الفصل الرابع

الليلة الأولى

تتذكر د. كوثر الليلة الأولى التي قضتها وحدها في نجع قناوي، بعد أن جرف تيار النيل القارب «لندا» وعليه الأستاذ أسعد ود. رياض.

***

نزلنا من «عمدا» إلى البر الغربي في نجع قناوي أول نجوع أمبركاب، وحيث يرسو القارب «لندا» منذ نحو ثلاثة أشهر في عهدة بحار من الكنوز اسمه محمد علي شاجة، وبعد أن نزلنا بقليل جاء شخصان عرفنا منهما أن الريس محمد متغيب عن النجع، وبدا لزوجي والأستاذ أسعد تفقد القارب، وخطر لي أن أنتهز الفرصة وأستغلها في التعرف على نساء النجع ومشاهدة بيوتهم، وسرعان ما أتت مجموعة من الأطفال مع سيدة شابة في مقتبل العمر، جميلة الملامح باسمة الثغر، يلمع فوق جبهتها قطعة من الذهب تُسمى قصة الرحمن مثبتة إلى الشعر، دعتني للصعود إلى النجع، واندهشت؛ فليس من عادة النوبيات الإقبال السريع على الغرباء، بل حسب خبرتي قبل أشهر في سيالة أنهن كن يهربن داخل الأسوار سريعًا، ولم أتمكن من التكلم معهن إلا بعد الحديث مع الفتيات الصغار لكي أصل إلى أهاليهن.

على أية حال، قبلت دعوتها ومشيت إلى جوارها وقطعنا المنطقة السهلية بصعوبة؛ إذ إنها تتكون من تربة طميية شققها الجفاف بعد انحسار مياه الخزان، وكانت الشقوق كثيرة وكبيرة، قد يصل بعضها إلى عشرين سنتيمترًا مع عمق كبير، كان لا بدَّ أن أرى موضع قدمي تجنبًا لما لا يُحمد عقباه من التواء أو ملخ، وساعدني في ذلك الحذاءُ الكاوتشوك الذي ييسر الخطى، وبعد أن قطعنا المنطقة السهلية وصلنا إلى أقدام الهضبة، حيث تقع البيوت أعلاها، وبصعوبة وحذر مشيت وراء فاطمة أتسلق المرتفع الصخري، بينما أطفالها يقفزون أمامنا في خفة الغزال وصغار الماعز فوق الصخور.

ووصلنا إلى النجع وقابلتنا سيدة كبيرة السن ترتدي ملابس سوداء، عرفت أنها شقيقة الريس محمد، أما فاطمة فكانت زوجته، دخلنا البيت الذي يواجه النيل من علٍ، وهو محاط بسور يصل ارتفاعه إلى نحو ثلاثة أمتار، مزين في جزئه العلوي بزخارف من الجبس تأخذ شكل مثلثات داخلها دوائر مفرغة، وللمنزل بوابة خشبية كبيرة، فوقها أيضًا بعض الزخرف هندسي الشكل، عندما عبرنا البوابة وجدنا أنفسنا في حوش سماوي رملي كبير، في ركنه الأيمن جزء محاط بسور منخفض — نحو ٣٠ سنتيمترًا — به شجرة قصيرة شبه جافة، وكانت هذه هي الحديقة كما أسموها، وكان في الجزء الأيسر من الحوش ما يسمونه «السبيل»، وهو عبارة عن جزء مسقوف على ثلاثة حوائط، والجانب الرابع مفتوح على الحوش، وسقف السبيل مصنوع من فلج النخيل وعيدان الذرة، وقد زان الجدران رسوم ملونة لأغصان وورود، وفي داخل السبيل عنجريب واحد للجلوس والراحة، وخارج السبيل زير مياه تغطيه مظلة من الخشب والذرة، مفتوحة الجوانب لتبريد الماء في هذا الهجير القاسي، والسبيل هو مكان استقبال النساء، بينما يجلس الرجال خارج السور غالبًا على مصطبة مبنية، وفي مواجهة البوابة حجرتان: إحداهما للنوم، أثاثها عنجريب ومنضدة صغيرة وصندوق خشبي كبير مزدان بالرسومات الملونة، وهو مثل الصناديق التي توجد في الريف وتستعمل لخزن الملابس، ويتدلى من السقف عدد من «الشَّعَاليق» أو «الشَّعَاليب» التي تُعلق فيها الأطباق؛ والشُّعليق عبارة عن ثلاث جدائل من غزل الصوف، تربط أطرافها العليا معًا إلى السقف، وتجتمع الأطراف السفلى معًا ويتدلى منها «شرشوبة» من الصوف المنفوش، ويوضع الطبق بين الجدائل المتدلية فوق العقدة السفلى والشرشوبة، وتزين هذه الجدائل بالودع الذي تجمعه النساء عند زيارتهن لأزواجهم العاملين في مدن ساحلية، وهذه الشعاليب بجانب فائدتها في حفظ الطعام بعيدًا عن الحشرات والأيدي، فإنها أيضًا من أسباب الزينة داخل الحجرات أو المضايف؛ خاصة إذا كان الصوف والأطباق كثير الألوان المتناسقة، وكثرة الشعاليب عنوان على الرخاء، وليست الشعاليب والرسوم الجدارية هي كل أسباب الزينة الداخلية للبيوت، فهناك أيضًا أشغال السلال والخوص من أبراش وأطباق تزين بها العروس حجرة نومها.

