رحلة العودة
صبيحة اليوم التالي كان الثلاثاء ٢٥ سبتمبر ١٩٦٢، لم يعد عندنا وقت للإبحار جنوبًا، وذلك وفاءً منَّا بأن نعيد القارب إلى مرساه في نجع قناوي قبل أول أكتوبر، كذلك كنا نعرف أن آخر حجر من أحجار معبد كلابشة سوف ينقل يوم ٢٩ سبتمبر إلى موقع المعبد الجديد غرب أسوان، وكان علينا أن نستقل الصندل الذي ينقل الحجر لنؤمن وسيلة انتقال إلى أسوان بدلًا من الذهاب إلى نجع قناوي أو دهميت والبحث عن طريقة للعودة إلى أسوان. اتخذنا قرار العودة ونحن آسفين أننا لم نتمكن من إتمام الرحلة جنوبًا حتى بلانة وأدندان.
كانت هناك مركب شراعي كبير متجه من توشكى إلى عنيبة، فاتفقنا أن نربط القارب إلى المركب في جزء من الرحلة لنستمتع بالسفر، ولو قليلًا، بالمراكب الشراعية. وفي نحو التاسعة والنصف صباحًا ودعنا بعض أهالي توشكى للمرة الثانية، وانساب المركب الشراعي شمالًا في هدوء تام مع التيار وبعض الريح عكس ضجيج موتورات قاربنا «لندا»، وفي هذا الهدوء أخذ المراكبي يدندن ويغني بصوت خفيض أغاني النوبة المعروفة، وبين كل كوبليه وآخر يطلق ما يمكن أن نسميه «آهة» نوبية؛ هي «يا سلام» مطولة مرسلة بلا نهاية كأنها «يا ليل» في أغاني التخت الشرقي، كل ذلك بمصاحبة دق خفيف على صفيحة خالية، وكورس صغير من مساعد المراكبي والريس محمد علي شاجة.
وطوال هذه الرحلة الهادئة كان يمكننا مشاهدة قطاع من النوبة على مهل ونصور دون اهتزاز كالذي نحس به أحيانًا على متن «لندا»، وكان دخان حريق خشب السنط لعمل الفحم النباتي الذي يقوم به أبناء الصعيد، يتصاعد في مناطق مختلفة إلى عنان السماء ويتلاشى معطيًا عنصرًا جديدًا للصورة البانورامية في شمال توشكى ومنطقة مصمص، وعلى البر الشرقي كانت هناك جِمال العبابدة ترعى تحت أشعة شمس ما قبل الظهيرة.
وبعد ثلاث ساعات أصابنا الملل من تكرار المناظر والبطء والسكون الشامل الذي تقطعه دندنة الملاح في أحيان، وكانت عنيبة قد بدأت تظهر في الأفق، فركبنا «لندا» وفككنا أسرها، وبعد ربع ساعة كنا على رصيف عنيبة، وبعد نصف ساعة وصل المركب الشراعي الذي كنا نستقله، جلسنا عند استراحة مصلحة المساحة وتغدينا، ثم تحركنا في الثانية والنصف في اتجاه الدر، وفي الطريق قابلنا البوستة متجهة إلى عنيبة، وأخذت كوثر عدة صور لحافة إبريم الصخرية المشرفة على النهر، وفضلًا عن أهمية إبريم أيام حكم الكُشَّاف والأغوات في النوبة، فإن الفراعنة قد بنوا في صخرة إبريم ثلاثة معابد منحوتة في الجبل على ارتفاع نحو عشرة أمتار من منسوب الأرض المحيطة، وقد بُني أقدم هذه المعابد أيام حتشبسوت، والثاني أيام تحتمس الثالث الفرعون المحارب، والثالث أيام رمسيس الثاني الذي ملأ النوبة بمعابده وأشهرها أبو سمبل.
وصلنا جتة «قتة» ورسونا لفترة قصيرة على البر تجنبًا لأمواج الأكسبريس — الباخرة النيلية الفاخرة السريعة التي لا تتوقف بين شلال أسوان وحلفا، عكس البوستة الأسبوعية التي تقف في كل ناحية وتخدم بذلك كل النوبة المصرية.
