منطقة بحيرة ناصر
النوبة كما رأيناها من الفصول السابقة ليست كينونة قائمة بذاتها، وإنما هي مكانيًّا وجغرافيًّا شخصية مكملة لتداعي كل الأحداث في حوض النيل.
فالنوبة مكانيًّا هي الطريق المزدوج الاتجاه بين مصر وأفريقيا حضاريًّا سياسيًّا، والنوبة جغرافيًّا هي منطقة التحكم في مسار النيل قبل دخوله واديه الأدنى في مصر.
لهذا كان هناك دائمًا توجه سياسي مصري نحو الجنوب منذ أقدم عصور التاريخ الفرعوني، وقد بلغ هذا التوجه مبلغًا أدى إلى نشأة وظيفة حكام الجنوب أو أمراء أسوان منذ عصر الدولة القديمة، تمتد مهامهم من تأمين حدود مصر الجنوبية، إلى تأمين طرق التعدين والتجارة عبر صحراء الجنوب الشرقي، إلى المناجم العديدة ومواني البحر الأحمر. وكذلك كانت من مهام هذه الوظيفة فتح طرق التجارة إلى البلاد المدارية السودانية في صورة بعثات، هي خليط بين الحملة العسكرية والوفد التجاري. مقر حكم الجنوب كان في أسوان، لكن المراسلات مع العاصمة لا تنقطع، والخطط ترسم لمد النفوذ السياسي والتجاري والعسكري في شكل قلاع حصينة في النوبة.
ولأن الزراعة في مصر والسودان الشمالي معتمدة اعتمادًا كليًّا على النيل، فقد كان تنظيم استخدام مياه النيل غالبًا أمر يتعلق بمصر والسودان، والاتفاقية السائدة للآن هي الاتفاقية المصرية السودانية، التي تحدد إمدادات كل منهما من مياه النيل، وفي الوقت الراهن ظهر على السطح في كل بلاد الجفاف، وبخاصة الشرق الأوسط، الأهميةُ العظمى للمياه كاستراتيجية قومية قد تتسبب في نزاعات وحروب، ليس فقط بين العرب وإسرائيل، بل هي كامنة كمشكلة بين الكثير من بلاد الشرق الأوسط، ومن بين هذه المشكلات اهتمامات إثيوبيا بتنظيم استخدام الروافد النيلية في الهضبة الحبشية، ومن ثم فإن استراتيجية المياه المصرية السودانية يجب أن تدخل اختبار التفاوض من أجل اتفاقية جديدة للمياه بين كل دول حوض النيل.
(١) أين النوبة في كل هذا؟
إنها في صميم وقلب الموضوع؛ فبحيرة ناصر أو بحيرة السد العالي في مصر والسودان هي الآن المنظم المعتمد لتوزيع المياه، وستظل البحيرة كذلك في ظل أي اتفاقية جديدة للمياه بين مصر والسودان وبقية دول النيل لفترة زمنية تمتد بضع عشرات السنين.
إذن النوبة، كإقليم بُحيري الآن، هي حقيقة جغرافية واقعة يجب التعامل معها لتنميتها بشريًّا واقتصاديًّا، وعلينا أن نستفيد من معرفة كيف تأقلم النوبيون على الحياة في بيئتهم الخشنة، بصيغة تلقائية ناجمة عن التحاور مع الظروف الطبيعية والبشرية التي كانت تطرأ باستمرار.

وخاصة خلال كل النصف الأول من القرن العشرين، بعد إنشاء سد أسوان، المهم أنهم استطاعوا التكيف والمحافظة على التراث اللغوي والشعري والغنائي والمعماري … إلخ، كل ذلك داخل الإطار الجغرافي لإقليم النوبة.
لكن حين انتقل النوبيون إلى مهجر بعيد عن مواصفات بيئتهم نتيجة لنشأة بحيرة السد العالي، فإنهم لم يستطيعوا التكيف، أو ربما لم يجدوا آلية لإعادة صياغة حياتهم، كل شيء كان جديدًا، كل شيء مادي ونفسي، لم يكن هناك النيل الذي ورثوه.
فترة امتدت آلاف السنين، لم تكن هناك مجموعات الناس التي اعتادوا عليها كأبناء الصعيد من زراع وصيادين، والعبابدة والبشارية بإبلهم يستقرون ويتعايشون معهم، ويتبادلون المنفعة بضعة أشهر كل عام. لم يعد لديهم مزارات أوليائهم التي كانت تجمع الناس على تباعد قراهم في الموالد مرة كل عام، ربما أيضًا لم يعد عندهم خبز الدوكة، وافتقدوا أيضًا بعض أنواع الطعام التقليدية، وفوق كل هذا افتقدوا بيوتهم ذات الأحواش الواسعة التي كانت مملكة النساء، وافتقدوا أخيرًا الشعور بالأمان رغم ضباع النوبة القديمة وذئابها وتماسيحها وزواحفها، ربما في النهاية افتقدوا روح النوبة. لقد كان الإنشاد والغناء، والضرب على الطار والطمبورة، والشعر والرقص أشياء تلقائية احتفالية بمناسبات حياتية، لكنه الآن أصبح متحفيًّا لا يظهر إلا على مسرح يُقال له تراثي، يدفع أجرًا للمنشدين والراقصين، ويجمدهم في حركات محدودة من هز الأذرع والدق بالقدم والإنحاء للناظرين!
نستطيع أن نمضي في هذه المفارقات كثيرًا، لكن ما نريد أن نقوله: إن حياة المهجر في النوبة الجديدة في كوم أمبو هي فترة لا يرتاح لها النوبيون كثيرًا، صحيح هناك ميزات أهمها إنهاء عزلة النوبة وسهولة الحركة بالقطارات إلى أي مكان، لكن ما إن ينفتح الكلام مع كثير من النوبيين عن هذا الموضوع، إلا أبدوا حسرة على النوبة القديمة، مع كثير من الرغبة في العودة إليها من جديد، على أن تكون هناك ركيزة لإقامة معايشهم: زراعة أو عمل في السياحة، أو غير ذلك من الأعمال التي قد تظهر حين يعرك الإنسان الطبيعة وأرض الواقع.