أما الحجرة الثانية فهي «الكانون»؛ أي المطبخ، وبها عدد من الأزيرة الفخارية صنع الصعيد، وتستخدم لخزين اللوبيا والتمر والدقيق والذرة، وفي ركن الحجرة يوجد مكان «الدوكة»، وهي عبارة عن ثلاث قطع من الحجارة، فوقها قطعة مستديرة من الصاج يُحمى تحتها النار لعمل عيش «الخمريت» أو «الدوكة»، كما يوجد موقد كيروسين وبعض أواني المطبخ الفخارية والنحاسية.

وأمام الغرفتين بُنيت مصطبة ترتفع إلى نصف متر بطول نحو خمسة أمتار أو ستة، ويوجد في أعلى حوائط الغرف بعض الفتحات هي طاقات للتهوية، بعضها استخدمه الحمام الذي يُربى في البيوت للدخول والخروج، كما يوجد بجوار الغرفتين مكان صغير مُحوط للطيور الداجنة، وفي السور الخلفي للبيت يوجد باب صغير يُستعمل لخروج الحيوانات المنزلية إن وُجدت.

وقد زرت منزلين آخرين لا يخرجان عن وصف البيت السابق في شيء، اللهم إلا إضافة غرفة ثالثة في أحد البيتين مثبت عليها راية بيضاء مخضبة بالحناء، علمت أنها الراية الباقية من أربع رايات تُعلق فوق باب حجرة العروس عند زواجها.

والبيوت كلها مبنية من الحجر الرملي النوبي الشائع في النوبة، وبعضها أُضيفت إلى جدرانها محارة من الرمل والطين، ثم طلاء جيري أبيض مزين برسومات نباتية من الزهور والأغصان والطيور، أو أشكال هندسية، وتستخدم بكثرة الألوان الزرقاء والصفراء والحمرة الضاربة إلى البنية.

وكنت قد أرسلت فتى إلى زوجي ليأتي لي بحقيبة يدي والكاميرا، وقمت بتصوير بعض مناظر للبيوت والسكان، وطوال التجوال والجلسة كنا نسمع صوت موتور القارب يعمل فترة ويتوقف فترات، ولما طال الانتظار وفرغ الحديث، قررت النزول إلى الشاطئ لتحري الخبر.

صحبتني فاطمة والأطفال إلى النهر فلم أجد أحدًا، وكذلك القارب لم يكن موجودًا، ووجدت اثنين من العبابدة الذين ينتقلون بإبلهم عبر النهر للرعي خلال هذا الموسم، ثم يعودون إلى الضفة الشرقية بقية السنة، وهؤلاء يرعون بقايا النجيل بعد أن تجتثه نساء النجع، وأية أعشاب طبيعية أخرى، وذلك بموافقة أهل النجع، وكثيرًا ما يعهد إليهم أهل النجع بما لديهم من حيوان — غالبًا أغنام وماعز — لرعيهم طوال الموسم.

ويمكن تمييز العبادي عن النوبي بسرواله الواسع ورأسه العاري ذي الشعر الأشعث — وبعضهم يلبس عمامة كبيرة مثل أهل النوبة — ويضعون أحَجِبه ضد الذئب — وربما الوحوش الأخرى التي أشيعها الضباع في النوبة — وكان واحد منهم يربط الحجاب إلى ذراعه، والثاني يعلقه في صدره.

