الفصل التاسع

«مُستنسَخون» في حجرة الدراسة

حتى الآن انصبَّ تركيزنا على مفعول التأثير الجيني على التحصيل الدراسي والقدرة والإعاقة، والآن نلتفت إلى البيئة، لا سيما بيئات التعلُّم التي يتعرَّض لها الأطفالُ بمدارسهم، ونطرح تساؤلًا حول مدى الفارق الذي يشكِّله فعليًّا ما يحدث داخل المدرسة أو حجرة الدراسة. ينبغي أن يكون هذا تساؤلًا بسيطًا، لكنه ليس كذلك.

بحلول عام ٢٠٠٥، بعد استكشاف المهاراتِ الثلاث الأساسية والأساسِ العلمي لها على مدار عدة سنوات في إطار دراسة التطور المبكر للتوائم، لم نتوصَّل إلى علاقات ذات دلالة إحصائية بين بيئة المدرسة والتحصيل الدراسي، ولم يرجع ذلك إلى أننا عَدِمنا المحاولة؛ فقد سألنا آلاف الأطفال والآباء والمدرسين عن سعة حجرات الدراسة، وعن مباني المدرسة ومواردها كالكتب وأجهزة الكمبيوتر، وعن الفوضى في حجرات الدراسة، وعن عددٍ كبيرٍ من العوامل الأخرى التي كثيرًا ما يوردها أحدهم؛ ومع ذلك عندما غذَّيْنا الدراسات الموجَّهة جينيًّا بالأفكار التي منحونا إياها، لم تَرْقَ هذه العوامل إلى شيء مؤثِّر؛ أي إنها لم تفسِّر تقريبًا أيًّا من الاختلافات بين أطفالنا في تحصيلهم الدراسي، وبَدَا أن البيئة داخل المدرسة لا تؤثِّر على أداء الأطفال الدراسي. وقد أقَضَّتْ هذه النتائج مضاجعَنا، ودفعتنا بمرور الوقت إلى كتابة هذا الكتاب، لكنها دفعتنا قبل أي شيء إلى بذل جهدٍ أكبر في المحاولة. أيحتمل أن مقاييسنا لم تكن موجَّهةً بالشكل الكافي؟ أيحتمل أننا أغفلنا شيئًا ما؟

سبق أن علمنا أن التأثيرات المهمة على الأرجح غير مشتركة، وأن أبسط سبيل للتعرُّف على التأثيرات البيئية غير المشتركة يكون بالنظر إلى الاختلافات بين التوائم المتطابقين. وهذا ما قرَّرْنا القيام به؛ فباستخدام التوائم المتطابقين، بإمكاننا ضبط الآثار الجينية؛ فإنْ كان يوجد اختلاف في تحصيلهم الدراسي، فلا بد أنه بسبب البيئة.

في تلك الفترة قَدِم لزيارتنا البروفيسور ديفيد ألميدا، وهو عالم نفس من جامعة ولاية بنسلفانيا. والبروفيسور ألميدا خبيرٌ في دراسات المذكرات؛ فبدلًا من طرح سؤال واحد على الناس عن أنفسهم، يطلب منهم الكتابة بانتظامٍ (يوميًّا أو حتى عدة مرات في اليوم) عن أنشطتهم وأفكارهم ومشاعرهم، ويرى أن التجارب التي تسبِّب مشاكلَ في الحياة هي التجارب الصغيرة التافهة المتراكمة؛ التجارب التي تستنزف قوى المرء. ويعكس أسلوبُ المذكرات الضغوطَ الكامنة في حياة الناس اليومية، وهو مُغرَم باقتباس مقولةٍ منسوبةٍ إلى تشيكوف: «أيُّ أبلهٍ يستطيع مواجهة أزمة طارئة، إن الحياة اليومية هي التي تستنزفك.»

