تمهيد

ما من مفكِّر أشدُّ إخلاصًا من نيتشه؛ إذ لم يبلغ أحدٌ قبله ما وصل إليه، وهو يسبر الأغوار في طلب الحقيقة دون أن يبالي بما يعترض سبيله من مصاعب؛ لأنه ما كان ليرتاع من اصطدامه بالفجائع في قراراتها أو من انتهائه إلى لا شيء.

إميل فاكيه
عضو المجمع العلمي الفرنسي

هذا هو نيتشه كما صوره فاكيه بعد أن درس عديد مؤلفاته واستعرض فلسفته، وقد جاراه بهذا التقدير أنصار نيتشه وخصومه من كل شعوب أوروبا فإنك لو استعرضت المؤلفات التي كتبها عنه العباقرة العديدون، ومنهم من يعتقد بتخبُّطه على غير هدى، ومنهم من يرى وراء كل جملة من أقواله سورة لا تنجلي معانيها إلا للعقل النافذ والحس المرهف لرأيتهم قد أجمعوا على وصفه بالمفكر الجبار المتجه إلى الحقيقة يطلبها وراء كل شيء حتى وراء المبادئ التي يقول بها.

وما أجمع هؤلاء المفكرون إلا على الصواب في هذا الوصف الذي ارتضاه نيتشه لنفسه؛ إذ قال:

لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصًا في قصده بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المشكك فيه؛ لأن عاشق الحقيقة إنما يحبها لا لنفسه مجاراة لأهوائه، بل يهيم بها لذاتها، ولو كان في ذلك مخالفًا لعقيدته فإذا هو اعترضته فكرة ناقضت مبدأه وجب عليه أن يقف عندها فلا يتردد أن يأخذ بها.

إياك أن تقف حائلًا بين فكرتك وبين ما ينافيها، فلا يبلغ أولَ درجة من الحكمة مَنْ لا يعمل بهذه الوصية من المفكرين.

عليك أن تُصلي نفسك كل يومٍ حربًا، وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني عليك جهودك من اندحار، فإن ذلك من شأن الحقيقة لا من شأنك.

قال نيتشه بهذا المبدأ وعمل به وبالرغم مما يتجلَّى في تعاليمه من غرور وصَلَف، فإنه كان يسير في أبحاثه ولا همَّ له سوى استكشاف الآفاق؛ فيورد اليوم فكرة يكذِّبها غدًا، فكأنه بإنكاره الخير والشر لم يجد بدًّا من إنكار كل عقيدة ثابتة، فإذا أنت أردت أن تسير وراء هذا الفيلسوف طلبًا للعقيدة فلا تتعب نفسك باللحاق به في مراحل يقطعها بخطواته الجبارة؛ لأنه هو نفسه قد أصابه الخبل وبصيرته تائهة في استلهام الحقيقة واستقرائها.

مَنْ قال لك: «إن لا مكتشفَ لحقيقة ذاته إلَّا من يهتف: هذا هو خيري وهذا هو شري فيخرس الخلد والقزم القائلين بأن الخيرَ خيرٌ للكل والشرَّ شرٌ للجميع.»

من قال لك هذا، لا تتوقع منه أن يأتيك بشرعة تقوم مقام الشرائع التي يثور عليها.

إن نيتشه المفكر الجبار الذي يفتح أمام الفرد آفاقًا وسيعة في مجال القوة والثقة بالنفس وتحرير الحياة من المسكنة والذل، تائقًّا إلى إيجاد إنسان يتفوق على إنسانيته بالمجاهدة والتغلب على العناصر والعادات والتقاليد وما توارثته الأجيال من العقائد الموهنة للعزم؛ يقف وقفة الحائر المتردد عندما يحاول إقامة مجتمعٍ لأفراده المتفوقين بل هو يضطر إلى نقض أوليَّاته القائمة على احتقار الرحمة والرحماء حتى ينتهي إلى قوله: «إن العالم الذي يتفوق على الإنسانية إنما يعود بها بعد هذا الجنوح إلى بذل حبه للأصاغر والمُتَّضِعين.»

وهكذا ترى زرادشت الداعي إلى تحطيم ألواح الوصايا جميعها، وإلى إنكار الشريعة الأدبية لإقامة شرعة جديدة ما وراء الخير والشر؛ يعود مفتِّشًا بين أنقاض الألواح التي حطمها على كلمات قديمة يجعلها دستورًا لإنسانيته المتفوقة.