- أولًا: هل ما زالت حياة النوبة القديمة، بما فيها من كفاح ومعاناة في أحيان، قائمة كرغبة ودافع بين النوبيين الحاليين في المهجر؟ بعبارة أخرى يجب أن تكون العودة إلى منطقة البحيرة طواعية اختيارية.
- ثانيًا: لعل بعض النوبيين قد أقام أسس حياة جيدة في كوم أمبو، وأصبحت له مصالح لا يضحي بها مقابل مستقبلٍ بداياته صعبة، وربما غير مأمونة، مثل هؤلاء هم الزراع الناجحون، أو الموظفون والتجار المحليون.
(٢) الموارد الأرضية والبشرية
ولكي نكون موضوعيين في تبين شكل التنمية المرغوبة، فإن علينا أن نحدد المقومات التي يمكن أن يتأسس عليها أي اتجاه أو فكر تنموي، المقومات هي الموارد الأرضية والبشرية، تفصليها على النحو الآتي:
(٢-١) الموارد الأرضية

- أولًا: إن أكبر تجميع لمياه فيضان النيل هي أي منطقة شمال التقاء نهر العطبرة بالنيل، وبالتالي تكون لدينا الفرصة للتحكم في مياه الروافد الحبشية في أحرج أوقات السنة، حين ينخفض الإيراد من المنابع الاستوائية، وتحتاج المحاصيل الصيفية إلى مقنناتها المطلوبة. ومن هنا كانت أي منطقة بين الشلال الأول في مصر والشلال الخامس في السودان، هي أصلح مناطق إقامة مشروع تخزيني كبير، وقد درس المتخصصون في هندسة المياه في مصر، في الأربعينيات والخمسينيات من هذا القرن، إقامةَ مثل هذا المشروع الذي أطلق عليه آنذاك «التخزين القرني»، واختيرت أماكن كان على رأسها موقع عند الشلال الرابع. لكن كل المنطقة المشار إليها، من جنوب أسوان إلى شمال عطبرة، هي منطقة شديدة الجفاف عالية الحرارة وعالية التبخر، وبذلك يستوي أن يقام مشروع التخزين في أي مكان من المنطقة، مع تفضيل المكان الذي يتميز بالحجم الأدنى من الخسائر في الممتلكات الزراعية والعمرانية التي ستغرق تحت مياه المشروع، وفي هذا كان التنافس واضحًا بين منطقتين لأقل الخسائر؛ هما منطقة النوبة جنوب أسوان، ومنطقة المناصير والربطاب شرق الجندل الرابع في السودان. وبالمناسبة فإن التفكير في ضبط مياه النيل منذ أول القرن لم يكن قوميًّا بمعنى مصري أو سوداني … إلخ، بل كان الهيدرولوجيون ينظرون إلى النهر ككل متكامل؛ لأنه كذلك، وسيظل كذلك من هنا للمستقبل.
- ثانيًا: كان القرار السياسي حاسمًا في اتخاذ مكان مشروع التخزين «القرني»، حيث هو الآن داخل الحدود المصرية. وقد سارع بظهور أهمية العامل السياسي في الموضوع اختلاف النظم السياسية بين مصر والسودان ابتداءً من أواسط الخمسينيات؛ ليس بسبب استقلال السودان، ولكن لاختلاف التوجهات في البنية الاقتصادية السياسية في كل من الدولتين، وتأثير الكتل السياسية العالمية على بلاد الشرق الأوسط بصفة عامة. لهذا كانت الذبذبة في شكل العلاقات السياسية بين مصر والسودان، هي واحدة من أهم أسباب تفضيل أن يكون مشروع التخزين ضمن نطاق السيادة المصرية، ومما شجع على ذلك أن المشروع أُضيف إليه مشروع آخر لتوليد طاقة هائلة — بمفهوم الوقت — من أجل كهربة مصر، فأصبح المشروع رمزًا للفكر الناصري التنموي متعدد الاتجاهات؛ ليس فقط ضبط مياه النيل لتعويض السنوات العجاف، بل زاد على ذلك إمكانية التوسع الزراعي أفقيًّا ورأسيًّا، وتوليد الكهرباء من أجل التنمية الصناعية. من أجل هذا كان على السياسة أن تتدخل في تحديد مكان ووظائف المشروع، وبذلك انتقلنا من مدرسة الري التقليدية إلى مدرسة متعددة الاتجاهات الاقتصادية من بينها الري.٤
(٢-٢) الموارد البشرية
لا تنحصر الموارد البشرية في مجرد أعداد الناس وقوة العمل فقط، بل يجب إضافة حسابات أخرى؛ مثل نوعية الناس، وحالتهم الصحية والتعليمية، وتدريبهم المهني، وقدراتهم الادخارية، وتوظيف المال في أنشطة غير تقليدية … إلخ، وبرغم ذلك تظل للقوة العددية أهميتها؛ حيث إنها الإطار الذي تنضوي تحته مجموعة المقومات والصفات السكانية الأخرى.
-
سكان النوبة الأصليين — كنوز وعليقات ونوبيون — وهم الأغلبية الساحقة، وينقسمون إلى مقيمين ومهاجرين بعض الوقت، أو مهاجرين بصفة دائمة، ويضاف إليهم بعض العبابدة المستقرين بصفة دائمة في نجوع عدد من عمديات الكنوز والعليقات، وهؤلاء صاروا من السكان الدائمين في النوبة.
-
أبناء الصعيد وخاصة من محافظة قنا، وهؤلاء يترددون على النوبة لفترات عمل محددة، خاصة وقت امتلاء حياض قنا بالمياه أثناء الفيضان — وذلك قبل أن تتحول إلى ري دائم بعد السد العالي — والقليل منهم كان يقيم بصفة دائمة أو شبه دائمة في النوبة، وخاصة في أراضي مشروعات الري النيلي والدائم بالطلمبات.
-
العبابدة والبشارية من سكان البادية الشرقية، وهؤلاء كانوا يقيمون في بعض مناطق النوبة؛ لرعي الإبل خلال الصيف، حين يصبح المرعى والماء مستحيلين في الصحراء، وبذلك لم يحسبوا ضمن قوائم الهجرة.
