الفصل السادس

من كلابشة إلى قرشة

تجاربنا الفاشلة في التكيف مع البيئة.

***

جلس رياض في مقعد القيادة ودارت المحركات، وأراد أن يدور بالقارب صوب الجنوب، لكنه أدار العجلة يمينًا فإذا «لندا» تتجه صوب العائمات، لكنه أسرع بالعجلة يسارًا وسار القارب ميممًا الجنوب، ثم أراد أن ينحرف يسارًا إلى داخل النهر فاتجه يمينًا، وفزعنا لكنه عدل الوضع بسرعة، وهكذا سار في خط متعرج لبضع دقائق، ثم سارت الأمور على ما نشتهي، وحينما عدنا إلى عائمات كلابشة في نهاية رحلتنا قال أندورف ضاحكًا: رأيتكم تتجهون شمالًا ثم جنوبًا ثم غربًا ثم جنوبًا، فلم أدر أي اتجاه تريدون، كأنما كنتم مترددين أن تغامروا جنوبًا، أو أن القارب لم يكن يريد ذلك.

وبعد ساعة أو نحوها مررنا بمحطة أبوهور النهرية، وكل مَن سافر على باخرة البوستة وظل مستيقظًا حتى وقت متأخر قليلًا كان يُشاهد منظرًا فريدًا في أبوهور، فالبوستة ترسو عند حاجز صخري أمام الفانوس الأحمر الذي يُرشد الباخرة إلى مكان الرسو ليلًا، وبجوار الفانوس ترتفع الأرض إلى اليمين مباشرة في انحدار شديد يأخذ صورة أسطوانية ضخمة، وتنتهي هذه الأسطوانة ببروز صخري كأنما هو تاج أحد أعمدة الكرنك، لكن بصورة مضخمة عدة مرات، وفوق هذا البروز بنى السكان سورًا صغيرًا من الحجر يقي الصاعد والنازل من السقوط، وإذا رفع المسافر عينه إلى أعلى يجد عشرات العيون تُحملق إلى أسفل عند مدخل الباخرة ترقب عزيزًا راحلًا أو عزيزًا قادمًا، إنها عيون نساء أبوهور اللاتي لا يجرؤن على الظهور أسفل المنحدر لسببين: ضيق المنحدر، والاحتشام الذي تبديه نساء النوبة بصفة عامة.

وفي إحدى المرات كان هناك عريس قادم إلى أبوهور، وكان المنظر ساحرًا لدرجة تقصر عن وصفها الكلمات، فعلى الضوء الكهربائي المنبعث من كشاف السفينة، وضوء الفانوس الأحمر الخافت، وأضواء عشرات الفوانيس التي يحملها الناس دائمًا في تنقلهم داخل النجوع ليلًا ووسط الزعاريد الطويلة الحادة؛ صعد العريس الشاب المنحدر بين عشرات الجلابيب البيضاء، وتحركت أضواء الفوانيس مع الموكب البهيج صاعدة إلى أعلى، ثم تلاشت الأنوار وخفت الزغاريد، ودار محرك البوستة.

لكن كانت هذه هي المرة الأولى التي نرى فيها أبوهور نهارًا وفي الصيف، وكان المنظر جميلًا ولكن بشكل آخر، فقد انخفض النيل عن منسوب الشتاء بنحو عشرين مترًا أو أقل قليلًا، وكنا في لندا الصغيرة نرفع أعيننا إلى حائط صخري يزيد ارتفاعه عن قرابة الخمسين مترًا، وعند أقدام الحائط الصخري شريط أخضر لا يزيد اتساعه عن خمسين مترًا، وأعلى الصخور تناثرت البيوت عالية، ونظرًا للارتفاع فلم نكن نر غير أطراف أسوارها المزركشة لمسافات طويلة، تذكرنا بأسوار القلاع والحصون التي تحف بنهر الدانوب بين فيينا وبلدة مِلَّك، أو قلاع نهر الراين الأوسط بين بِنْجِن وكوبلنتز.

وبعد قرابة نصف ساعة تراجع حائط أبوهور الصخري في قوس كبير، وانفرج عن حوض زراعي صغير لا يزيد عمقه إلى الداخل عن مائة وخمسين مترًا، وكانت المناطق المزروعة في هذا السهل الصغير لا تتجاوز عدة شرائط ضيقة، بينما كسى النجيل الأخضر المساحات الباقية، وانتشرت في المنطقة أعداد من الإبل، ربما زادت عن خمسة وعشرين جملًا، وأعداد من الماعز والأغنام، أوقفنا القارب ونزلنا نريد الكلام مع الراعي العبادي، لكنه رفض الكلام معنا في البداية ثم ذكر لنا أنه من عبابدة العشاباب بدنة المحمداب بيت الفشيجاب، وحين أردنا أن نأخذ صورة له هرب وراء الجمال، ومع ذلك صورناه بواسطة العدسة المقربة «تلي لنز».

