موجز التاريخ الحضاري للنوبة
مصر | المجموعة الحضارية في النوبة | ملاحظات | ||
قبل الميلاد | ||||
٣٢٠٠ | الأسر ١–٣ | (أ) | A | ما سبق ربما كان مرتبطًا بحضارة مصرية |
٢٨٠٠ | الأسر ٣–٥ | (ب) | B | «عمرة وجرزا والسمانية» أما ما سبق «بدارى وتاسا» فلم يعثر لهما على أثر |
٢٤٠٠ | الأسر ٦–١٣ | (ﺟ) المبكرة | C | حضارة كرما في النوبة العليا |
١٨٠٠ | الأسر ١٤–١٨ | (ﺟ) المتأخرة | C | قبور دائرية |
١٥٦٥ | الأسر ١٨–٢٠ | (د) | D | |
١٠٩٠ | الأسر ٢١–٢٤ | النوبة مهجورة | حضارة ناباتا المبكرة والأسرة ٢٥ | |
٦٦٣ | وحضارة ناباتا المتأخرة | |||
٣٠٠ | البطالمة | النوبة مهجورة | نشأة دولة مروى | |
٣٠ | الرومان | (س) | X | بدايات ظهور البليمي والنوباتي |
بعد الميلاد | ||||
٤٥٠ | الرومان والمسيحية | (س) | X | نهايات مشكلة البليمي واستقرار النوباتي |
٥٥٠ | الرومان | بدايات المسيحية في النوبة | ||
٦٤٠ | العرب والإسلام | المسيحية في النوبة | معاهدة البقط بين المملكة المسيحية والعرب | |
١٣١٥ | المماليك | الإسلام ونهاية المسيحية تمامًا في النوبة |
- فترة الحضارة (أ) (A): يبدو أن النوبة كانت منقسمة إلى تجمعات متعددة، قليلة العدد، ويرأس كلًّا منها زعيم منذ حضارة جرزا، ويبدو أيضًا أن النوبة تعرضت لغزو من الشمال في وقت الحضارة السمانية، لكن الأمور عادت إلى التفرق جماعات منفصلة فيما بعد. وبوجه عام، فإن السكان كانوا متشابهين حضاريًّا وسلاليًّا مع السكان الذين كانوا يعمرون بقية الوادي في مصر من أسوان حتى إدفو أو أرمنت، ولم يكن سكان النوبة آنذاك ممنوعين من دخول مصر، بل ربما كان بعضهم يتولى وظائف مرموقة في مصر، وهناك بعض الفروق بين النوبة ومصر في شكل المقابر التي كانت مستديرة وبيضاوية في النوبة، وفي شكل منتجات الفخار، ولم تصل الكتابة إلى النوبة في تلك الفترة باستثناء رسم بعض الرموز السحرية على الفخار، وبخاصة صقر حورس.
- الحقبة الحضارية (ب) (B): بدأ تسرب الزنوج في النوبة تدريجيًّا، والحضارة عامة أفقر من حضارة (أ)، وتختلف في
طريقة الدفن وشكل المقبرة التي كان يستعمل فيها ألواح حجرية على الجانبين، وكان الميت
يدفن ورأسه إلى الشمال أو الغرب ملفوفًا في جدائل من الحصير أو الجلود. الفخار قليل
الظهور وهو من نوع سميك أحمر رديء الصنع، ويبدو أن النوبة في تلك الفترة كانت تقع بين
شد الشمال المتقدم تقنيًّا — زراعة وكتابة وديانة عليا — وبين الشعوب الجنوبية المتأخرة
حضارة واقتصادًا، وفي خلال الحقبتين (أ) و(ب) كانت الحياة الاقتصادية تقوم على رعي
الحيوان على النباتات النامية على ضفاف النهر وسهله الفيضي، وصيد الأسماك، ومن ثم لم
تكن أعداد السكان المتناثرين في أرجاء النوبة كثيرة؛ إذ تدل الجبانات التي تعود لتلك
الفترة على هذه القلة السكانية، فالهياكل البشرية الموجودة في الجبانة الواحدة لا تزيد
عن نحو مائة هيكل في طبقات تاريخية متعاقبة، مما قد يستدل منه على استمرار السكن في نفس
المكان لعدة أجيال.