إن نيتشه الذي ذهب إلى أبعد مدًى في تفحص سرائر الإنسان وأهوائه يضيق به المجال عندما يتجه إلى حل المعضلات الاجتماعية؛ لأنه إذا أمكن للفرد المنعزل أن يختطَّ لنفسه منهجًا يوافق هواها باعتقاده أنه هو المبدع لذاته والحركة الأولى لها، فإنه ليمتنع عليه أن يكون عضوًا حيًّا في المجموع إذا هو لم يعترف في علاقته مع إخوانه بأنه ليس مصدرًا لذاته ولا مآبًا لها.

إن من يطمح إلى مثل ما طمح إليه نيتشه من تكوين مجتمع منظم يسود فيه المتفوقون، ولكل منهم شرُّه الخاص وخيره الخاص لا يُوجِد في النهاية إلا مجتمعًا يتفاوت التفوق فيه بين أفراده فيقضي الأقوى منهم على الأقل قوةً منه حتى يقف آخرُ الظافرين منتحرًا بقوته وعنفه كما انتحر إله نيتشه برحمته.

غير أن المبدع لزرادشت لم تفُتْه هذه الحقيقة، فعاد إلى الشريعة الأولى يختلس منها آيتها الكبرى ليوردها وصية لدنياه فقال:

حذار من الطُفْرة في مسلك الفضيلة؛ فعلى كل فردٍ أن يسير في طريقه وإن جنح عن مسلك الآخرين، فلا يطمحنَّ إلى بلوغ الذروة وحده؛ إذ على كل سائر أن يكون جسرًا للمتقدمين وقدوة للمتأخرين.

أين هذه الوصية مما دعا إليه زرادشت في مفكراته نفسها؛ إذ قال:

على أهل السيادة في الإنسانية المتفوقة أن يمهدوا سبل السعادة لمن هم دونهم بتضحية ملذاتهم وراحتهم، وعليهم أيضًا أن ينقذوا من لا يصلحون للحياة بالقضاء عليهم دون إمهال.

بل كيف يتفق القسم الأول من هذه الوصية مع قسمها الثاني؟! ومن له أن يضع مقياسًا يقضي به لمن يصلحون للحياة كما يقضي به على من لا يصلحون لها إذا اتبع القاضي شرعة زرادشت القائل بأن على أتباعه أن تتجلى القوة فيهم من الرأس حتى أخمص القدم.

ولو أن مذهب نيتشه هذا طُبِّق قبل ميلاده لكانت السلطة التي يراها مثلًا أعلى قضت على أبيه وأمه دون إمهال؛ فما كان له هو أن يظهر في الوجود بدماغه الجبار وبسُمِّ الداء الذي جال من دمهما الملوَّث في دمه …

ثم، أفليس هنالك غير هذه الأدواء الطارئة والتي يمكن للعالم أن يكافحها، ما يُقضى على الإنسان بالرضوخ له من حالة في جسمه لا قِبَل له بتبديلها أو تعديلها؟ أفما تحقق الطب أن كل مولود يجيء الحياة إنما يدخلها مستصحبًا معه إليها من سلالته الضعف الذي سيقضي عليه، أفليس في كل دارج على هذه الغبراء علة أو علل كامنة في تكوين أعضائه ستورثه الردى حين تدنو ساعته؟ …

أي جسم مهما ظهر لك صحيحًا ليس فيه عضو هو أضعف الحلقات في سلسلة أعضائه، وفي فراغ مناعته المحدودة انفصام العُرى وبداية انحلال العناصر في هيكله الفاني؟!

أين هو الجسم المنيع الذي يتوق نيتشه إلى إيجاده مربعًا من قمة الرأس إلى أخمص القدم؟!

لقد عمل العالم المتمدن على إيجاده بالرياضة؛ فأوجد الرقاب الغليظة والعضلات المتضخمة مسببًا منها تضخم القلب، وجفاء الطبع، وبلادة التفكير، وانحطام أجنحة الخيال.

يريد نيتشه خلق الإنسان المتفوق جبارًا كشمشون، وشاعرًا كداود، وحكيمًا كسليمان. فهو يكلف الطبيعة ما لا قبل لها به، ويطمح إلى إيجاد جبابرة لا يصلحون لشيء في المجتمع؛ لأن الحيوية لا تنصرف من مختلف نوافذها الجسمية في آن واحد دون أن تقبض على صاحبها لتوقفه من سلم الارتقاء على مرتبة معلقة بين الاعتلاء والانحطاط؛ فيكون منه لا الإنسان المتفوق بل الإنسان «التافه» القصير الحياة والقاصر في كل عمل يباشره.

إن المجتمع لا يقوم من الوجهة العملية على أفراد يحاولون الإحاطة بكل شيء فلا ينالون منها شيئًا.

وليس الحال إلا على هذا المنوال من الوجهة الروحية أيضًا، فإن من تبصر في أحوال الناس وطرائقهم في الحياة، لا بد له أن يسلم أخيرًا بأن لكل شخصية حياتها بما كمن في حوافزها، ولكل شخصية ميتتها بما خفي من أدواء جسمها وعلل إرادتها، وبما وراءها من مقدمات وحولها من نتائج.