عادةً ما يُجرِي البروفيسور ألميدا أبحاثَه على أشخاصٍ في منتصف العمر، يحملون على عاتقهم، بدرجات متفاوتة، مسئولياتِ العمل والأبوَّة والرهونات العقارية والمشاكل الصحية والفواتير ورعاية آبائهم المسنين، ولم يفاجئه وجودُ قدرٍ كبيرٍ من الضغوط التي يمكنه دراستها. وبينما نناقِش معه مشكلتَنا، خطَرَ في بالنا أن منهجيةَ المذكرات التي يستخدِمها ربما تتيح لنا الاقترابَ من خبرات الصغار بالمدرَسة أكثر من الاستبيانات التي استخدمناها حتى حينها. وفي عصرٍ يُقال لنا فيه إن ضغوط مرحلة الطفولة في ارتفاع، ستمكِّننا هذه المنهجية من دراسة تأثير الخبرات الناجمة عن الضغوط بالمدرَسة. وربما يؤدِّي تطبيقُ أسلوبٍ أعمق إلى مساعدة الصغار على تحديد الجوانب التي تنقصهم من خبرة المدرَسة؛ المكون السحري الذي يؤدِّي إلى إنجاح وظيفة المدرَسة.

بالتعاون مع البروفيسور ألميدا صمَّمْنا مفكرةً تقيس بيئةَ المدرسة لإرسالها إلى التوائم المتطابقين الذين نُجرِي عليهم الدراسة، وبدأ شعورنا بالتفاؤل يزداد بعض الشيء. كانت خطتنا تضمُّ البدءَ بالتحدُّث إلى عينةٍ من ٥٠ زوجًا من التوائم المتطابقين، أو نحو ذلك، كلَّ يوم دراسي لمدة أسبوعين، وخطَّطْنا لنسألهم الأسئلة نفسها كلَّ يوم، ثم نحلِّل البيانات لنرى هل اتَّسَقَتْ إجاباتُهم مع تقارير مدرِّسيهم عن تحصيلهم الدراسي أم لا.

بدأنا بوضع المقياس الذي سنستخدمه من أجل مقابلاتنا اليومية لمناقشة المذكرات؛ بدأنا بسلسلة من الأسئلة حول ضغوط الأقران بالمدرسة، ومنها: «هل تشاجرتَ مع تلميذٍ بالصفِّ اليومَ؟»، «هل تعرَّضْتَ للاستبعاد أو التجاهُل من قِبَل أحد الأشخاص اليومَ؟»؛ ثم انتقلنا إلى الضغوط الدراسية: «هل واجهتَ صعوبةً في فهم شيءٍ في الصفِّ اليومَ؟»، «أَلَم تسلِّم فرضًا منزليًّا كان المفترض أن تسلِّمه اليومَ؟»؛ كما أعدَدْنا قائمة بالأسئلة عن العلاقات بالمدرسين: «هل دعاك مدرِّسُك للإجابة على أسئلة اليومَ؟»، «هل وبَّخَكَ مدرِّسك اليومَ لعدم انتباهك بالصفِّ؟» وعلى الرغم من أننا شعرنا بأن الضغوط من المحتمل أن تكون جانبًا مهمًّا من خبرة المدرسة، لم تُجْرَ دراسته في دراسةٍ موجهة جينيًّا من قبلُ، فقد أردنا التركيز كذلك على الجانب الإيجابي من التعليم الرسمي بطريقة جديدة؛ ولهذا استخدمنا المفهومَ النفسي «التدفُّق».

كان عالم النفس ميهاي تشكسنتميهاي أولَ مَن وصف مصطلح «التدفُّق»، وهو معيار لمدى استغراقنا في الأنشطة التي نمارسها، وإلى حدٍّ ما هو معيار للسعادة، على الأقل طوال الفترة التي يستغرقها النشاط المعني. ويصف تشكسنتميهاي الشخصَ «في حالةِ التدفُّق» بأنه مستغرِق بعمقٍ في نشاط يجده ممتعًا، ولا يشعر بالملل، ولا يضطر إلى بذل أي مجهود كي يركِّز فيه. ووضع «استبيانَ التدفُّق» الذي يبدأ بثلاثة اقتباسات: الأول من متسلِّقِ جبالٍ، والثاني من مؤلِّفٍ موسيقيٍّ، والثالث من راقصةٍ؛ كلٌّ على النحو التالي:

عقلي لا يشرد، لا أفكِّر في أي شيء آخَر، أنا منخرط تمامًا فيما أفعله، لا يشعر جسدي بما يسوء، لا أسمع أيَّ شيء، يبدو أنني معزول عن العالم، أنا أقلُّ إدراكًا لنفسي ولمشاكلي.

