طبوغرافية النوبة المصرية
نهر النيل والوادي الفيضي هما الظاهرة الطبوغرافية الأولى في النوبة، وقد سبق أن ذكرنا أن الكثير من الآراء تتفق على أن النيل قد انخفض منسوبه منذ عصر الدولة الحديثة؛ أي منذ نحو أربعة آلاف سنة، وأنه صار يجري في منسوب مشابه لما كان عليه الحال قبل بناء السدود الكبرى في منطقة الجندل الأول.
يتسع عرض الوادي ويضيق نتيجة اقتراب الحافات الهضبية أو تباعدها، فالوادي ضيق في الشمال بين دابود ودهميت لمسافة نحو ٢٥كم، كثير الأخوار الصغيرة التي تقطع الحافتين، وبخاصة الغربية منهما، ثم يتسع الوادي في المسافة بين دهميت وطافا، ويضيق بدءًا من باب كلابشة (شمال معبد كلابشة بنحو ٨كم) حتى مارية (نحو ٣٥كم)، وترتفع الحافة الشرقية في صورة حوائط عالية (١٠٠–١٤٠ مترًا) تشرف على النهر مباشرة في منطقة أبوهور، تاركة جيوبًا سهلية صغيرة في أحيان قليلة، أما الضفة الغربية فسهلية لمسافات طويلة عليها غطاءات رملية في أكثر جهاتها، وعندما تهب الرياح الشمالية الغربية تزداد قوتها باصطدامها بحافات أبوهور العالية؛ مما يؤدي إلى دوامات هوائية ومائية وأمواج عالية ترتفع إلى ما بين نصف المتر وثلاثة أرباع المتر، ويجعل عبور النيل أمرًا شاقًّا فتلجأ القوارب إلى ليان الشاطئ الغربي في مثل هذه المناسبات، وتمتلئ هذه المنطقة بأخوار كبيرة مثل خور رحمة وخور مارية وخور الأبيض في الشرق، ووادي كلابشة الذي يصب في خور أبو سنة العريض في الغرب، وفي المنطقة من أبوهور إلى مصب وادي العلاقي يسير النيل في قوس ضحل يبدأ في اتجاه شمالي من مصب العلاقي، لكنه ينحرف شرقًا بتأثير حافة جرف حسين متوسطة الارتفاع، ثم يتقوس شمالًا بتأثير الحافات القريبة في قرشة ومارية وأبوهور، وعند قرشة التي يوجد أمامها سهل صغير — بعرض نحو ٣٠٠ متر — تكتنفه أخوار كثيرة صغيرة، أقام عليها السكان سواقٍ كثيرة تغمرها مياه خزان أسوان، وتصبح الملاحة فيها مخاطر محسوبة لمن يعرف «بحر قرشة» كما يسمونه.
ويصبح مسار النهر عريضًا عند مصب وادي العلاقي، ويلتزم الجانب الشرقي من الوادي تاركًا في الغرب سهلًا عريضًا، يمتد من كشتمنة غرب إلى الدكة وينتهي عند نهاية نجوع قورتة، ويبلغ أقصى اتساع لهذا السهل نحو ١٫٥كم عند الدكة، ويضيق كثيرًا في اتجاه الشمال والجنوب، ولعل إرسابات وادي العلاقي قد ساعدت، في عصور قديمة، على بناء هذا السهل الذي يمتد بطول نحو ٢٠كم، وفي الثلاثينيات أقيمت محطة طلمبات في الدكة تروي مساحة صغيرة منه — ٣٫٥كم في نحو ٧٥٠ مترًا — وهناك أيضًا محطات طلمبات على الجانب الأيمن من منطقة مصب العلاقي تزرع فيها مساحة أصغر من مساحة مشروع الدكة، وقد غطت مياه بحيرة ناصر أراضي هذه المشروعات وما هو أبعد منها.
وإلى الجنوب من مصب العلاقي يأخذ الوادي في الضيق تدريجيًّا حتى نجوع المضيق التي هي آخر بلاد الكنوز، وهي مسافة تبلغ نحو ٤٠كم، وعند منطقة المضيق ترتفع الحافتان بالقرب من النهر، لكن الحافة الغربية تتباعد تدريجيًّا لمسافات صغيرة في منطقة وادي السبوع ويخترقها في الشمال خور أم سمبل، ثم تبعد لتترك في المالكي سهلًا فيضيًّا متوسط الاتساع، أما الحافة الشرقية فتستمر في محاذاة النهر، وتزداد ارتفاعًا وتضرسًا أمام وادي السبوع ووادي العرب، وتبلغ أقصاها في صورة حوائط عالية عند شاترمة، ثم تلتحم بمنطقة جبل كورسكو — نحو ٢٧٠ مترًا — وتبدأ في التباعد التدريجي بعد مصب وادي كورسكو إلى أبو حنضل، وتقطع هذه الكتلة الجبلية المعقدة أخوار متعمقة في الداخل، تكاد فتحاتها تختفي عن ناظري راكب النيل — مثل خور دخلانية السنجاري — بحيث يحس الداخل إليها كأنه وصل واحة خضراء وسط الشواهق من الصخور الحمراء الداكنة — ٢٩٠ مترًا — أما وادي كورسكو فيصب في خور فم العطمور العريض والواضح للرائي، فهو مصب وادٍ كبيرٍ متشعب المآخذ.

