الفصل العاشر

من المالكي إلى الدر وتوشكى

بعد شاي الصباح في مضيفة عوض أفندي ذهبنا إلى منزل الأستاذ هلالي لأخذ أغراضنا، ثم توجهنا بالقارب إلى نجع البوستة، حيث تزودنا بالوقود وأخذنا صفائح أخرى للاحتياج طوال الطريق، وفي التاسعة تحركنا بعد أن اتفقنا مع الأستاذ هلالي على زيارة السنجاري في طريق العودة، وبعد نحو ساعة ظهرت كورسكو شرق تحت أقدام جبل كورسكو المخروطي، وهو معلم من المعالم الرئيسية في الملاحة النوبية لارتفاعه — ٢٦٧ مترًا فوق سطح البحر و١٥٥ مترًا فوق منسوب النهر — وترتفع جبال السنجاري وشاترمة إلى ٢٩٠ مترًا، لكنها تمتد في صورة حائط عالٍ، بينما يقف جبل جورسكو منفردًا بين جبال السنجاري وأبو حنضل.

ولكن هناك أهمية ملاحية أخرى لجبل كورسكو؛ فهو إشارة إلى بداية انحناء النهر إلى الشمال الغربي، بعد أن كان النهر يسير في اتجاه عام إلى الجنوب، ويستمر النهر في هذا الاتجاه حتى بعد الدر بقليل مسافة نحو ٣٠ كيلومترًا، هي مسافة ليست كبيرة، لكنها شديدة البأس على الملاحة، خاصة في موسم الفيضان؛ حيث تتجمع قوة تيار الماء والرياح الشمالية على إعاقة الملاحة الشراعية تمامًا، وهو ما يؤدي إلى استعانة مراكب الشراع بأسلوب «جر اللُّبَان»؛ أي يجرها الملاحون بالحبال من البر، وهي عملية شاقة جدًّا، وبطيئة لدرجة لا تُوصف، وقد قابلنا في الدر مراكب قطعت المسافة من المالكي إلى الدر في ثمانية أيام، بينما قطعناها نحن في أقل من ست ساعات، وتكون مراكب الشراع محظوظة إذا جرتها الصنادل إلى الدر.

كانت الرياح الشمالية في مواجهتنا وتيار الماء القوي يتسبب في بطء حركة القارب، فضلًا عن وجود دوامات كثيرة تدفعنا إلى تغيير مسار القارب في صورة مستمرة لتجنبها، وعبرنا النهر إلى الضفة الشرقية بعد أن تجاوزنا كورسكو شرق بقليل، وبدأت أجمات خضراء تظهر بكثرة ابتداء من أبو حنضل، متكونة من أشجار السنط ونخيل الدوم جميل الشكل ونخيل البلح سامق الطول، وفي الحادية عشرة مررنا بسفينة البوستة أمامنا على البر الغربي، والنيل في هذه المنطقة يبدو ضيقًا؛ لوجود جزيرة غاطسة أمام أبو حنضل تهدئ من سرعة التيار، وتجعل المياه في الجزء بين الشاطئ والجزيرة الغارقة ساكنة رائقة كما لو كنا في فترة الخزان الشتوي، تنعكس عليها صورة الجبل وخضار الأشجار، بينما الشاطئ الغربي تنعكس عليه ألوان حُمرة الرمال القادمة من آلاف السنين من الصحراء الغربية.

وهنا يجب أن نوضح أن الغرب والشرق في المنطقة من كورسكو حتى الدر هي تسميات محلية ليس لها صلة بالتوجيه الجغرافي، بل هي العكس تمامًا؛ فمصطلاح غرب وشرق عند أهالي المنطقة هو استكمال لنفس التوجه في بقية النوبة، حيث الشرق شرق والغرب غرب، أما هنا في هذه المنطقة فإن التسمية شرق هي في الحقيقة غرب، والغرب هو في الحقيقة شرق حسب اتجاه البوصلة؛ والسبب في هذا راجع إلى النهر يقلب اتجاهه العام؛ فبدلًا من الاتجاه إلى الشمال والشمال الشرقي، يتجه إلى الجنوب والجنوب الشرقي من الدر إلى كورسكو، ولكن بالنسبة للأهالي فإن الضفة اليمنى هي شرق واليسرى هي غرب، بغضِّ النظر عن حقيقة التوجه بالنسبة إلى الجهات الأصلية.

وفي أثناء سيرنا كان الريس محمد جالسًا في مؤخرة القارب يدندن بأغانٍ نوبية، ورياض يقود القارب ويتطلع من حين إلى آخر إلى كروكي رسمناه للمنطقة موضح عليه معلومات ملاحية نقلًا عن سكان المالكي والسنجاري: علي أي بر نسير في منطقة كذا، وأين تكثر الدوامات والتيارات القوية والعقبات … إلخ؛ لهذا كثر انتقالنا من الضفة الشرقية إلى الغربية وبالعكس، وفي الحادية عشرة والنصف نزلنا البر الشرقي «الأيمن» لنغير خزانات الوقود، وصادفنا سيدة قالت لنا إننا على الحدود بين أبو حنضل والديوان، ونبهتنا إلى أن النيل على هذا البرِّ خطرٌ وتياره شديد جارف، وحين عبورنا النهر — كما أشارت السيدة — وجدنا فعلًا أن المياه الملساء ثقيلة على المحركات، وبعد أن ابتعدنا أخذ القارب يُسرع على الماء الذي تظهر على صفحته بعض الحركة والموجات الخفيفة.