إن في الحياة مسالك خطتها الإرادة الكلية وليس للإدارة الجزئية أن تتناولها بتحوير، فمصاعد الرقي للأرواح منتصبة من كل مسلك في عالم الظاهر نحو العالم الخفي، وما خصت العناية أقوياء الجسوم بالارتقاء.

ولرب صعلوك في نظر نيتشه لا يصلح للحياة، ويجب أن يُقضى عليه دون إمهال تتفجر منه قوة لا تراها إلا البصائر النيرة.

من لنا بسبر الأغوار البعيدة القرار لندرك سرَّ التكامل في الذات والحكمة في حد الأشواط لكل روح لتقوم بقسطها من المقدور.

ومن لنا بإدراك سر الضعف والقوة، وقد يكون الضعف في الجسم السليم والقوة في العليل من الأجسام.

إن لكل مخلوق أن يبلو الحياة بما أُعطي من ظاهر الضعف أو ظاهر القوة؛ لأن للصحة محنتها كما للمرض محنته، والأنفس الطامحة إلى مُثُلها العليا سواءٌ أكانت هذه المثل في هذه الحياة أم ما وراء الحياة؛ إنما تتغذى من الجسد ناحلًا عليلًا كما تتغذى منه مليئًا بالنضارة والصحة والبهاء.

إن للحكمة العليا مقياسها في تقدير الجهاد الأكبر على كل نفس، ومن يدري في أية لحظة وبأي مداد من قوة الجسد أو ضعفه تخطُّ الروح الأسيرة آخر سطر من كتابها؟ …

•••

إن محور الدائرة في فلسفة نيتشه إنما هو إيجاد إنسان يتفوق على الإنسانية؛ لذلك تراه يهزأ بكل من عدَّه التاريخ عظيمًا بين الناس قائلًا: إن الجيل الذي يلد العظماء لم يُولد بعد، وأن لا رجل في هذا الزمان يمكنه أن يتفوق على ذاته، وكل ما بوسع الناس أن يفعلوه في سبيل المثل الأعلى هو أن يتشوقوا إليه ليخرج من سلاتهم في مستقبل الأزمان.

وسوف يرى القارئ في الفصول الأخيرة ما هو تقدير زرادشت للرجال الراقين في هذه الحقبة الشاملة لعصره ولعصرنا، فهو يعتبرهم نماذج فاشلة للإنسان الذي يتوقع نشوءه، غير أن زرادشت وهو يتكلم بلهجة الآمر الناهي ويرسم للحياة طرقها بخطوط متفرقة إن لم تجمعها أنت بقيت حروفًا منتثرة لا معنى لها؛ لا يقول لنا بصراحة ما يجب أن نفعله لنصبح جدودًا لأحفاد تصلح بهم الحياة، ولكن من يعوِّد بصيرته على مجاراة نيتشه في الرؤى التي يهيم فيها يستوقفه قوله:

إن ما فطرنا عليه هو أن نخلق كائنًا يتفوق علينا، تلك هي غريزة الحركة والعمل.

ثم يستوقفه في موضع آخر قوله:

إنني لم أجد امرأة تصلح أمًّا لأبنائي إلا المرأة التي أحبها.

فإذا ما وقف المفكر عند هذا يعرف ما هي تلك الفطرة التي يراها دافعة للإنسان إلى التفوق على ذاته وأَنساله.

وما تكون تلك الفطرة إن لم تكن حافز الحب الصحيح، وفي أعماقه غريزة الانتخاب تجتذب الزوجين إلى اتصال يشدد أحدُهما فيه ما وهَن في بنية الآخر.

ولولا أننا درسنا مليًّا مسألة اعتلاء الأمم وانحطاطها نبحث صحة النسل واعتلاله في فصل «منابت الأطفال»، من كتابنا «رسالة المنبر إلى الشرق العربي» لكنا نثبت هنا أن إيجاد الإنسان الكامل في إنسانيته، لا الإنسان المتفوق على نوعه كما يريد نيتشه، إنما يقوم على مجاراة حوافز الاختيار الطبيعي في الزواج باعتبار كل شهوة جامحة وكل طمع يسكت هاتف الاختيار سواءٌ في الرجل أو المرأة جناية على الإنسانية.

