما كنت أسكر وانسى ذكر رباني
مشي الخسيس عيب لوَّعني ورباني
مشي الأصيل زين عدِّلني ورقَّاني
الله ينعلك يا زمن حوجتني لأقل الناس
دا البين طحنِّي كما الحنة ورباني

•••

خسيس وشتم أصيل قاللو نهار مندي
ضحك الأصيل شوفوا فسوق دي من دي
قام الخسيس قال خليها سطيحة لا عندك ولا عندي
التفت الأصيل لقى الجلسة عليه مالت
قال اشهدم يا رجال حق الخسيس عندي

وفي التناظر السابق بين الخسيس الذي سب الأصيل، الذي ما إن اكتشف أن الزمن والأيام في غير كفته حيث يتسلط الخسيس، فكان أن أشهد الجميع على أن حق الخسيس — الجائر عليه — عنده!

١  للاستزادة من هذا الموضوع حول الثنائية الآرية الفارسية يُرجع لكتاب «الحكايات الشعبية العربية»، شوقي عبد الحكيم، دار ابن خلدون، بيروت، ص٨٦، عن «العلاقات التاريخية والتراثية بين العرب الساميين والفرس الآريين».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