والعبابدة من الرعاة عادة ما ينفرون من الغرباء، لذلك دُهشت عندما اقترب أحدهما مشيرًا إلى النيل قائلًا: إن الرجال استقلوا القارب بعد أن دار الموتور بضع دقائق ثم توقف، لكن الماء جرف القارب بعيدًا ولم نعد نراهم.

أصابني خوف شديد أخفيته بصعوبة بالغة، وبعد فترة تماسكت وقلت: لا بأس سوف ننتظر على الشاطئ إلى أن يصلحوا الموتور ويعودوا، وربما يأتي أيضًا الريس محمد فيتمكن من جر القارب «لندا» إذا لم ينصلح حال الموتور، ووجدت الفرصة جيدة للتعرف على العبادي وزميله، ودون أن أشعر، وكما تعودت في الدراسات الميدانية، امتدت يدي إلى الكاميرا لأسجل لهم صورًا مع حيواناتهم، لكن العبادي كان أسرع من يدي واختفى في سرعة البرق خلف جمل كبير، بينما أخفى الآخر وجهه وأدار ظهره وهو جالس على الأرض وفي يده عصاه الطويلة، ورغم ذلك فقد أخذت صورة على هذا الوضع، وتركت الكاميرا وحاولت محادثتهما، لكنهما ازدادا نفورًا وأسرعا بالحيوانات بعيدًا.

وألحت عليَّ فاطمة أن أرجع إلى النجع ثانية، لكن الأمل في رجوع القارب كان أقوى، فرفضت تمامًا العودة معها إلى النجع، وكان على الشاطئ قارب قديم جلست فوقه أنظر إلى التيار الجارف أرهف السمع لعلَّني أسمع شيئًا، لكن دون جدوى، وأسرح في أفكار تقطعها فاطمة الجالسة إلى جواري وأرد عليها باقتضاب وأنا شاردة الفكر.

ويمر الوقت والجفاف شديد لم أتعوده بعدُ، وجف فمي وتحجر حلقي وكنت أجد صعوبة في الكلام، ورجوت فاطمة أن تتركني لترعى أطفالها، ورجوتها أن ترسل لي بعض الشاي أروي به ظمئي، وبعد ذهابها استرخيت على القارب أنظر إلى السماء أرقب تغير الألوان قبيل الغروب، والهدوء شامل عدا صوت ارتطام مياه النهر الرقيقة بالشاطئ، أصبحت أنا الشيء الوحيد الحي في مساحة كبيرة من الأرض والماء، وتطاردني أفكار سوداء، وأتفقد القارب القديم فربما أقضي به الليل، فماذا لو هاجمني وحش؟ وأحاول أن أطرد الأفكار بالتطلع إلى ألوان الغسق وانعكاساتها على سطح النيل، وأجد المنظر أخاذًا لو أنني في موقف غير موقفي هذا.

وخيم الظلام الخفيف الذي يعقب الغروب وتمنيت أن ترجع فاطمة؛ فقد أخذني الخوف وتملكتني الرهبة في هذا المكان الموحش، وقد لا أستطيع الصعود إلى النجع بمفردي، ومهما ناديت فالأغلب ألا يسمعني أحد على هذا البعد، وبغروب الشمس تنخفض درجات الحرارة بسرعة ويصبح الجو رطبًا محتملًا، ومن حسن حظي أنها كانت ليلة مقمرة، فسرعان ما بدا القمر في رحلته الليلية متسلقًا السماء حتى بدا قمرًا مستديرًا جميلًا يشع بعض الضوء، فأعطى المكان لونًا أبيضَ باهتًا، كأن لمسة سحرية قد حولت كل شيء إلى عالم تتمازج فيه الأطياف والأبعاد كالقطن المندوف!

وبينما أنا في هذا العالم العجيب سمعت شيئًا يدب وشبحًا يقترب؛ فتجمدت رعبًا، لكن صوت فاطمة أجرى الدم في العروق، فقد نزلت لتخبرني أن شخصًا من النجع البحري جاء وأبلغها أن قارب زوجي قد رسى على البر الشرقي بمعونة قارب شراعي، الآن انتهى هاجس مخيف، وبقي الأمل أن يرجع الريس محمد عما قريب، جلست فاطمة بجانبي ترقب هي الأخرى رجوع زوجها.

