مقدمة الطبعة الثانية

منذ صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب جدَّت أمور كثيرة خلال اثنتي عشرة سنة في موضوع النوبة، ملخصها تراكم مشكلات من المعاناة من جوانب عدة، بعضها ما يأتي:
  • (١)

    أول أشكال المعاناة كانت من جانب النوبيين المهجرين في الموطن الجديد في «مركز نصر» بحوض كوم أمبو، والذي نسميه اختصارًا «نوبة مصر»، أُسس المعاناة هنا عديدة، على رأسها ضيق المسكن بعد أن كبر الأولاد وتزوَّجوا، ولم يكن لديهم فائض أرض لبناء مساكنهم الخاصة، وأيضًا ضيق المعايش؛ لأن الأرض التي خصصت للأسرة الواحدة آنذاك كانت فدانين للاستزراع، وحتى أصحاب المعاشات الحكومية — وهم قلة — ضاقت بهم الحياة بنمو احتياجات الأجيال الجديدة، ومن ثمَّ كثرت هجرة العمل في مصر أساسًا وفي الخارج أحيانًا.

  • (٢)

    أولئك النوبيون الذين لم يعوضوا في كشوف الهجرة لعدم تواجدهم في النوبة القديمة، والذين يُطلق عليهم اختصارًا «المغتربون»، وهو اسم لا يُعبر عن معنى الاغتراب! فهؤلاء كانوا يعيشون داخل مصر وطنهم الكبير، يمارسون نشاطاتهم المعيشية في شتى الأنحاء مدنًا وسواحل وريفًا، مشكلتهم تتلخص في أنهم أو أسرهم كانت لهم بيوت مغلقة في النوبة القديمة، ومن ثم لم يدرجوا في كشوف الإحصاء التي بمقتضاها تم تدبير السكن والأرض في منطقة التهجير الجديدة في مركز ناصر، وهم الآن يطالِبون بحق العودة بتخصيص مساحات لهم حول بحيرة ناصر، وهو الاسم الذي يستبدله أكثرهم باسم بحيرة النوبة، باعتبار المكان الجغرافي للبحيرة فوق النوبة القديمة؛ رغبة في استمرارية اسم النوبة الذي كان سائدًا من قبل على إقليم النوبة، وأيًّا كانت التسمية راجعة إلى صاحب مشروع السد العالي أو إلى الموقع الذي تحتله بحيرة السد؛ فإن الواقع يرجح اسم المكان باعتباره أكثر دوامًا من أسماء الأشخاص، وكحلٍّ وسط؛ هل يمكن إطلاق اسم ناصر على السد العالي، واسم النوبة على البحيرة؟

  • (٣)

    وخلال السنوات العشر الأخيرة كانت هناك مشروعات استصلاح واستيطان في منطقتين؛ أولهما: وادي النقرة «نجرة» شرق مركز نصر مباشرة، حيث أعمال سائرة لاستصلاح نحو ٦٥ ألف فدان، معظمه مخصص لشركات استثمارية، والقليل منها مخصص للمنتفعين أيًّا كانوا دون نوع ما من التخصيص للنوبيين ولو قليل من القرى. والثاني: كان إنشاء قرى — ربما قرية أو اثنتين — على ضفاف البحيرة مفتوحة لاستيطان فقراء أقاليم مصر الجنوبية والشمالية، وبصفة عامة لم ينل النوبيون أية ميزة في هذا التخصيص، وقد أثارت هذه التجاهلات النوبيين بصفة عامة؛ فهم كانوا ينتظرون أن يكون لهم أولوية التخصيص حول البحيرة، باعتبار أنها أصلًا جزء متمم لأراضي النوبة القديمة بحق الشفعة، أو مراعاة حق الجوار في مستصلحات وادي النقرة.