-
مجموعة من الموظفين والإداريين من أصول مختلفة من بقية مصر، وهم نادرًا ما يستقرون تمامًا في النوبة، إنما يخدمون مدة محدودة، وبالتالي فإنهم أيضًا لم يحسبوا ضمن قوائم المهاجرين.
وسواء كان عدد المهاجرين نحو ٤٥ ألفًا أو ٤٨ ألفًا، فقد جاء في تعداد ١٩٨٦م أن سكان النوبة الجديدة في مركز نصر-كوم أمبو بلغوا ٥١٥٤٥ شخصًا، وإذا أضفنا لهم نحو عشرة آلاف شخص يعيشون في أماكن متفرقة حول بحيرة ناصر، يصبح لدينا نحو ستين ألف نوبي يعيشون بين كوم أمبو وبحيرة ناصر. وهؤلاء ليسوا كل النوبيين؛ فهناك أكثر من هذا العدد يعيش في المدن المصرية المختلفة. ومع استمرار النمو السكاني من ١٩٨٦م إلى الآن، فإنه يمكن القول أن أعداد أهالي النوبة الإجمالي هو الآن في حدود ٢٠٠ ألف شخص أو أكثر.
هل نتوقع أن يكون بعض هؤلاء هم الركيزة الأولى لتعمير مناطق جديدة حول بحيرة ناصر؟
القادرون على الهجرة والمغامرة هم في كل الحالات نسبة صغيرة من أصل أي مجموعة سكانية، لهذا ربما نتوقع أن يبلغ عدد المهاجرين إلى مناطق بحيرة ناصر نحو ١٠ إلى ١٥٪ من مجموع أهالي النوبة، سواء في كوم أمبو أو غيرها؛ بمعنى أن يكون العدد في حدود ٢٠ ألفًا أو ٣٠ ألفًا في حدوده العليا من النوبيين، وهؤلاء ليسوا جميعًا قوة عمل، بل أسر كاملة، وإن كان الأغلب أنها ستتكون من الأسر الفتية، القادرة نفسيًّا على خوض تجربة الهجرة، وهذا يعني أنهم سيتزايدون بسرعة خلال فترة ليست كبيرة من عودتهم إلى منطقة بحيرة ناصر.
وعلى وجه العموم فإن أعداد العائدين إلى النوبة القديمة — أي منطقة بحيرة ناصر — سوف ترتبط بإقامة مشروعات حياتية، عمرانية واقتصادية، لاستقبال العائدين.
والمتوقع أن المستوطنين الجدد حول بحيرة ناصر لن يكونوا فقط من أهالي النوبة؛ فإمكانات المنطقة — زراعية وصناعية وسياحية — أكبر من أن يستوعبها النوبيون وحدهم، ويمكن أن نتصور أن الكثير من أهالي الصعيد، وبخاصة من محافظتي قنا وسوهاج، سوف يكونون أوائل المستفيدين من فرص الحياة في المنطقة، بحكم ارتباطات بعضهم السابقة بالنوبة القديمة، وبحكم ارتباط بعضهم الحالي كصائدي سمك في بحيرة ناصر، وكعاملين في الكثير من مشروعات الإقليم، من إنشاء الطرق إلى حرف البناء والتشييد.
ومرة أخرى سيعتمد العدد على القدرات الاستيعابية للمشروعات التنموية في إقليم بحيرة ناصر، ولا شك أن بعض هذه المشروعات سوف تجذب عناصر مهاجرة من مناطق أخرى من مصر، وبخاصة من الحرفيين والعاملين في الإدارة والخدمات.
وبعدُ فقد آن لنا أن نتصور أن عجلة التنمية لن تبدأ إلا بعد أن تتعدد أشكال النشاطات وتتكامل معًا؛ أي لا يمكن أن نتصور أن تكون التنمية أحادية التوجه؛ كالزراعة فقط أو السياحة فقط أو صيد السمك كما هو الحال الآن، لهذا فالتنمية الحالية تسير مثل كائنات منفصلة، كل يدب أعرجَ في طريق منفصل داخل إطار مركزية الحكم والإدارة في مصر، ثم هم لا يلتقون!
الأغلب أن مائة ألف من السكان هو عدد معقول، لكي تتكون ذاتية لحركة تنمية تنجح في بناء قاعدة انطلاق استيطانية متكاملة، بين ريف وحضر وزراعة وصناعة — إصلاح وصيانة كبداية — وسياحة بأنواعها المتعددة، وتربية حيوان، وسماكة، وتجارة محلية، وعمالة في المال والنقل والاتصالات … إلخ، ولا شك أن ذلك سيجرُّ إلى استثمارات أكثر وهجرة أوفر في حالة نجاح المشروعات الأولى، بشرط ألا نبني مدينة طموحة تصرف السكان عن الأعمال الإنتاجية إلى أعمال الوساطة التجارية والمهنية، كما هي العادة في مدننا الجديدة الخالية على الأغلب من مقومات اقتصاد إنتاجي ذاتي، وأصعب المراحل هي مرحلة التكوين الأولى، التي يجب أن تكون تدريجية مع مرونة في التوجه التنفيذي.
(٣) محاور التنمية المتوقعة
- (١)
الزراعة.
- (٢)
السماكة.
- (٣)
السياحة.
- (٤)
تعدين وصناعات خفيفة وصناعات منزلية.
(٣-١) الزراعة وتربية الحيوان
- (أ)
-
(ب)
الزراعة الشاطئية حسب اختلاف مناسيب البحيرة بين الحد الأدنى والحد الأعلى خلال السنة، والذي يتراوح — حسب السنوات ٨٩–١٩٩٤ — بين ١٦٤ و١٧٧ مترًا، بفارق منسوب ثمانية أمتار كحد أعلى، وخمسة أمتار كحد أدنى في السنوات المذكورة. وتبلغ مساحتها تقديرًا نحو ربع مليون فدان، تزرع على نظام ري الحياض القديم محصولًا واحدًا سريع النمو؛ لأن هذه المساحة تنكشف عنها مياه البحيرة بين ثلاثة وخمسة أشهر فقط — الأشهر من يوليو إلى أكتوبر.