منطقة الديوان على البر الشرقي منبسطة في امتداد طويل، لا يفصل بين نجوعها العديدة فواصل طبيعية كالألسنة الجبلية التي تفصل النجوع في معظم بلاد الكنوز والعليقات، والحافة الهضبية في الديوان تظهر بعيدة في الأفق، والسهل الفيضي تغطيه خضرة المزروعات والأشجار الكثيرة، أما البر الغربي فإنه كان قليل السكن، بالرغم من وجود سهل كبير الامتداد، لكنه متأثر بتراكم الرمال، وبعد الظهر بقليل أرسينا على البر الغربي، وتناولنا غداء سريعًا مما لدينا من أغذية محفوظة، بالإضافة إلى شمامة أهداها لنا أحد الأشخاص في المالكي، واستأنفنا السير قبيل الواحدة. البر الغربي مقفر موحش في منطقة معبد «عمدا»، بينما البر الشرقي حيٌّ بالخضرة والنخيل في زمام النجوع التابعة لعمديتي الديوان والدر اللتين لا يكاد يفصلهما فاصل. وفي نحو الثانية انتقلنا إلى البر الشرقي، وبعد أقل من نصف ساعة رسونا في ميناء الدر، نقول ميناء؛ لأنه أول مرسى نراه مبنيًّا في صورة رصيف من الحجارة، وخلفه كانت هناك مبانٍ حكومية الشكل، ذلك أن الدر لفترة كانت مركز بلاد النوبة، ربما لنحو خمسة قرون أيام حكم الكُشاف والدولة المصرية، منذ محمد علي إلى أوائل القرن الحالي، حين انتقل المركز إلى عنيبة التي تقع جنوب الدر بنحو ٣٥ كيلومترًا، ولكن كان ما زال في الدر نقطة للشرطة.

بعد أن أخذنا بعض صور، قابلنا مدرس علوم في مدرسة الدر وعزمنا لحضور فرح قريب له مساء الأحد، ولما كنا ظهر الجمعة، فقد كان هذا يعني إما أن نبقى في الدر إلى الأحد ونغادرها الإثنين، وإما أن نختصر برنامج الجنوب إلى ليلتين: واحدة في عنيبة والثانية بلانة، وذلك لحضور معظم مراسم الفرح، وقررنا اتخاذ الاختيار الثاني، وعلى هذا ملأنا خزانات الوقود، وانشغل الريس محمد في بيع بعض صفائح البنزين الفارغة بعض الوقت، وسألنا عن حالة السفر جنوبًا، فأكدوا لنا أن النيل في هذا القطاع هين ومريح على الضفة الغربية بالقياس إلى الرحلة من كورسكو إلى الدر.

تحركنا من الدر حوالي الثالثة والنصف متجهين إلى توماس على البر الغربي، سارت الأمور على ما يرام نحو ربع الساعة ثم أحسسنا هزة وخبطة خفيفة ثم زمجر المحركان بصوت عالٍ لأقل من ثانية ثم صمت تام! وفي ثانية قفز رياض من مقعد القيادة إلى مؤخرة القارب ورفع المراوح هو والريس محمد إلى أعلى بجهد شديد، فإذا هما كتلة مستديرة من الطين العالق، وظل الاثنان ينظفان المراوح قدر الاستطاعة لمدة نحو خمس أو ست دقائق، وفي هذه الفترة كان التيار قد دفع القارب نحو كيلومتر أو أكثر، ولا شك أننا كنا قد بعدنا عن الجزيرة الغاطسة التي اشتبكت المراوح بطينها، ومع ذلك أخذ الريس محمد يقيس العمق بالمدراة حتى تأكدنا من خلو المنطقة التي نحن فيها من الجسور الطينية، فأنزلنا المراوح إلى الماء، وأدرنا المحركات وسرنا بحذر رغم أننا كنا قد تراجعنا مسافة أخرى وقت قياس الأعماق، وصرنا نتسمع أداء المحركات ونقلق لأي صوت غير اعتيادي فترة من الزمن حتى نسينا الأمر.

نسينا الموضوع ليس استخفافًا، بل لأننا دخلنا مشكلة أخرى ظلت تقلقنا طوال الأسبوع التالي، ففي الخامسة وعشر دقائق، أثناء سيرنا أمام توماس وعافية، بدت لنا الرحلة لطيفة بعض الشيء، وعند منحنى صغير للنهر ظهرت دوامة صغيرة تجنبناها بسهولة، لكننا وجدنا أنفسنا فجأة داخل دوامة خطيرة لم نعرف اتساعها، ربما كانت أكبر من القارب! وقبل أن يستطيع رياض أن يعدل اتجاه الدفة كان القارب كله قد مال إلى جانب ودار دورة كاملة مع الدوامة، وزاد رياض من سرعة المحركات إلى حدودها العليا مع تشديد قبضته على عجلة القيادة والميل بالدفة قليلًا مع اتجاه حركة الدوامة للخروج منها بزاوية قليلة، وربما كان ميل الدفة هو نتيجة لقوة دوران الماء أكثر من قوة التحكم فيها، وأن الخروج من الدوامة كان بقوة دفع المحركات. على أي الأحوال، صار هذا هو التكتيك الذي اتبعناه في معالجة أمر الدوامات الكبيرة التي ندخلها رغم أنفنا، وبعد خروجنا من الدوامة الكبيرة سالمين دخلنا في قطاع من النهر كله تملؤه الدوامات، وأخذنا نسير في خط متعرج نحاول أن نتجنب هذه الدوامة وتلك؛ مرة إلى اليمين ثم بسرعة لليسار وهكذا دواليك لمدة نحو ربع ساعة، خلناها دهرًا من الجهد والعرق والخوف، وحين أصبحت مياه النهر هادئة اتجهنا إلى البر؛ خشية على المحركات التي قاومت أطنانًا من دفع المياه الدوارة الهادرة، ولكي نتنفس الصعداء.