  • (٤)

    إزاء هذه المشكلات، وبين أخذ ورد مع الإدارات الحكومية ومحافظة أسوان، جاءت تصريحات السيد رئيس الجمهورية في زيارته أواخر العام ٢٠٠٩، شكل حلًّا يرضي جميع الأطراف؛ أولًا برفع مطالبات البنك الزراعي عن كثير من أهل نوبة نصر، وثانيًا حل مشكلة المغتربين بتخصيص أراضٍ لهم حول البحيرة، وقد وقع اختيار الإدارة على منطقة خور كركر في شمال البحيرة، قريبًا من مطار أسوان الدولي، مكانًا للنوبيين الراغبين في العودة إلى ضفاف النيل، لكن هذا التخصيص المكاني لم يلقَ قبولًا عامًّا بين دوائر نوبية عديدة؛ بتبرير أنه مكان صغير في أرض كثيرة الهزات الأرضية فليلة القدر، وفي قرارة الأمر فإن منطقة كركر هي الطرف الشمالي لأراضي البحيرة، بينما هناك عشرات الكيلومترات من الأراضي شرق وغرب البحيرة في جنوبها ووسطها وشمالها أصلح للاستيطان من خور كركر، رغم قربه من مدينة أسوان، مما يسهل الحركة وأشكال النشاط الاقتصادي.

  • (٥)
    إزاء ذلك كله، فإن حركة الناشطين النوبيين والغاضبين منهم لها ما يبررها، وهناك جمع من الأسئلة والاستيضاحات في هذا الموضوع، بعضها كما يلي:
    • النوبييون الآن مجموعتان مكانيتان؛ أولهما: نوبة نصر، وهم كتلة كبيرة متجانسة في إقليم متقارب. والثاني: نوبة الانتشار في أرجاء مصر، والأغلب أنهم أكثر عددًا من نوبة نصر، وهم متجانسون مع بيئاتهم التي يعيشون من خلالها اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، وتربطهم معًا النوادي الثقافية النوبية الكثيرة، وأيضًا رابطة النادي النوبي العام.

    • في كلتا المجموعتين من النوبيين ارتباطات كثيرة معيشية ومعاشية بكافة المجالات الحياتية مع من حولهم من الناس والأعمال، فكم من النوبيين يمكنهم فك هذه الارتباطات المعيشية ومصالحهم من أجل البدء من جديد في مستوطنات جديدة حول بحيرة النوبة؟

    • وإذا كان عدد النوبيين المصريين مليونًا أو أكثر، فلا شك في أن أقل من الربع راغبون في العودة إلى ضفاف البحيرة، فهل هذا العدد يكفي لسكن الأراضي حول البحيرة واشتقاق حياة جديدة قوامها الزراعة، أم أن تكون هناك أنشطة أخرى صناعية وحرفية وأنشطة الخدمات التعليمية والصحية والسياحية وشئون المجتمع والتجارة … إلخ؟

    • وفي المجتمع النوبي القديم كان الأمان والتجانس صفة أساسية، ومع ذلك كان هناك تعامل سلمي وتعايش من أجل مصلحة مشتركة مع غير النوبيين الذين يسكنون في أحيان جنبًا إلى جنب النوبيين؛ كالعبابدة والبشارية، أو كأهل الصعيد الأعلى الذين يتعايشون مع صيد النهر في مواسم، ويساعدون في إعداد الأرض للزراعة مع أهالي النجوع في موسم الزراعة، والآن حالة مماثلة بين سكان نوبة نصر من ملاك أراض أو عاملين وتجار مع جيرانهم من سكان مزارع ومصانع وتجار بقية إقليم كوم أمبو، وبطبيعة الحال مثل ذلك بين نوبة الانتشار في مدن وأقاليم مصر.