والمقترح زراعة خضر وأنواع من المحاصيل سريعة النمو، الصالحة أعلافًا للحيوان كنبات الكشرنجيج — الذي يمكن أن يحش مرتين إلى ثلاث مرات في أربعة أشهر — بالنسبة للزراعة الشاطئية، تمامًا كما كان يفعل النوبيون قبل ١٩٦٣. أما الزراعة الدائمة في المناسيب العالية، فيمكن أن تكون أعلافًا وأشجارًا مثمرة، وبخاصة نخيل البلح النوبي، وعلى الأطراف أشجار للحصول على الخشب، هي في نفس الوقت مصدات للرياح وسفي الرمال.
ويقترح المتخصصون أن تكون هناك دورة زراعية ثلاثية في أراضي المحاصيل، يتبادل فيها البرسيم وفول السوداني والشعير، مع قليل من السمسم والبصل والثوم والترمس والحلبة. أما دورة الزراعة الشجرية، فتبدأ بأعلاف وشعير، ثم أشجار فاكهة يحمل عليها علف وفول سوداني وبرسيم.
أين توجد الحقول الملائمة للزراعة في الإقليم؟

أما الزراعة الشاطئية فهي حول معظم سواحل البحيرة وأذرعها وخلجانها الكثيرة، وتعتمد مساحتها على قدر تراجع مياه البحيرة من ناحية، وعلى مرونة وقدرة المزارعين على الانتشار إلى تلك الأراضي وزراعتها بالفأس، كما كان الحال في النوبة القديمة. ذلك أن استخدام المحراث والجرار أو حيوان جر يستدعي استعدادات للنقل قد لا تتوافق مع قصر مدة الموسم الزراعي.
ولكي تكون الزراعة ناجحة، فالواجب تضافر جهود إرشاد زراعي مع مهندسي المياه؛ للتنبؤ القريب بحالة الفيضان، وكميته المتوقعة، والأراضي التي قد تطغى عليها المياه بسرعة، وابتكار وسيلة اتصال قوية مع المزارعين لإعلامهم بحالة المياه والأرض؛ لكي يتجنبوا الزراعة في أرض مهددة بالغرق القريب.
ونظرًا لكثرة ترجيح زراعة الأعلاف في المستقبل، فإن الزراعة هنا يجب أن تكون من النوع المختلط؛ أي زراعة وتربية حيوان معًا، أو ربما تكون منطقة إنتاج حيواني تقدم لها الأرض أعلاف التسمين. ولا شك أن أصلح حيوانات التربية في هذه البيئة شديدة الحرارة هي الأغنام والماعز من السلالات التي كانت سائدة في النوبة القديمة، كذلك يمكن الاستفادة من سلالة الأبقار النوبية وتهجينها وتدريجها من أجل اللحم — والقليل من اللبن — والجلود. وفي هذا المجال يمكن إنشاء بعض المراعي الجافة في أعالي الأخوار من أجل رعي الجمال، خاصة أعالي الوديان الشرقية، من خور رحمة إلى وادي أور، مرورًا بأودية أبوسكو والعلاقي وكورسكو، وبالتالي نكون قد حفزنا بعض العبابدة والبشارية من البدو الرحل على الاستقرار وتنمية ثروتهم من الإبل؛ تمهيدًا لدخولهم اقتصاديات السوق، بدلًا من الشكل التقليدي للرعي البدوي الذي يمارسونه للآن.
كذلك تخصيص مناطق لتربية حيوان معين كالماعز والأغنام في مزارع من المنطقة الجنوبية (أدندان وقسطل) ومن المنطقة الوسطى (جرف حسين – الدكة) وذلك من أجل إنتاج كمي من نوع واحد، وتجنب انتقال عدوي أوبئة من حيوان لآخر، أما الأبقار فيشيع تربيتها في معظم المزارع المقترحة.
(٤) البيئة والتلوث
بالنسبة للتنمية الزراعية في الإقليم هناك تحفظ بيئي ومشكلة ري.
- الأول: أن هذه الأرض تتجدد خصوبتها سنويًّا — أو كل عدد قليل من السنين — نتيجة لإرسابات بعض الطمي خلال فترة ارتفاع منسوب الماء، أو إضافة الطمي الناتج عن تطهير البحيرة.
- الثاني: أن الأرض غالبًا ستستمد خصوبة متزايدة من السماد العضوي، الناجم عن ترك الحيوان يرعى الأعلاف الخضراء وقتًا من الزمن في الحقول دون الحاجة إلى أسمدة كيماوية.
أما مشكلة الري، فهي الفارق الرأسي بين محطات الطلمبات العائمة وحقول أراضي العلو (١٨٠–١٩٠ مترًا) فإذا كان منسوب الخزن ١٧٥ مترًا، فالمشكلة ليست كبيرة، لكنها تصبح عويصة في السنوات التي ينخفض فيها منسوب الخزن إلى ما دون ١٧٠ مترًا، فحين يكون الفارق الرأسي بين رأس الطلمبات والأرض المزروعة ٢٠–٢٥ مترًا أو يزيد، فإن المسافة بين الحقول وماء البحيرة تزيد مما يستدعي إطالة أنابيب ضخ المياه الأفقية، وعدم الإفادة منها في حالات ارتفاع مناسيب البحيرة، لهذا فربما يكون من الأوفق حفر آبار ليست عميقة عند أراضي العلو، تأخذ من المياه الجوفية على أعماق مناسبة، وبالتالي لا نعود في حاجة إلى طلمبات عائمة. والأمر يحتاج إلى رأي الخبراء في هذا المجال، أما مشكلة التلوث الناجمة عن الزراعة في هذه المناطق العالية نسبيًّا، فربما تكون مشابهة للموضوع سابق الذكر عن الزراعة الشاطئية، من حيث استخدام السماد العضوي من مخلفات الحيوان، وتقنين استخدام الأسمدة الكيميائية، بمعنى أن مخاطر التلوث محدودة.
