الإعداد للرحلة
بعد الدراسة التي قمنا بها في سيالة في يناير ١٩٦٢م، بدأ يراودنا مشروع كبير لزيارة كل النوبة المصرية في رحلة شاملة، نتعرف من خلالها على النيل والطبيعة والناس وحياتهم وأفراحهم وأحزانهم وقيمهم الحياتية قبل التهجير إلى منطقة كوم أمبو، وتكون بذلك سجلًّا لجزء من مصر ستتحول ملامحه تمامًا في كل النواحي البيئية والبشرية.
- (١)
بحيرة خزان أسوان ستكون قد أُفرغت تمامًا؛ مما يعطينا الفرصة لنشاهد النوبة في وضعها الطبيعي قبل بناء سد أسوان؛ أي سيكون النيل حرًّا في جريانه وقت الفيضان، وسيكون الناس منهمكين في استخلاص مورد الأرض الطبيعي، وهو الزراعة.
- (٢)
صحيح أن النيل سيكون في وقت الفيضان الطبيعي الذي كان يمثل فيما قبل السد موسم الانقطاع عن الزراعة، لكن لم يكن هناك حيلة للوصول إلى وضع النيل في النوبة بعد الفيضان، وبالتالي فإن سبتمبر سيكون أقرب الأوقات إلى شيء من صفات البيئة الطبيعية بدون تدخل الإنسان.
- (٣)
وصحيح أيضًا أن تيار النيل في الفيضان سيكون قويًّا جارفًا عند الملاحة جنوبًا، ولكنه كان مخاطرة يجب أن نأخذها، فإما نجحنا أو فشلنا. وفي حالة الفشل، كان هناك بديل أن نعاود الكرَّة بواسطة وسيلة النقل المعتادة، وهي الباخرة الأسبوعية البطيئة.
- (٤)
كذلك كان من بين أسباب اختيار سبتمبر، أننا سنكون قد تجاوزنا درجات الحرارة القصوى في يوليو وأغسطس، ويبدأ تحسن نسبي بعدهما، لكن ذلك لم يكن الواقع على الأقل طوال ١٢ ساعة من سطوع شمس قوية، وهو شيء غير ملائم لمعدات التصوير، ومن ثم كان علينا أن نختار أفلامًا قليلة الحساسية للتصوير النهاري بحذر، وأفلامًا سريعة للتصوير الليلي بالضوء الصناعي.
- (٥)
وأخيرًا كان اختيار سبتمبر ضروريًّا؛ لأننا يجب أن نلتحق بعملنا في الجامعة في شهر أكتوبر.
وكانت المشكلة الثانية هي تدبير وسيلة انتقال نهرية نقف بها حيث نريد وللمدة التي نريد، وبطبيعة الحال كانت الوسلة الأمثل هي تأجير قارب مزود بمحركات؛ ليتمكن من الملاحة ضد التيار وبالسرعة الملائمة، صحيح أن أحسن الوسائل تكون قاربًا شراعيًّا يمكننا من التهادي على صفحة الماء، ويسمح بالتصوير والتوقف في أي مكان، لكن القارب الشراعي تحت رحمة الرياح، وقد تصبح سرعته قريبة من الصفر إذا لم تكن الرياح مواتية أو تيار الماء عنيفًا، وبعبارة أخرى كان القارب الشراعي هو أحسن البدائل إذا توفر لنا من الوقت شهران على الأقل، وهو ما لم يكن متوفرًا لنا، هذا فضلًا عن أنه كان من الصعب إقناع صاحب مثل هذا القارب الارتحال بطول النوبة؛ فالماء ثقيل بما يحمل، كثيرُ الدوامات؛ مما يجبر الملاح على سلوك خط سير متذبذب بين الضفة والأخرى؛ تجنبًا لمفاجئات عرفناها فيما بعد، كما رأينا الكثير من القوارب الشراعية تلتجئ إلى الصنادل البخارية لجرها في الأماكن التي يستحيل فيها حتى جر المركب بالحبال من الشاطئ «جر اللبان».
