بعض أشكال الحياة الاجتماعية
بنية المجتمع
الأسرة هي المكون الأساسي للمجتمع في كل أرجاء النوبة المصرية، سواء كان ذلك عند الكنوز أو العليقات أو النوبيين، لكن نظام الانتماء إلى شكل من أشكال العشيرة التي تنتسب إلى جد كبير، والتي يغلب سكنها في محلة واحدة، هو نظام شائع بين الكنوز والعليقات، يعلو فوق نظام الأسرة. أما عند النوبيين فإن مثل هذا النظام العشائري غير واضح وضوحه بين الكنوز والعليقات.
ولعل هذا راجع إلى أن منطقة النوبيين تعرضت لاستقرار جماعات وافدة متعددة، أكبرها مجموعة الكشاف وأقدمها مجموعة الغربياب — في توماس وعافية «وقتة؟» — وأحدثها مجموعات الكنوز الشماليين الذين هاجروا إلى منطقة النوبيين بعد إنشاء سد أسوان. وقد اختص الغربياب بإقليم محدود، وربما كانوا منتظمين في تركيب عشائري من قديم، أما الكنوز المهاجرون فقد عاشوا في نجوع خاصة بهم، ولم يمض وقت كافٍ لاندماجهم مع النوبيين، ولعلهم احتفظوا بتركيبهم العشائري السابق، وإن كان هذا التركيب قد تخلخل بحكم تغير مكان الانتماء الأصلي، وبحكم أن هذه الهجرة كانت اختيارية، فبالتالي لم تشمل عشائر بكاملها، بل خليطًا من عدة نجوع وعدة عشائر.
أما الكشاف فقد تغلغلوا لمدة ثلاثة قرون بين النوبيين بكثرة التزواج من النوبيات وبقاء النسل المختلط في قرى ومحلات الأمهات وبين أخوالهم، وهكذا تكونت في معظم القرى النوبية مجموعات نسب «كشافية» بحكم النسب الأبوي، ونوبية بحكم صلات الرحم النوبية. ولأن نظام المواريث الإسلامي يجعل جزءًا من الميراث للنساء، فقد صار النسل المختلط مرتبطًا بالأرض، وربما ازداد هذا الارتباط في الماضي ببعض بقايا النظام الأموي القديم، الذي كان بمقتضاه أن يرث أبناء الأخت خالهم، وهو النظام الذي كان سائدًا في كل النوبة وبين الحاميين الشرقيين بوجه عام، وهو الذي مكن للعروبة والإسلام الانتشار بحكم أن أبناء العرب من أمهات النوبة القديمة يرثون أخوالهم، خاصة إذا كان الخال زعيمًا لعشيرة أو قبيلة، وبهذا فإن النسل المختلط بين الكشاف والنوبيات قد زاد التصاقًا بالقرية، بما لديه من ميراث من الأم والخال معًا.
وبهذه الطريقة تلاحم الكشاف مع النوبيين في نسيج اقتصادي مشترك، ولكنهم ظلوا سياسيًّا واجتماعيًّا شبه منفصلين، وبالتالي لا يستطيعان الانتماء إلى جد واحد بعيد كما هو الحال عند الكنوز والعليقات، ومن ثم تغلب النسيج الاقتصادي على نقص النظام العشائري، وأصبح ما يسميه النوبيون بالمصطلح «نوج» — أو نُج — هو حجر زاوية البنية الاجتماعية بين النوبيين، ومن الصعب إدراك معنى «نوج» على وجه الدقة، فهو في تفسير يساوي معنى «البيت» بمدلول الأسرة وممتلكاتها، من البيت إلى أي شكل عقاري آخر كالمحل التجاري أو الأرض الزراعية، سواء داخل النجع الواحد أو منتشرًا في عدة نجوع؛ وبعبارة أخرى كل ما يعول العائلة ويؤويها، وإذا تصادف أن رب الأسرة في «نوج» ما متزوج بزوجة أو زوجات أخر، فإننا نرى عدة «نوجات» منفصلة، بحكم ما لكل زوجة من ميراث أملاك، لكنها كلها مترابطة بواسطة الزوج متعدد الزوجات وما يمتلكه من مقومات الحياة، وفي تفسير آخر يصبح «النوج» أكبر من التفسير السابق، فربما يتكون من أسر عدد من الأشقاء أو الشقيقات، لكل منهم أو منهن دوائرهم من الممتلكات، وفي هذه الحالة نجد أنفسنا أمام تنظيم قرابة متشابك الملكيات، ومن ثم لا بدَّ من نشأة شكل من التحكيم من كبار السن، لفض المنازعات التي تطرأ بالضرورة من هذا التشابك.
