الفصل الثاني

من «عمدا» إلى «لندا»

في العاشرة صباح اليوم التالي كنا عند مرسى شركة «هوختيف» غربي سد أسوان، وأمامنا كانت ترسو السفينة البخارية «عمدا»، وهي قارب فسيح يبلغ طوله قرابة ١٢ مترًا، ويحتوي على كابينة للنوم بها سريران، ومطبخ به مرشح للماء، وحجرة القيادة، ومقصورة مفتوحة في الخلف للجلوس والمشاهدة، وهو قارب قوي المحرك يتولى قيادته ريس وملاح.

تحركت «عمدا» من الميناء حوالي الثانية عشرة إلا ربعًا، وحوالي الثانية والنصف ظهرًا كنا أمام دهميت، وهي مسافة نحو ٣٥كم؛ أي إن القارب كان يسير بسرعة ١٢ كيلومترًا/ساعة ضد التيار، وهي سرعة كبيرة في مثل هذا الوقت من السنة، وتدل على قوة المحرك.

في البداية كان النهر عريضًا أمام «جنوب» سد أسوان، وتكررت أمام أعيننا مناظر الصخور الجرانيتية والجزر الجرانيتية العديدة، وقد حف بها إطار من الطمي المتراكم كشف عنه تفريغ مياه بحيرة السد، وقد زرع النوبيون أجزاء من هذه الأطر الطميية بمحاصيلهم المعتادة، فأعطى المنظر العام ألوانًا متناقضة؛ مياه النيل عكرة اللون ضاربة إلى اللون البني، الجرانيت الذي حرقته شمس آلاف السنين فصار من داكن اللون البني إلى الأسود، الخضرة اليانعة التي فقدت زهوها لوجودها بين ألوان قاتمة، وعلى أية حال فإن الخضرة المتناثرة هنا وهناك كسرت حدة الملل الذي تمجه عين المسافر في فصل الشتاء؛ حيث سطح البحيرة الواسعة أزرق بدرجات فاتحة حين تشكل الرياح تموجات الماء الناعمة، ثم صفرة الرمال أو حمرة التلال والحافات الصخرية التي تحف بالماء باستمرار، ونجوع وقرى النوبة بألوانها البيضاء أو البنية تمتد إلى ما لا نهاية.

وبوجود الإطارات الخضراء من أنواع الزراعات ظهرت بوضوح ألوان الحواف الرملية والصخرية أكثر من بانوراما الشتاء، وتضيف مجموعات الطيور العديدة من آكلات الأسماك وآكلات الحب والبذور وديدان الأرض؛ جمالًا فائقًا للنوبة خلال أشهر الصيف.

ويلحظ الشخص الذي تعود على مناظر النوبة شتاءً أن النوبة تعاني من داء «البيات الشتوي»، الذي نلاحظه في طبيعة بعض الكائنات التي لا تفيق من البيات إلا إذا عضها الجوع نتيجة عدم اختزان ما يكفي من طعام خلال الصيف، فالنوبة تسكن في الشتاء إلا من حركة بواخر السياح المتجهين إلى أبو سمبل أو عودة أحد السكان العاملين خارج النوبة إلى قريته لسبب ما، غالبًا الزواج — وهو قليل الحدوث في الشتاء الذي هو موسم العمل للعاملين خارج النوبة — ومع هبوط منسوب المياه في النيل — نتيجة تفريغ بحيرة السد — تستيقظ النوبة وتدب فيها الحياة، وتمتلئ الأرض التي خلفها تراجع المياه بأنواع من الأعشاب والنجيل الأخضر الخشن، ويدب الناس هبوطًا وصعودًا بين مساكنهم على الحافة الصخرية، وبين الحقول التي يزرعونها، في دروب مهدتها الأقدام سنة بعد سنة.

وفي الشتاء قلما يلمح المسافر بالنهر حركة الناس في نجوع النوبة، باستثناء اليوم الذي ترسو فيه باخرة البوستة القادمة من أسوان أو الذاهبة إليها، وهو أيضًا يوم السوق حيث تفرغ بعض السلع المرسلة إلى دكان القرية، أو بعض الطرود التي يرسلها العاملون إلى ذويهم من كبار السن أو الزوجات والأطفال، أما في الصيف فإن المسافر يرى الكثير من الحركة، وخاصة النساء بملابسهن البيضاء في الشمال، والسوداء في الجنوب، يرحن ويجئن في الحقول وبين الآبار والبيوت، ومع مجموعات من الماعز والخراف التي ترعى النجيل الأخضر، وغير ذلك من إيقاع الحياة؛ مما يضيف إلى المنظر الطبيعي كثير الألوان لمسة الحياة، ويحيل الصورة الجامدة إلى واقع «يشغي» بالناس وينبض بالزمن.