ويرى بعض الباحثين أن التجارة كانت قائمة مع أمراء دويلات الصعيد في تلك الفترة، وخاصة نحاس بوهن — قرب حلفا — ومنتجات مدارية من عاج وأخشاب، مما ساعد على قيام مراكز تجارية نوبية، وظهور طبقة من الحكام النوبيين نتيجة الثروة الناجمة عن التجارة مع مصر الموحدة. وقد وجد في مقبرة زعيم في سيالة عصي الحكم المصرية مطعمة بالذهب، ربما كانت هدية مقابل خدمات أداها هذا الحاكم المحلي لمصر، كما وجدت بيوت من الحجر حسنة البناء في قرية عافية، ربما كانت سكنًا لأحد هؤلاء الزعماء في تلك الفترة، ولا شك في أن عدد السكان قد زاد، بحيث إن حملة الملك زوسر قد عادت وهي تحمل معها بضعة آلاف من سكان النوبة إلى مصر؛ لتقليل الثورات وإقرار الأمن، ولكن ربما كان في ذلك أثر سيئ على الأنشطة الاقتصادية في النوبة كما يقول بعض الباحثين.
- حضارة المجموعة (ج) (C): على الأغلب ظهرت بعد انهيار الدولة القديمة في مصر، وهناك آراء أنها ظهرت بعد
الأسرة السادسة نتيجة استقرار تدريجي لسكان الصحاري المجاورة التي بدأت تأخذ في الجفاف.
وعلى أية حال، فإن هذه الحضارة تحتوي على عناصر يمكن إرجاعها إلى مؤثرات ليبية من قبائل
الصحراء الغربية، وكانت الصحراء قليلة السكان في نهاية العصر الحجري القديم، ثم سكنت
بأعداد معقولة خلال العصر النيوليتي — الحجري الحديث — لتحسن الظروف المناخية بعض
الشيء، ولكن المناخ تدهور حوالي ٢٢٠٠ق.م؛ مما أدى إلى الهجرة صوب وادي النيل والواحات
المصرية، وبقايا هذه الحضارة منتشرة بكثرة في النوبة السفلى واستمرت خلال عهد الدولة
الوسطى المصرية، وتنتمي حضارة كرما — في النوبة السودانية الآن — إلى مجموعة (ج) وقد
عمل فيها الأستاذ رايزنر حفائر كثيرة، لكن المعلومات ناقصة ومبهمة. ونتيجة لانتشار
الأمان والسلام الذي أسفرت عنه الحملات المصرية، وإقامة قلاع وحصون في فيلة وبيجة
وكوبان والدكة ومعام (عنيبة) وفرس وبوهن (قرب وادي حلفا) وسمنة شرق وغرب وأورونارتي
وكرما (التي أسميت حائط امنمحعت العادل)؛ فإن المجتمع النوبي زادت أعداد سكانه وازدهرت
حياته. ويدل على ذلك وجود جبانات كثيرة ومصنوعات معدنية مصرية، وكذلك تنوع أشكال الفخار
وأحجامه وألوانه وكثرة وجوده؛ مما يدل على وجود مجتمع مستقر كبير العدد نسبيًّا.
والأغلب أن الزراعة كانت تمارَس، وبخاصة أعلاف الحيوان الذي كان ركنًا أساسيًّا في الإنتاج النوبي، واستمر لفترات طويلة كذلك، وكانت الحصون المصرية عبارة عن أسوار عالية — نحو تسعة أمتار — وخندق حولها، وثكنة عسكرية ومساكن للضباط والجنود وموظفي الضرائب والإدارة وأسرهم، فضلًا عن مساكن لإيواء التجار المقيمين والمسافرين، وبالقرب من السور الخارجي كانت توجد حلة للأهالي الذين يتعاملون مع أهل الحصن ومع التجار، وجبانة لدفن الموتى، وباختصار كانت تلك القلاع مراكز عسكرية تجارية إدارية ومصادر إشعاع حضاري، وتوضح مدى تقدم الفنون الحربية المصرية،٢ ولم تكن مهمة هذه الحصون تأمين الحياة والملاحة فقط، بل تأمين الطرق البرية الممتدة بحذاء النهر، أو تخرج منه في اتجاه الدروب الصحراوية في الغرب والشرق.