هذا، وإننا لا نجد بدًّا من نقل بعض فقرات من فصل منابت الأطفال تأييدًا لهذه الحقيقة:

إن الإنسان لا يريد الانقياد للانتخاب الطبيعي فهو يطمح إلى تحكيم اختياره في حوافز لا يعلم منشأها، فيعمد الرجل إلى استيلاد المرأة أطفالًا تتجلى فيهم كوامن علله وعلل المرأة التي يرغمها إرغامًا بدلًا من أن ينقاد إلى الانتخاب الطبيعي الذي تتذرع به الطبيعة للغلبة على العاهات والأمراض وللقضاء على حوافز الخبل والإجرام.

•••

إن الولد المختل العليل إنما هو الضحية البريئة تصفع الطبيعة به أوجه الرجال الفاحشين والنساء الطامعات المضللات.

•••

ومما لا ريب فيه أيضًا أن الطبيعة في حرصها على طابع الأبوين في الأبناء تطمح دائمًا إلى الجمع بين رجل وامرأة يصلح أحدهما ما أفسدت الحياة في الآخر، ولا يقف طموح الطبيعة عند حد إصلاح الأعضاء، بل هو يتجه خاصة في الإنسان إلى إصلاح ما تطرق من عيوب إلى صفاته الأدبية العليا، ولعل في هذا بعض التفسير لسيادة الإيقاع بين رجل وامرأة تخالفت أشكالهما وأوضاع أعضائهما ومظاهر قواهما الأدبية والعقلية، فقد لا تجد مصارعًا قوي العضلات يعشق مصارعة مثله ولا فيلسوفًا يتولَّه بفيلسوفه، ولكَمْ وقف المفكرون مندهشين أمام امرأة فاضلة تحس بانجذاب نحو رجل متلاعب محتال أو بارعة في الجمال تندفع إلى الالتصاق برجل قبيح. إن بعض العشق ينشأ من حنانٍ خفي في الطبيعة يشبه عطف الطبيب المداوي على العليل المستجدي الشفاء …

•••

إن المفكرين يثورون على الشبان الذين يقدمون على الزواج وفي دمائهم سموم وفي مجاري نطفة الحياة منهم صديد، ومن الأمم من سنَّت القوانين الصارمة لمنع زواج المبتلى بالعلل الزهرية وبالجنون محافظة على صحة النسل، ولكنني لم أقر لمفكر رأيًا في الحيلولة دون الزواج الآلي المجرد عن كل عاطفة، ويتراءى لي أن طفلًا يجني أبواه عليه بإيراثه دمًا أفسدته الأمراض لهو أقل شقاء بنفسه وأقل إضرارًا بالمجتمع من طفل يرث من أبويه عهر العاطفة وضلال الفطرة.

لقد تشفي العقاقير أبناء العلل ولكن أي دواء يشفي الطفل الذي زرعه توحش الرجل المفترس في أحشاء المرأة المنكسرة الذليلة؟ إن مثل هذا الطفل لن يكون إلَّا وحشًا كأبيه أو عبدًا ذليلًا كأمِّه.

•••

إن من الحب ما ينشأ عن الحياة الجسدية حاجة ملحَّة متقلبة كالحياة نفسها، وفي النساء كما في الرجال أناس حبهم أشبه بالجوع والظمأ يتهافتون على أية مائدة ويرتوون من أي ينبوع، وماذا عساه يفهم من الحب من يرى المحبوب مائدة وينبوعًا؟ قلَّ من الناس من يدرك أن مَنْ أنكر على المحبوب شخصيته التي لا تُستبدل فقد أنكر هو ذاته شخصيته التي يحس بها.

•••

لا صلاح لأمة فسدت منابت أطفالها، وهذه عِبَر التاريخ ماثلة لعيان من يريد أن يرى.

أفما كانت كل الأمم التي اندثرت واستُعبدت تمر أولًا في مرحلة تدني الأخلاق وانطلاق الشهوات عابثة بأشرف ما خلق الله في الإنسان.

•••

سوف يأتي يوم، وهو غير بعيد، تتنبَّه المدنية فيه إلى أن الرجل المتفوق الذي ينشده العلماء في الغرب لن يخلق لهم من التمرين لقوى العقل وقوى الجسد، ولا من فحص خلايا المتزوجين بالمجهر حتى ولا من تلقيحهم بالمواد الكيماوية أو تطعيمهم بغدد القرود.

إن الرجل الكامل أو الأقرب إلى الكمال إنما هو ابن الحب الكامل، فالمحبة وحدها هي السبيل المؤدي إلى إدراك الحق والقوة والجمال.

لندع العالم المتمدن يفتش في علومه ونهضة مفكريه على هذا الحب الذي تخيله ماركس متجليًا في الحرية التامة للناس في أهوائهم فجاءت البلشفة تثبت انخداع هذا الفيلسوف في نظرياته، ليفتشوا أنهم لن يتصلوا في تجاربهم إلا إلى العبر الزاجرة المؤلمة.