وقد نظن أن الملكيات في النوبة واضحة واسعة، لكن الأغلب أنها مشتتة ومشتركة مع عدد كبير من الورثة، فملكية أرض ساقية في الجنوب — النوبيون — هي في الأصل ملك لكل الذين ساهموا بالعمل أو المال في بناء الساقية، وتتجزأ الملكية وتتفتت مع تعدد الورثة جيل بعد جيل، أما في الشمال — الكنوز — فالأغلب أن منشئ الساقية هو شخص يشتري جهود العاملين في إنشاء الساقية، وبذلك تصبح الأرض ملكًا للشخص وورثته، ثم تتفتت الملكية جيلًا بعد جيل، ومثل هذا في ملكية الأشجار وملكية الحيوان، وبعبارة أخرى فإن الشركة هي سمة أشكال الملكية بين أهالي بلاد النوبة على الإطلاق؛ فهناك من يملك وهناك من لا يملك، ولكنه يزرع أو ينمي الأشجار أو يربي الحيوان، وله من جراء ذلك حقوق ملكية متعارف عليها، ومثل هذا النظام شائع بين سكان الواحات في ملكياتهم الأصلية، التي لم تتأثر بعدُ بالأشكال القانونية الجديدة للأرض المستصلحة، وخاصة في الفرافرة المنعزلة لفترة طويلة بالقياس إلى غيرها من الواحات الأقرب لوادي النيل، وهذه الظاهرة كثيرة الوجود بين النوبيين في جنوب النوبة المصرية، وأقل ظهورًا بين الكنوز، وباختصار فإن وجود نظام التداخل في الملكية بين النوبيين كان يعني وجود آلية لاندماج الغرباء في المجتمع بواسطة الضوابط الاقتصادية.
وإذا كانت الروابط الاقتصادية ذات تأثير كبير في ترتيبات الحياة بين النوبيين، فإننا نلاحظ عند الكنوز بصفة خاصة أشكالًا من الروابط عدا رابطة الانتساب للعشيرة، ولعل من أهم هذه الروابطِ الاحتفاليةَ الكبيرة بأولياء الله الصالحين، وبخاصة موالد هؤلاء الأولياء، سواء كان تاريخ الولي معروفًا أو غير ذلك، ومن الأمثلة على ذلك ما سبق ذكره في القسم الأول من هذا الكتاب في فصل العلاقي، فالشيخ يوسف تاريخه يعتريه الكثير من الضباب، ولم يُعرف عنه ولايته إلا بحادثة عند الانتقال إلى المساكن الأعلى عام ١٩٣٣، حين أقيمت له القبة الكبيرة. وأصبح مولد الشيخ يوسف وسيلة من وسائل ربط الكنوز ببعض الذين يفدون إلى العلاقي للبركة — وربما للتعارف أو رؤية الغائبين — لمدة الأسبوعين الأخر من شهر شعبان، وهي فسحة كافية من الوقت ليأتي إليه القادرون من مسافات بعيدة، ويعطون ما يستطيعون من النذور التي يصرفها نقيب الشيخ على إعالة الزوار مجانًا كل أيام المولد، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن المولد وغيره من الموالد — كأم رايد في سيالة، والفاوي وعويس في كورسكو — فرصة للتجار أن يبيعوا أشكالًا من الهدايا للنساء والأطفال، مما يجعل الموالد مصدرًا للفرح والسرور البسيط في مجتمع أغلب حياته تتسم بالجفاف، وفي كثير من العمديات أضرحة بسيطة البناء لأولياء محليين، يتبرك بهم الناس في سفراتهم وزيجاتهم، والنذور القليلة التي تترك عند نقيب أو شيخة الضريح تساعده أو تساعدها على الحياة، وقد تساعد أيضًا بعض العجائز ممن لم يعد لهن عائل، وبعبارة أخرى يمكن تطبيق المثل الشعبي «اللي مالوش كبير يشتريلو كبير.» فنقول إن الكنوز في بلادهم كانوا يبحثون عن ولي أو شيخة للتبرك بها، والكثير من الكنوز ينضوون في إحدى الطرق الصوفية ويتلون أوردتها في أحيان بصورة جماعية.