- الحضارة (د) (D): ظهرت مصاحبة للدولة الحديثة في مصر، وكانت النوبة وقتها قد تمصرت تمامًا، وكانت
هناك حالة من الازدهار، فبالرغم من أنه يبدو أن منسوب النيل قد انخفض إلى نحو منسوبه
الذي كان عليه حتى آخر القرن ١٩م، إلا أن إدخال الشادوف إلى النوبة في ذلك العصر قد أدى
إلى استزراع أراضٍ كثيرة كانت قد أصبحت عالية بالنسبة لمنسوب النهر، كذلك اتبع ملوك
الدولة الحديثة سياسة حكم مزدوج أو ذاتي بمقتضاه لم تطِح مصر بالحكام النوبيين، بل حكمت
من خلالهم وأرسلت أبناءهم للتعلم في مصر، وبذلك أصبحت النوبة مصرية دون حملات عسكرية،
واتبع النوبيون نظام ملكية الأرض المصري من حيث تبعيتها للحكام ومساعديه والمعابد، وهنا
يمكن أن نقول إن النوبيين تحولوا تمامًا من نظام تربية الحيوان أساسًا إلى نمط ما من
أنواع الزراعة الكثيفة: حبوب ونخيل ومناحل ومعاصر للأعناب، وربما وصل عدد السكان في تلك
الفترة إلى نحو ٢٠ ألفًا أو يزيد.
- العصر البطلمي: لم توجد آثار تشير إلى سكن دائم في النوبة؛ مما دعا إلى وصفها بأنها كانت مهجورة أو ما يشبه ذلك، برغم أن حدود مصر الجنوبية كانت عند المحرقة — جنوب مصب وادي العلاقي بقليل — وأن ما بعد ذلك جنوبًا كان داخلًا في نفوذ دولة مروى، ولعل سبب قلة السكن في النوبة — أو هجرها — راجع إلى ما يلي: الدولة البطلمية أساسًا دولة تشغلها مشاكل البحر المتوسط، وعاصمتها الإسكندرية بعيدة عن النوبة بالقياس إلى موقع العاصمة القديمة في طيبة. ودولة مروى تشغلها مشاكل السودان الأوسط، وعاصمتها تقع على بوابة الإقليم المداري جنوب الصحراء، وذلك على عكس موقع ناباتها المتاخم للنوبة مباشرة، ومن ثم فإن مراكز الثقل في الدولتين انزاحت شمالًا وجنوبًا، وأصبحت النوبة بلاد تخوم هامشية لا تجذب السكان إليها، لكن ذلك لا ينفي دور النوبة كممر للتجارة بين الدولتين، وإن كنا لا نستبعد بداية طرق القوافل عبر الصحراء الشرقية «بربر-كورسكو»، والصحراء الغربية — درب الأربعين والدروب التي تلحقه قادمة من بلاد كوش، إقليم دنقلة الذي يتصل مباشرة بكردفان ودارفور عبر طريق وادي المك — ولعله في تلك الفترة أيضًا بدأ دخول الجمل إلى مصر؛ مما يسهل قطع مسافات صحراوية طويلة، بدلًا من قوافل الحمير التي كانت شائعة طوال العصور السابقة.
- حضارة (س) (X): ظهرت خلال العصر الروماني، وهناك غموض كثير يحيط بالنوبة في تلك الفترة، وقد درس
الأستاذ إمري مخلفات هذه الفترة في جبانات بلانة وقسطل، وهناك أيضًا آثار لها في منطقة
طافا أو تيفة — قرب كلابشة — ويختلف الرأي حول نسبة هذه المجموعة إلى البليمي أو إلى
النوباتي، خاصة وأن الرومان أسكنوا النوباتي في شمال النوبة المصرية في نحو القرن
الثالث الميلادي، لصد هجمات البليمي المتكررة على النوبة وجنوب مصر، لكن النوباتي
انتشروا وسكنوا جنوب النوبة المصرية، وفي البداية كان البليمي خاضعين لدولة مروى، ولكن
سقوط مروى في نحو ٣٠٠ ميلادية، قد أدى إلى انطلاق البليمي كبدو راكبي الإبل يستعملون
أساليب الكر والفر، ومن ثم صعب كبح جماحهم، وفي تلك الفترة أيضًا كانت الدولة الرومانية
تعاني انقسامات حادة، فضلًا عن بداية انتشار المسيحية في أرجاء مصر وبيزنطة في حوالي
القرن الخامس الميلادي، وكل هذا أدى إلى انشغال الرومان عن حماية مصر الجنوبية، فحاولوا
إقامة جماعة أو إمارة حاجزة تتولى صد هجمات البليمي، وعلى أي الحالات فإن الأمور مختلطة
بشدة عن سكان مجموعة (س): هل هم البليمي، أم النوباتي، أم حدث اختلاط بين هؤلاء الذين
استقروا من المجموعتين في النوبة وكونوا إمارة مستقلة؟
وقد وضح من الدراسات التي تمت أن البليمي والنوباتي في النوبة كانوا يدينون بعبادات مصرية مروية قديمة، وخاصة عبادة إيزيس، ويأخذون تمثالها الموجود في جزيرة فيلة يطوفون به بلادهم من أجل الخصب والوفرة، وكان ذلك يتم بموافقة الرومان، فلما انتقل الرومان البيزنطيون والمصريون إلى المسيحية في القرن الخامس الميلادي، أغلقت المعابد القديمة؛ مما أثار عليهم النوباتي، فغزوا جنوب مصر حتى أرمنت والواحة الخارجة في عام ٤٢٩م، وقد هزمهم الرومان في ٤٥٢م، لكنهم أعادوا فتح المعابد وسمحوا للنوباتي والبليمي بإقامة شعائرهم القديمة، ثم تنصر النوباتي تدريجيًّا وأصبح هناك سلام على الحدود المصرية الجنوبية، خاصة بعد أن انتصر «سيلكو» ملك النوباتي عام ٥٣٠م، على البليمي، فلم نعد نسمع عنهم بعد ذلك (انظر خريطة ٤).