أما نحن، أبناء هذا الشرق الذي انبثق الحق فيه انصبابًا من الداخل بالإلهام لا تلمسًا من الخارج، فلنا المسلك المفتوح منفرجًا أمامنا للاعتلاء والخروج إلى النور بعد هذا الليل الطويل، إذا نحن أخذنا بروح ما أوحاه الحق إلينا.

لا بترقية الزراعة والصناعة، ولا بنشر التعليم والتهذيب ولا بجعل البلاد جنةً ثراءً وتنظيمًا، تنشأ الأمة ويخلق الشعب الحر السعيد.

إن الجنين الذي يحمل أسباب شقائه، وهو في بطن أمه لا يمكنه أن يصير رجلًا حرًّا قويًّا يفهم حقيقة الحياة ويتمتع بالعظمة الكامنة فيها.

إن الاهتمام بإيجاد الطفل الصالح أولى من العمل لإعداد العلم والتهذيب لطفل نصقل مظاهره صقلًا وتنحطم كل محاولة للنفوذ إلى علته المستقرة فيه منذ تكوينه.

•••

ليس الفقير المتسول، ولا العليل المتألم، ولا الشيخ الهرم يتمشى بلا سند إلى قبره، ليست المرأة المستعبدة بلقمة، ولا الفتاة المخدوعة المنطرحة على أقذار المواخير، ليس كل هؤلاء الناس الأشقياء في الحياة بأشقى من الأطفال يجور عليهم آباؤهم وأمهاتهم قبل أن يقذفوا بهم إلى الوجود، ويرهقونهم بالقطيعة والإهمال بعد أن يدرجوا عليها بأقدامهم الناحلة المتعثرة …

الرجل الذي يمسخ حبه الواحد شهوات متعددة، والمرأة التي تتقصف متهتكة ماسخة هيكل نسمات الله مركعًا لنفايات البشر من عباد الخيانة والطيش، إنما هما آدم وحواء مطرودين من الجنان إلى أرض الجهود المضيَّعة والآلام المحتمة، ومَنْ يدري أن حديث معصية الأبوين ليس رمزًا لخيانة الحب، تلك الخيانة التي تنزل اللعنة بمرتكبيها وبأبنائهم من بعدهم …

ويلٌ للرجل الذي يهدم بيديه سعادته وسعادة أبنائه، وويل للمرأة التي تدنس منبت أطفالها.

ليس في تمهيد موجز كهذا مجال لبحث فلسفة نيتشه التي أشغلت كبار كتاب القرن التاسع عشر، ولم يزل الفلاسفة يكتبون عنها إلى اليوم، غير أن ما تناولناه إلمامًا من نظريات نيتشه يكفينا لتحديد ما يجب أن نغفله منها دون أن ننتقص من قدر هذا العبقري لأنه اقتحم أسرار الكون معتمدًا ذاته فعاد عن هذه الأسرار مدحورًا، وهل من كاتب قبله أو بعده تمكن من حل ألغاز الوجود والوقوف منها عند عقيدة صريحة تستغني عن الإيمان بالقوة الخفية المتعالية عن التعليل والتحليل؟

حسْبُ نيتشه في موقف حيرته، وما هي بالدرجة الوضيعة على سلم التفكير، أن يهتك سريرته أمامك دون أن يلجأ إلى إعمال السفسطة لإيجاد وحدة ظاهرية وتناسبٍ مزيف في صرح تفكيره، حسبه أنه اندفع وراء المثل الأعلى الكامن في «إرادة القوة» تبعًا لتعبيره وفي نفس الإنسان الخالدة تبعًا لعقيدة المؤمنين، فبسط أمام المفكرين من مشاهد المجتمع ومن مسالك الأرواح على معابر الأرض ما لم يلمحه سواه من المنشئين.

•••

إن ما نرانا بحاجة إلى الوقوف عنده من فلسفة نيتشه في كتاب زرادشت، الذي لم تفته قضية اجتماعية لم يقل فيها كلمةً كان لها دويُّها في العالم الغربي، إنما هو هذه المبادئ التي تجتثُّ ما غرست قرون العبودية في أوطاننا من استكانةٍ حولت إيمانها إلى استسلام في حين أن روح شرعتها يهيب بالنفس إلى الجهادين في سبيل الوطن والإنسانية جمعاء.

إن الدين الذي يهاجمه نيتشه إنما هو صورة لأصل شوهها الغرب، وما علَّم هذا الدين أنَّ الحياة معبر على المؤمن اجتيازه، وهو مُعْرِض عن كل ما حوله معلِّق أبصاره على باب قبره، بل علَّم أنَّ الحياة مرحلة من أشواط الآزال والآباد وما تطهر أنفس لم تحترق بنار الحياة أجسادُها، ولم تُعِدَّ صلاحًا لباقياتها بإصلاح زائلاتها.