وليس الاهتمام الديني والعصبية العشائرية هي كل مميزات البنية الاجتماعية لدى الكنوز، فهناك أيضًا التشارك الشديد في ملكية الأرض الزراعية والأشجار على النحو الذي رأيناه عند النوبيين، مما يساعد على التلاحم بين أبناء النجع والعشيرة، كما أن كثرة العمل المهاجر بين الكنوز من فترة طويلة قد أدى إلى نشأة آلية خاصة في المدن التي تستقبل المهاجرين؛ هي النوادي التي يُنشئها أبناء قرية ما لاستقبال العاملين الجدد، وإيجاد مأوى مؤقت لحين إيجاد عمل لهم، ومع طول إقامة بعض المهاجرين، زادت وظائف النوادي إلى مكان لعقد الزيجات، أو التكفل بجنازة المتوفين وإقامة مقبرة لهم في المدينة، فلا طاقة لهم بتكلفة شحن الجثة إلى القرية الأصلية.
بعض المعتقدات
تدور معظم المعتقدات بالقوى الخارجية حول محاولة توظيفها لأغراض حياتية، وبالذات موضوعات الحمل والمشاهرة والحسد، وغالب هذه القوى مرتبطة بالمشايخ والأولياء، وإن كان بعضها مرتبطًا بكائنات كالثعبان والتمساح، أو أرواح الخير والشر في النهر والصحراء، وهم يرون أن أرواح النهر خيرة، بينما أرواح الصحراء والجبل شريرة، وهذا أمر يبرره واقع حياة الناس؛ فالصحراء والجبل مليئة بالمخاطرة، سواء كان ذلك الوحوش الضارية أو بعض البادية الذين كانوا يغيرون على النوبيين في الماضي البعيد، ومن ثم كان وصف أرواح الصحراء بالشر. بينما يعيش النوبيون على كرم وعطاء النيل: ماء وزرع وانتقال هين واتصال بالعالم الخارجي. والتفاؤل بالنيل يبلغ مداه في بعض مناطق النوبة؛ حيث يخرج العريس والعروس صبيحة زفافهما إلى شاطئ النيل، يغسلان وجههما بماء النيل، ويرشهم بالماء من تصادف حضوره في مثل هذه الباكورة.
وحول الثعابين، فإنها كلها خطرة — وخاصة الطريشة والحنش أبو درقة — ويجب أن تُقتل فور رؤيتها بالعصي والحجارة — المفروض أن يلف الشخص أنفه بقطعة قماش؛ لأن أبا درقة ينفث مادة سائلة قاتلة أو كاوية — لكن هناك نوع صغير غير سام لونه مخطط أسود وأحمر، يُسمى الشيخ أو الفقير، لا يقتل ولا تقرأ تعازيم لطرده، وتقول له كبيرات السن «جار ولا تجار ولا تعادينا ولا نعاديك»؛ أي امض في سلام. وإذا قتل ثعبان من الفقير خطأ، يحزن الذي قتله ويشعر بذنب كبير، ولم نعرف مبررات هذه التسمية: فأل حسن أو ممارسة بيئية بمقتضاها لا يقتل ما لا يضر؟ وأي ثعبان بعد قتله ينفع في فك المشاهرة؛ إذ تمر عليه المرأة المشاهرة عليه سبع مرات، وفي كل مرة تسر لنفسها أقوالًا محفوظة لفك المشاهرة، والتمساح المصطاد ينفع أيضًا في فك المشاهرة، وأحيانًا يعملون من الطين ثعبانًا أو تمساحًا للغرض ذاته.