أما المحراث فإن دخوله إلى النوبة يبدو متأخرًا جدًّا، فلم يذكر أحد من الرحالة المحدثين وجوده، بل إن بوركهارت لم يره في أي مكان في النوبة عام ١٨١٣، ويذكر أن النوبيين لا يحرثون الحقول كما يفعل المصريون، وحسب معلوماتنا الحالية أن حسين باشا خليفة مدير دنقلة وبربر للفترة ١٨٦٩–١٨٧٣، هو الذي حث النوبيين على تعلم استخدام المحراث، فالغالب إذن أن أهل النوبة استمروا في استخدام الفأس بأنواعه طوال آلاف السنين من الزراعة، رغم وجود المحراث إلى جوارهم في بقية مصر طوال العصور الفرعونية وما تلاها إلى القرن الماضي، وهذا الموقف يُشكل تساؤلًا محيرًا قد لا نجد إجابة عليه، إلا من خلال دراسات أنثروبولوجية عديدة في أماكن مختلفة من العالم، توضح أن الاستعارات الحضارية لا تأخذ بالضرورة كل تكنولوجيات الإنتاج، إنما تختار منها ما هو مناسب لسبب دفين في تاريخ أو معتقد أو النظم البيئية للمجتمع المتلقي.
العصر المسيحي
اختلفت المنتجات الفخارية وطرق الزراعة، خاصة بعد هجرة بعض أقباط مصر إلى النوبة بعد دخول الإسلام مصر، والأغلب أن المسيحية بدأت تتسرب إلى النوبة في أواسط القرن السادس الميلادي، لكن قمة المسيحية النوبية شغلت الفترة بين أواسط القرن التاسع إلى نحو ١١٠٠م، وفي نحو القرن التاسع أصبحت كل بلاد النوبة المصرية والسودانية مملكة مسيحية تُعرف باسم «مقرة» وعاصمتها دنقلة العجوز، حدث عهد من الازدهار فتحسنت الأحوال الاقتصادية وخاصة التجارة مع مصر؛ زاد عدد السكان وانتشر نمط الأسرة الزواجية الأحادية، ونمت المدن عبر أسوارها القديمة، وانتظم المجتمع في أبروشيات تابعة لثلاث كاتدرائيات كبرى في النوبة المصرية: هي الدكة وإبريم وفرس، وهو ما يشير إلى أهمية هذه المدن الثلاث خلال معظم العصور.
الإسلام في النوبة
وفيما بين القرنين ١٤ و١٦ كان هناك ملوك مسلمون في النوبة متناحرين فيما بينهم، ثم جاء العثمانيون في مصر سنة ١٥١٧، وأقاموا في النوبة قلاعًا وحاميات من الجند، غالبيتهم من رعايا الدولة العثمانية في الأناضول والبلقان، وخاصة من الأكراد والألبان والبشناق — البوسنة — والمجر، وكانت الحاميات الكبرى توجد في أسوان وإبريم وجزيرة صاي، وقد تُركت هذه الحاميات لفترة طويلة شبه منسية؛ مما أدى إلى اختلاطهم بالسكان الأصليين وأصبحوا حكامًا لبلاد النوبة باسم السلطان العثماني، وعُرفوا باسم الكشاف، إلى أن أنهى محمد علي حكمهم في أواسط القرن التاسع عشر، ودخلت النوبة عصرًا من السلام والأمان، لم يعكره إلا غزوة دراويش المهدية الذين هُزموا في معركة توشكى سنة ١٨٨٩.