في الحادية عشرة والنصف وصلنا محطة «مرواو» النهرية، هنا المنظر أكثر اتساعًا لكن الصخور ما زالت تحف بالوادي الضيق من الناحيتين، عبرنا إلى الجانب الغربي، لكن تيار الماء كان شديدًا، فعدنا أدراجنا إلى الجانب الشرقي من النهر.

تجربة أول غداء في العراء

حوالي الساعة الواحدة ظهرًا وصلنا إلى مشارف عمدية «ماريا»، وانتقى لنا الريس محمد مكانًا نرسو فيه بجوار ساقية قديمة مهجورة، ربطنا القارب على مبعدة قليلة عن الساقية؛ لأن بنايات السواقي من الحجر الرملي الذي يزداد صلابة في الماء — ومثل هذه السواقي يغمرها ماء خزان أسوان تسعة أشهر من السنة — وأخذنا معدات أول غداء لنا في العراء وجلسنا إلى حائط الساقية مستفيدين بالظل القليل، أخذنا علب الخضراوات واللحوم المحفوظة وغلاية للشاي وموقد الكيروسين، وبعد جهد شديد وإقامة ساتر من البطاطين، أمكن إيقاد الشعلة وتسخين الخضر واللحم وعمل الشاي، لكننا فيما بعد أقلعنا عن فكرة التسخين، فيكفي تعريض العلب للشمس بعض الوقت ليصبح الطعام دافئًا، وبعد فترة تعودنا أن نأكل دون ملح أو خبز، أما الشاي فكنا نجهزه في المكان الذي نبيت فيه ونضع كميات وافرة منه في «الترموس» الكبير، وماءً ساخنًا في «ترموس» آخر لعمل قهوة أظن أحدًا لا يستطيبها إلا في الأماكن النائية.

وفي أول غداء أحضر كل منا ما يخصه من شوكة وملعقة وسكين وفوطة، لكننا بعد ذلك وجدنا الملاعق تكفي، وهي — فضلًا عن ذلك — أسهل في الغسيل من الشوكة، وحينما غسلنا الأطباق في مياه النيل لأول مرة خرجت إلينا وبها قدر من الطمي الناعم، وودنا لو أن معنا «زيرًا» صغيرًا نضعه في القارب نشرب منه ماءًا باردًا نظيفًا، ونغسل به معدات الأكل ووجوهنا وأيدينا، لكن ذلك ظل حلمًا، فلم نستطع شراء الزير أو حتى «قُلَّة»؛ لأن هذه صناعة الصعيد ولا يوجد منها ما هو معروض في النوبة، وبقينا طوال الرحلة نشرب كميات كبيرة من الماء الذي نروِّقه بالشبَّة ونعبئه في زجاجات كبيرة من البلاستيك، وقد تعودنا أيضًا على شرب الماء الدافئ باستمرار، وما أكثر ما تعودنا عليه خلال الرحلة!

وكانت مشكلة تنظيف الأسنان مشكلة فعلًا؛ فإننا وإن تعودنا على غسل الأيدي والوجه بماء النيل، إلا أن إدخال الماء الكدر في الفم كان أمرًا صعبًا، ومن ثم خصصنا كوبًا من الماء النظيف كل يوم لغسيل الفم، ولكي نهون على أنفسنا هذه المتاعب الأساسية بأن نجعلها مادة للتسري؛ فماء النيل المليء بالطمي والطين أصبح الماء المغذي بما يحتويه، أو نقول إن الطبقة الرقيقة من الطين التي تعلق بالبشرة مفيدة؛ لأنها تحمي من الحر الشديد، وماء الشرب الساخن نقبله على أنه مطهر للأمعاء!