والمشاهرة لها أسباب عديدة؛ منها أن يأكل أحد من لحم ذبيحة الفرح قبل أن يأكل العريس من الكبد بعد شيِّها، وفأل سيئ أن يأكل أحد مسبقًا، ليس فقط لأن ذلك قد ينتهي بالمشاهرة وعدم الإنجاب، ولكن قد يؤدي إلى الربط، أو على أقل تقدير ألا ينتهي الفرح بسلام. وإذا تصادف أن كان هناك عُرسان في يوم واحد في نفس القرية، فإن الذي يدخل على عروسه قبل الآخر يؤدي — طبعًا دون قصد — إلى مشاهرة العروس الأخرى. وكذلك أن تدخل امرأة على امرأة والدةٍ بشكل معين يؤدي إلى المشاهرة بعد ذلك المولود … إلخ.
الندور ممارسة شائعة بين النساء، والقليل جدًّا من الرجال، والمرأة تندر لشيخ كبير المقام في القرية إذا كانت مريضة بداء عضال أو لا تحمل، أو أنها تلد مواليد أموات. والندر يتراوح بين ثلاث «برادات» شاي إلى رأس سكر، إلى ذبيحة توزع عند مقام الشيخ، وفي هذه الحال يذهب فخذ الذبيحة وأحشاؤها إلى نقيب الشيخ، والبعض يضع نقودًا على تابوت الشيخ، لا يمسها أحد سوى النقيب أو النقيبة، وبعد تقديم الندر تأخذ صاحبة النذر قليلًا من التراب من الأركان الأربعة للضريح وترشه على رأسها.
وفي أحيان تأخذ سيدة ترابًا من الضريح ترشه في بيتها لأسباب عديدة؛ منها التخلص من العقارب — تقول: ببركة الشيخ تنتهي العقارب — أو إذا حدثت سرقة ترش التراب وتدعو أن ينتفخ بطن السارقة أو تنكسر رجلها، أو يوضع التراب في كيس ويعلق عند باب حديقة أحدهم بنيَّة مرض من يختلس ثمرة بدون إذن … إلخ.
موجز طقوس الزواج
الزواج أحد أهم طقوس الحياة في كل المجتمعات، وفي النوبة تتشابه الطقوس مع اختلافات محدودة، ويمكن تلخيص خطوات الزواج على النحو التالي:
-
الكلام: تذهب والدة العريس إلى والدة العروس لجس النبض، فإذا كان الأمر بالإيجاب، يذهب
الوالد أو الخال أو العم إلى والد العروس للتقدم الرسمي بطلب العروس فلانة لابنه
فلان، وبعد مهلة قليلة يستشير فيها أبو العروس أهله — وربما عشيرته كلها — يعطي الأب
موافقته وبها تبدأ مراسم عديدة، رأي البنت والأم استشاري غالبًا، ولكن ربما كان وراء
الكواليس سابق اتجاه إلى شخص معين يقتنع به الأب، ابن العم له أولوية مطلقة عند
العبابدة.
ويمكن أن نلخص الكثير من مراسم وطقوس الزواج من خلال مصطلحات معينة بعضها الآتي:
- الوجاهة: هي الخطوة المادية الأولى في مراسم الزواج عند الكنوز، وليس لها نظير لدى العليقات والنوبيين، وهي على الأغلب جزء من الصداق لا يزيد عن ثلاثة جنيهات، يقدمه أحد أقرباء العريس إلى والد العروس.