وبعد نحو ساعة أو أقل مررنا بمنطقة السد العالي، وعلى عكس الهدوء الذي يميز النوبة، فإن منطقة السد العالي بدت خلية دائبة الحركة: الأصوات العديدة للآلاف من الإنسان، والمئات من اللواري الضخمة والآلات العملاقة من حفارات وأوناش ضخمة، وأبراج الكهرباء التي تسمو وتعلو على كل شيء آخر، والعائمات الضخمة واللنشات السريعة والبواخر والقاطرات «الجرارات» النيلية وغير ذلك، ولكلٍّ صوت أو هدير أو زئير أو صفير أو فرقعة تهز المكان، ولم تكن الفرقعات دوي تفجير، بل كان مصدرها تفريغ حمولة لوري ضخم من الصخور والأحجار والتراب من فوق مكان معين على القاع الحديدي لعائمة ضخمة، فإذا استكفت العائمة حمولتها، تجرها قاطرة لتلقي بحمولتها في مكان محدد من النيل، فالسد العالي في أساسه سد ركامي يبلغ عرض قاعه نحو الكيلومتر!

وما من مرة مررت تجاه منطقة العمل في السد العالي، إلا لفت أنظار الكثير من السياح وعلماء الآثار الأجانب الذين كانت تعج بهم النوبة في تلك الفترة، ففي يناير التالي ١٩٦٣م كنت أركب البوستة متجهًا إلى كورسكو للقيام بأبحاث أخرى عن السكان والحضارة، وتصادف أن كان على الباخرة نفسها البعثة الأثرية النمساوية متجهة إلى سيالة في موسم عملها الثاني، وحين مرت البوستة بمنطقة السد العالي، كان يقف إلى جواري البروفيسور إيجارتنر أستاذ الأنثروبولوجيا الطبيعية «علم السلالات البشرية» في جامعة فيينا، وأخذ يسألني العديد من الأسئلة عن بناء السد والفوائد المرجوة من هذا العمل الجبار، أجبته قدر إمكاني دون أرقام كثيرة؛ لأنها أكثر مما تعي الذاكرة.

سألني عن موضوع الإطماء؛ أي ترسب الطمي الذي يحمله النهر في قاع بحيرة السد العالي سنة بعد أخرى، وهو ما يؤدي إلى تقليل سعة الخزان على مر السنين.

قلت له: إن موضوع الإطماء لا شك من الموضوعات التي تشغل بال المهندسين ورجال الري، ولا بد أن لديهم حسابات عن هذا الموضوع لمدة طويلة، ربما هي قرن من الزمان أو أكثر.

قال: هل يساوي قرن من التخزين وتوليد الطاقة كل الجهد المبذول والتكلفة العالية؟ وأحسبه كان صادقًا في تساؤله دون إيحاء ماكر، شأنه شأن الفكر العلمي الناقد.

رددت السؤال بسؤال — وقد أخذت موقف الدفاع الوطني — هل ستعتبر السد العالي بعد قرن من الزمان عديم الفائدة؟

قال: هل هناك حل؟

قلت: قد لا تبدو الآن حلولًا لمشكلة الإطماء، ولكن هل نعرف ما يقدمه العلم والتكنولوجيا في المستقبل؟ ثم إن مشكلة الإطماء ليست مشكلة السد العالي وحده؛ فالدول التي بنت سدودًا على أنهارها الكبيرة، كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، تواجه هذه المشكلة أيضًا. وأردفت أن في النمسا حقول بترول محدودة المخزون، فهل منع هذا النمسا أن تُقيم صناعة بترولية محدودة أيضًا؟ إن أحد مدارس الاقتصاد تقول باستخدام الموارد القائمة كلما أمكن ذلك؛ لأن لها قيمة اليوم، وربما يكتشف مورد جديد في المستقبل يجعل المورد القائم عديم الفائدة، فتضيع فرصة الإفادة منه، وذلك عكس مدرسة المحافظة على الموارد للمستقبل، المهم إيجاد صيغة مناسبة لاستخدام الموارد المتاحة مع محاولة تجنب الهدر؛ حفاظًا عليها إذا كانت لها فائدة مستقبلية.

figure
خريطة (٢): مسار الرحلة النهرية في النوبة المصرية ١٩٦٢.