    • لا شك أن هناك رومانسية عن حياة الماضي في شبه عزلته، لكن المدقق من النوبيين يرى أن المجتمع النوبي القديم كان يتكون من أغلبية من النساء والأطفال وكبار السن من الرجال، ولم تكن الأسرة في مراحل السن المتوسطة نواة المجتمع المقيم إلا في حالات محددة، حيث الأرض غنية بمشروعات زراعية مثل بلانة وعتيبة والدكة والعلاقي، أو عند زيارة الرجال العاملين خارج النوبة لبلادهم.

      واستطرادًا لموضوع السكان، فإن النتائج النهائية للتعداد العام للسكان عام ٢٠٠٦، المنشورة بواسطة الجهاز المركزي للإحصاء السكاني، قد أوضح أن سكان النوبيين المقيمين في قرى التهجير بمركز نصر النوبة؛ بلغ عددهم أكثر قليلًا من ٦٠ ألفًا، لكن الأهم أن الفحص الدقيق لعدد سكان القرى قد أوضح ارتفاع نسبة الذكور إلى مجموع السكان المقيمين من متوسط نحو ٣٨٪ في ١٩٦٠ إلى نحو ٤٦٪ في ٢٠٠٦، وهو تغير كبير في تركيب المجتمع يوضح أثر الاستقرار، وكما كان في الماضي فإن بعض قرى الكنوز تتصف بنسبة أقل من الذكور مقارنة بقرى الفديجة: فنسبة الذكور كانت أقل أو نحو ٤٠٪ بين قرى الكنوز والعليقات، مثل السبوع ووادي العرب وشاتورمه وقرشة وكشتمنة — وكلها كانت من قبل أقل من ٣٠٪ — بينما سجلت قرى الفديجة نسبًا أعلى قليلًا من المتوسط العام، مثل بلانة وتوشكى وعنيبة. وبعبارة أخرى، فإن ذلك يؤكد أن الاستقرار بدأ يأخذ طريقه إلى تعديل نسبة النوع في المجتمع النوبي.

    • الملاحظة الأخيرة أنه تبين من إحصاءات الجهاز المركزي لعام ٢٠٠٦، أن هناك مجموعة من القرى في مركز أبو سنبل حول البحيرة هي: قسطل وأدندان والفراعنة ونلوا الزهور والسلام وعبد القادر والعبابدة والشهداء والمستقبل والصيادين وأبو سنبل السياحية والري. مجموع سكان هذه القرى بلغ ٣٩١٥ نسمة، أكبرها عبد القادر والسلام والمستقبل ونلوا — لكل نحو ٦٠٠ نسمة — وتتصف بارتفاع نسبة الذكور إلى فوق معد ٥٥٪، وهو ما يدل على حداثتها وقلة عدد الأسر، فلماذا لا تستفيد هذه القرى من الراغبين النوبيين في العودة إلى ضفاف البحيرة؟

الخلاصة أنه ليس من المستحيل أن تكون هناك قرى نوبية وأخرى غير نوبية على الامتداد الكبير لمنطقة بحيرة النوبة، وفي هذه الحالة سيصبح النوبيون منقسمين مكانيًّا إلى ثلاثة أقسام؛ هم: نوبة الانتشار، ونوبة نصر، ونوبة البحيرة. لكنهم كلهم متفاعلون معًا نسبًا وثقافة ولغة، يرفد بعضهم البعض، فينتقلون من هنا إلى هناك، حيث تتنوع مجالات الأنشطة الاقتصادية حسب تأهيلهم التعليمي والمهني داخل الوطن الكبير، مثلهم مثل أي مجموعة مصرية أخرى. «وبالله التوفيق …»

محمد رياض
القاهرة في يناير ٢٠١٠

ملاحظة

يعزُّ عليَّ أن أكتب مقدمة الطبعة الثانية لهذا الكتاب التاريخي بعد أن فقدت في نوفمبر ٢٠٠٢ زوجتي ورفيقة عمري وشريكتي في الدراسات الميدانية العديدة، وفي تأليف هذا الكتاب وغيره؛ الأستاذة الدكتورة كوثر محمد عبد الرسول. عليها رحمة الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