بعد الدر بنحو ربع ساعة انعكست صورة العمران، فبعد أن كان البر الغربي مهجورًا أصبح معمورًا بنجوع طويلة لعمدية توماس وعافية، يليها إلى الجنوب — بدون فاصل كبير — عمديات قتة ثم إبريم غرب، وأمام شاطئ توماس كان يرسو أحد مستشفيات النوبة العائمة، وكذلك صندل يغذي بالطاقة محطة للري بالطلمبات، أما البر الشرقي فقد أخذت المرتفعات تقترب منه تاركة مجالات متناقصة للعمران، إلى أن أصبحت حافات إبريم الصخرية تشرف على النهر في صورة رائعة الجمال، وبصورة عامة فإن هذا الجزء من النوبة لم يبدُ كثير المرتفعات الصخرية التي تميز بلاد الكنوز وبلاد العليقات؛ فالهضبة على طول البر الشرقي متوسطة الارتفاع ومتباعدة عن ضفة النهر إلا في مناطق محدودة كإبريم شرق ومنطقة أرمِنَّا، بينما البر الغربي منبسط لمسافات طويلة، عامر بالناس وأنواع الزرع وأجمات النخيل ذات التمور الممتازة؛ مثل التمر الإبريمي وتمر جنديلة بين توماس وعافية إلى مصمص وتوشكى غرب، وجنوبًا حتى بلانة وأدندان والنوبة السودانية، وبيوت المنطقة لا تتسم بجمال بيوت الكنوز من حيث المعمار والطلاء والزينة.

في السادسة وعشر دقائق مررنا أمام محطة قتة «جتة» النهرية، وبعد ثلث ساعة رسونا في إبريم غرب، واعتذرنا بأدب دعوة أحد الأعيان لتناول الشاي؛ لضيق الوقت، ثم تحركنا في اتجاه عنيبة بعد نحو ثلث ساعة أخرى، أما إبريم التاريخية فتقع على البر الشرقي وتُسمى قصر إبريم، ورحل عنها سكانها إلى الغرب بعد ١٩٣٣، وبيوت إبريم غرب تكاد أن تكون متلاصقة، وكما قلنا فالبيوت هنا أقل وجاهة من بيوت شمال النوبة، وعند مرورنا كانت النساء تملأ المياه في صفائح من النيل، والأطفال ينزلون إلى الشاطئ عند سماعهم صوت الموتور ليحيُّونا.

وكانت أشجار نخيل الدوم تنتشر بكثرة وخلفها ضوء الغروب الجميل البرتقالي والأحمر والأصفر ثم زرقة السماء، وبين الأشجار وحقول الذرة الطويلة السيقان كان بعض الناس يتحركون راجلين أو راكبين الحمير أو يجرون وراءهم بعض الأبقار، خط الشاطئ واضح بين الماء الميال إلى الزرقة والأرض السوداء، وصادفنا شخصًا على البر يجر مركبًا شراعيًّا، والخلاصة أن المنطقة الغربية من الدر إلى حيث كنا نسير جميلة تنبض بالحياة في شكل ريفي تفتقده مناطق النوبة التي عبرناها من قبل، أما الشاطئ الشرقي فكان لا يزال صخريًّا قليل النجوع أو نادر العمران.

أخذت الشمس طريقها سريعًا للغروب ونحن نسير ونجازف، نأمل أن نصل عنيبة في وقت مناسب قبل حلول العتمة الكاملة، قال لنا بعض المراكبية في الدر إنه يمكن لنا رؤية أنوار عنيبة الكهربائية عن بعد لا بأس به، كنا نتطلع إلى الأمام علَّنا نلمح بصيص نور بعد أن أظلم الليل، لكننا لم نجد شيئا، خاصة وأننا كنا نسير في منطقة لا يوجد فيها عمران بعد أن تركنا نجوع إبريم غرب، لقد كانت هناك ثنيات صغيرة للنهر، وفي كل مرة نعبر ثنية نعتقد أننا سنرى أنوار عنيبة بعدها، لكن دون جدوى، وكانت الساعة قد بلغت الثامنة فقررنا أن نرسو في أي مكان ونبيت في القارب، لكن أي مكان؟ لم يكن معنا سوى بطارية لا ترسل ضوءًا كبيرًا، واختلطت علينا ألوان الدكنة وظلال الأشجار: أين النهر واليابس؟ وهدأنا سرعة القارب واتجهنا يمينًا إلى البر وتوكلنا على الله، وقفز الريس محمد إلى مقدمة القارب استعدادًا للنزول إلى البر وتثبيت «هلب» القارب، لكنه جلس ومد ساقيه للأمام لكي يتلقى ضربة اصطدام القارب؛ أي إنه حاول أن يعمل من ساقيه صدامًا، لكننا صحنا به أن يبعد رجليه حتى لا تنكسر إذا كانت الصدمة قوية، ولحسن الحظ لم يحدث هذا، فحركة الموتور هي إلى الحد الأدنى غير قوية، ويضاف إلى ذلك أن قوة تيار الماء كانت تقلل من هذه السرعة البطيئة وتكبح حركة القارب؛ لذا كان التقاء القارب بالشاطئ الطيني خفيف الوقع، ونزل محمد ورياض وثبتا «مرسيين» — هلبين — لمزيد من الحيطة ألا تجرفنا المياه خلال الليل، وبعد أن استكشفنا المكان الذي رسونا فيه، وجدنا أنه عبارة عن خليج صغير لا يزيد طوله عن نحو ثلاثة أمتار، والشاطئ وحل سميك يرتفع بسرعة إلى نحو ثلاثة أمتار، وحين ارتقى رياض هذا المرتفع الصغير ظهرت أمامه أنوار عنيبة على بعد كيلومتر أو نحو ذلك!