تابعنا السير شمالًا بين مناظر مختلفة: البر الشرقي جبلي تتخلله بعض الخضرة ونجوع قليلة، والبر الغربي سهلي مكشوف مليء بخضرة المحاصيل وخضرة الأشجار والنجوع الكثيرة، وفي منطقة توماس شاهدنا صندلًا يجر إلى جانبه مركبين شراعيين يساعدهما وهم متجهون جنوبًا ضد التيار، وأمام توماس كانت ترسو سفينة المستشفى التابعة لوزارة الصحة، وقد سبق القول أن هذه السفن تتنقل كل فترة في دائرة معلومة لتخدم مجموعة من النواحي، ثم غيرها وهكذا دواليك.
وفي الرابعة والنصف وصلنا الدر؛ أي إن رحلة العودة استغرقت نحو ساعتين فقط من عنيبة إلى الدر، بينما استغرقتنا رحلة الذهاب من الدر إلى قرب عنيبة نحو خمس ساعات، وبعبارة أخرى فإن السفر مع تيار النهر هو على الأقل أسرع مرتين من السفر ضد التيار.
ذهبنا إلى بيت العمدة للتحية وقدم لنا ليمونادة مرطبة فعلًا في الجو القائظ، وأعطونا حجرة في الاستراحة المكونة من حجرتين وصالة وحمام ومطبخ وحجرة فراش. انتهزنا الفرصة فأخذنا حمامًا أزال الجهد، والمكان كله نظيف ومعتنى به، فهو بمثابة «بنسيون» للزوار، وخاصة الأجانب الذين يزورون الدر شتاء لمشاهدة معبد الدر المنحوت في الجبل أيام رمسيس الثاني، ويوجد عند مدخل خور الدر، وقد غاصت معابد إبريم والدر تحت مياه السد العالي فلم يمكن نشر الجبل إلا بتكلفة عالية، كما أن الكثير مما كانت تحتويه هذه المعابد من كتابات وصور ومنحوتات قد طمست أو قطعت بواسطة الطامعين، وخاصة من الأجانب.
وبعد العشاء نظم المدرسون حفلًا غنى فيه الطلبة، ولأول مرة نجد «الأكورديون» مع العازفين التقليديين في فرقة نوبية؛ لعل ذلك استعارة حضارية من السودان، حيث يلعب الأكورديون دورًا مهمًّا في الغناء السوداني — في الخمسينيات والستينيات، وربما بعد ذلك أيضًا — وتخللت المقطوعات الغنائية وصلات صغيرة من النكات أضحكت زملاءهم كثيرًا، وكنا في حاجة لمترجم، لكن النكتة تصبح باردة عند الترجمة، وقد نظم المدرسون الحفل تنظيمًا جميلًا في وقت محدود، وكان الطلبة غاية في الأدب والانضباط.
في الصباح مررنا بالمدرسة وتبرعنا بمبلغ ثلاثة جنيهات لمجلس الآباء، وبقشيش سخي للفراشين — وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت — وتحركنا من الدر حوالي الثامنة صباحًا في اتجاه المالكي، وصاحبنا في الرحلة إليها السيد/حسن عوض عبد الهادي، أحد تجار المالكي، توجد أمام الدر جزيرة يقع المجرى الملاحي غربها، بينما شرقها ضحل طيني، وكان أمامنا على البر الغربي معبد «عمدا»، هو معلم مهم في برية تكاد أن تكون غير مأهولة، أما البر الشرقي فكانت تمتد بطوله نجوع عمدية الديوان بمنازلها البيضاء، وأمامها شريط طويل من الأرض الزراعية وأشجار النخيل والدوم ومجموعات متناثرة من الماعز الذي يغلب عليه اللون الأسود، وفي الخلف تبدأ الجبال الشرقية في الظهور والاقتراب من ضفة النهر قرب أبو حنضل، ثم تشرف على النهر من كورسكو إلى وادي العرب والسبوع مسافة تبلغ أكثر من ٣٥ كيلومترًا.
قال لنا حسن عوض إن جزيرة الدر أصلها صندل محمل بالسكر كان في طريقه إلى السودان ثم غرق قبالة الدر، وتكونت فوقه الجزيرة بإرسابات الطمي السنوية، وأثناء سيرنا أمام الديوان كانت تظهر مناطق من الدوامات المتتالية، ثم تنتهي لتعود بعد مسافة إلى الظهور مرة أخرى، وحين كنا نمر قرب أبو حنضل شاهدنا سحابات بيضاء قليلة عالية، وهي أول مرة نُشاهد فيها السحاب طوال رحلتنا.