والنيل هو أكبر مورد متجدد في مصر، ولا بد من الإفادة منه على أوجه متعددة، على ألا نصرفه في مشروعات قد تهدر إمكاناته في المستقبل، ولا شك أن تخزين المياه من أجل مزيد من زراعة الأراضي مع توليد الطاقة، هما أساس بناء السد العالي الذي ساعد على الرخاء في حينه، «وأنقذ مصر والسودان الشمالي فيما بعد من حرج ظروف الجفاف التي اجتاحت أفريقيا في الثمانينيات.» ثم حان وقت الشاي فانقطع الحديث مع بروفيسور إيجارتنر.

مرة أخرى نرجع إلى رحلتنا في سبتمبر ١٩٦٢م، كنا على ظهر المركب «عمدا» نراقب بانوراما النوبة الشمالية بإمعان، مر المركب على نجوع عمدية دابود الواحد تلو الآخر، والمنظر لا يتغير كثيرًا: حافات جرانيتية صلدة ومتهدلة، وبعضها يشرف تمامًا على النيل؛ مما يجعل مجرى الماء العظيم ينحني ويلتوي وينعطف بزوايا مختلفة، وإطار الخضرة ما زال يحف بأجزاء من الضفاف، والمساكن فوق الحافات الجبلية معظمها غير مطلي بالجير الأبيض الذي يميز الكثير من أبنية مناطق عديدة من النوبة، ومن ثم كان من الصعب تمييز البيوت؛ لأن لونها يُقارب لون الصخور الداكنة حولها، وفوق هذا فإن المنطقة الشمالية تتميز بالأسقف القبابية أو الأسطوانية، فلم تكن هناك زوايا الجدار والسقف الأفقي، مما يزيد من تعتيم الرؤية وتبين المساكن، وبالمناسبة تأخذ هذه الأسقف القبابية في القلة كلما اتجهنا جنوبًا، وتكاد ألا تظهر بعد العلاقي تمامًا، لتسود الأسقف المسطحة.

ومع بداية نجوع عمدية دهميت، أخذت الحافة الصخرية على البر الشرقي في التراجع قليلًا بعيدًا عن النهر، فتترك مجالًا لسهل فيضي محدود الاتساع، وسنرى فيما بعد أن السهول الفيضية تتسع في مناطق متناثرة من النوبة الشمالية، فالسهل في دهميت لا يتجاوز ٤٠٠ متر اتساعًا، وفي قرشة نحو ٥٠٠ متر في أحسن حالاته، وكذا في سيالة، بينما يبلغ اتساعًا يصل إلى ٦٠٠–٧٠٠ متر عند الدكة والعلاقي وقورتة، أما في النوبة الجنوبية فإن السهول أكثر اتساعًا واتصالًا فيما بينها كلما اتجهنا جنوبًا من الدر إلى توشكى، ثم تضيق في منطقة بين أرمنا وأبو سمبل، وتعود للاتساع في بلانة-أدندان.

وفي دهميت ظهرت كثير من البيوت مطلية بالجير الأبيض، فبدت على البعد، وقد رصعت الحواف الصخرية الداكنة، مما أعطى لونًا جديدًا إلى مجموعة الألوان في بانوراما جميلة، وطلبنا من قبطان عمدا أن يُدير «سارينة» المركب — الصفارة — أمام نجع الجامع على البر الشرقي لعل أحدًا يأتي إلينا؛ لنتفاهم معه على المبيت وإبلاغ حارس اللنش «لندا» التابع للجامعة الأمريكية، ولكن رغمًا عن إطلاق السارينة عدة مرات، ولمدة ليست بالقصيرة؛ فإن أحدًا لم يأتِ إلى الشاطئ، فقررنا استئناف الرحلة إلى البر الغربي حيث ترسو لندا، وبعد مسيرة حوالي ربع الساعة، وصلنا إلى المكان الذي تقبع فيه لندا.