أكلنا بعض الجبن والمربى، وأثناء الطعام مر قارب شراعي كبير في الظلام، يجره ملاحون بحبل من الشاطئ وتفادوا قاربنا بسهولة. نام الريس محمد على الشاطئ بعد أخذ بطانيته، ونمنا على كنبات القارب، وظهر القمر متأخرًا، وكنا نسمع السمك يتقلب في المياه وبعضها يقفز خارج المياه قليلًا، كما كنا نسمع ارتطام التيار بالضفة بصوت خفيف، وفي الحقيقة قضينا ليلة جميلة في العراء، لولا أن بَرَدَ الجو نسبيًّا في الفجر.

وفي الصباح حسبنا ما قطعناه بالأمس فكان ٦٥ كيلومترًا من المالكي إلى عنيبة في نحو ١٢ ساعة؛ مع الاستراحات المتعددة للغداء، وتغير الوقود والكفاح ضد الدوامات الخطيرة. شربنا الشاي وملأنا خزانات المحركات وتحركنا في الثامنة إلا ربعًا، وبعد عشر دقائق رسونا على رصيف ميناء عنيبة كان هناك شارع عريض على جانبيه بيوت جيدة من طابقين، وأكشاك كثيرة وأشجار الدوم بكثرة. ذهب محمد ليملأ لنا مياه الشرب وبقينا بضع دقائق ننظر ونصور البر الشرقي، الذي كانت تشرف عليه الحافات الصخرية لقصر إبريم في بانوراما ذات وقع شديد، وتحركنا حوالي الثامنة والنصف في اتجاه توشكى. البر الشرقي والغربي أصبح رمليًّا تتخلله الأعشاب البرية وشجر السنط، وتناثرت أشجار الدوم والنخيل على أبعاد مختلفة. في التاسعة رسونا ليتأكد رياض من سلامة المحركات التي لم يكن مستريحًا لصوتها، وقررنا العودة إلى عنيبة ليكشف أحد المختصين عليها، وفي تلك الأثناء تجولنا في سوق عنيبة، حيث يوجد مخبز ومقهى، ومطاعم وخاصة للفول والطعمية، ومحلات بقالة وقماش وترزية … إلخ، اشترينا بعض الأغذية وسندوتشات فول وطعمية؛ اشتقنا إليها.

بعد الاطمئنان على المحركات تحركنا في نحو الواحدة ظهرًا، وبعد ساعة انتهى الشريط الرملي وأحاط بالنيل زراعات الذرة والكشرنجيج والنخيل والدوم على البر الغربي، بينما استمرت التلال على البر الشرقي، وإن كانت قد أخذت في التباعد عن النهر، ويحل محلها أنواع من الخضرة تدريجيًّا، غيرنا البنزين في مصمص حوالي الثانية والنصف، وقابلنا جماعة من النوبيين يجمعون البلح، وجماعة من أبناء الصعيد يعملون الفحم النباتي من خشب السنط، وأعطتنا بعض السيدات بعض التمر الجونديلي وأعطيناها علبة سردين، وتحركنا في الثالثة ومررنا بساقية تختلف كثيرًا عن سواقي قرشة. سرعة القارب كانت ضئيلة؛ لأن تيار الماء قوي والمياه ثقيلة، ونمر أحيانًا بأشجار السنط متكاثفة في صورة أقرب ما تكون إلى الغابات، وقبل وصولنا إلى توشكى بقليل زاد تكاثف حقول الذرة والنخيل، وفي الرابعة وصلنا توشكى غرب.

توشكى غرب

ذهب رياض إلى وكيل البريد من أجل البنزين، بينما كان على الشاطئ أطفال يلعبون بمركب شراعي — لعبة — وأعطانا أحدهم بطيختين صغيرتين هدية، كانت على الشاطئ أيضًا مجموعة من النساء ينقرن الأرض اللزجة بالفأس ويبذرن الحب، ثم يغطين الحفر بالطين يكوِّمْنَه بأيدهن، وعلى مبعدة يسيرة من الشاطئ ثبت الأهالي بوصتين من القصب الكبير الذي ينمو طبيعيًّا مع الحشائش، وبين البوصتين ثبت حبل تتدلى منه خيوط السنانير لصيد السمك ليلًا، وقد طلب منا بعض الأطفال البحث عن عمل في القاهرة.

علمنا أنه يوجد عرس وحفل زار فقررنا المبيت في توشكى. سرنا مع دليل من أهل المكان حوالي نصف ساعة إلى أن وصلنا النجع، مارين بحقول الذرة والكشرنجيج والنخيل ومنطقة حشائش واسعة، ثم منطقة رملية بنى عليها نجع أباشاب، وفي أحد المضايف كان يوجد جمع من الرجال يتحادثون، وأخبرهم الدليل عنا وسبب زيارتنا، فتشاوروا قليلًا ثم أبدوا استعدادهم للتبكير بالحفل الراقص من احتفالات الزواج التي تستمر نحو أسبوع.