ليس نيتشه إذن مبدع فكرة التكامل للإنسان على الأرض؛ فإن التكامل مبدأٌ جعلته الأديان السماوية أساسًا لكل وصية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، غير أن الدين قد أراد للإنسان تكاملًا روحيًّا يهيئه إلى إدراك بارئه وراء المحسوس في حين أن نيتشه، وقد أنكر ما لا تقع الحواس عليه، أراد أن يفلت الإنسان من حدود إنسانيته على هذه الأرض فيجعلها جنة خلد يستوي عليها بجبروته إلهًا …

وقد غرب عن هذا الفيلسوف أن المخلوقات كلها في سلسلة الوجود لا تملك الانعتاق من حدود أنواعها، ومهما كرَّت القرون وتعاقبت الأجيال لا يمكن للجماد أن يفلت من مملكته إلى مملكة النبات، ولا للنبات أن يجتاز حدود مملكة الحيوان، ولا للحيوان أن يجتاح مملكة الإنسانية.

لذلك كان الذاهب في طلب إنسان يتفوق على الإنسانية كالمحاول استنبات الشجرة حيوانًا أو استبدال الحيوان إنسانًا.

لقد كرت القرون على مبدأ التاريخ الذي نعلم وعلى ما لا نعلم من حقبٍ كرت ما وراءه، والإنسان لم يزل هذا المخلوق الدائر أبدًا ضمن حلقة إنسانيته.

لقد كان نيتشه من المعتقدين باستحالة الأنواع حين صرخ بلسان زرادشت وهو يخاطب الحشد في الساحة العمومية: «لقد كنتم من جنس القرود فيما مضى على أن الإنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود في قرديته.»

ولكنه بالرغم من هذا يصرح بأن هذا النوع القردي، وهو الإنسان لم ينسلخ عن أصله فكيف زيَّن له خياله أن في هذا النوع إنسانًا فائقًا لا يزال كامنًا منذ البدء ينتظر قدوم فيلسوف في أواخر القرن التاسع عشر يستجلي هذا الجبار ويبعثه بإرادة جديدة تتسلط لا على الحاضر والمستقبل فحسب بل على ما مرَّ وتوارى أيضًا في عاصفات الأحقاب؟ …

•••

إن بدعة الإنسان المتفوق إنما هي في تقديرنا تشوُّق نفسٍ شعرت بأنها كانت وستكون، وقد ضرب الإلحاد حولها نطاقًا فتوهمت أنها ستبلغ في هذه الحياة ما ليس من هذه الحياة.

إن نيتشه يعلن إلحاده بكل صراحة، ويباهي بكفره غير أننا لا نكتم القارئ الكريم أن ما قرأناه بين سطوره، وقد مررنا بها كمن عليه أن يتفهم كل معنى ويستجلي كل رمز، يحفز بنا إلى القول بأننا لم نرَ كفرًا أقرب إلى الإيمان من كفر هذا المفكر الجبار الثائر الذي ينادي بموت الله، ثم يراه متجليًا أمامه في كل نفس تخفق بين جوانح الناس من نسمته الخالدة، فإن هذا الملحد بالرغم من اعتقاده بأن الجسد هو أصل الذات وأن الروح عَرَض لها وبأنَّ كلا الروح والجسد فانيتان، لا يملك نفسه من الهتاف وهو يؤكد عودة كل شيء واستمرار كل شيء فيقول: أوَّاه كيف لا أحن إلى الأبدية وأضطرم شوقًا إلى خاتم الزواج، إلى دائرة الدوائر حيث يصبح الانتهاء ابتداءً. إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أمًّا لأبنائي إلا المرأة التي أحبها؛ لأنني أحبك أيتها الأبدية.

إنني أحبك أيتها الأبدية.

أين هذه الهتفة الرائعة تصدو في أعماق روح تتطير من الزوال من ابتسامة الملحد الصفراء، وهو لا يرى وراءه وأمامه إلا العدم والزوال بل يكاد يرى وجوده خدعة وخيالًا كاذبًا.

إن فلسفة لا تستنيم لفكرة الفناء ولا ترى في النهاية إلا عودة إلى بداية ليست بالفلسفة الجاحدة، فالمفكر المؤمن بإنسانية عليا تتدرج إلى الكمال حتى ولو قال بألوهية الإنسان على الأرض لا يمكنه إلا أن يؤمن في قرارة نفسه بكمال مطلق تتشوق روحه إليه ما وراء هذا العالم.