بعد قراءة هذه الاقتباسات، يُسأل المجيبون على الاستبيان إن كانوا قد شعروا بمشاعر مشابِهة، وعن الأنشطة التي حضَّت على هذه المشاعر (تشكسنتميهاي وتشكسنتميهاي، ١٩٨٨)؛ وبذلك يتعرَّفون على أنشطتهم «التدفُّقية» التي يمكن أن تكون غيرَ تقليديةٍ مثل تسلُّق الجبال، أو تقليديةً مثل غسل السيارة، ثم يُجِيبون على سلسلةٍ من الأسئلة عن الأنشطة «التدفُّقية» التي تعرَّفوا عليها. وقد قرَّرْنا ملاءمةَ استبيان تشكسنتميهاي من أجل دراستنا، وحدَّدْنا اللغةَ الإنجليزية والرياضيات والعلوم كأنشطة «تدفُّقية» محتمَلة، وخطَّطنا لسؤال التوائم بدراستنا عن مدى شعورهم بالتدفُّق في هذه الدروس كلَّ يومٍ، عبر سؤالهم عن مدى اتفاقهم مع سلسلةٍ من الجُمَل المتعلِّقة بالتدفُّق، على سبيل المثال: «أشعر بالاستغراق»، «أشعر بالقلق»، «عرفت بالتحديد ما ينبغي لي فعله»، «شعرتُ بالملل».

وفي النهاية، قرَّرْنا اختتامَ مقابلاتنا اليومية عن المذكرات بمقياسٍ مختصرٍ وسريعٍ نوعًا ما مكوَّنٍ من سؤال وحيد — لأن هذه كانت دراسةً رائدةً وكانت الفرصةُ سانحةً للتجريب — فكنَّا نطلب من التوائم أن يصفوا يومَهم الدراسي برقمٍ من ١ إلى ١٠؛ حيث كان الرقم ١ يعني أسوأ يومٍ مرُّوا به، والرقم ١٠ أفضل يومٍ.

ما إن أصبح المقياسُ جاهزًا وتمَّ اختبارُ جدواه على عينةٍ صغيرة من الأطفال، حتى بدأ المحاوِرون التابعون للدراسة الاتصال بعينةٍ ممثلة اجتماعيًّا من أُسَر توائم دراسة التطور المبكر للتوائم، الذين يرعون توائم متطابقين في العاشرة من عمرهم؛ لسؤالهم عمَّا إن كانوا يودُّون المشاركة. وكانت الاستجابةُ إيجابيةً، ونموذجًا للعطاء المستمِر من الأُسَر المشتركة بدراستنا. وعلى مدار أسبوعين، كان المحاوِرون يتحدَّثون إلى ٦٠ توءمًا أو نحو ذلك كلَّ مساء بعد المدرسة، وطلبوا من مدرِّسيهم تقييمَهم من حيث تحصيلهم الدراسي في اللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم. وتمَّتْ تغذيةُ قاعدةِ بياناتنا بالاستجابات مباشَرةً، وانتظرنا على أحر من الجمر على أملِ ظهورِ علامةٍ واضحة على الكيفية التي تؤثر بها البيئةُ داخل المدرسة على التحصيل الدراسي (آسبري وآخرون، ٢٠٠٨).