وبعد فترة طويلة — ربما ساعة أو أكثر — كنا وسط حلبة الرقص التي انتظمت حول المغني الذي جذب صوته فتيات وفتيانًا آخرين، الفتيات والسيدات يلبسن الرداء الأسود الشفاف فوق الملابس الملونة، ويتحلين بزينتهن الذهبية، ويقفن صفًّا واحدًا تشابكت أيديهن في بعض الخطوات، وأمامهن المغني مبارك ذو اللون الأبنوسي وضاربو الدفوف، ووراءهم صف الرجال والفتيان في مواجهة صف النساء المشاركات في الحفل، يبدأ مبارك «زغرودة» طويلة حادة، وترد عليه النساء بمثلها، ثم يسترسل في الغناء يمدح العروسين والحاضرين، وللرجال حركة معينة في الرقص ويشبكون أيديهم وينحنون قليلًا للأمام مع خبط القدم في الأرض، ثم يصفقون، ثم تدخل إلى وسط الحلبة فتاة أو فتاتان تمسكان طرف الثوب وتتحركان بخطوات صغيرة إلى الوسط نحو الرجال، ثم يتراجعن إلى صف النساء في خفة ورقَّة، وجوههن إلى أسفل في شيء كبير من الأدب والخشوع، والرجال يصفقون ويدبون الأرض في مرح وانسجام.

قضينا الليلة في القارب وفي الصباح عدنا إلى النجع، حيث قابلنا الشيخ مختار حسن هاشم في دكانه الذي يحتوي على سلع مختلفة من الأقمشة وأصناف البقالة والسكر والسجائر، والشيخ مختار من سلالة الكشاف من عشيرة أو عائلة الكيخياب — ينطقون الخاء قريبة من الهاء فتصبح الكيهياب — في الطريق كان المنظر العام ريفيًّا؛ لاتساع الحقول وكثافة النبات في الجزء القريب من النهر، ثم مساحات تنمو فيها الحشائش طبيعيًّا تستخدم كمرعى للحيوانات، أما منظر الضفة الشرقية فكان غاية في الجمال: فهناك التلال العديدة الأشكال والألوان التي تنمو عند أقدامها أشجار مختلفة الخضرة، ويقول بعض السكان إن المناظر هنا مثل سويسرا؛ فالجبال الشرقية عليها بعض مسطحات من الرمال كأنها الثلوج على جبال الألب، ثم النيل الهادئ كأنه إحدى بحيرات سويسرا، ثم الخضرة الزاهية، ويبدو أن من شبه توشكى بسويسرا قد عمل فترة في سويسرا، ربما في السفارة المصرية.

عمدية توشكى هي إحدى كبريات النواحي النوبية، فقد كان سكان توشكى شرق وغرب ٣١٣٩ شخصًا عام ١٩٦٠، نحو الثلث في الجانب الشرقي، أما توشكى غرب فكانت أوسع سهولًا وامتدادًا مع النيل يبلغ نحو ١٥كم، وامتداد إلى الداخل غربًا، حيث الأرض سهلية لمسافة كبيرة؛ نتيجة لتباعد خط مناسيب ٢٠٠ متر كثيرًا إلى الغرب، مكونًا شكلًا هو أقرب ما يكون إلى الوادي الضحل الواسع — الذي شاعت تسميته الآن خور توشكى — وتتكون توشكى غرب من ٢٥ نجعًا، منها سبعة نجوع أنشأها في شمال توشكى مهاجرون من الكنوز عند التعلية الأولى لسد أسوان ١٩١٢، وقد اتخذ هؤلاء المهاجرون أسماء قراهم القديمة أسماء لنجوعهم الجديدة في توشكى — نجوع أمبركاب وكلابشة ومرواو وأبوهور وأمبركاب قبلي … إلخ — ولهذا يقول البعض إن نحو خُمسي سكان توشكى غرب هم من الكنوز.

أما سكان توشكى فهم نوبيون مختلطون بأنساب من الكُشاف، حكام النوبة القدماء، وكان الكشاف — الذين هم من أصول مختلطة من الأتراك والأكراد والبشناق والمجر — يتزاوجون مع النوبيات ويتركونهن وأولادهم في قراهم مع الأخوال والأراضي التي يرثونها؛ لهذا فإن أنساب الكشاف منتشرة في أرجاء النوبة دون تركيز في مناطق محددة، وتُظهر أسماء بعض النجوع مؤثرات الكشاف؛ مثل نجع أباشاب، كرباشية، أزجرجة — أحيانًا أزمرجة — كيخياب. وبالرغم من اختلاف بعض سلالة الكشاف عن بقية النوبيين في ضخامة الجسد والرأس بالقياس إلى النوبيين ولون البشرة الأفتح قليلًا — يقول بعض رحالة القرن الماضي إن بعضهم شقر البشرة زرق العيون — إلا أنهم يعيشون ويتعاملون مع جيرانهم تعامل الند للند دون تأثر بالأصول السلالية، ويقومون بنفس الأعمال من زراعة أو تجارة أو عمل خارج النوبة.