يذكر حسن عوض — تأكيدًا على بعض الكتب التاريخية — أن سكان أبو حنضل كانوا من رقيق الكشاف الذين كانوا يسكنون المناطق الأحسن في الديوان والدر، تاركين أبو حنضل الفقيرة لأتباعهم؛ ولهذا فإن نحو ثلاثة أرباع سكان أبو حنضل تظهر فيهم الملامح الزنجية بكثرة، ويستطرد حسن عوض أن الكثير من العليقات يعيشون في السودان، وخاصة إقليم طوكر حيث لهم أراضٍ زراعية واسعة للقطن والعدس ولهم مطاحن كثيرة، ويقول إن هناك عائلات بأكملها من المالكي تعيش وتتزاوج في السودان، وإن شقيقه يعمل محاميًا، وأولاد عمومته يعيشون في عطبرة والخرطوم وهاجروا بعد أن أتموا تعليمهم في مصر، أما عليقات السنجاري فهم كثيرون في منطقة ود مدني في أرض الجزيرة، أما غالب مهاجري وادي العرب فهو إلى مصر والقليل في حلفا، وكذلك الحال مع أهل عمدية السبوع وكورسكو الذين يعملون في القاهرة والإسكندرية.
والمعروف أن عرب العليقات كانوا يعملون أدلاء في تجارة السودان عبر صحراء العتمور منذ قرون، وكان ينافسهم في ذلك العبابدة، وفي عصر محمد علي باشا قسم الأخطاط بين العبابدة والعليقات في تجارة القوافل السودانية، وعلى أثر استيلاء الحركة المهدية على السودان اتخذت مصر كورسكو قاعدة عسكرية للعمليات ضد الخليفة التعايشي، وكان العليقات يقومون بدور أدلاء الصحراء، بينما كان العبابدة هم الجمالة للجيش المصري. وما زالت على قمة جبل كورسكو طابية صغيرة كان يستعملها الجيش المصري كمرقب؛ تحسبًا لأية تحركات معادية، ومن هذه الطابية ينكشف في اتجاه الشمال منظر هائل لثنية النيل حتى الديوان من ناحية، ومسار وادي كورسكو والأودية الأخرى والهضبات والجبال لمسافة طويلة جنوبًا، وبعض صور هذه المنطقة أخذها رياض من الطابية.
ونتيجة لاستقرار العليقات على ضفتي النيل في الجزء الأوسط من النوبة، فقد مارسوا الزراعة منذ فترة طويلة، أصبحت لهم ديار يحنُّون إليها؛ ولهذا فإن الكثير من العليقات في السودان يعودون بعد فترة طالت أو قصرت إلى بلادهم، أما العبابدة فأغلبهم بدو رحل، وأي مكان يتيح لهم حياة مقبولة هو المكان الذي يرتبطون به، سواء كان داخل مصر أو السودان؛ وبطبيعة الحال فإنه لا تتكون عاطفة مكانية لمنطقة المنشأ، وهذا هو حال كل البدو، وإلا لما انتشرت القبائل العربية خارج شبه الجزيرة العربية إلى كافة أرجاء العالم الذي فتحه الإسلام.
سطح النهر كالحصيرة الملساء تنعكس عليه ألوان السماء الزرقاء بما فيها من نتف من السحب البيضاء، كما تنعكس ألوان الصخور والرمال وخضرة الأشجار، عند مصب وادي كورسكو عبرنا النهر إلى الجانب الشرقي تجنبًا لبعض الصخور الناتئة على الجانب الغربي، وقد لاحظنا أن الكثير من محصول الذرة قد قُطع وكُوِّم في كومات تمهيدًا لحزمه بعد أن يجف، وقرب العاشرة كانت أمامنا على ثنية النيل مدرسة السنجاري بلونها الأبيض وامتدادها الكبير، تحتل موقعًا مميزًا وسط الصخور الداكنة وعلى ارتفاع نحو ١٨ مترًا من سطح النهر، جلسنا فترة مع الأستاذ هلالي ناظر المدرسة، ودخلنا عدة فصول، ثم استمتعنا بالشاي مع المنظر الرائع الذي تطل عليه المدرسة.