إلا أن العلامة لم تظهر، وإنْ توخَّيْنا القسطَ فسنقول إنه في اليوم الأول الذي عملنا على مجموعة البيانات الجديدة المثيرة للاهتمام التي حصلنا عليها، أصابتنا خيبةُ أمل كبيرة؛ إذ كانت توجد علامات هنا وهناك على خبراتٍ بَدَتْ كما لو كانت مهمةً، قليلًا على الأقل، إلا أننا لم نتوصَّل إلى أي اكتشاف. إلا أننا عندما عدنا نجرُّ أذيالَ الفشل وقد انهارت معنوياتنا، اكتشفنا مصابيحَ خافتةً في الطريق المعتم.

جاء بصيصُ النور الأول من حقيقة أنه على الرغم من أن ضغوط الأقران والضغوط الدراسية وضغوط المدرسين لم يثبت ارتباطُها بالتحصيل الدراسي بوجهٍ عامٍّ؛ فقد كانت مرتبطةً ارتباطًا سلبيًّا بالتدفُّق لدى الأطفال، وبمشاعرهم الإيجابية حيال اليوم المدرسي. وظهر أن الضغوط بالمدرسة مرتبطةٌ سلبيًّا بالسعادة بالمدرسة؛ وكانت نسبةُ علاقات الاقتران بين ضغوط الأقران والضغوط الدراسية من ناحيةٍ والتدفُّق من ناحية أخرى، نسبةً ذات دلالة إحصائية. لم تكن النسبةَ التي شرعنا نبحث عنها، لكنها كانت بدايةً.

لكن ما كنَّا معنيِّين به تحديدًا هو إيجاد علاقاتِ اقترانٍ ذات دلالة إحصائية بين الاختلافات في خبرة المدرسة والاختلافات في التحصيل الدراسي لدى توءمَيْن متطابقَيْن. ولأنَّ كلا الطفلين في زوج من التوائم المتطابقين يشتركان في جيناتهما كافة؛ فأي اختلافات بينهما لا بد أن البيئة هي ما تسبَّبَ فيها. وإذا اقترنت الاختلافات في خبرتهم مع الاختلافات في تحصيلهم الدراسي، فهذا يعني أن الخبرة المعنية تعمل كمؤثر بيئي غير مشترك. ونحن نستند في عملنا إلى افتراضِ أن المدرسة حافلةٌ بالتأثيرات البيئية غير المشتركة على أغلب جوانب السلوك، وعلى التحصيل الدراسي بشكل خاص.

عثرنا بالفعل على بعض علاقات اقتران ذات دلالة إحصائية؛ فبدايةً اكتشفنا أنه إذا تعرَّض أحد التوءمَيْن المتطابقَيْن لضغوطِ أقرانٍ أكثرَ ممَّا تعرَّض له التوءم الآخَر، قلَّت احتمالات تعبيره عن الشعور بالسعادة أو بالاستغراق أو بالتدفُّق خلال دروس اللغة الإنجليزية. لكن على الرغم من أن الطفل الذي يواجِه صعوباتٍ أكثر مع أقرانه كان أقلَّ سعادةً في حصص اللغة الإنجليزية، لم يَعْنِ هذا بالضرورة أن أداءه كان أقلَّ كثيرًا منهم؛ فلم توجد علاقة اقتران على مستوًى ذي دلالةٍ إحصائية بين اختلافات التوائم المتطابقة في مشاكل الأقران أو التدفُّق، وبين اختلافات التوائم المتطابقة في التحصيل الدراسي للغة الإنجليزية. ربما ظهرت هذه النتيجة لأن تقييمات المدرسين التي استخدمناها كانت بالغةَ البساطة، ما منعها أن تعكس الاختلافات الصغيرة؛ أو لأن عينتنا كانت بالغةَ الصِّغَر، ما منعها أن تعكس علاقات الاقتران ذات الدلالة الإحصائية؛ أو لأنه لا يوجد أي رابط على الإطلاق. فعلى سبيل المثال: منحنا المدرسون تقييمات مثل ٣ أو ٤ أو ٥، في حين أن التلاميذ يجري تقييمهم في الواقع على مستويات ٣أ أو ٣ب أو ٣ج أو ٤أ أو ٤ب أو ٤ج، ويُنتظَر من التلاميذ التحسُّن بمقدار مستويَيْن فرعيَّيْن تقريبًا كلَّ عام. وعمليًّا هذا يعني أنه إن كان أحد التوءمين بمستوى ٤أ، والآخَر بمستوى ٤ج، فالأول متقدِّم عن الثاني بعامٍ بأكمله، إلا أن بياناتنا لم تتمكَّن من إظهار ذلك. إلا أنه حتى مع القصور الكبير لبساطة تقييمات المدرس وصِغَر حجم العينة، فإن علاقة الاقتران بين الاختلافات في ضغوط الأقران والاختلافات في التحصيل الدراسي للغة الإنجليزية، كانت بالغةَ القُرْب من تحقيق دلالة إحصائية؛ ولهذا السبب سنحتفظ بالبيانات من أجل الدراسة الكبرى التي نخطِّط لإجرائها في أقرب وقتٍ. ونحن متفائلون تفاؤلًا حذرًا إزاء إيجاد علاقة ذات دلالة إحصائية بين مشاكل الأقران والتحصيل الدراسي.