تجولنا في النجع وأول ملاحظة أن هناك زريبة جماعية في أول النجع، وذلك هو عكس بيوت العليقات والكنوز التي تشتمل على مكان للحيوان داخل الحوش مما يقتضي غالبًا بابًا خاصًّا لدخول الحيوانات، وربما يرجع ذلك إلى كثرة أعداد الحيوانات في الجنوب عن الشمال؛ وذلك لتوفر المساحات الرعوية والزراعية، ولا شك أن وجود الزريبة خارج البلدة يقتضي حراسة خاصة، ولو أن الأمن مستتب والأمانة مستقرة في النفوس كجزء متمم للشخصية النوبية.

والملاحظة الثانية أن البيوت غالبها مبني على نسق معماري متشابه، غالبًا ملتصقة بعضها بالبعض الآخر في صفوف متوازية تترك طرقًا واسعة بين الصف والآخر (انظر الجزء الخاص بالصور عن شكل النجوع في الجنوب والشمال)، ومعنى هذا أنه يمكن تصور خطة للنجع مكونة من طرق متوازية تنتهي إلى ساحة رئيسية فيها الجامع والدكاكين — يوجد بنجع أباشاب خمسة دكاكين — والمضيفة العامة ومزيرة الماء، ثم الزريبة الجماعية التي توجد على جانب من الساحة في مواجهة الحقول، مثل هذه الخطة العمرانية تكاد تنعدم في بلاد الكنوز والعليقات لوجود العقبات التضاريسية والأودية التي تقطع تتابع استواء الأرض؛ مما يؤدي في الغالب إلى أبنية على مستويات متعددة، أما في بلاد النوبيين الرئيسية فإن استواء السطح هو السمة الغالبة، مثل توماس وعافية وجتة وتوشكى غرب — وربما أيضًا بلانة وأدندان وهما من القرى التي لم نتمكن من زيارتها.

واستمر تجوالنا غربًا حتى انتهينا إلى المقبرة، وهي شاسعة، وربما لم تكن مخصصة لنجع أباشاب فقط، ومقابر النوبة عبارة عن لحد يُكوَّم فوقه بعض الرمال وتوضع حجرتان عند طرفي اللحد ليصبح اللحد ظاهرًا، والغالب أن الحجارة لا يكتب عليها شيء، وإن وجدنا بعضها مكتوبًا عليه البسملة واسم المتوفى، وغير ذلك من الدعوة للرحمة، ورأينا قبرًا واحدًا عليه بناية مرتفعة وشاهدان على نسق قبور القاهرة، والملاحظة العامة أن الناس تضع زبدية — صحنًا فخاريًّا — عند حجر رأس اللحد، يشطفون جزءًا من حافتها قليلًا، وفي اليوم الأول للدفن توضع بعض حبات الذرة تحت الزبدية، بينما يوضع قليل من الماء في الزبدية يوميًّا لمدة أسبوع بعد الدفن، ربما كان شطف الزبدية رمزًا لانتهاء عمل هذا الوعاء كما انتهت حياة صاحبه — أو لمنع إعادة استخدامها؛ فالشطفة تعني أنها كانت في المقبرة، ومن ثم يهاب الناس استخدامها.

وعلى مبعدة قليلة شاهدنا نصبًا تذكاريًّا لمعركة توشكى، التي خاضها الجيش المصري عام ١٨٨٩ ضد قوات المهدية بقيادة ود النجومي، الذي قُتل في المعركة، كما قتل عدد كبير من جيش المهدية، وبذلك انتهت فكرة غزو مصر من الجنوب.

دخلنا بعض البيوت ووجدنا أن الحوش السماوي ما زال هو السمة الرئيسية في كل النوبة، لكنه هنا أصغر من أحواش الشمال؛ لأن مساحة البيوت أصغر بصفة عامة، الغرف تدور حول الحوش، فهناك مجلس للرجال يطل على الشارع، ودهليز — مجلس — للنساء في الداخل، وغرف النوم والمطبخ والمخزن وركن في الحوش للدواجن، ومرحاضان للنساء والرجال كلٌ على حدة، أحد البيوت منزل لعريس جديد، وكان عبقًا برائحة البخور الذكية مع نظافة فائقة للحجرات وكوبات الشراب.

تحركنا بالقارب في الثالثة بعد الظهر في اتجاه أبو سمبل وبلانة، وكان أهل النجع قد عزمونا على غداء شهي من اللحم والبطاطس والأرز وكبد وكلاوي وكوسة وسلاطة وبطيخ، وأرسلوا أيضًا للمراكبي الريس محمد غداءً مماثلًا، وجاء جمع يودعوننا مع التوصية بالتزام الجانب الغربي إلى أن نبلغ فرقندي، ثم نعبر النهر إلى الجانب الشرقي حتى أبو سمبل.