ثم هدانا التفكير إلى الالتجاء إلى مركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، الذي كنا قد عملنا لهم دراسة خاصة في سيالة قبل بضعة أشهر، ذلك أن لهم عدة لنشات في النوبة لخدمة نشاط باحثيهم في دراساتهم الأنثروبولوجية في نواحٍ عدة من النوبة بتمويل من مؤسسة فورد، وعرفنا أن هذه القوارب تقف ساكنة عند حراس من النوبيين خلال الصيف، وأن أحدهم موجود في نجع قناوي قبالة عمدية دهميت، وعندما اتصلنا بهذا المركز وعرضنا استئجار أو إعارة قارب دهميت، رحبوا بإعارته لنا، شريطة أن نعيده في آخر سبتمبر؛ حيث يبدأ نشاطهم، وأن ندفع نحن تكلفة الوقود والحارس الذي سيكون بصحبتنا، وقد ساعدنا في ذلك أحد الباحثين الشبان في مشروعهم، هو الآن الدكتور أسعد نديم، صاحب مؤسسة المشربية للمنتجات التراثية بالدقي، والتي قامت مؤخرًا بترميم بيت السحيمي في قاهرة المعز.
وقد وافق أسعد على مصاحبتنا في الجزء الأول من الرحلة حتى قرشة، وكان نعم الزميل، ووددت لو أكمل معنا لولا ارتباطاته في القاهرة، فالشكر كل الشكر له، وللدكتورة ليلى شكري مديرة مركز البحوث، والدكتور روبرت فرنيا مدير مشروع دراسات النوبة في تلك الفترة، كذلك صاحبتنا الباحثة النمساوية د. آن هوهنفارت لبعض الوقت، والتي كانت منشغلة بدراسات لغوية وفولكلورية في بلدة الدر.
بعد أن خلصنا من مشكلة تحديد الوقت ووسيلة الانتقال بدأت حمى السفر تجتاحنا، ودخلنا في تفاصيل دقيقة، ماذا نأخذ معنا؟ ماذا نحتاج إليه في هذه الرحلة الطويلة؟
الملابس يجب أن تكون خفيفة مريحة وعملية تتحمل السفر، وتساعد على تحمل الحر والرطوبة، فسنمضي ساعات وساعات وسط مياه النهر، بالنسبة لرياض كانت البنطلونات التيل والفانلات القطنية سهلة الغسل والتجفيف، وبالنسبة لكوثر كانت الجونلات الواسعة والبلوزات القطنية، أو الفستان الواسع من أجل حرية الحركة دون اختناق، الأحذية كانت أحذية باتا الكاوتشوكية الخفيفة، وسهلة التنظيف بالغسل في الماء، هذا فضلًا عن أغطية خفيفة تجنبًا للذعة البرد في الفجر.
وحول التجهيزات العلمية، كان هناك إعداد آلات التصوير التي لدينا للتصوير الملون في شرائح والتصوير العادي «أسود/أبيض» والعدسات المقربة، وتلك واسعة الزوايا، ومرشحات الضوء وآلة تصوير سينمائي ١٦ملم، وشراء الأفلام المناسبة للجو القائظ، وآلة التسجيل الصوتي والشرائط والبطاريات اللازمة لها، ولم يكن يُعرف في ذلك الوقت التصوير بالفيديو الذي يُغني عن كثير من هذه الآلات، وكذلك لم تكن عدسات «الزووم» والكاميرات الأوتوماتيكية متاحة، وباختصار كان التصوير يعتمد على المهارة الشخصية والسرعة مع الدقة في التصويب، وهو ما كان يؤدي إلى بعض الفاقد في الأفلام وفي اللقطات النادرة، خصوصًا أثناء الحركة.