هذه الكتلة الجبلية الطابع المليئة بالفوالق والانكسارات، هي على الأغلب سبب الثنية الكبيرة التي يتخذها مسار النيل، فالنيل ينحني فجأة ابتداءً من منطقة الدر وعمدا إلى الجنوب الشرقي، بعد أن كان مساره من حلفا حتى الدر إلى الشمال الشرقي، وعند مصب وادي كورسكو يأخذ النهر قوسًا كبيرًا إلى الشرق ثم الشمال الشرقي حتى وادي السبوع، ثم شمالًا إلى المضيق، وتشكل ثنية كورسكو عقبة أمام الملاحة، خاصة للصاعد في النهر من كورسكو حتى الدر، فالمراكب الشراعية تواجه الرياح الشمالية، مما يضطر معها إلى جر الليان خلال السنة، وتزيد متاعبها وقت الفيضان نتيجة سرعة التيار وكثرة الدوامات، والوادي في كل هذه المنطقة يتميز بالضيق الشديد، بحيث لا يزيد عرضه عن بضع عشرات من الأمتار باستثناء منطقة المالكي ومنطقة كورسكو شرق، والاتساع النسبي الصغير الامتداد في كورسكو غالبًا ما يعود إلى إرسابات النهر ووادي كورسكو معًا، ويلتزم النهر الجانب الأيسر من الوادي في المنطقة الممتدة من الدر إلى كورسكو؛ مما يؤدي إلى ضفاف رملية قليلة العمران في كورسكو غرب والريجة «الريقة» وعمدا على الجانب الأيسر، في حين يمتد سهل فيضي متوسط الاتساع على الجانب الأيمن عند أبو حنضل و«الديوان»، ويزيد اتساعه عند الدر وتنقالة، وفي هذا السهل كانت أحراج النخيل تمتد بلا انقطاع يُذكر، وكان هذا مؤشرًا يؤذن ببداية الدخول إلى منطقة النوبة الغنية.
أما الوادي بين الدر وحلفا فهو في معظمه عريض باستثناء منطقة حافة إبريم الشهيرة (٢٠٠ متر)، ومنطقة أبو سمبل، والنهر يتخذ مسارًا إلى الشمال الشرقي بصفة عامة، وتحده مناطق سهلية مستمرة من التكوينات الفيضية خاصة عند توماس وعافية في الشمال (بعرض نحو ٥٠٠ متر)، وإبريم (نحو ٨٠٠ متر) وسهل عنيبة الذي يمتد حتى توشكى غرب في الوسط (عرض يتراوح بين كيلومتر في عنيبة إلى كيلومتر ونصف الكيلو في توشكى)، وأخيرًا منطقة بلانة-أدندان جنوب أبو سمبل، أما المنطقة السهلية جنوب توشكى وأرمنا حتى أبو سمبل فتغطيها تكوينات رملية كثيفة وبلا انقطاع؛ مما أدى إلى تكوين منطقة عازلة بين سهل بلانة في الجنوب وسهل عنيبة-توشكى في الشمال، في أغلب الأزمنة.
ويتميز النهر في هذا القطاع بكثرة الجزر الكبيرة العامرة ذات التربات الجيدة مثل جزر إبريم وبلانة وأدندان، وهذه الظاهرة تكاد تخلو منها بقية النوبة المصرية، ولكنها كثيرة الظهور في النوبة السودانية، وهذه ملاحظة جديرة بالدراسة فيما تبقى من النوبة السودانية ولم تغمره مياه السد العالي. الملاحة في هذا القطاع من النهر شاقة لكثرة الشطوط الرملية والجزر الغارقة في الشتاء والصيف على التوالي، لكن الملاح المدرب على «قراءة الماء» يمكنه أن يسير مركبه آمنًا معظم الوقت.
مناطق الغنى والفقر
- (١)
النهر وتغير منسوب المياه بين الفيضان والتحاريق.
- (٢)
بروز الحافات الهضبية في صورة ألسنة وعرة إلى قرب مسار النهر وطغيان الرمال في أجزاء كثيرة من البر الغربي.
- (٣)
السهل الفيضي، امتداده أو تقطعه في جيوب صغيرة.