بعد ذلك اكتشفنا أن الاختلافات بين التوائم المتطابقة في ضغوط الأقران ترتبط ارتباطًا ذا مدلول بالاختلافات لدى التوائم المتطابقين في التحصيل الدراسي للرياضيات؛ بحيث كان الطفل الذي عانَى من مشاكل أكثرَ يؤدِّي أداءً أقلَّ في الرياضيات. وكذلك ارتبطَتِ الاختلافات بين التوائم المتطابقين في «التدفُّق» في دروس العلوم ارتباطًا ذا مدلول بالاختلافات بينهم في التحصيل الدراسي للعلوم. وتشير هذه الأبحاث — وإنْ كانت الإشارة بشكل غير قاطع — إلى أن مساعدة الأطفال على التحكُّم في علاقاتهم ومشاعرهم حيال أية مشكلات في إطار هذه العلاقات (والقول أسهل من الفعل بالتأكيد)، وإيجاد سُبُل كي يستغرقوا بعمق في الدروس، لا سيما دروس العلوم؛ قد يكون لها تأثير كبير على التحصيل الدراسي، بمعزل عن الحمض النووي الذي يحمله كل طفل؛ وهذا أمر غير واضح لكنه واعد، ويوفر لنا مجالًا للعمل عليه.

وفي أبحاث أحدث، كنَّا نتحدَّث إلى آباء التوائم المتطابقين الذين تتراوح أعمارهم بين ١٦ و١٨ عامًا، محاوِلين البحثَ عن سبب الاختلافات في مستوى أدائهم بالشهادة العامة للتعليم الثانوي. ومن الجدير بالإشارة أننا لم نَرَ اختلافاتٍ كبرى كثيرة بين نتائج امتحانات التوائم المتطابقين؛ ما يؤكِّد ما توصَّلَتْ إليه أبحاثُنا في سنٍّ مبكِّرة أن الجينات بالغةُ الأهمية في تطوُّر التحصيل الدراسي. إلا أننا نرى بالفعل بعض الاختلافات؛ ما يشير إلى تأثيراتٍ بيئيةٍ مهمة، والأُسَر المعنِيَّة كثيرًا ما تذكر نظريةَ الأقران؛ فعلى سبيل المثال: تحدَّثْنا إلى والدَيْ توءمَيْن متطابقَيْن يبلغان من العمر ١٧ عامًا: دانيال ومارك (ليسا اسمَيْهما الحقيقيين). حقَّقَ مارك ١٠ درجات، تنوَّعَتْ بين (أ) و(ﺟ) في مواد الشهادة العامة للتعليم الثانوي، وكان يدرس المستويات أ،1 ويأمل في الالتحاق بالجامعة لدراسة تكنولوجيا الموسيقى. أما دانيال فتمكَّنَ من اجتياز أربع موادَّ في شهادةٍ عامةٍ للتعليم الثانوي بدرجات تراوحت بين (أ) و(ﺟ)، والتحق بكليةٍ للحصول على دورة مهنية، لكنه فشل في العام الأول وأصبح عاطلًا عن العمل ويبحث عن وظيفة تتيح تدريبًا عمليًّا. وهذه اختلافات بالغةُ الضخامة في التحصيل الدراسي، ومن المحتمل أن يكون لها تأثيرٌ كبير على الاختلافات بين خبرات الولدَيْن في مرحلة الرشد. وفي الواقع، بدأت الاختلافات بالفعل في الظهور، ولكن ليس