وبعد انتهاء الاستعدادات تركنا ابنتنا عايدة عند جدها وسافرنا إلى أسوان بقطار النوم المسائي، ولم تكن الرحلة مريحة؛ فقد كانت غرفتنا فوق عجلات القطار، لذا كانت الأصوات عالية والقطار كثير الاهتزاز، والخوف من السقوط لمن في السرير العلوي جعل النوم متقطعًا، تغلبنا عليه ببعض الضحك. وصلنا أسوان الواحدة والنصف بعد الظهر نتيجة للتأخير في بعض الأماكن من المسافة الطويلة بين القاهرة وأسوان، واتجهنا إلى فندق جراند أوتيل للراحة قليلًا قبل معاودة التأكد من استكمال كل المتطلبات، وذهبنا إلى مبنى إدارة شركة «هوختيف»، وقابلنا الهر رايدر، الذي أبدى استعداده لنقلنا على المركب «عمدا» إلى حيث نريد قبل كلابشة، وعلمنا أن «عمدا» سيبحر صباح اليوم التالي.
وعلى الفور قسمنا العمل بيننا؛ كوثر ذهبت إلى السوق مع سيدة أسوانية لاستكمال النقص في المؤن، وخاصة معلبات اللحم والخضروات والفواكه الطازجة، وخاصة الليمون الحلو الذي ظهر أنه أكثر الفواكه مقاومة للجفاف، ويظل محتفظًا بعصارته المفيدة، وكذلك اشترت الخبز وأدخلته أحد الأفران لتقدده كي يعيش فترة أطول، وبعض الحلوى وهدايا لأطفال النوبة والنساء، وموقد الكيروسين.
أما رياض وأسعد فقد اتجها لشراء البنزين اللازم للرحلة مع زيت الموتور، وقد اشتريا ٦٨ صفيحة بنزين ومثلها من الزيت. ولما كان اللنش صغيرًا لا يحتمل هذه الحمولة الثقيلة، فقد حاولا نقلها بواسطة «البوستة» — أي الباخرة الأسبوعية — لكن إدارة هذه البواخر رفضت؛ لأنه ممنوع نقل المواد الملتهبة بها، وأخذا يبحثان عن مركب «دلتا» — أي الصنادل التي تمخر النهر حتى حلفا — ووفقا في العثور على واحد اسمه «بيومي» سوف يُغادر إلى النوبة صبيحة اليوم التالي، وكانت الساعة قد بلغت التاسعة مساءً، وأخذ رياض يسأل عن ريس الدلتا حتى عثر عليه، واتفق معه على نقل صفائح البنزين والزيت، وإنزال عدد منها أمانة عند وكيل البريد في عمديات كلابشة وقرشة وسيالة والمالكي والدر وتوشكى وبلانة، في كل محطة ينزل تسع صفائح، عدا كلابشة ستًّا، ونقلنا البنزين إلى المركب. أتحفنا الريس والمراكبية فوق الأجر لمزيد من الاهتمام بالنقل والتوزيع، أما باقي البنزين فقد أخذناه معنا إلى السفينة «عمدا» التي ستنقلنا إلى حيث يرسو قارب الجامعة الأمريكية، وكان لا بدَّ من إحضار تصريح بنقل الوقود من أحد المكاتب الحكومية — نسينا اسمها الآن — وتم كل شيء حوالي الحادية عشرة والنصف مساءً، وفي منتصف الليل تقريبًا جلسنا في الحديقة المطلة على النيل؛ نستجمع أنفسنا مع فناجين الشاي بعد المجهود البدني والعصبي طيلة ما بعد الظهر.
- القطار من القاهرة إلى أسوان: ٥٫٣٧ جنيه تذكرة درجة ثانية نوم، و٨٫٦٩٥ جنيه درجة أولى.
- الانتقال بالطائرة من القاهرة إلى أسوان: ٩٦٠ قرش طريق واحد، ١٧ جنيه و٢٠ قرشًا تذكرة بالعودة إلى القاهرة مكتب مصر للطيران بالفندق، ويتولى أتوبيس الشركة نقل الركاب من وإلى المطار.