ومرت أمامنا قوارب شراعية سراعًا، فقد ملأ الريح أشرعتها، وتطلب مني فاطمة أن أزعق لأسأل عن قارب زوجها، فالتقاليد تمنعها من أن ترفع صوتها، كنت أنادي: يا ريس، الريس محمد فين؟ وكان الجواب دائمًا هو «جاي ورانا.» وبرغم التقاليد كانت هي الأخرى ترفع صوتها بالسؤال ويمتلئ الجو بحديث قصير متبادل باللغة الماتوكية، ورويدًا ضعف الأمل في عودته بعد أن زادت عتمة السماء، وقل عدد القوارب التي تمر بين الحين والآخر، وأصبحت مجرد أشباح باهتة.

ووجدت أنه لا مناص من الصعود إلى النجع والانتظار هناك، وفي النجع تجمع كل السكان للترحيب بي وإعداد مكان أقضي فيه الليل، والحقيقة أن سكان النجع لم يكونوا سوى السيدة شقيقة الريس محمد وزوجته وأطفاله، وسيدتين في مقتبل العمر هن بنات عمومته؛ إذن الريس محمد هو الرجل الوحيد في النجع! وليس هذا بغريب عن النوبة الشمالية.

وفيما يشبه ميدان النجع؛ أي الأرض الواسعة بين البيوت، فرشت لي سيدات النجع أحد الأبراش وفوقه مرتبة رقيقة، استأت لهذا الترتيب، ومرد الاستياء شيئان دارا في ذهني؛ أولهما: لماذا لا ننام على عنجريب داخل أحد البيوت؟ وثانيهما: خوفي الشديد من العقارب والثعابين السامة التي تجوب النوبة بحثًا عن رزقها في ظلمة الليل، ففي الشتاء تسكن هذه الكائنات هربًا من البرد، وبالتالي فإن أخطارها قليلة في الفصل البارد، فماذا عن الصيف؟ وكنا في القاهرة قد بحثنا عن مصل ضد لدغة العقرب والثعبان دون جدوى، وحتى لو كان معنا فبماذا يفيدني في موقفي هذا وكل أغراضنا في القارب بعيدًا على البر الشرقي؟!

وكانت الإجابة العملية لاستيائي الأول هو أن السيدات والأطفال قد افترشن الرمل حولي، وكذا فعل الكلب الوحيد في النجع، وأخذنا نتجاذب الحديث حول موضوعين؛ الأول: أن زوجي وزميله والقارب في أمان على البر الشرقي. والثاني: أن الريس محمد أخذ قاربه الشراعي الصغير منذ الصباح الباكر، واتجه إلى النجوع والنواحي التي تقع إلى شمال نجع قناوي بحثًا عن دقيق يشتريه، فقد نفذت مؤنهم من الدقيق ومن كل شيء يُؤكل، وأخذت النساء تبدين الأسف أنهن لم يستطعن أن يقدمن لي غداء أو عشاء، ولما كنت قد تناولت وجبة غداء ونحن على ظهر السفينة «عمدا»، فلم أكن أحس بالجوع، وكان كل ما طلبته هو الشاي أروي به العطش الذي يُلاحقني.

لقد كان الماء متوفرًا في الزير، لكني خشيت أن أشربه؛ لأن لي مع الماء في النوبة تجربة مُرة، ففي أثناء الأبحاث التي كنا نجريها في منطقة سيالة في الشتاء السابق، حدث لي ألم شديد في المعدة، ومرضت وظللت طريحة الفراش خمسة أيام متتالية، وبقيت أُعاني الألم حوالي الشهر بعد الرجوع إلى القاهرة، وأعتقد أن ذلك كان بسبب الماء الذي كنت وزوجي نغليه ثم نضع فيه حبات من الحلزون زيادة في تعقيمه، وفي هذه المرة أحضرنا معنا مياهًا معبأة في زجاجات بلاستيك اشتريناها من أسوان، ولكن كانت كلها موجودة في القارب البعيد.

ورويدًا قلت أصوات المتكلمات وأغمض الكل جفونهن مستسلمات للنوم في الجو المفتوح الصحو المنعش، وكنت ما زلت أخشى الحشرات إلا أن تعب اليوم والقلق والخوف والجو الرطيب والصمت المخيم حولي؛ قد ساعدني على الإخلاد للنوم لأول مرة في العراء وبدون غطاء.