- (٤)
وأخيرًا مصبات الأودية والأخوار.
وقد أدت العمليات التفاعلية لهذه العناصر معًا إلى نشأة مناطق يمكن للإنسان إعمارها وأخرى صعبة المنال، لهذا فإن العمران النوبي اتصف بالتركز في نطاقات معينة، وبنحافة عمرانية تصل إلى حد التلاشي في مناطق أخرى (انظر خريطة ٦).
أما المناطق كثيرة العمران، فهي تلك التي تظهر فيها التربة الفيضية على منسوب يمكن من زراعتها، سواء بعد الفيضان أو باستخدام أدوات الري بالرفع — العود أو الشادوف والساقية أو الطلمبات — وتتراوح هذه المناطق بين جيوب فيضية صغيرة المساحة أو سهول ذات امتداد معقول، ففي المنطقة الشمالية من النوبة من دابود إلى كلابشة، والمنطقة الوسطى من المضيق إلى كورسكو، تظهر جيوب صغيرة — غالبًا عند مصبات الأودية والأخوار — هذه الجيوب تزرع بعد الفيضان، وتزرع مساحات قزمية من أراضيها العالية بالري خلال موسم انخفاض المياه، أما المناطق السهلية الغنية فتتركز في ثلاث مناطق؛ الصغرى منها في المنطقة حول مصب وادي العلاقي وسهل الدكة أمام هذا المصب، أما المنطقة الكبرى فهي تلك الممتدة من الدر إلى عنيبة وتوشكى على الضفتين، وأخيرًا منطقة بلانة-أدندان في أقصى الجنوب، وهذه كانت تزرع بالسواقي والترع القصيرة الممتدة من ضفة النيل شرقًا أو غربًا، فضلًا عن محطات الطلمبات في العلاقي والدكة وعنيبة وبلانة وغيرها، التي أقامتها الحكومة بعد الثلاثينيات من القرن الحالي.
والمناطق الفقيرة هي قليلة العمران، أو تكاد أن تكون منعدمة العمران، وتتركز في نطاقين أساسيين؛ أولهما: المنطقة من المحرقة إلى كورسكو؛ حيث تشتد الوعورة واقتراب الحافة الهضبية. وثانيهما: المنطقة من أرمنا إلى أبو سمبل على كلتا الضفتين؛ حيث تتراكم غطاءات الرمال بكثافة من جنوب توشكى شرق وغرب إلى أبو سمبل، وهناك منطقة ثالثة صغيرة تمتد جنوب بوابة كلابشة إلى جرف حسين تشمل التلاع الصخرية في أبوهور وقرشة.

ولم يكن العليقات وحدهم في هذه التجارة عبر الصحراء، بل ربما سبقهم إلى ذلك بعض عشائر العبابدة الذين استقروا في دراو وأقليت شمال أسوان، وفي سيالة وكورسكو ومناطق عديدة من النوبة الشمالية، وتمثل دراو نهاية الطريق الصحراوي ومنطلقه، بينما كانت سيالة نقطة انطلاق أخرى عبر وادي العلاقي وكورسكو عبر واديها الشهير، وفي بربر نهاية الطريق الصحراوي الجنوبية، استقر عدد آخر من العبابدة يحكمون القبضة على الطرق من أولها إلى آخرها.
وكانت عشائر العشاباب العبادية تقوم بدلالة القوافل وحراستها، وهم أكثر العبابدة ارتباطًا بالصحراء الجنوبية الشرقية المصرية، وهم بحق جوَّالو الصحراء، وتخشاهم البشارية المتناثرة في جنوب هذه المنطقة، وتزور جماعات عشابية وبشارية مناطق الكنوز في أبوهور ومارية وقرشة بصفة شبه دائمة خلال الصيف؛ لسقاية حيواناتهم ورعيها على بقايا المحاصيل بعد الحصاد، ثم يمرون داخل الصحراء في الخريف والشتاء؛ حيث يمكن توفر الماء والمرعى في مناطق الأودية والآبار حيازتهم.
أما المنطقة الفقيرة الممتدة من المحرقة إلى المضيق، فهي منطقة شبه خربة باستثناء جيب سيالة والمضيق، وكانت خلال العصر البطلمي والروماني حدود مصر الجنوبية، فلا مطمع للدول القديمة فيها أو في المنطقة الوعرة التي تليها جنوبًا، وبذلك شكلت كل المنطقة من المحرقة إلى نحو كورسكو تخومًا طبيعية بين مصر ودولة مروى في فترات الضعف المصري، بينما كانت الحدود في عصور القوة تمتد إلى منطقة تخوم طبيعية أخرى، هي مناطق الجنادل الكبرى التي توجد في بطن الحجر جنوب وادي حلفا.