عبرنا النيل مرة ثانية متجهين إلى نجع البوستة في المالكي، حيث أخذنا صفائح البنزين وملأنا الخزانات، كان الشاطئ طينيًّا لزجًا وكانت عملية نقل الصفائح قاسية ومرهقة للريس محمد، ثم انتقلنا إلى نجع الحمداب لنأخذ سلة الخزين وبعض ما تركناه من ملابس وصفائح زيت الموتور المتبقية. ودعنا رفيق الرحلة من الدر السيد/حسن عوض، وأعدنا الأستاذ هلالي إلى السنجاري ووعدناه بإرسال الكثير مما تحتاجه المدرسة من أدوية وإسعافات أولية — وأظننا فعلنا ذلك في حينه — وبدأنا سفرتنا إلى سيالة قبيل الواحدة ظهرًا، وأخذنا نفكر بصوت مسموع معجبين بأخلاق النوبيين وجديتهم في العمل، سواء كانوا تلاميذ أو مدرسين أو موظفين، ونحسدهم بعض الشيء على حياتهم الهادئة والتكيف مع البيئة القاسية ملتزمين بتقاليد موروثة غالبها مفيد، فماذا عن مؤثرات حياة المدينة على التراث الحضاري النوبي، وبخاصة بعد الانتقال إلى كوم أمبو وانحسار العزلة الجغرافية؟
الضفة الشرقية عبارة عن حائط جبلي مستمر مع قليل من الانفراجات تحتلها نجوع شاتورمة ثم وادي العرب، هبت رياح ساخنة جافة كَهَبْو اللهيب على وجوهنا، والقارب يتأرجح خفيفًا، وأحيانًا كثيرًا لاستمرار هبوب الرياح منذ أن تركنا السنجاري، وعبرنا شاتورمة ثم وادي العرب في نحو الثانية إلا ربعًا، فأرسينا «لندا» إلى البر لراحة الموتورات، فالجو شديد الحرارة التي تكاد تشوي الوجوه! أخذنا غداءً خفيفًا وشربنا ماء كثيرًا، ووضعنا طبقة سميكة من كريم البشرة على وجوهنا للحماية من التشقق، وكذلك على الأذرع العارية. الكاميرات لا تعمل لشدة الحر — وغير منصوح التصوير في هذه الحرارة العالية؛ لأن الفيلم لا يستجيب للضوء المبهر مع الحرارة التي تؤثر على طبقة الفيلم الحساسة — وكذلك جهاز التسجيل، وقد أخفينا هذه الآلات وسط أكوام من الملابس والأقمشة للحماية من الحرارة.
في نحو الثالثة مررنا أمام رمال وادي السبوع على البر الغربي ذات الألوان الحمراء والذهبية في صورة كثبان عالية تصل إلى حافة النهر، وبعد قليل ظهرت خيام العاملين في معبد السبوع، أما الضفة الشرقية فكانت تلالًا حجرية، ولم تمض فترة طويلة حتى بدأت صخور المضيق تقترب من ضفتي النهر، ومع هذا الضيق اشتد الهواء وارتفع الموج، وبعد اجتياز المضيق تراجعت التلال الغربية وحل محلها سهل واسع نسبيًّا، بينما ظلت التلال قريبة من الضفة الشرقية، اخترنا شجرة سنط ضخمة الفروع تلقي مساحة من الظل على البر الغربي، فرسونا عندها لتغيير خزانات البنزين، وفي الرابعة والنصف كانت التلال الشرقية قد تراجعت فجأة ولم تعد ظاهرة مرئية، وحل محلها بدايات سهل سيالة الواسع، وبعد الخامسة بقليل وصلنا نجع البوستة في سيالة.
قضينا الليلة في سيالة، وقد لاحظنا أن المنظر العام للسهل قد اختلف في مدة نحو ثمانية أيام؛ فالكثير من العشب انتهى باجتزازه أو بواسطة الحيوانات التي كانت مطلقة ترعاه، كذلك محصول الذرة كان قد جمع، والكثير من الكشرنجيج واللوبيا، وبذلك بدا السهل الفيضي أجرد فيه بقايا خضرة محترقة بعد أن كان مزهوًا بخضرة يانعة!