بالضرورة على النحو الذي نتوقَّعه؛ فمارك يمرُّ بضغوط أكبر ولا يخرج كثيرًا لأنه قَلِق من التخلُّف عن صفِّه، في حين أن دانيال يقضي وقتًا طويلًا بصالة اللياقة البدنية، ويستمتع بحياة اجتماعية نَشِطة. عندما تحدَّثْنا إلى والدَيْهما، كان ردُّهما المباشِر أن مارك بذلَ مجهودًا أكبر ببساطة وجنى ثمارَ هذا، وقالَا: «ضيَّعَ دانيال وقتًا طويلًا في اللهو، وأصبح مهرِّجَ الصف.» لكن لا يزال أمامنا تفسيرُ تمتُّعِ أحد التوءمين بأخلاقياتِ عملٍ أقوى من أخلاقياتِ عملِ الآخَر.

عندما ناقشنا، بتفصيلٍ أكبر، الاختلافاتِ بين خبرات دانيال ومارك والتحصيل الدراسي لكلٍّ منهما، اكتشفنا أن الولدَيْن كانَا في فصلين دراسيَّيْن منفصلين طوال المدرسة؛ ما وفَّرَ فرصةً كبيرةً لوجود خبرات غير مشتركة. وفي أول عامين بَدَا أنهما يحسِّنان الأداء بشكل متساوٍ، إلا أنه بنهاية المدرسة الابتدائية، كان مارك يتفوَّق على أخيه باستمرارٍ. وعندما طلبنا من والدَيْهما التفكيرَ في هذه النقطة قليلًا، سارَعَا إلى عَزْو الأمر إلى تأثير الصداقات. وعلى الرغم من أن دانيال ومارك كانَا «صديقَيْن مقرَّبَيْن منذ مولدهما»، وكان لديهما بعض الأصدقاء المشتركين، فقد كانا يتحرَّكان بوجهٍ عام في دوائر مختلفة جدًّا، و«الأمر كله رهن الصحبة من حولك». وقد وصفَا أصدقاء مارك بأنهم أطفالٌ متحمِّسون وأذكياء، أما أصدقاء دانيال فكانوا محبِّين للمرح وغير مكترثين كثيرًا بالوفاء بالمتوقَّع منهم. وهذا مثال واحد فحسب، وكما أوضح آخرون فإن مجموعةً من «القصص» لا تعني توافُر «بيانات». إلا أن الحقيقة تظل أنَّ كثيرًا من الآباء يقلقون بشأن تأثير الصداقات السلبية على أطفالهم، ودراستُنا الرائدة سلَّطَتِ الأضواء على علاقات الأقران بصفتها مصدرًا ممكنًا للتأثير البيئي غير المشترك على التحصيل الدراسي. وفيما يتعلَّق بالجينات، كان ينبغي لِدانيال أن يتمكَّن من تحقيق أي شيء حقَّقه مارك، لكنَّ شيئًا ما — والصداقات أحد الاحتمالات — منعه من ذلك. أُجرِيت بعض أبحاث علم الوراثة السلوكي على الصداقة، وكذلك التنمُّر، وسنستفيد على ما يبدو من استقدامِ هذه الأبحاث إلى السياق التربوي والتفكير فيما يمكن عمله، إن كان هناك ما يمكن عمله، من أجل مساعدة الصغار على إقامة علاقات صداقة صحية، قد يكون لها تأثيرٌ إيجابي على نجاحهم بالمدرسة والاحتفاظ بهذه الصداقات.