•••

ولا بد هنا من إيراد تاريخ موجز لحياة هذا الفيلسوف، وليس في حياته القصيرة وهي مليئة بالآلام من الحوادث ما يستحق التدوين غير المراحل التي مر عليها تفكيره فتأثر بها، وهل نيتشه إلا فكرة وهل حياته إلا وقائع ميادينها السطور والصفحات.

ولد هذا العبقري الثائر سنة ١٨٤٤ في بلدة روكن من أعمال ألمانيا، وكان أبوه واعظًا بروتستانيًّا من أسرة بولونية هجرت بلادها في القرن الثامن عشر على أثر اضطهاد شرَّد منها أشياع كنيسة الإصلاح.

وما بلغ فريدريك الخامسة من عمره حتى مات أبوه، فكفلت أمه تربيته وتربية أخته فأرسلته إلى مدرسة نومبورغ، ثم انتقل منها سنة ١٨٦٤ إلى كليتي بون وليبسيك حتى إذا بلغ الخامسة والعشرين من عمره سنة ١٨٦٩ تجلى نبوغه فعُين أستاذًا للفلسفة في كلية بال.

بعد سبع سنوات؛ أي سنة ١٨٧٦ ظهرت عليه أعراض «الزهري الوراثي» فحكمه صداعٌ شديد أضعف بصره فبقي يلقي الدروس حتى سنة ١٨٧٩؛ إذ اضطر إلى الاستعفاء ليذهب متنقلًا بين روما وجنوا ونيس وسيل ماريا وهو يُعمِل الفكر ويكتب مصارعًا علته عشر سنوات، فلا هو يبرأ منها فيحيا، ولا هي تجتاح دماغه الجبار فيموت إلى أن جاءته سنة ١٨٨٩ بالفالِج مقدمة للجنون فتوارى سنة ١٩٠٠ بعد أن سبقته إلى الموت عبقريته العليلة وإرادته الوثَّابة الجبارة.

•••

ذلك كان فريدريك نيتشه، مجسم القوة المفكرة التي دارت بها النائبات، وحاصرتها الأوجاع، وتصادمت مع تيارات الفلسفات التي كانت تهبُّ في ذلك العهد في ألمانيا وفي أوروبا بأسرها حاملة للعالم مبادئ تضعضع العقل وتهزُّ المجتمع بتقويضها كل عقيدة تقيم أمام الإنسان غاية لحياته.

فقد كانت أفكار فيخته وشللينغ وهيغل وشوبنهور تهب جميعها ناشرة في أوروبا مزيجًا من مذاهب القدرية والعدمية ووحدة الوجود والإرادة الحرة، فقال شوبنهور: إن روح الوجود قوة طائشة عمياء أدركت نفسها في عقل الإنسان وشعوره فوجم حائرًا وفي نفسه ظماء في صحراء لا ماء فيها غيرُ وهج السراب. ولم يجد هذا الفيلسوف من علاج لهذه العلة غير التمرد على الحياة نفسها بترك ملذاتها، والالتجاء إلى الزهد وانتظار الفناء في ما يشبه النيرفانا وهي القوة التي تتلاشى كل شخصية فيها.

وكانت الفلسفة الدينية تقاوم هذه التيارات للاحتفاظ بالعقيدة المسيحية بأبحاث لاهوتية ينسجها حول تعاليم عيسى رهطٌ من المفكرين كنويمن وكورليج وكارليل وشلير ماخر وبيارلرو وجان باينو وشارل سكريتان وأضرابهم فزجوا بالإنجيل في مآذق مجادلات ليست منه وليس منها في شيء، وهل خطر لذلك المعلم الإنساني وهو يدعو إلى تطهير النفس ومقاومة الظلم والأخذ بالرحمة وإقامة الإخاء بين بني الإنسان أن ينشئ مدرسة للتعليل عن مظاهر الكون ومنشأ الروح والانعكاسات من الآفاق والانطباعات في السرائر، بل هل خطر له أن يبحث علاقته بالله وعلاقته هو وحده أو هو وأب الخليقة كلها بروح القدس؟

•••

وأُخذ نيتشه بهذه التيارات تهب من كل جانب على فكره الوقاد تلهبه الآلام، وتثير تشوقه إلى حال يعلل فيها سبب وجوده وهدف صبره وجهاده.

إن الرجل المتمتع بصحة الجسم وبشيء من العزم يكتفي من هذه الحياة بما تعطيه فإذا آمن بالله واليوم الآخر وقف عند إيمانه هذا مرتاحًا إلى ضميره، وإذا أخذ بفلسفة الجحود رضي بهذه المرحلة من شعوره بذاته وطلب أوفر تمتع بأقل جهد.

ولا يسطو القلق الفكري بخاصة في حالة الحيرة من أمر هذه الحياة إلا على الإنسان الذي يؤدي ثمنًا باهظًا من أوجاعه لكل لذة يختلسها كالسارق من قوته الأسيرة في ضعفه الجائر.

