الخاتمة
«العلم من وجهين: اتباع واستنباط.»
«لا أستطيع أن أتصور نهضة عصرية لأمةٍ شرقية ما لم تَقُم على (اتباع) المبادئ الأوروبية (الأصل) للحرية والمساواة والدستور مع النظرة العلمية الموضوعية للكون.»
لا يقف ما تأدَّت إليه هذه القراءة عند مجرَّد إظهار أن الأمر — فيما يخص التفكير بالأصل اتباعًا، الذي يُحدِّده، أو يكاد جوهرُ الممارَسة العربية (تراثيًّا وحداثيًّا) — لا يتعلق بالأصل في ذاته، بقدر ما يتعلق بآلية مُقارَبته وطريقة إنتاجه، بل يتجاوز إلى الارتداد بتلك الآلية إلى الشرط الإنساني المؤسِّس لها، والذي لا تقبل التفسير أبدًا خارجه، وضمن حدود هذا الشرط الإنساني، فإنه قد بدَا أن الأمر يتعلق بعمليةٍ معقَّدة يجري فيها إنتاج دلالة النفسي في الثقافي، التي كانت تتجاوب، بدورها، مع دلالة ما كان يتحقق في التاريخي، ودائمًا عبْر وساطة الديني الذي استحال إلى ساحة تُيسِّر الانتقال في فضائها من الواحدة إلى الأخرى من تلك الدلالات. فإذ الاتباعية (في الثقافة)، لا تفعل إلا أن تضع الأصل كسلطةٍ متعالِيَة لا تقبل التجاوُز، وأعْنِي من حيث تَحُول دون استيعابه في عملية إبداعية، فإنها كانت تتوافق — على نحوٍ مدهش — مع سيكولوجيا الإعلاء التي انبثقت هذه الآلية في إطارها، وأعْنِي من حيث لا يتكشف بناء هذه السيكولوجيا إلا عن «ذات» مُنسحِقة، تسعى إلى الانعتاق عبْر التَّعالي بنفسها (نصًّا وشخصًا) إلى مَقام المُتسامِي المُجاوِز، وبالطبع فإن ذلك يتجاوب مع ما يتكشف عنه التاريخ من «سُلطة» تسعى، بدورها، إلى تثبيت هيمنتها وتأييدها عبْر التَّعالي بنفسها إلى مَقام المقدَّس الذي لا يقبل المُساءلة والاعتراض. وإذن فإن سياق التَّعالي (في الثقافة والسيكولوجيا والتاريخ والسياسة) هو ما انبثقت في إطاره هذه الآلية التي لا تفعل عبْر ترسيخ الاتِّباع بما ينطوي عليه من دلالة الإذعان والخضوع مِن جهة، إلا إطلاق فاعلية التَّعالي والمفارَقة من الجهة الأخرى، وذلك مع الوعي، دومًا، بأن كل ضروب التَّعالي المُشار إليها قد جرَى التغطية عليها بالمُتعالي الديني.
وبالطبع فإن الارتداد بسياق التَّعالي، الذي انبثقَت فيه تلك الآلية في التفكير بالأصل اتباعًا؛ إلى ما يفسره (في الثقافة والسيكولوجيا والتاريخ والسياسة)، لا يكتفي، فحسب، بأن يَئُول إلى نزْع القداسة عن آليةٍ ترسَّخَت عبْر القرون، مُتعالِية على الشرط الإنساني إلى ما فوقه، بل ويفتح الباب — وهو الأهم — أمام إمكانية انبثاق آلية تفكير في الأصل، بل وحتى به، ولكن ليس اتباعًا، بل إبداعًا هذه المَرَّة. وغنيٌّ عن البيان أن هذه الآلية البديلة لا تنطوي على أي رفْضٍ للأصل أو تُنكُّر له، بل لطريقة في مقارَبته بالأحرى، وبما يعنيه ذلك من أنها (أي الآلية البديلة) تتكشَّف فقط عن طريقةٍ أخرى في مقارَبة الأصل، على نحوٍ لا يكون فيه سُلطةً تفرض نفسها على الوعي، بل موضوعًا يبدأ منه اشتغاله مستوعِبًا ومتجاوِزًا، وهكذا فإن الأصل، بحسب هذه الآلية البديلة، يتجاوز حدود كونه مجرَّد «مُعطًى» مكتمِلٍ وثابِت، إلى أن يصبح تكوينًا يتحقَّق اكتماله عن طريق فعالية الوعي، وبما يعنيه ذلك من أنَّه الأصل وقد فكَّ روابطه مع الماضي، وبات جزءًا من صيرورةٍ تنفتِح على المستقبَل، وهنا يُشار إلى أن هذا التحوُّل بالأصل من الماضي إلى المستقبَل، إنما ينعكس على طبيعة المعرفة، التي تتحول، بدورها، من المعرفة/الاتباع أو الاستنباط، بلغة الشافعي، التي تتقيَّد بما تبدأ منه، إلى المعرفة/الكشف، التي لا تتقيد إلا بما تنتهي إليه. وبدورها، فإن هذه المعرفة تَفتَرِض تصورًا للمعنى لا يكون فيه «جوهرًا» خالدًا فوق الزمان، بل «صيرورة» يدخل الزمان في صميم تركيبها، ولعل ذلك يكشف عن أن الأمر يتجاوز مجرَّد استبدالِ آليةٍ، في مقارَبة الأصل، بأخرى، إلى تحرير كل من العقل والتاريخ والمعنى، بل وحتى الأصل، من كل ما يعوق اشتغالها الخلَّاق؛ إذ الحق أن آلية في التفكير بالأصل (اتباعًا)، لا تَئُول، فحسب، إلى إفقار التاريخ والعقل والمعنى، وأعْنِي من حيث تستحيل جميعًا — بحسب تلك الآلية — إلى مَقولات، أو حتى جواهر، جامدة تكتسب دلالتها الحقة من المُفارِق وحده، بل وتتأدَّى إلى ما يمكن اعتباره اضمحلالًا ومَواتًا للأصل ذاته، وأعْنِي من حيث لا يَعْرِف الأصل، بحسبها، إلا واحدية الحضور وثبات الجوهر وتمامه، وليس من شكٍّ في أن مثل هذا الضرب من الحضور للأصل، كان لا بد أن يُعجزه عن التفتح عن الممكِنات الكامنة في صميم بنائه بما هو أصل يؤسِّس — بحسب مَحْض تعريفه — لغيره، وبما يعنيه ذلك من ضرورة أن يكون قادرًا، عبْر ما يطويه من تلك المُمكِنات في جوفه، على أن يسع غيره، بل والعالم، خارجه، ويتسع بهما في آنٍ معًا، وإلا فإن الاضمحلال والتلاشي إلى مُجرَّد أيقونة، هو ما لا بد أن ينتهي إليه هذا الأصل لا محالة.