- باخرة «البوستة» في النوبة: قرش صاغ واحد عن الكيلومتر بالدرجة الأولى، ونصف القرش بالدرجة الثانية، وبالتالي فإن قيمة التذكرة من أسوان إلى حلفا كانت ٣٤٠ قرشًا للدرجة الأولى، وإلى سيالة ١٣٠ قرشًا … إلخ، ويضاف إلى ذلك جنيهًا واحدًا قيمة ثلاث وجبات — طعام أوربي كامل — بشرط الحجز مقدمًا.
- فندق جراند أوتيل بأسوان: غرفة بسرير واحد بدون حمام ٨٥ قرشًا لليوم مع الإفطار، و١٧٠ قرشًا مع ثلاث
وجبات.
غرفة بسريرين بدون حمام ١٧٠ قرشًا لليوم مع الإفطار، و٣٢٠ قرشًا مع ثلاث وجبات.
غرفة بسرير واحد مع حمام ١٣٥ قرشًا لليوم مع الإفطار، و٢٠٠ قرشًا مع ثلاث وجبات.
غرفة بسريرين مع حمام ٢٣٠ قرشًا لليوم مع الإفطار، و٣٨٠ قرشًا مع ثلاث وجبات.
الإفطار للفرد ١٥ قرشًا، الغداء ٤٥ قرشًا، العشاء ٥٠ قرشًا.
في حالة الاستراحة في الفندق — دون مبيت: حجرة بسرير بدون حمام ٤٠ قرشًا، ومع حمام ٦٠ قرشًا.
- التاكسي: من محطة أسوان إلى فندق جراند أوتيل — حوالي عشر دقائق — عشرة قروش.
من جراند أوتيل إلى محطة الشلال — بداية باخرة البوستة — حوالي نصف ساعة؛ ٨٠ قرشًا.
فأين أسعار زمان من الأسعار الحالية حتى مع ملاحظة فروق الرواتب منذ ثلث قرن.
العمدية | المسافة كم |
---|---|
دهميت | ٣٠ |
أمبركاب | ٤٥ |
كلابشة | ٥٠ |
خور رحمة | ٥٥ |
أبوهور | ٦٠ |
مرواو | ٧٠ |
مارية | ٨٠ |
قرشة وجرف حسين | ٩٠ |
الدكة | ١٠٥ |
العلاقى | ١١٠ |
قورتة | ١١٥ |
محرقة | ١٢٠ |
سيالة | ١٣٠ |
مضيق شرق | ١٤٠ |
مضيق غرب | ١٤٥ |
السبوع | ١٦٠ |
وادي العرب | ١٦٥ |
المالكي | ١٧٥ |
كورسكو | ١٩٠ |
أبو حنضل | ٢٠٥ |
الديوان | ٢١٠ |
الدر | ٢١٥ |
توماس | ٢٢٠ |
قتة | ٢٢٥ |
إبريم/عنيبة | ٢٣٥ |
الجنينة ومصمص | ٢٤٠ |
توشكى شرق وغرب | ٢٥٠ |
أرمنا | ٢٦٠ |
فرقندي | ٢٧٠ |
أبو سمبل | ٢٨٠ |
بلانة بحري | ٢٨٥ |
بلانة النقطة | ٢٩٠ |
أدندان | ٣٠٠ |
وبناءً على جدول المسافات أعلاه، كنا قد وزعنا البنزين والزيت على أساس أن المسافة بين كل محطة والتالية لها في حدود ٣٥ إلى ٤٥ كيلومترًا، فمن دهميت إلى كلابشة نحو ٢٥كم، ومن كلابشة إلى قرشة ٤٠كم، ومن قرشة إلى سيالة ٤٠كم، ومن سيالة إلى المالكي ٤٥كم، ومن المالكي إلى الدر ٤٠كم، ومن الدر إلى توشكى غرب ٤٥كم، وأخيرًا من توشكى إلى بلانة ٣٥كم، وذلك على أساس نصف الكمية في الصعود جنوبًا والنصف الآخر في العودة شمالًا، وقد اتضح لنا بالتجربة أن ذلك كان أكثر من احتياجنا في العودة لمساعدة التيار لنا في الإبحار، كما سيأتي ذكره فيما بعد.