وعلى أية حال نحن هنا نتكلم عن زراعة نحو ربع مليون فدان، ولا تصل إلى نصف مليون فدان إلا تحت ظروف استثمارية مناسبة، ومع ذلك نخشى التلوث، فما بالنا بمشاكل التلوث متعددة المصادر: الزراعي والصناعي، وذلك الناجم عن سوء سلوكيات الإنسان على طول مسار النيل في الصعيد والدلتا! فالصعيد الشمالي يستخدم مياهًا ملوثة من الصعيد الجنوبي، والقاهرة تستخدم مياهًا ملوثة من كل الصعيد، وتضيف إلى التلوث أضعافًا مضاعفة تستخدمها الدلتا في سد مختلف الاحتياج للماء!

(٥) أين يسكن المستوطنون الجدد؟
منذ النصف الثاني من السبعينيات أخذ المسؤلون عن منطقة بحيرة ناصر في التفكير عن الهجرة المرتدة المحتملة وأين تقيم، وانتهى التخطيط إلى ضرورة إنشاء ثلاث قرى: هي دابود ودهميت في الشمال وتوشكى في الجنوب، وهي ليست بعيدة عن التجمع العمراني النامي في أبو سمبل وقرية السلام القريبة منها، واقتضى التخطيط أيضًا إنشاء مورد اقتصادي لسكان هذه القرى في صورة استصلاح نحو ألفي فدان زمامًا لكل قرية.

وكان رأي مركز تنمية بحيرة ناصر في الثمانينيات إنشاء عشر قرى (الخريطة ٩)؛ هي دهميت ومرواو والعلاقي قبلي وبحري — أو علاقي جنوب وعلاقي غرب — ومحرقة/سيالة في إقليم الكنوز القديم، والسبوع وكورسكو في إقليم العليقات القديم، وعنيبة/إبريم وتوشكى وأبوسمبل في إقليم النوبيين القديم.
وسواء كان العدد خمس أو عشر قرى، فالأغلب أن هذه غير كافية لاستقبال حركة الاستيطان المتوقع في حالة التنمية الجادة لمنطقة البحيرة، فإذا عدنا إلى القول أن مائة ألف مستوطن، هو الحد الأدنى لكي تتكون لعمليات التنمية ذاتية انطلاق وتسيير، فإن معنى هذا عشرة آلاف شخص لكل قرية، وهذا عدد كبير لسكان القرى في مثل هذه المناطق، ويؤدي إلى ظهور مشاكل الخدمات فوق مشاكل البنية الأساسية، وفوق هذا وذاك مشكلة إيجاد الموارد الملائمة لمثل هذا العدد، والمقترح إذن ألا يزيد عدد السكان في مثل هذه القرى الريفية عن ألفين أو ثلاثة آلاف نسمة، موزعين على عدد من النجوع المتجانسة، على نحو ما كان في النوبة القديمة، وعلى نحو ما نجده في قرى ونجوع مركز أسوان.
وفي هذا المجال ربما كان من المرغوب إنشاء قرية مركزية أو مدينة رئيسية ذات تحديد مُحَجَم، تجمع وظائف إدارية وخدمات مركزية للمنطقة.
وفضلًا عن هذا فالغالب أن تكون هناك مستوطنات في مناطق السياحة والآثار، تدور حول أشكال من الفندقية والمخيمات وقرى الخدمات للسياح، وذلك في أبو سمبل والسبوع وعمدا وكلابشة الجديدة؛ حيث توجد تجمعات آثار النوبة.
(٦) مشروع توشكى
ولا يفوتنا أن نذكر هنا المشروع الضخم الذي تتبناه الدولة لحفر ترعة طويلة من مأخذ يقع شمال توشكى بقليل، تتجه إلى منخفض الواحات الخارجة عند باريز، وذلك من أجل استصلاح زراعي واسع يُسمى شعبيًّا دلتا جديدة — وهو مصطلح خاطئ علميًّا — وسيصاحب هذا المشروع طريق جيد — لكنه مضطر إلى عبور تجمعات شاسعة من الكثبان الرملية المتحركة — يصل نوبة بحيرة ناصر بالواحات الكبرى. وبالقطع ستظهر لهذا الطريق ميزات كثيرة فوق الهدف المرسوم له حاليًّا، وكذلك ستكون للمحطة الكهربائية الضخمة المنوي إقامتها لرفع الماء من البحيرة إلى الترعة؛ فوائدُها التي ستعمم الطاقة على جزء من منطقة بحيرة ناصر أو كلها، وعلى أية حال فإن هذا المشروع هو خارج عن إطار المنطقة التي نتكلم عنها، برغم أنه يمس النوبة من حيث إنها هي بداية الماء والكهرباء لهذا المشروع الكبير. وبصورة عامة فإن المشروع من الضخامة بحيث يستغرق استكماله سنوات طوالًا، ويعتمد أساسًا على كمية الاستثمارات التي تصب في المشروع، ولا ينبغي التقليل من العقبات التي تواجه التنفيذ؛ عقبات طبيعية ناجمة عن فيزيقيا الأرض وتكوينها الجيولوجي؛ من حيث وجود الكثير من الفوالق والانكسارات والمسامية الكبيرة للمكونات الصخرية من الحجر النوبي الرملي، وعقبات جيومورفولوجية؛ من حيث أشكال ومناسيب سطح الأرض — مرتفعات ومنخفضات في مسطحات كبيرة — ومن حيث كثرة الرمال السافية والكثبان الرملية المتحركة، وعقبات مناخية أخطرها درجة التبخر الكبيرة ودرجات الحرارة العالية وأثرها على المحاصيل والأبنية وأسفلت الطرق، ولكل أو بعض هذه العقبات حلول من تكنولوجية العصر المكلفة، ولكن حسن اختيار المشروعات العمرانية في النهاية هو الحكم النهائي في مردود العمل سلبًا أو إيجابًا، وأخطر المشاكل تكمن في الإنسان ذاته؛ فهو في ظل إدارة جيدة تُعطي الفرص الكاملة للحقوق والحريات يُصبح سندًا لنجاح المشروعات، ومن أهم مقومات الإدارة الجيدة أن تكون المشروعات قد مرت بدراسات ما قبل الجدوى ثم دراسات الجدوى، ثم قدر كبير من المرونة يترك أثناء التنفيذ من أجل التعديلات الضرورية التي تواجه مشكلات تطرأ على أرض الواقع.