سرنا بالقارب حتى اختفت توشكى واستمر الحال على ما يرام، وجو من المرح يلفنا؛ فقد اشتقنا إلى رؤية أبو سمبل والمكوث حول المعبدين كل الوقت الذي نريده؛ لأننا نملك وسيلة انتقالنا، ففي زيارات سابقة — ولاحقة — كنا مضطرين إلى مغادرة منطقة المعابد العظيمة في الموعد الذي تحدده السفينة التي نستقلها — أو الطائرة فيما بعد. المسافة إلى أبي سمبل من توشكى كانت نحو ٣٥ كيلومترًا، منها ١٥كم إلى أرْمِنَّا و٢٠كم من أرمنا إلى أبي سمبل، وبعد نحو ساعتين لاحت محطة طلمبات أرمنا على البر الشرقي، واستمر سيرنا بدون عائق يُذكر حتى اختفت طلمبات أرمنا عن ناظرينا، وفجأة أحس رياض بصوت غير منتظم في ضربات المحركات وطلب منا أن نتسمع، فأكدنا أن كل شيء على ما يرام، رغم أننا كنا نبحر في منطقة دوامات، وسار القارب وعندنا إحساس بأنه حينما يدخل الدوامة كأنه يرتفع إلى أعلى، ثم نحس أن القارب يهبط حين الخروج من الدوامة، وقال رياض لنفسه: إن الجهد الذي يبذله المحرك في الصعود — دخول الدوامة — يعدله طاقة مكتسبة عند الهبوط — الخروج من الدوامة. وبعد فترة قصيرة دخلنا دوامة كبيرة و«زمجر» أحد المحركات لحظة قصيرة جدًّا، وعاود العمل خلال فترة خروجنا من قبضة الدوامة الخطرة، ولم تمضِ لحظات حتى وجدنا الدوامات الكبار تتسلم القارب المسكين واحدة تلو أخرى، والماكينات «تزمجر» وتسكت وتعمل في ثوانٍ متتالية، وفي إحدى هذه المرات لم يزمجر المحرك فقط، بل أتبعه بقرقعة كما لو كان اصطدم بمعدن آخر وتوقف! وبطبيعة الحال ضعفت قوة الدفع ووضح أن محركًا واحدًا غير كافٍ للاستمرار، فاتجهنا إلى الشاطئ لنفحص المراوح ونريح المحركات ونقلل اضطرابنا، وحين رفعنا المراوح إلى أعلى لم نجد بهما عيبًا، وبعد فترة راحة قصيرة رفعنا المرساة لنجرب، فدار محرك وقرقع الآخر وعدنا إلى الشاطئ.

تداولنا الأمر فيما بيننا، هل نستطيع العبور إلى محطة طلمبات أرمنا ليستطلع أحد الميكانيكية الخبر، أم نعود إلى توشكى ليكشف أحد الفنيين في محطة الطلمبات على المحرك. صحيح أن المسافة إلى أرمنا أقصر بكثير من المسافة إلى توشكى، لكن عبور النهر بمحرك واحد لم يرق لنا، فماذا لو توقف هو الآخر ونحن وسط النهر؟ وقد أغرانا بالعودة إلى توشكى أننا سنحضر ليلة أخرى من ليالي الطرب والغناء في حفل زواج نوبي كبير.

وقد عرفنا فيما بعد من الفني الذي فحص الموتورات في توشكى أن مرور المراوح في «عين» الدوامة كان يقبض حركتها تمامًا لفترة جد قصيرة ثم تعاود الدوران بعد عبور العين، أما قرقعة المحرك فلم نعرف له سببًا؛ لأنه لم يقرقع عندما وصلنا توشكى ولا بعد ذلك إطلاقًا. إن الآلات تمر بأحداث لا نعرف عنها الكثير.

في المساء توجهنا إلى حيث تُقام ليلة الفرح وحاولت كوثر أن تتعلم الرقص النوبي لهذه المناسبة، فارتدت الجرجار فوق ملابسها وطرحة مشغولة الأطراف من القماش الشفاف هي والجرجار بحيث يظهر الملابس والمصوغات الذهبية، ودخلت صف النساء وتشابكت يداها في أيديهن، وأخذت تتقدم وتتأخر مع الجميع خطوة بجوار خطوة مع دقة خفيفة على الأرض مصاحبة لدقات الطبول، والأذرع تنحدر في انسياب إلى الأمام والخلف، أما الرجال فيصفقون عدة مرات وينحنون انحناءة بسيطة مع وضع اليدين مشبوكتين على البطن، ثم يدقون بالقدم اليمنى دقات قوية ويتكرر التصفيق … إلخ، وبين الفينة والأخرى تدخل فتاتان الحلبة سويًّا وقد لفت كل منهما شالًا أحمر حول رقبتها، ويرقصن الرقصة التقليدية بين صفي النساء والرجال أمام المغني وضاربي الدفوف، ثم ينسحبن. ومن وقت لآخر تقول النساء: «صلِّ على محمد»، ويطلقن زغاريد طويلة وممدودة.

وغنى مبارك وغيره من الكنوز الحاضرين أغانيَ كثيرة، كلها عن الغزل والبنت الحلوة، مثل: يا سمرة يا بنت يا حلوة الحب تاعبني، ويا سلام يا وز يا طاير — الوز رمز للبنات، ويا سلام يا اللونة ونْسِك — أنسك — كويس وحرسك كتير وأجيلك إزاي … وتنتهي هذه الأغنية بتذييل سياسي من مواقف ذلك الوقت، حيث يخاطب الزعماء فيقول: يا جمال يا ناصر، عبد الحكيم يا عامر، عبد اللطيف بغدادي، نويتم تبنوا السد، الكريم يسهل عليكم. وأغنية سياسية أخرى يتساءل فيها المغني أين يجد مثل بلاد النوبة من جبل ونهر ونخيل وما هو المصير في كوم أمبو، ثم أغاني العاطفة والحب، والحاضرون يأخذهم الحماس وينفعلون بالأغاني ويرفعون أصواتهم يغنون مع المطرب الذي يشعل الجو بالصوت والإيقاع والحركة — تمامًا كما نرى اليوم من أغاني اﻟ «بوب» حيث يشعل المغني وعازف الجيتار حماس الجمهور الواقف فيهتزون ويغنون ويثملون بشكل من أشكال الحياة الجماعية — وبين الحين والآخر توقد نار يشد عليها العازفون جلود التار والطبلة، وينتشي أحدهم ويطلق أعيرة نارية في الهواء ابتهاجًا بالفرح، وتشير الساعة إلى منتصف الليل، لكن الفرح مستمر حامي الوطيس بين المغني والراقصين والراقصات والحضور.