عادت كوثر إلى البنات والسيدات في المساء تتحدث وتسجل أغاني معظمها معاد، باستثناء أغنية جديدة أخذت منحى أوبراليًّ تلقائيًّا؛ فهناك الفتيات والشابات يتغنين بمحاسن الانتقال إلى كوم أمبو، حيث يكنَّ قريبات من المدن التي يعمل فيها أزواجهن بدلًا من عزلتهن، وحيث لا يربطهن بالحياة الخارجية سوى البوستة الأسبوعية، وترد عليهن السيدات من كبار السن في صوت مخالف متخوف من الانتقال إلى مكان جديد ليس فيه الأمان والحرية التي اعتدنها وإمكانية تغير السلوكيات والخلقيات، وتدور المساجلة بين آمال الصغار وتقاليد الكبار على دق الدف وقطع معدنية أخرى، وهي بذلك تحكي مشاعر القوم إزاء موضوع خطير هو هجرة الوطن إلى المجهول!
وصباح الجمعة ٢٨ سبتمبر تركنا سيالة على أمل الوصول في نفس اليوم إلى عائمات الألمان في كلابشة، وفي الثامنة إلا ربعًا مررنا أمام المحرقة؛ الهواء شديد والموج كبير عن الأمس، يرتطم بجوانب اللنش وله رشاش عال أعطى رياض دشًّا جميلًا وهو أمام عجلة القيادة. أسرع رياض باللنش إلى الجانب الغربي حيث الموج أقل قوة من الجانب الشرقي، وربما كان السبب أن جبل المحرقة يصد الرياح الشمالية فيرتد قويًّا على سطح النهر ويثير أمواجًا قوية، أما الشاطئ الغربي فهو سهلي لا تزال حقول الذرة قائمة لم تحصد بعد، والأغنام والماعز السود تنتشر قرب ضفة النهر، والغالب أن النوبة كانت منذ يومين تحت تأثير منخفض جوي يتحرك ببطء، ويثير رياحًا جنوبية ساخنة أو شمالية باردة حسب دورة الإعصار وحركته.
وفي هذه المنطقة بين محرقة غرب وقورتة، لاحظنا تجمع مجموعات كثيرة من طيور الماء: بجع أبيض، وفلامنجو ملون قرمزي الرأس والمنقار، وبط يضرب إلى لون البيج، وأبو قردان والطيور الصيادة للأسماك، وكلها بكميات كبيرة وأحجام مختلفة لم نشاهد لها مثيلًا في شمال أو جنوب النوبة.
وفي سهل قورتة شاهدنا نحو ثلاثين بقرة ترعى معًا، وهو أيضًا أكبر رقم لتجمع الأبقار شاهدناه في كل النوبة، في التاسعة كانت الدكة على يسارنا بعد أن تركنا العلاقي على يميننا.
النهر والجو اليوم هو نقيض الأمس؛ حين كان سطح الماء شبه أملس، والهواء حارًّا جافًّا لدرجة لا تُطاق. أما اليوم فالهواء شمالي بارد شديد، والنهر موجه عال سريع؛ مما اضطرنا إلى الاحتماء بالبر عند الدكة، وتناولنا إفطارًا خفيفًا، وتحركنا مرة أخرى في نحو العاشرة، فسواء كان الجو مناسبًا أو غير مناسب، فإنه كان علينا أن نصل إلى كلابشة اليوم؛ لهذا قررنا أن نسير ببطء مع كثير من الحيطة كي نصل إلى هدفنا ولو متأخرًا عن الغروب. المنظر العام منبسط على كلا جانبي النيل، ولكن الهواء العنيف يدفع أمواجًا عالية ترسل رشاشًا قويًّا علينا داخل اللنش. مررنا بكشتمنة وبعد قليل بدأت نجوع قرشة التلية في الظهور وفيما بينها أودية فاصلة، والسهل الفيضي العريض ممتلئ بالمسطحات المائية، والسواقي تنتشر على الضفة بمعدل تقريبي ساقية كل مائة متر، وعلى الضفة الغربية نجوع جرف حسين البيضاء المرتفعة على الحافة الهضبية المستمرة دون انقطاع مسافة عدة كيلومترات. هدأت الرياح قليلًا وانتقلنا إلى البر الشرقي حتى وصلنا نجع البوستة الحادية عشرة والنصف. توجهنا إلى وكيل البوستة الأستاذ صالحين. شربنا الشاي وقدموا لنا دوكة طازجة للغداء، وطلب أهالي معارفنا أن نخبر عيسى وخضري ومرسي أن يزوروا النوبة في فرصة قريبة، وأن يكتبوا لأهاليهم عن أحوالهم.