وعلى أية حال ما زال مشروع أو مشروعات توشكى في المراحل الأولى، وأمامها بضع سنوات اختبارية لمدى التصميم والتمويل، ودراسة آنية للأشكال الملائمة من التنمية المكانية والاقتصادية والبشرية ضمن استراتيجيات التنمية المصرية للقرن القادم.
(٦-١) مشروع توشكى المعدل تعديلات «مرحلية؟» في المشروع
في ضوء دراسات جغرافية وطبوغرافية وجيولوجية، مع استخدام صور الأقمار الصناعية، وبخاصة قمر «سبوت» الفرنسي، تمت خلال عدة أشهر تالية للإعلان الرسمي عن البدء بمشروع توشكى، ظهر للمخططين ومسئولي الأشغال والري أن المشروع يمكن تنفيذه بنجاح في المنطقة الممتدة من توشكى البحيرة إلى توشكى المنخفض، باختصار أن المشروع سيقتصر على المنطقة المجاورة للبحيرة والمنخفض، فهل هذا تعديل بديل لمشروع القناة الطويلة «جدًّا» إلى جنوب منخفض الخارجة، أم هو تعديل مرحلي؟ بطبيعة الحال، الأمور غير واضحة في هذا الصدد، لكن المشروع المعدل يدخل ضمن نطاق موضوعنا عن منطقة النوبة القديمة.


خريطة (١٠ب) توقيع مشروع توشكى المعدل على الخريطة

وحسب تصنيف التربة — غالبًا من تحليل صور القمر «سبوت» — فإن الأراضي التي يمكن زراعتها بواسطة هذه الترع الأربعة، تبلغ ٤٤٧ ألف فدان، تقع معظمها على جانبي طريق أبو سمبل وبداية طريق العوينات — وفي قول آخر ٥٤٠ ألف فدان.
وهناك دراسات أخرى لتحديد مساحة ومحتوى منخفض توشكى الذي تنصرف إليه مياه الفيضان إذا زاد عن نحو ١٧٨ مترًا في البحيرة، والدراسة المبدئية تقول إن مساحته نحو ٦٥٠٠كم مربع — أكبر من مساحة بحيرة ناصر في مصر والسودان معًا — وهناك فكر في استخدامه كخزان ثانٍ سعته نحو ١٢٠ مليار متر مكعب، ومبدئيًّا يمكن زراعة أطرافه المرتفعة في الشمال والشرق، ولكن يجب توخي الحذر الشديد؛ لأن مثل هذه المنخفضات الكبيرة هي بالوعات للمياه، بما تحت سطحها الرملي والحجري من عيوب وفوالق وصخور مسامية.
(٦-٢) الثروة السمكية
بالرغم من أن بحيرة ناصر قد أصبحت مكانًا ممتازًا لنمو أعداد السمك — وأحياء مائية وبرمائية أخرى — وبالتالي كان يجب أن تكون مصدرًا جيدًّا من مصايد الأسماك النهرية في مصر، لكننا نجد أنَّ تدخل الكثير من المخططات والمصالح غير المتناسقة بالنسبة للثروة السمكية، يعطينا نموذجًا لمدى الإحباط الناجم عن البيروقراطية والتضارب.
- (١)
جمعية الصيادين التي تمثل أكبر الجمعيات ومصالح الصيادين من أبناء الصعيد.
- (٢)
جمعية أبناء أسوان التي تركز احتكارها لقسم من شمال البحيرة.
- (٣)
جمعية أبناء النوبة التي تحتكر القسم الجنوبي من البحيرة.

وكانت جمعيتا أبناء أسوان والنوبة ضعيفتي التجهيز والإنتاج، بالقياس إلى جمعية أبناء الصعيد عدة وإنتاجًا — ٧٠٠٠ صياد مقابل نحو ٦٠٠ صياد للجمعيتين ٢ و٣، وإنتاج عشر مرات قدر إنتاج الجمعيات الأخرى.
- (١)
شركة الشمال تحتكر ما بين السد العالي ودهميت، بما في ذلك خور كركر.
- (٢)
الجمعية التعاونية لأبناء أسوان، وتحتكر الصيد فيما بين دهميت ومرواو.
- (٣)
الجمعية التعاونية لصائدي الأسماك، وتحتكر أكبر مسطح من البحيرة من مرواو إلى إبريم.
- (٤) الجمعية التعاونية لأبناء النوبة، وتحتكر مسطح البحيرة من إبريم/الجنينة إلى وادي أور جنوب أبو سمبل، ثم الجانب الغربي من البحيرة من أبو سمبل إلى الحدود مع السودان.١١
- (٥)
جمعية التكامل التعاونية، ومنطقة احتكارها هي الجانب الشرقي من وادي أور إلى أدندان.
(٦-٣) السياحة
الكلام عن السياحة وأهميتها كلام معاد، غير أنه يمكن أن نعيد التأكيد على أن السياحة هي «صناعة لا قدم لها»؛ أي إنها غير ثابتة، بل قابلة للتحول من مكان أو دولة إلى أخرى لمجرد وجود ظروف من عدم الاستقرار المالي أو الأمني أو التحول التنظيمي بتغير أيديولوجية الحكم … إلخ.
فالسياحة إذن، وبرغم وجود ثوابت الجذب السياحي كالآثار أو الجمال البيئي، أو مقومات الطبيعة كالشواطئ والجبال كمصايف ومشاتٍ، برغم كل هذا إلا أنها صناعة غير إنتاجية، وبالتالي ليس لها قاعدة تمكنها من الاستمرار كنشاط مربح للعاملين به، ومخاطر السياحة أنها من الأنشطة التي تمتص عمالة كثيفة من الأعمال الفندقية إلى مكاتب السياحة إلى النقل السياحي بأشكاله، وفوق هذا خدمات السياح في مختلف المجالات من النزهة إلى المطعم إلى العروض المسرحية في المسرح والكازينو، وكل هذه الأعمال تتأثر بشدة إذا ما حدث اختلال في عدد السياح؛ لأنها أشبه بحلقات سلسلة واحدة.