(١) الإيجابية والتحصيل الدراسي

في النهاية، نجح أبسط مقاييسنا — أَلَا وهو تصنيف اليوم بأسره على مقياسٍ من ١ إلى ١٠ — وخالَفَ التوقُّعات؛ إذ ارتبطت الاختلافات بين التوائم المتطابقين في متوسط تقييم اليوم ارتباطًا ذا دلالة إحصائية بما بينهم من اختلافات في التحصيل الدراسي في الرياضيات والعلوم. وببساطةٍ، كان التوءم الأكثر إيجابيةً حيال المدرسة يؤدِّي أداءً أحسن في الرياضيات والعلوم. توجد بالتأكيد احتمالية الدجاجة والبيضة، وأن الطفل الذي أحسَنَ الأداءَ بالدروس كان أكثر إيجابيةً حيال المدرسة، لكن العلاقة مثيرةٌ للاهتمام مع ذلك.

إذن، في ختام دراستنا انتهينا إلى الفرضية القائلة بأن الإيجابية حيال المدرسة والتدفُّق في حجرة الدراسة وضغوط الأقران تعمل كمؤثراتٍ بيئيةٍ غير مشتركة على التحصيل الدراسي، كما لاحظنا علاقاتٍ قويةً بين ضغوط الأقران والضغوط الدراسية وبين التدفُّق؛ وفي بعض المواد على الأقل، بين التدفُّق والتحصيل الدراسي؛ ما يشير إلى إمكانية وجود تفاعُل متسلسل. وكذلك لاحظنا أن الضغوط ارتبطت ارتباطًا سلبيًّا بالتدفُّق؛ ما يشير إلى الفرضية القائلة بأن ضغوط الصف الدراسي متصلة بتدنِّي الروح المعنوية، وأن هذا التدنِّي الذي يصيب الروحَ المعنوية، من منطلق التدفُّق والإيجابية، له أثر سلبي غير مباشِر على التحصيل الدراسي. وربما نستفيد من تعليم الأطفال كيف يتعامَلون مع الضغوط ويحقِّقون التدفُّقَ كوسيلةٍ لدفع أدائهم الدراسي. فهذا النوع من «مهارات التفكير» قد يُثبِت كونه جزءًا مؤثرًا من المنهج. وسنتناول هذه الفكرة بمزيدٍ من التفصيل في الجزء الثاني.

(٢) مُستنسَخون في حجرة الدراسة

كان أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في هذه الدراسة، والذي تكرَّرَ مع الدراسات السابقة، أن التوائم المتطابقين في الفصل الدراسي ذاته تمتعوا بخبرات مختلفة داخله واختلفت نظرتهم له. وإنْ تدبَّرْتَ في هذا الأمر فستجده مثيرًا للدهشة تمامًا؛ فهؤلاء الأطفال، على الصعيد الجيني، مُستنسَخون بعضهم من بعض، إلا أن التوءمين عندما نشآ في الأسرة نفسها وتعلَّمَا في حجرة الدراسة عينها، خبرَا العالَمَ بشكلٍ مختلف. وحتى في الفترة القصيرة التي درسناهم فيها، التي امتدت لأسبوعين، أدرَكَ كل فرد منهم أن خبراته مختلفة عن خبرات شقيقه التوءم. وكانت نسبة الاقتران بين كل توءمين أقل من ٠٫٥٠ من حيث ضغوط الأقران والعلاقات مع مدرِّسيهما، وهي نسبة بعيدة كل البُعْد عن ١٫٠٠، وانطبق الأمر ذاته على التدفُّق في دروس العلوم؛ حيث بلغت نسبة الاقتران ٠٫٣٦ فحسب؛ ما يشير إلى أن التمتُّع بدروس العلوم (والعلاقات مع الأقران والمدرسين) يتأثَّر بالخبرات غير المشتركة أكثر بكثير مما يتأثَّر بالجينات أو البيئة المشتركة. وكذلك، علاقات الاقتران بين التوائم المتطابقة فيما يخص الضغوط الدراسية والتدفُّق في فصول اللغة الإنجليزية والرياضيات، والإيجابية حيال المدرسة (في التصنيف اليومي المتوسط) لم تتجاوز نسبة ٠٫٥٠ بكثير. وفي المقابل، كانت علاقات الاقتران لدى التوائم المتطابقين بالنسبة إلى التحصيل الدراسي في اللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم، تدور كلها في فلك ٠٫٨٠؛ ما يشير إلى وجود دور أقوى بكثير للجينات، وربما البيئة المشتركة، في التحصيل الدراسي مقارنة بمدركات الخبرة.