تزودنا بالبنزين، وفي الواحدة والنصف تركنا قرشة وأصبح الهواء والموج أهدأ عن ذي قبل. مررنا بنجوع ماريا بمنازلها ذات الزخرف المعماري والأسقف القبابية، وفي الثانية والنصف مررنا بمعبد دندور أمام مرواو. رسونا إلى البر وتغدينا داخل اللنش، وبعد ٤٠ دقيقة عدنا للتحرك نقصد الإفادة من الهدوء النسبي للرياح والأمواج.
قبل الرابعة بقليل وصلنا إلى نجوع عمدية أبوهور؛ النيل يضيق كثيرًا، والهضبة الشرقية عالية ومستمرة لكيلومترات، والضفة الغربية أقل ارتفاعًا واستمرارية وتتكون من مجموعات من التلال غير متصلة، وعندما دخلنا المنطقة هبت علينا رياح ساخنة قوية، وكان علينا أن ننتقل إلى الجانب الغربي الذي التجأت إليه المراكب المختلف. أثناء العبور عانينا الكثير من الأمواج العالية ورشاش الماء الطيني المستمر على نحو ما سبق ذكره — فصل قراءة الماء — وقد استغرق عبور النهر نحو نصف ساعة؛ لأننا قطعنا النهر بزاوية ميل واسعة خوفًا من تعرض جانب القارب لضربات الموج العنيفة والعالية.
استرحنا قليلًا على الضفة الغربية وشاهدنا الكثير من السمك الطيار؛ أي الذي يقفز خارج الماء مسافة لا بأس بها. تحركنا مرة أخرى، وبعد فترة قليلة ظهرت خور رحمة، وهي نهاية أبوهور، وفي نحو الخامسة وصلنا إلى عوامات هوختيف أمام معبد كلابشة.
ودعنا الريس محمد بعد أن نفحناه «أجرة وبقشيشًا» ما أثلج فؤاده، وودعنا «لندا» ذلك القارب العزيز، وأدار الريس محمد المحركات وانطلق عبر بوابة كلابشة، متجهًا إلى أهله في نجع قناوي حاملًا معه كل ما تبقى من المأكولات، وكانت كثيرة؛ لأن الكرم النوبي في جهات عديدة قد وفر لنا من المأكولات التي اشتريناها الشيء الكثير. وبعد الاستقبال الطيب من قبل الألمان على ظهر العائمة، كان أول ما عملناه هو شرب الماء البارد والليمونادة المثلجة، وأخذنا حمامًا يزيل العرق وطبقة الطين الرقيقة، ويزيل كل الجهد والعناء طيلة الأسابيع التي قضيناها في النوبة، واستمتعنا فيها بكل شيء من المخاطر إلى المسرات.
في الصباح التالي ركبنا الصندل الكبير الذي يحمل آخر حجر من حجارة معبد كلابشة متجهًا به إلى الموقع الجديد للمعبد غرب أسوان، وقد سبق لنا أن وصفنا نقل الحجر والدعاء عند حجر السلامة في البداية الجنوبية من بوابة كلابشة — انظر فصل بوابة كلابشة — وأثناء مرورنا في أمبركاب شاهدنا «لندا» والريس محمد على الضفة الغربية، حيث كان يزور بعض أقاربه. أطلق ريس الصندل صفارة تحية للريس محمد، ورد علينا محمد بالتلويح بعمامته.
اليوم الهواء أقوى شمالي وبارد، ولكن ماذا يهمنا الآن ونحن على ظهر صندل ضخم لا يكاد يتأثر بأمواج النيل التي كثيرًا ما عرقلت «لندا» الصغيرة، وها نحن الآن متجهين إلى نهاية رحلتنا النوبية، استمتعنا بكل لحظاتها، وسوف نستعيد هذه المشاعر حينما تأتي إلينا الصور بعد تحميضها، وحين نرتب أوراقنا الكثيرة التي كتبناها أثناء الرحلة؛ لعلنا ننجح في نشر كتاب يحكي قصة جزء عزيز من أرض وشعب مصر الخالدة.