والحقيقة أن الأفراح هي مناسبة جماعية لإطلاق مشاعر السرور والغبطة المكبوتة أحيانًا تحت ضغط تكاليف الحياة وضغوط القوالب السلوكية، التي يفترض أن يتصرف في أطرها الناس حسب أعمارهم ومكانتهم، فالأفراح إذن هي متنفس للتلقائية والعفوية السلوكية بين الموسم والآخر من مواسم الأفراح التي غالبًا ما تكون خلال فصل الصيف.

بتنا ما تبقى من الليل في القارب، وفي الصباح غير الباكر تمشينا في الحقول نشاهد كد المرأة والأطفال في جمع المحصول أو العشب والعناية بالبقر والغنم، ثم ذهبنا إلى مضيفة النجع.

وبناءً على ما صادفناه في رحلتنا من متاعب أعادتنا إلى توشكى، رأى أهل النجع أننا نحتاج إلى عمل «كرامة» لصرف الحظ السيئ، ورأيناها فكرة تستحق التنفيذ؛ لنلاحظ عمليًّا تنفيذ مثل هذه الممارسات المعتقدية، وقد بلغت تكلفة الكرامة سبعة جنيهات ونصف دفعناها لخروف كبير وتكلفة باقي الأكل من خضار وطهي، وقدمت لنا الكبدة والرأس وفخذة مع بطاطس ورجلة وأرز على طاولة جلسنا إليها مع العمدة وكبار القوم، وجلس بقية الرجال في صفين متقابلين على أبراش على الأرض، ومر عليهم إبريق ماء وطشت صغير ليغسلوا أيديهم، ثم قدمت لهم أطباق خوص كبيرة بها فتة ولحم مسلوق وخضار من الرجلة والبطاطس، وقدم بطيخ كثير بعد الأكل لكل الموجودين، أما الشيخ مختار فكان يُخدِّم على الكل.

وبعد ذلك بدأ أحد الرجال ينشد بردة البوصيري والكل يرد وراءه: «صلى الله عليه وسلم»، وما أن انتهى من الإنشاد حتى بدأ في الدعاء لنا بالطيب والخير والجميع يرد: آمين. ثم ختم بقراءة ما تيسر له من آيات القرآن الكريم، والدعاء لنا أن نعود سالمين إلى أهلنا، وأخيرًا قرأنا الفاتحة على رجاء قبول الكرامة.

بعد الكرامة تناولنا الشاي في منزل السيد علاء الدين حمزة، الذي كان يعمل بالسفارة السويسرية بالقاهرة، وهو بيت كبير له مضيفة خارجية، جزء منها سقيفة مع أعمدة مربعة، والجزء الآخر غرفة بالداخل، ثم زرنا بيت العمدة السيد فتحي سيف الدين للتحية، وهو بيت كبير مبني على ما يشبه ربوة غير عالية، قدم لنا الشاي في أقداح روزنتال — صيني فاخر صناعة ألمانية — وبسكويتًا أيضًا في أطباق روزنتال، وعجوة وأنواعًا من البلح، وأثناء الجلسة أخذ السيد عبد الرحيم يحكي نوادره أيام كان يعمل على تاكسي بالقاهرة، وتطرق الحاضرون إلى الحديث عن العمل في القاهرة والإسكندرية عند الأثرياء من المصريين، وعند الأجانب، وأجمعوا أن العمل عند الإنجليز هو الأحسن، وأسوؤهم السويسريون لبخلهم الشديد، أما أغنياء الجريك — اليونانيين — فهم مريحون في العمل بصفة عامة.

وأصر العمدة على تقديم عشاء نوبي خفيف يُسمى «الحلو مر»؛ عبارة عن خبز الدوكة مقطع في طاجن وعليه لبن زبادي محلى بالسكر، ثم يسكب عليه بعض الزبد، وهو لذيذ الطعم، ويقال إنه ملطف ضد الحر، والحقيقة أن الخبز الخمريت ملطف فعلًا فضلًا عن أنه دائمًا طازج لذيذ، كذلك أصر العمدة أن نبيت عنده بدلًا من البيات في القارب، وأعطونا مندرة جميلة الصنع سقفها مكون من طبقتين: إحداهما من الجريد وفلق النخل، والثانية ألواح خشبية؛ وذلك لتكييف جو المندرة بتقليل حرارة السقف، ومن اللطائف أنه كان بأحد جدران المندرة حنفية ماء، وخلفها ارتداد في الجدار بمثابة حمام به دش مياه، وخارج المندرة حوش به مرحاض مبني على ارتفاع بضع درجات، وبطبيعة الحال فإن هذه الاستحداثات لا توجد في كل مكان، والغالب أن العمدة كان من القادرين المحبين للراحة ومباهج الحياة.

ويذكر النوبيون أنهم يطبقون الاشتراكية منذ القدم، فكل شيء يتم تعاونيًّا؛ كالأفراح والمناسبات الدينية والوفاة واستضافة الغرباء … إلخ، وعندهم فراسة وحكمة التصرف في المواقف المختلفة، ربما نتيجة تعاملهم لفترات طويلة مع غيرهم من المصريين والأجانب في البيوت والقصور والفنادق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