كيف يتسنَّى لتوءم أن يعاني من مشكلات مع فروضه المدرسية (أو يمر بها بشكل موضوعي) ومع علاقاته، بدرجة تزيد عمَّا يمرُّ بها شقيقه التوءم، الذي هو في الواقع مُستنسَخ منه؟ يجب أن تكون الصدفة احتمالًا واردًا للإجابة، كما أن الاختلافات البيئية التي تبدأ في الحمل — الموقع في الرحم وما يصل من المشيمة … إلخ — قد تحوِّل حُزَم الدي إن إيه المتطابقة إلى عوالم متباعدة؛ حيث تعزِّز كلُّ فرصة وخبرة من فردية كل توءم. وما نراه في البيانات، على الرغم من ذلك، هو أن المدرسة تؤدِّي بالفعل وظيفةَ الخبرة غير المشتركة، على الأقل ذاتيًّا، وهي بذلك يمكن أن تؤثِّر على السلوك والشخصية والكثير من الصفات غيرها. إلا أنه لا تتسنَّى لنا معلومات أكثر عن احتماليةِ تأثيرها على التحصيل الدراسي، وكيفيةِ هذا التأثير. وهذا يستلزم دراسةً وبحثًا جادَّيْن، مع الوضع في الاعتبار — كما يُطلِعنا عنوانُ كتابٍ ذائعِ الصيت عن هذا الموضوع — أن الأطفال في العالَم الغربي يقضون «خمسة عشر ألف ساعة» كحدٍّ أدنى من طفولتهم بالتعليم الإلزامي (راتر، مون، مورتيمور، أوستون، ١٩٧٩). وعلى المستوى الشخصي، إنْ فكَّرْتَ في خبرتك التعليمية، فما الأدلة التي تلحظها على التأثير البيئي غير المشترك؟ نحن نتوقَّع أن أغلب الأشخاص سيلاحظون الكثير. هل ألهمك مدرِّس بعينه؟ هل حصلت على دور مهم في مسرح المدرسة أتاح لك عددًا من الفرص؟ هل ادَّعَيْتَ المرضَ كي تمكث بالمنزل لأنك كنتَ تعاني من التنمُّر بالمدرسة؟ هل ترك أفضلُ صديقٍ لك المدرسةَ أو هجرك؟ ثمة فُرَصٌ للتأثير البيئي غير المشترك بكل رواق بالمدرسة، وبكل حجرةِ دراسةٍ بها؛ ويكمن التحدِّي في تعيين كيفية عمل تلك التأثيرات ومناطق تأثيرها. وكما ذكرنا سابقًا، لقد اضطلعنا بهذا التحدِّي في دراسة جديدة، نتحدَّث فيها من جديدٍ إلى التوائم المتطابقين وأُسَرهم، ونهدف إلى اكتشاف جوانب التعليم التي تصنع فارِقًا بحقٍّ في التحصيل الدراسي والسعادة واتخاذ القرار لدى الصغار وهم يستعِدُّون للتخرُّج من المدرسة.

هوامش

(1) A-levels are national exams linked to university admission, usually taken in year 13.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