لا أستطيع أن أذكر كم مضى من الوقت عندما تنبهت على نباح الكلب الذي كان يُشاركنا نومنا، رفعت رأسي فزعة بعض الشيء، فإذا بشبح طويل يقفز بخفة الهر من وراء الحافة الصخرية فحجب عني القمر، وإذا به يصيح بالماتوكية وترد عليه زوجته، وتسكن نبرات صوته المنفعلة، ويهدأ ويتجه نحوي مسلمًا، لقد حضر الريس محمد بعد عناء يوم كامل فلم يجد القارب المكلف بحراسته، فقطع المسافة الطويلة من الشاطئ إلى النجع يجري ويلهث ويصيح: أين القارب؟ أين القارب؟ وطمأنته زوجته وكل من في النجع أن القارب بخير على البر الشرقي، وأنني كنت في انتظاره ليوصلني إلى هناك، وقال لي إن ذلك غير ممكن الآن، وإن علينا أن نستقل قاربه الشراعي الصغير في الصباح الباكر، وأخذ يقص على زوجته كيف أنه أخذ يتنقل من نجع إلى نجع بحثًا عن دقيق يشتريه فلم يجد شيئًا، حتى وصل إلى منطقة العمل في السد العالي، حيث استطاع هناك أن يشتري بعض أرغفة من العيش الشمسي، اشتراه من أحد المراكبية من أهل الصعيد، وقدم لزوجته ما اشتراه!

أخذت الزوجة رغيفًا وقطعته أجزاء لكل من حولنا، ورفضت أن آخذ نصيبي فلم تكن بي حاجة إليه، وفضلت أن أعطيه للأطفال الجياع الذين كانوا قد استيقظوا مع الجلبة التي أحدثها والدهم، والتفوا حوله في فرح وغبطة ينظرون إليه كما تفعل أفرخ الطير حين تطعمهم أمهاتهم.

ودخل الأب والزوجة والأولاد إلى البيت، وعاد الصمت يُطبق على المكان من جديد، ولم أنم لفترة طويلة، أتأمل القمر يشيع أضواءً وظلالًا تبعث الكثير من الرهبة وتطلق للخيال أعنته، وبدت لي الأسوار العالية بزخارفها في صورة قلاع وقصور خيالية لم يعد يسكنها سوى أشباح الماضي، لقد بعدت بي صورة الأسوار بألوانها البيضاء وظلالها السوداء في ضوء القمر بعدًا تامًّا عن صورة النجع تحت أشعة الشمس القوية، حيث كل شيء محدد وواقعي، لقد جردها ضوء القمر من الواقعية الجامدة وأحالها إلى ألوان متداخلة في عالم خيالي ليس له قوام مادي.

وفي الفجر انتابتني قشعريرة بسيطة، فقد برد الجو إلى أدناه.

وبكى الرضيع، وقامت فاطمة تجهز لنا الشاي والإفطار الذي كان يتكون من طبق به قطع من لحم طائر يُسمى محليًّا «البجة» — لم أعرف ما هو ولم أتابع السؤال عنه — وبيضتين صغيرتين مقليتين في الزيت، وتركت الطعام للريس محمد فهو أحوج إليه مني، رغمًا عن أنني بدأت أحس بالجوع، إلا أنني منيت النفس بإفطار من مؤنتنا حين نصل البر الشرقي، شربت الشاي المر الذي كنت أجده أكبر نعمة في هذا الجو الجاف.

وأسرع الريس محمد وأنا خلفه إلى قاربه الشراعي الصغير قائلًا: إن التبكير قبل طلوع الشمس مهم قبل أن تنشط حركة الهواء والأمواج، ساعدني على الصعود إلى القارب، وبمهارة أدار القارب ودفعه نحو النيل وقفز داخله بخفة لا تتناسب مع سنه الذي تبينته في ضوء النهار، فهو غالبًا في حدود الأربعين، بينما زوجته لا تكاد تصل إلى الخامسة والعشرين أو نحوها.

جدف محمد بمهارة مستخدمًا تيار النيل في سرعة الدفع إلى الشمال الشرقي، حيث يُوجد القارب وزوجي والأستاذ أسعد.

وحينما سافر الريس محمد معنا لمدة شهر لا أعرف كيف تصرف مع أهله؛ هل أعطى نقودًا لشخص كي يشتري حاجات الأسرة، أم تمكن من الشراء من عمدية دهميت قبل أن يعود بالقارب إليهم يسلم عليهم ثم يعود إلينا في دهميت لنبدأ رحلتنا؟ لست أدري!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