موضوع الكُشَّاف
يحتاج هذا الموضوع إلى بعض التوضيح؛ هل شكلوا حكمًا مستقلًا أم إدارة ذاتية تحت النفوذ الاسمي للولاة في القاهرة مقابل ضريبة سنوية؟ وما هي مناطق نفوذهم في أي من الحالتين؟ وكيف استمر هذا النظام نحو ثلاثة قرون؟ الأغلب أن «الكاشف» كان نظامًا متممًا للحكم في مصر في صورة التزام، مقابل استقرار الأمور واستمرار التجارة، وبعبارة أخرى كانت النوبة تحت إدارة الكشاف دويلة ذاتية عميلة لمصر، في مواجهة سلطنة الفنج التي امتد نفوذها في فترات قوتها إلى دنقلة.
هل صحيح أن الدولة نسيت هذه الحاميات العسكرية كما ذكر كل الذين كتبوا عنهم؟ ربما سقطت رواتبهم ولكنهم كانوا موجودين ومعروفين لدى القاهرة، على الأقل نتيجة إرسالهم الضريبة السنوية، وحاكم إسنا أو أسوان له صلة ومراسلات بهم، ويكتب خطابات توصية لأشخاص يمرون بالنوبة يأخذها الكشاف على محمل الجد ولا يخالفونها إلا بدهاء يجعلهم غير مسئولين عما وقع خلافًا للتوصية، إذن الدولة في مصر لم تنس الكشاف، وإنما أغلب الأمر أنها تركتهم يدبرون أمورهم داخل النوبة وبمواردها المحلية، وربما أمدتهم بالسلاح أو سهلت لهم الحصول عليه من السوق المصرية للإبقاء على فاعليتهم العسكرية ضمانًا للحدود الجنوبية.
أما كيف استمروا في الوجود، فيرجع ذلك إلى سياسة تزاوجهم مع بنات وجهاء النوبيين وأغنيائهم، وتزويج أبنائهم على هذا النحو. لهذا تقول بعض المصادر إن الكاشف كان له زوجات عديدات لم يجمعهن في حريم داخل قصر، وإنما يبقيهن في قراهن، وبذلك يشرف هو وأبناؤه على ممتلكات الأمهات في نواحٍ عديدة من النوبة، لهذا تكاثر الكشاف بحكم النسب الأبوي، وأصبحوا قوة عصبية داخل جسم النوبيين الذين هم أنسبائهم وأخوالهم على مر الأجيال، ولا شك أن الأبناء يتلقون تعليمًا عسكريًّا يسمح لهم باستمرار النفوذ ومساعدة الكاشف الكبير الذي يسكن الدر، وهذا الأخير يندب أخًا أو ابنًا لممارسة جمع الضرائب من الأهالي في مناطق معينة من النوبة؛ مما خلق نسيجًا متشابكًا من الحكم يمتد إلى ما تصل إليه قوة الكشاف.
حكم الكشاف كان يمتد من بلاد الكنوز إلى بلاد المحس، لكن مركز الحكم كان هو إقليم النوبيين في مصر إلى بلاد السكوت؛ أي يمتد من نحو كورسكو إلى جنوب الشلال الثاني، وهذه هي أخصب بلاد النوبة بإطلاق فيما عدا السهل الغني في إقليم دنقلة، وكانت قرى الكنوز الشمالية تقف أحيانًا في وجه الكشاف، وبخاصة ابتداء من قرشة، فلا تدفع الخراج المطلوب أو تدفع أقل منه، وربما كان ذلك ناجمًا عن اقتراب هذه المناطق من مركز الحكم المصري في أسوان، كذلك كان عرب العليقات يدفعون ضريبة، لكن الكشاف لم يكونوا يعاملونهم بنفس أسلوب معاملة الكنوز؛ لقوة العليقات التجارية وحسن تسليحهم. وفي داخل مركز الكشاف كانت هناك قوى أخرى هي في أحيان مناوئة، متمثلة في أغا إبريم الذي يمتد نفوذه غير بعيد من جنوب الدر حتى توشكى، وأغا جزيرة صاي في شمال بلاد المحس. وأغلب الكشاف يعودون بأصولهم الأولى إلى البشناق والمجر وغيرهم من بلاد البلقان العثمانية، أما حكام جزيرة صاي فكانوا من الأكراد، وكلهم كانوا يتكلمون التركية العثمانلية، ولا تزال بعض الأسماء تشير إلى ذلك الأصل البعيد مثل مجموعة المجراب التي كانت منتشرة في منطقة حلفا، أو أسماء بعض الأماكن والقرى مثل الكارانوج؛ حيث «كارا» أو «قرة» كلمة تركية بمعنى أسود، و«نوج» مصطلح نوبي بمعنى بيت أو مجتمع نَسَبي.