•••
إذا كان المُقتبس من «داعية الحداثة» على رأس هذه الكلمة الأخيرة، يكشف عن تبلور الحداثة العربية، بدورها، ضمن أُفق آلية التفكير بالأصل، وبما يعنيه من تبديها كآليةٍ عابرة للقرون ومتعدِّية لها، فإن هذا التعدي لم يكن ليتحقق إلا مع اتساع مفهوم الأصل ليتزود، إلى جانب حمولته التراثية (نصًّا أو خبرًا أو تجربة)، بحمولةٍ تنتمي إلى سياق الحداثة الأوروبية، التي استحالت، بحسب تلك الآلية، من مشروعٍ مفتوح وتجربة مشروطة (تاريخيًّا ومعرفيًّا) إلى نموذجٍ مكتمل ومجاوِز لأي شرط، وجاهز للاشتغال في أي سياق، وإلى حد ما صار إليه هذا الداعية العربي (الذي لا بد أن تَقْطَع مُسيحِيَّتُه، ذات الدلالة في هذا السياق، بأن الفعل الذي يفكر به ليس من مُتعلِّقات الإسلام كدِين، بل إنه أحد ثوابت ثقافة سادَت باسمه) من استحالة تصوُّر نهضة عالمه، إلا احتذاءً واتباعًا له (أي النموذج الأوروبي المكتَمِل)، وعلى نحوٍ لا يختلف فيه مع سَلَفِه القديم، إن ذلك يحيل إلى أن تبلور الحداثة، في السياق العربي، كنموذج/أصل، لا يقبل بشيءٍ إلا الإذعان والخضوع، لا يرتبط بجوهرها، الذي يكاد يَتعارَض مع هذه الطبيعة التَّسلُّطية، بقدر ما يرتبط بمقارَبتها بحسب تلك الآلية، وبقدر ما انحرفَت هذه الآلية بالحدَاثة عن جوهرها، فإنها قد أورثتها طابعها المُشوَّه الذي لم تعرف سواه في عوالم العرب.
وهنا فإنه إذا كان التزامن القائم بين نموذج الحداثة الجاهز وواقِع العرب البائس، لا ينبغي أن يطمس حقيقة انتماء الواحد منهما إلى تاريخٍ ثقافي مغايِر بالكلية لذلك الذي ينتمي إليه الآخر (وبما يعنيه ذلك من أن التزامن بين شيئين في لحظةٍ زمانية، لا يعني انتماءَهما إلى ذات اللحظة التاريخية)، فإن هذا التغاير لم يكن ليسمح إلا بالفرض القسري لنموذج الحداثة الجاهز من أعلى، على الواقع البائس في الأدنى، وبالطبع، فإن هذا الفرض القسري للجاهز قد استلزم الحضور المستبِد لسلطة القاهر، وأعْنِي من حيث يكاد حضور «القاهر» أن يكون أحد تداعيات فرض «الجاهز». ومن هنا أن الحداثة في العالم العربي لم تُجاوِز كونها مجرَّد قناع لدولة العسف والاستبداد، التي لم تزل تَحكم للآن، إن ذلك يعني أن الممارَسة السياسية الاستبدادية، التي استحالت إلى خصيصةٍ بِنيوية للدولة العربية الراهنة، إنما تجد ما يفسرها في السطوة المتخفِّيَة لآلية التفكير بالأصل، ولعل ذلك يتأدَّى إلى الطابع الإشكالي لمعضلة الاستبداد العربي، الذي سعى العرب — ولا يزالون — لتجاوزه بممارسةٍ ديمقراطية، تتأسس بحسب آلية في التفكير، تنطوي، هي نفسها، على الجذر الأعمق — وربما الأبعد — للاستبداد.
وإذ يَئُول ذلك إلى أن القناعة المهيمنة لآلية التفكير بالأصل، لا تتجاوز حدود التراث إلى الحداثة فحسب، بل وتتعدَّى حدود الثقافة إلى السياسة، فإن ذلك يعني أن الارتداد بها من فضاء المقدَّس الذي تتحصن وراء أستاره، إلى الشرط الإنساني المؤسِّس لها في الواقع، إنما يفتح الباب، بما يعنيه من إمكان تجاوزها والتحرُّر من أحابيلها، أمام تحرير فضاء الثقافة والسياسة، الذي يكاد أن يكون الشرط اللازم لانبثاق خطاب جديد، يقدر به العرب على التأثير في العالم حقًّا.