شواطئ بحيرة ناصر وجزرها الجبلية الكثيرة يمكن أن تصبح مواطن لكثير من الأنشطة الرياضية، يقوم بها السياح بعد أن يكتفوا بزيارة المناطق الأثرية المتعددة في النوبة، وعلى رأسها أبو سمبل والسبوع. ولكي نستبقي السياح مدة أطول من مجرد الزيارة الخاطفة لأبي سمبل بالطائرة أو السفينة السريعة أو قارب الهيدروفيل — إذا كان لا زال موجودًا — يجب أن تكون هناك أشكال فندقية غير تقليدية؛ أي يجب أن نبتعد تمامًا عن شكل الفندق الذي نجده في أي مكان في العالم، ونتجه إلى فندق بيئي على نسق البيت النوبي القديم، الذي كان يتآلف مع البيئة من حيث مادة البناء والشكل المعماري ووظيفة الحوش، والمضيفة كصالات يتجمع فيها النزلاء للطعام والدردشة، والسهر في طلق الجو دون مكيفات هواء.
إن الكثير من السياح سوف يدفعون الكثير للاستمتاع ببيئة وجو أقرب إلى الطبيعة والبرية، هذا الاتجاه قد أصبح الميل العام الجديد للسياحة العالمية؛ فقد ملَّ البعض السياحة التقليدية في فنادق السواحل الإسبانية أو جزر الكناريا وجزر الكاريبي، واتجه إلى عوالم الظلال الدائمة في الغابات الاستوائية في أمريكا اللاتينية، أو عوالم الضوء المبهر والرمال الساخنة في بلاد الصحراء الكبرى من المغرب إلى مصر.
ليست هذه أفكارًا من ابتكارنا، لكنها أصبحت شائعة، بل هي تراود بعض النوبيين الذين يعرفون بحسِّهم ماذا يمكن أن يجذب السائح. السائح هنا ليس فقط الأجنبي غير عربي اللسان، بل هو أيضًا المصري أو العربي الذي اعتاد الحركة في أرجاء مصر من الساحل الشمالي إلى البحر الأحمر وسيناء والصعيد، هؤلاء سوف يضيفون الكثير من التنشيط السياحي لمنطقة جديدة مثل نوبة بحيرة ناصر، وهم أيضًا الذين يستطيعون أن يوازنوا المواقف في حالة تراجع السياحة الأجنبية.
المناطق المرشحة لمثل هذا النوع من السياحة غالبًا ما نرجح له بدايات قريبة من منطقتي الآثار في أبو سمبل والسبوع وعند نهاية خور كركر ووادي العلاقي، وتحتاج السياحة — إلى جانب الفنادق البيئية والبنسيونات التي هي تعايش مع عائلات نوبية (أو غير نوبية) مقيمة — إلى عدة أشكال من الأنشطة الترويحية والرياضية، التي تتمثل في رياضات الملاحة الشراعية أو الانزلاق على الماء وصيد الأسماك، ويمكن لهواة المغامرة تنظيم مجموعات لصيد الضباع والذئاب والتماسيح — بأعداد محدودة من أجل ضوابط البيئة — فضلًا عن بعض الممارسات الصحية المعروفة؛ كالدفن في الرمال الساخنة، أو جمع بعض الأعشاب ذات الفوائد الطبية … إلخ.
وكذلك يمكن تنظيم رحلات «سفاري» بالإبل أو السيارات المجهزة، تنطلق من السبوع والعلاقي عبر جبال البحر الأحمر إلى منطقة جبل علبة ونباتاته البرية الشهيرة، ومن ثم إلى البحر، وقد تعود السفاري أدراجها أو تكمل الرحلة برًّا أو بحرًا إلى مرسى علم والغردقة. وبالمثل يمكن تنظيم سفاري تتجه غربًا من أبو سمبل أو توشكى إلى بير كسيبة، حيث تلتحق شمالًا بدرب الأربعين إلى باريز والخارجة ثم الأقصر، أو من كسيبة غربًا إلى شرق العوينات وهضبة الجلف الكبير، لتعود إلى الوحات الداخلة بعد أن تسير على الأطراف الجنوبية لبحر الرمال الأعظم. وفي هذه الحالات سيقوم العبابدة بدور الأدلاء للسفاري الشرقية إلى البحر الأحمر، وأدلاء آخرين للرحلات الغربية إلى الواحات.
(٦-٤) إمكانات الصناعة
في إقليم النوبة عدة مصادر للخامات المعدنية؛ هي الكاولين والتلك والرخام والجبس والجرانيت والحديد، وربما كان أهمها الآن خام الحديد الذي اكتشف في شرق منطقة دهميت بكميات صالحة لإقامة صناعة استخراجية، وليس من المتوقع إقامة صناعات كثيرة وبحجم كبير في النوبة القديمة، باستثناء صناعة الزجاج والسيراميك قرب السد العالي لتوافر الخامات والطاقة.
الأكثر توقعًا هو إقامة عدد من ورش الإصلاح لمحركات السفن أو ميكانيكا السيارات، وورش نجارة وترسانة صغيرة للقوارب، وورش أخرى لإصلاح الأدوات الكهربائية والإلكترونية … إلخ، وكذلك نتوقع تشجيعًا للصناعات الجلدية والصناعات الريفية التقليدية والمبتكرة.
(٧) ختام الختام
من منطلق السيادة الوطنية على أرض الوطن، ومن منطلق دعوة رئيس الجمهورية للاهتمام بالنوبة، ومن منطلق حرية ما تفعله الدولة على أراضيها من تنمية وإعمار، ومن منطلق عواطف الحنين لدى النوبيين للعودة إلى إقليمهم، ومن كافة المنطلقات الاستراتيجية والأمنية والتنموية من أجل الرفاهة؛ أكتب هذه الأسطر من أجل إعادة الحياة إلى بلاد النوبة، التي كان مصير سكانها الهجرة ثلاث مرات خلال هذا القرن: الأولى والثانية إلى أراضٍ مرتفعة بعد إنشاء سد أسوان ١٩٠٢م وتعليته الكبرى ١٩٣٣م، والثالثة الهجرة خارج النوبة تمامًا إلى حوض كوم أمبو شمالي أسوان بعد إنشاء السد العالي في الستينيات، وغرق كل النوبة القديمة تحت مياه بحيرة ناصر.