تجارب فاشلة لتبريد ماء الشرب

فكرنا في وسيلة لتبريد ماء الشرب الذي نعبئه بعد غليه في زجاجات بلاستيكية، أول الأفكار أن نربط الزجاجات بحبل ندليه في ماء النهر إلى جوار القارب لكي تظل بعيدة نسبيًّا عن حرارة الشمس المباشرة، لكن حين يتحرك القارب ترتفع الزجاجات إلى سطح النهر؛ لأنها خفيفة، فضلًا عن أن سرعة القارب تجعلها تطفو لا أن تغرق داخل مياه النهر، ويزداد الطفو كلما شربنا وخف حمل الماء في الزجاجة، ثم وضعنا الزجاجات في شبكة بلاستيكية ذات عيون واسعة، ولكي تغوص الشبكة فكرنا في إطالة الحبل المعلقة فيه، لكن الريس محمد نبهنا إلى أن الحبل الطويل يجعل الشبكة قريبة من المراوح أثناء السير؛ مما قد يؤدي إلى اشتباك الشبكة وتعطيل المروحة، ووجدنا الحل في أن نضيف إلى الشبكة زجاجتين من الزجاج نملؤهما من ماء النهر ونقصر الحبل وبالتالي تغوص الشبكة بما فيها، ولم يكن بالإمكان ربط الشبكة بمقدم القارب؛ لأنها سترتطم بالقارب باستمرار نتيجة التموجات، ولأنه كان خطرًا تحرك أي شخص إلى المقدمة؛ لصغر الحافة الجانبية المؤدية إلى المقدمة، إلا في حالة توقف القارب، وبرغم نجاحنا في جعل الشبكة تغوص بعض الشيء إلا أن النتيجة أن ماء النهر كان ساخنًا طوال النهار، وبالتالي لم نحصل على ماء بارد، وتوقفنا عن هذه المحاولات، وكنا قد شربنا آخر كوب من الماء البارد الذي جلبناه من عوامة هوختيف ونحن نتناول الغداء فوق الساقية القديمة في «ماريا»، هذه التفصيلات الدقيقة — رغم اعتراضها سياق الحديث — إلا أنها على جانب من الأهمية؛ فالشعور ببعض الراحة مُكوِّن مهم في البحث الميداني.

لم نكن نعرف بالضبط كم بقي لنصل إلى عمدية قرشة، وكلما سألنا أحدًا من سكان النجوع التي نمر عليها يتصادف أن يكون قريبًا من ضفة النهر؛ كان الجواب أن قرشة ما زالت للأمام، وكنا نعتمد على الذاكرة في تبين محطة قرشة أثناء سفرنا قبل ذلك بالبوستة في الشتاء، وكان أهم معلم يلح علينا حائط صخري عالٍ، تربع فوقه جامع أبيض بمئذنة أسطوانية، قلَّ أن نجد لها مثيلًا في النوبة باستثناء مئذنة جامع الدر؛ إذ إن معظم جوامع النوبة بدون مآذن، لكننا كنا الآن في الصيف ولا شك أن المنظر العام سيتغير بظهور السهل الفيضي الواسع، كما أنه كان هناك فرق بين قاربنا الصغير وبين سفينة البوستة التي ترتفع إلى طابقين؛ مما كان يُعطي أفقًا أرحب للرؤية.

كذلك كنا نتذكر أن قرشة تقع على منحنًى نهري، يراه القادم من الشمال امتدادًا طويلًا يسد على الناظر بقية مجرى النهر، لذلك أخطأنا حين تركنا مرواو وظهرت ماريا أمامنا على انحناءة للنيل تشابه كثيرًا حنية قرشة، وقد ساعدنا على الخطأ أننا لم نكن قدرنا بعد سرعة قاربنا «لندا»، فمعروف أن سرعتها وقت الخزان ١٢ كيلومترًا/ساعة، فكم تنخفض السرعة في الصيف ضد التيار؟ لقد افترضنا أنها ستكون بين ٨ أو ٩كم/ساعة، والمسافة بين محطة كلابشة وقرشة هي ٤٠كم، ولما كان قد مضى على ركوبنا النيل من كلابشة ست ساعات، ينقص منها حوالي ساعتين للغداء في مرواو والتوقف عند عوامة مصلحة الآثار عند معبد دندور للتزود بماء شرب نظيف مُبرد، فمعنى ذلك أننا وصلنا إلى انحناء النيل عند قرشة، وأخذنا نجوب المنظر بأعيننا بحثًا عن جامع قرشة فلم نجده، ومع ذلك فقد توقفنا وصعد رياض وأسعد إلى البر للسؤال عن اسم المكان فعرفا — بعد مسيرة نحو نصف ساعة ذهابًا وجيئة — أننا ما زلنا في ماريا.

عاودنا التحرك جنوبًا لنحو الساعة إلى أن انتهت نجوع ماريا وظهرت ثنية قرشة على البعد، وفيما بين ماريا وقرشة منطقة صخرية وعرة لا تترك سوى مكان ضيق لمرور الراجلين بينها وبين ضفة النهر، وبعد قرابة ثلث ساعة أخذت الحافة الصخرية في التباعد بسرعة عن النهر تاركة سهلًا يزداد اتساعًا ترعى فيه قطعان من الإبل والأغنام بهدوء وصمت، وبعد عشر دقائق أخرى ظهر مسجد قرشة على البعد شامخًا فوق الحائط الصخري.

وكانت الساعة قاربت السادسة حينما ربطنا القارب إلى الشاطئ في محطة نجع البوستة، وبعملية حسابية بسيطة أدركنا أن «لندا» تسير بسرعة متوسطة تتراوح بين خمسة وستة كيلومترات في الساعة ضد التيار، وهي ضئيلة لكننا روحنا عن أنفسنا أن هذه، وإن كانت سرعة إنسان أو دابة على الأرض، إلا أنها سوف تعطينا فرصة عظيمة للمشاهدة والتقصي والتصوير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