- الشيلة: قبل الزواج بنحو أسبوع يرسل العريس هدية من الغلة والدقيق والشاي والسكر وكبريت وشحم وزيوت لدهان الشعر، وقبل الظهيرة يحمل أهل النجع، رجالًا ونساء، الشيلة على رءوسهم ويتجهون بها إلى بيت العروس، ويحتفل أهل العروس بالشيلة ويذبحون ذبيحة لغداء حاملي الشيلة، وفي نفس اليوم يحدد يوم الدخلة والكتاب، وهي غالبًا بعد أسبوع من الشيلة عند الكنوز، وبذلك فإن طقوس الزواج عادة ما تتم خلال أسبوعين بعد الموافقة على الخطبة. والسرعة في إتمام الزواج غالبًا مرتبطة بمدة إجازة العريس، التي قد لا تزيد عن شهر، كما أن المدة إذا طالت قد تأتي بأخبار سيئة؛ كوفاة شخص في النجع أو في المهجر؛ مما يؤدي إلى تأجيل الزفاف أسبوعًا أو أسبوعين حسب سن وقرابة المتوفى، وفي مثل هذه الحالة قد يأذن أهل المتوفى بإقامة العرس، خاصة إذا كان محددًا لإقامته بعد يوم أو يومين منذ حدوث الوفاة، خوفًا على الأطعمة المعدة من الفساد — وهي كما نعلم مكلفة — وفي كورسكو لم تعد الشيلة طقسًا منفصلًا عن الدخلة وحفل الزفاف، ولذلك كانت تشتمل على أقمشة وملابس للعروس.
- المهر: معروف قيمته التي تتراوح بين عشرة وعشرين جنيهًا، يُدفع نحو نصفها مقدم صداق، ولهذا فإن المهر لا يُعلن. في حالة زواج المرأة للمرة الثانية، فإن المهر عادة أقل.
- الحنة: قبل الدخلة بيوم، وتُسمى ليلة المولد عند بيت العريس؛ لأنها تشتمل على قراءة قصائد الطريقة المرغنية، وذكر بعد العشاء الذي يقدم فيه أهل العريس لحم ذبيحة، وتكتمل الليلة عند أهل العريس بالصقف والرقص، ويراعي الكنوز دائمًا انفصال الجنسين في هذه الاحتفاليات. أما عند العروس فالحنة تغطي كل جسمها ويدهن شعرها بالشحم والزيوت. وفي نفس اليوم تزور أضرحة المشايخ مع بنات من أصحابها، وتلبس شالًا مشابهًا للبس البنات، فهي بعد لم تنضم إلى فئة السيدات، وتحرص مجموعة البنات ألا يلتقين مع العريس الذي يزور المشايخ أيضًا مع جمع من أقرانه طلبًا للبركة.
- النقوط والحلاقة: في بيت العريس رقص ومغنى وغداء، وبعد الغداء يجلس العريس في الساحة أمام البيت بين يدي الحلاق، وعلى المائدة وعاء به ماء يضع فيه الناس نقوطهم التي هي غالبًا عملة معدنية أو فضية، عند الكنوز تكون أم العريس أول من يضع نقوطًا — غالبًا قرط ذهبي — ثم الأب والأعمام … إلخ، وهناك دائمًا من يُدون قيمة النقوط التي يدفعها أهل النجع والقرى المجاورة؛ لأن ذلك هو بمثابة دَين يجب أن يُرد في مناسبات مماثلة، في الماضي كان أهل كورسكو يدورون على البيوت في زفة العريس إلى بيت العروس، فيخرج أهل البيت ويسقون الشربات ويدفعون النقوط.