وعلى الرغم من أننا كنا نعرف أن لندا قارب صغير، إلا أن المفاجأة أدهشتنا؛ فقد وجدنا أنفسنا ننظر من علٍ — من عمدا — على قارب منخفض لا يزيد ارتفاع أعلى جزء منه عن سطح الماء بأكثر من ١٣٠سم، بينما كان ارتفاع عمدا في حدود ثلاثة أمتار، وبينما يبلغ طول عمدا نحو ١٢ مترًا، فإن لندا لم تكن بأكثر من أربعة أمتار ونصف المتر، ويحتل مقدمها قرابة متر ونصف، والباقي هو الفراغ الذي سوف يشغله ركاب القارب وعجلة القيادة والمحركان في الخلف، وفي الوقت الذي كانت فيه عمدا مجهزة بغرفة نوم ومقصورة خلفية وحمام ومطبخ ومرشح للماء وبوتاجاز وكشافات كهربائية وسارينة ومخزن وقبطان ومساعده؛ لم يكن في لندا شيء من هذا كله، ولا حتى سارينة، كل ما فيها محركات قوية وقماش كبير يمتد على أعمدة منخفضة مكونًا سقفًا يحجب أشعة الشمس القوية، وكنبة من الجلد أمام مقعد القيادة تتسع لثلاثة أشخاص نحاف، وبحذاء الجدارين كنبتان من الجلد بطول قرابة ١٨٠سم وعرض نحو ٨٠سم.

وقفنا لحظات نتأمل من علٍ هذا القارب الصغير، لكنه كان أمرًا محتمًا أن نترك عمدا وننزل إلى لندا تطبيقًا للمثل «حمارتك العرجة أحسن …» أنزلنا ما معنا من حقائب ومعدات وطعام كان عليه أن يبقينا قرابة الشهر على قيد الحياة، وأربعة صفائح بنزين ومثلها من زيت المحركات.

شكرنا قبطان عمدا ومساعده شكرًا جزيلًا، وأخذ يلوح لنا بيده وهو يغادرنا بسفينته «الضخمة» مودعًا قاربنا الصغير، وقد بدا في عينيه تساؤل واضح غير خفي: هل ستخدم لندا غرضنا وتنقلنا إلى أصقاع النوبة كلها؟

وحينما عدنا من رحلتنا من النوبة قابلنا قبطان عمدا في مرساه بغرب أسوان، فهنأنا بسلامة العودة، وأخبرنا صراحة ما كان يجول في خاطره من تساؤل، وأثنى ثناءً عاطرًا على مقدرة لندا وكفاءتها وتحملها.

وبعد أن بعدت عمدا واختفت عن الأنظار، بدأت لندا تبدو في أعيننا أكبر وأكبر حتى شعرنا بها، وقد احتوتنا واعتدنا على الحركة فيها براحة معقولة، فلقد انتهى أثر عمدا النفسي ولم يعد هناك ما نقارن به لندا.

وعلى الرغم من صغر حجم لندا، إلا أنها كانت ذات شراهة غير محسوبة؛ فقد ابتلعت كميات كبيرة من البنزين والزيت، ولكن ذلك كان طول الرحلة جنوبًا ضد التيار الجارف، أما في الرحلة شمالًا فقد كان استهلاك الوقود نحو نصف الاستهلاك جنوبًا، وذلك بمساعدة تيار النهر؛ مما أدى إلى عدم استخدام عدد من الصفائح تركناها وراءنا لمن يُريد استعمال البنزين والزيت، وهذه نقطة سهى علينا إدراكها، وإلا كنا قد وفرنا مبلغًا من ميزانية محدودة، كذلك كانت سرعة التيار تساعدنا في قطع نفس المسافات في نحو نصف الزمن الذي قطعناه حين السير ضد التيار.

والواقع أننا فيما بعد أدركنا أننا قد عقدنا أواصر قوية مع لندا، وودعناها وداعًا حارًّا في كلابشة حين تركناها في رعاية الريس محمد علي شاجة ليذهب بها إلى مرساها في أمبركاب، وركبنا سفينة البعثة الآركيولوجية الألمانية إلى أسوان، وحين عدنا مرة أخرى إلى النوبة — كورسكو يناير/فبراير ١٩٦٣م — لم تكن معنا لندا، افتقدناها وشعرنا بفراغ كبير، خاصة مع كثرة الانتقالات بين كورسكو شرق وغرب ونجوع الريقة والمالكي وشاترمة، التي كانت تحتاج إلى قارب خدوم ودود وصديق مثل «لندا».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