شعب النوبة الأصيل من حقه العودة إلى منطقة الديار القديمة، ولعل الجيل الذي عاش النوبة القديمة قد انتقل إلى السماء، ولكن يبقى الشعور بأن هذه هي النوبة، وإن امتدت بعرض بحيرة ناصر: هي الأرض التي تتداخل فيها كتل المياه العظيمة مع جبال الصوان والجرانيت والصخر النوبي، باختصار سمة النوبة من القدم إلى الآن هي الماء والجبل، يتركان فراغات كالجيوب الصغيرة، يشق فيها النوبي أسس حياة وحضارة مستديمة قليلة التغيير.
إلى متى تظل مساحة كبيرة من الوطن فارغة من السكان والسكن الدائم؟ إلى متى يحلم بعض النوبيين بالعودة إلى بلادهم؟ إلى متى نعيد صورة سيناء حينما كانت قاصرة على أعداد قليلة من البدو، محظورة على سكان بقية مصر إلا بإذن مسبق، فكان ما كان من الضعف الاستراتيجي والاقتصادي لسيناء عشرات السنين، وكان ما كان من اجتياحها المرة تلو المرة في الحروب الأخيرة؛ لأنه لا يوجد مرتكز شعبي يدعم الجبهة استراتيجيًّا وتكتيكيًّا؟! وقد تنبه المسئولون إلى ضرورة إعمار سيناء، وفعلًا حدث إعمار ويحدث إعمار أشد كثافة كل يوم، ومشروعات التنمية تُدرس وجدواها تبحث عن استثمار، والحكومة ضالعة بمشروع خارق للتنمية، أساسه شق قناة السلام لجلب مياه النيل من فرع دمياط من أجل زراعة نحو نصف مليون فدان.
فما بالنا بالنوبة؛ حيث الماء جاهز حاضر دون عناء شق قنوات وترع، الماء قريب المنال من كتلة بحيرة ناصر، وهناك أرض غنية التربة تكونت من فيض البحيرة وتراجعها تاركة غرينًا خصبًا. الأرض ليست كأرض سيناء الرملية أو السبخية، إنما هي أرض غرينية ذات سمك متفاوت، لكنه بكل المقاييس صالح للزراعة دون أن تعوقه نفاذية الرمال الشديدة وتسرب الماء، أو دون وجود ملوحة عالية تتسم بها تربة السبخات، والأرض النوبية الداخلية البعيدة عن مسطح التربة الفيضية صالحة لاستزراع أنواع خشنة من العشب والحشائش بواسطة الري بالرش، من أجل اتخاذها مراعيَ لحيوان البيئة من إبل وأغنام وماعز وأبقار تدرج وتهجن لتتعايش مع البيئة القاسية، إذن الأرض بأنواعها، بالإضافة إلى مصايد الأسماك، جاهزة لتنوع إنتاجي زراعي رعوي في مساحات معقولة، قد تبلغ عشرات الآلاف من الأفدنة في نواحٍ متعددة، وخاصة حول أذرع البحيرة الضخمة في كلابشة والعلاقي وتوشكى … إلخ.
هذا فضلًا عن الثروة الأثرية التي تشكل ركيزة السياحة الحالية في النوبة، والتي يجب أن تتطور هي الأخرى إلى أشكال غير تقليدية من الجذب السياحي.
والإنسان هو العنصر الآخر في الإنتاج، وهو موجود بكثرة ووفرة، متمثلًا في بعض النوبيين الذين يرغبون العودة، وعدد أكبر من أهل قنا وسوهاج الذين لهم دراية سابقة بالنوبة القديمة، ويشكلون قوة الصيد السمكي الحالي في بحيرة ناصر، وليس متوقعًا إقامة مشروعات تهجير كثيرة في وقت واحد، بل المطلوب إقامة عدد قليل من المشروعات الصغيرة على أساس هجرة تطوعية، بحيث تكون هذه مشروعات رائدة يُستفاد منها لتجنب بعض الأخطاء في المشروعات التالية، وليس من المستحسن البدء بالمشروعات الأولى بالكثير من الطبول، بل يكون كل شيء متواضعًا في البداية؛ حتى لا يحس الناس بالهزيمة إذا ما جاءت النتائج الأولية على غير المتوقع.
وربما كان الخوف كامنًا في أن حصة مصر من مياه النيل — ٥٥٫٥ مليار متر مكعب سنويًّا — مخصصة كلها للأراضي المصرية شمال السد العالي، وهذا في حد ذاته ظلم وإجحاف بأرض النوبة، فهي مخزن المياه المصرية ولا تستفيد منها، وهي مصدر الطاقة الكهربائية من السد العالي ولا تستفيد منها، أي ظلم فادح هذا؟! هل هي كالعيس يقتلها الظمأ وهي تحمل الماء على ظهرها؟! وعلى أية حال فإن جانبًا من الزراعة لن يكلف مياهًا كثيرة، بل ستكون زراعة حياض على النسق الفرعوني العظيم في الأراضي التي تنسحب منها مياه البحيرة سنويًّا، ثم ما ضرنا لو خصصنا مليارًا واحدًا من الماء، ومليارًا آخر من الجنيهات أقساطًا على عدة سنوات؛ من أجل تعمير النوبة؛ تلك الأرض العظيمة التي تمتد نحو ٣٥٠ كيلومترًا جنوبي أسوان؟! ما ضرنا لو نشأت قرى متعددة تثبت الهوية المصرية، وتنتج ما يمكن أن تسهم به في مجال الاقتصاد الوطني، وتشكل مرتكزات استراتيجية على طول بحيرة السد، وأخيرًا تشكل همزة الوصل الضرورية لمصر جنوب أسوان في اتجاه أشقاء الجنوب؟!