- الدخلة: يصل موكب العريس إلى بيت العروس في زفة وطبل ومعهم ملابس العروس في حقيبة. أهل العروس منشغلون منذ الصباح في الذبائح وإعداد العشاء، ويستقبلون موكب العريس بالزغاريد. في كورسكو قديمًا كان العريس أثناء الموكب يتعرض للضرب غير المؤلم من قبل بعض الشبان العزاب على أمل اللحاق بالزواج سريعًا، ولكن كان يوجد بعض الناس الذين يحاولون حماية العريس من ضرب العزاب. عند الكنوز يركب العريس جملًا ومعه بعض أصدقائه على الجمال أيضًا، وكان الأمر كذلك بالنسبة للعليقات في المالكي قديمًا. يتوجه العريس إلى المضيفة هو والرجال، بينما تتوجه النساء إلى داخل البيت، وفي المضيفة يكتب المأذون العقد، وفي الأغلب يكون خال العروس هو وكيلها لدى الكنوز، وبعد الكتاب — أيضًا عند الكنوز — يحاول شخص حاملًا صينية خوص كبيرة، عليها تمر وفشار تسمى «الوليلة»، الوصول إلى مكان العريس ليسكب ما فيها عنده، لكن الناس يتخاطفونه، ونادرًا ما يفلح في الوصول إلى العريس. بعد ذلك توضع الأقمشة وملابس العروس في الصينية دون إعلان، ولكنها تُصبح مجالًا للإعلان بصوت عالٍ، ولفرجة النساء حين تصل إلى قاعة العروس.
وبعد الوليلة والعشاء يبدأ الطرب والرقص، ثم يذهب العريس إلى باب غرفة العروس، وحوله من الرجال من يقرءون القصائد الدينية، وأمام الباب يشهر العريس سيفًا — غالبًا يوجد عدد قليل من السيوف القديمة في القرية تُستعار لمثل هذه المناسبة — ويضرب الباب بالسيف ثلاثًا، ويدخل ومعه كرباج وسكين. عند الكنوز يُصلي العريس ركعتين عند دخوله الغرفة، ثم يمسح على شعر العروس ويخرج، وتأتي الداية لتخطف العروس إلى الداخل، بينما يرشها بعض الحاضرين بقليل من الملح الماء.
وبعد ذلك يجلس الناس مع العريس يسمرون ويغنون وينشدون القصائد إلى أن يغلبهم النوم، وفي الصباح الباكر يتوجه العريس مع وزيره — رفيق أو شاب صغير يقوم بخدمة العريس سبعة أيام — إلى النهر، وطوال الصباح يأتي المهنئون إلى العريس، وبعضهم يحضر وليمة العشاء. وفي المساء تحضر الداية العروس لحجرة العريس، والعروس لا تتكلم حتى يعطيها مبلغًا من المال في حدود ثلاثة جنيهات، ولأن الكنوز والعليقات حريصون على ممارسة الختان التقليدي القاسي — المسمى فرعوني وهو منه براء — فإن الجماع صعب، ولا يتم مرة واحدة، بل يكون فض البكارة أولًا بمساعدة الداية، وهي عملية شبه جراحية مؤلمة.
يظل العريس عند الكنوز أسبوعًا يخرج صباح كل يوم للنهر، بينما تخرج عروسه من غرفة العرس إلى داخل البيت، أما في كورسكو فيخرج العروسان صباحًا إلى النهر مع جمع من الأصحاب من الجنسين، ويغسلون وجوههم بماء النهر، ويملأ كل من العريس والعروس فمه بالماء يحاول أن يرش أحدهما الآخر، وإذا أفلحت العروس تصبح نكتة أن الست غلبته! وبعد الأسبوع يمكن أن يمارس أعماله ونشاطه، بينما تظل العروس أربعين يومًا قبل أن تتحرك خارج البيت، غالبًا بإذنِ زوجها. في الماضي كان العريس لا ينتقل بعروسه إلى بيته إلا بعد ميلاد الطفل الأول، لكن المدة قصرت كثيرًا إلى نحو شهرين، والغالب أن الزوج يكون قد سافر بعد أسبوعين من الزواج، وبالتالي ربما كانت إقامة الزوجة في بيت أهلها أوفق لحين المولود الأول.
- (١)
دور خال العروس لدى الكنوز هام؛ لأنه هو الذي ينيخ الجمل الذي قدم عليه العريس إلى بيت العروس ليلة الزفاف، وهو وكيل العروس عند عقد القران، وربما له أدوار أخرى لم نتبينها، فهل هذا هو استعادة تاريخية للماضي، حين كان يأتي العربي بجمله يتزوج إحدى النوبيات اللاتي يرث أبناؤها خالهم، كبقية من نظام الخئولة في النسب الأموي، الذي كان سائدًا لدى الكنوز في الماضي؟
- (٢)
الإلحاح على دور النيل في طقوس ما بعد دخلة العروسان: مشاهدة النهر سبعة صباحيات، غسل الوجه بماء النهر، ألعاب رش الماء. هل هذه بقايا بركة إله النيل عند الفراعنة، يُضاف إليها إدراك أهمية النهر، باعتباره مصدر الحياة والخير وسط القفار المحيطة بالنوبة؟ وهل يمكن إضافة بعض المعتقدات الفلكلورية عن الأرواح الخيرية التي تسكن مياه نهر النيل؟
- (٣)
يلعب اللبن دورًا هامًّا في طقوس دخول العريس إلى غرفة العروس، كأن يشرب قليلًا ويعطي رشفة منه للعروس، وكأن يغمس طرف السيف في إناء اللبن قبل الدخول إلى الغرفة، وواضح دور اللبن، فهو التيمن بحياة صافية منجبة للزوجين.
- (٤)
الرقم السحري «سبعة» يلعب دورًا عند سكان النوبة، مثلهم في ذلك مثل بقية مصر؛ حيث السبوع يُمارس في كثير من المناسبات الحياتية، وعلى سبيل المثال نجد عند مجموعة النوبيين في حالة أنه لم يتم عام على وفاة والد العريس، فإن موكب العريس لا بدَّ أن يتوقف عند سبع بيوت تُقرأ أمامها القصائد الدينية، ويُوزع كل بيت هدية من تمر وذرة وأحيانًا قماش «بفتة» أبيض على المنشدين، وفي مثل هذه الحالة لا يُقام رقص وغناء، وإنما يُقرأ القرآن وتُتلى قصائد من أوراد الطرق الصوفية، وفي حالة أن يكون بيت العريس جوار بيت العروس يتوجه الموكب إلى النهر أو آخر النجع، ثم يتوقف عند سبع بيوت — غالبًا يكون عند أهل هذه البيوت علم بذلك حتى يتجهزوا للموقف.
- (٥)
الحماة هي أخت الزوج، بينما أم الزوج أو الزوجة هي «نسيبة»، وعند بعض الشعوب كان زوج البنت يتجنب أم زوجته «حماته» ولا يتكلمان معًا إلا من وراء ساتر، لكننا لم نلحظ هذه الظاهرة في النوبة، وكل ما لاحظناه هو الاحترام الشديد تجاه الحما والحماة من قبل العريس والعروس.
- (٦)
تعدد الزوجات أمر نادر إلا في حالات معروفة؛ كعدم الإنجاب أو سوء الطباع، والطلاق كذلك نادر، ولعل هذا أو ذاك راجع إلى الفقر البيئي من ناحية، وإلى قلة فرص المشاحنات بين الزوجين؛ لتغيب الزوج في العمل خارج النوبة أشهرًا طوالًا.
- (٧)
لا يستحسن المجتمع زواج الأرملة التي لديها أبناء، وفي حالة كون الأبناء صغار السن، ربما تزوج شقيق الزوج بأرملة أخيه؛ غالبًا من أجل رعاية الأطفال وحسن تربيتهم.
- (٨)
لا توجد محارم عند أهل النوبة يمتنع معها عقد الزواج إلا المحارم التي نصت عليها الشريعة الإسلامية.
وإلى جانب طقوس الزواج هناك طقوس أخرى لمناسبات هامة في الحياة؛ هي مناسبة الختان للولد والبنت، مناسبة الميلاد، وحالات الوفاة، وكلها تستدعي تشاركًا من أهل النجع أو القرية، وتُذبح فيها الذبائح وتصبح مجالًا للفرح والغناء والرقص، أو قراءة آيات من الذكر الحكيم، وأوراد من الطرق الصوفية أكثرهم شيوعًا الطريقة المرغنية.