إن مثل هذا الإنسان، إذا عززته القوة الخفية بالحس المرهف، يطالب الدنيا ببدلٍ لِما يبذل فيها فيستنطق نفسه والآفاق ليعلم ما إذا كان لهذه الإنسانية المعذبة المجاهدة ما يبرر محنتها وجهادها.

وفريدريك نيتشه كان ذلك الإنسان فما أرضته من الفلسفة اللاهوتية تلك الأحاجي التي أُحيطت المسيحية بها، وما كان ليرضى من جهة أخرى بهذه القوة الهوجاء التي صورها شوبنهور موجدة لإنسان لم يُعط له إلا التصور لإقامة أشباح تتراقص حوله وهي غير كائنة إلا في وهمه.

ونظر نيتشه إلى الوجود فرأى وراء صوره المتحولة مادة تتعالى عن الاندثار فنشأت فيه فكرة العودة المستمرة، وبدأت صورة زرادشت ترتسم في ذهنه حتى استكملها فأنشأ كتابه في أوقات متقطعة من سنتي ١٨٨٣ و١٨٨٥ في فترات كانت تسكن فيه حدَّةُ دائه أو هو يسكِّنها بما كان يتناوله من جرعات الكلورال المخدر، وهو نفسه يقول إنه كتب كلًّا من الأجزاء الثلاثة الأولى من زرادشت في مدى عشرة أيام كان فيها مأخوذًا بإلهامه خاضعًا لقريحة تحكمت فيه فلم يستطع مقاومتها حتى أرهقته إرهاقًا.

إذا نحن عرفنا هذا تجلت لنا العوامل التي ألقت على زرادشت وشاح الأحلام، فإن نيتشه يقبض في فصوله على مشاعر قارئه ليمر به على رؤى يتسامى الخيال فيها إلى أوجه مفلتًا من رقابة القوى الواعية، فكأنه يسير بمطالعه في عالم أحلامٍ تُبعث أشباحها من انطباعات القوى الواعية، ولكنها تتبع في مرورها وحركاتها ما نحسبه تضعضعًا في عالم القوى الساهية المجهولة.

•••

لقد ماشينا نيتشه في حلمه وهو يستعير لعقله الباطن أو لسريرته أو لفكرته الساهية اسم زرادشت الفارسي الذي قال بالخير والشر كقوتين تتنازعان حياة الإنسان، فرأينا زرادشت المزيف لا يقلد الأصلي باتخاذه أتباعًا له وباقتباسه لهجة حكماء الشرق إلا ليعارض فكرة الخير والشر قائلًا: إنها نشأت دخيلة على الإنسانية وإنَّ ليس لهذه الإنسانية أن تتفوق على ذاتها إلا بإنكار الخير والشر وتحطيم ألواح الشرائع المقدِّرة لقيم الأعمال؛ لأن كل شعب اشترع لنفسه ما لا يتوافق واشتراع جاره.

ولكن نيتشه المتلبِّس خيال زرادشت في رؤياه لم ينتبه إلى أنه يرتكب تناقضًا بينًا في دعوته؛ إذ ينكر ما يراه من خير وشر طلبًا لحالة جديدة يراها هو خيرًا يريد أن يتسلح به للقضاء على شر ينكر وجوده.

ولو كانت الحقيقة كامنة وراء الخير والشر كما يدعي زرادشت الجديد أو بتعبير آخر لو أن هنالك حقيقة مجردة عن الخير فلماذا يطلب زرادشت هذه الحقيقة، وهو يعلن أنها الخير كل الخير للإنسانية إذا هي أدركتها؟

•••

إن تحديد الخير والشر في الكلمات العشر إنما هو أساس كل شرعةٍ تكفل حق الفرد ونظام المجموع.

لقد تتناقض الأحكام التي تستنُّها الحكومات والجماعات في مجال الأزمان مستوحاة من حالة مؤقتة تدفع إليها حاجةٌ ملحَّة، فتُكتب ألواحٌ تُستبدل بتبدل الوضع والملابسات، ولكن السُّنن التي تُستلهم من الشريعة الموحى بها لا يمكن أن تتعارض إذا هي سلمت من دخيلات الأوضاع الإنسانية، وكل شرعةٍ أصيلة تحتفظ بطابع مصدرها تتوافق حتمًا وكل شريعةٍ تحدرت مثلها من ذلك الأصل.

إن زرادشت الجديد لم يجُلْ في مسارح حلمه فاتحًا لسريرته مجالات التفكير إلا وهو يحتفظ بانطباعاتٍ من تواريخ الأمم القديمة الوثنية، وبصور متناقضة من القوانين التي أبدعتها حكومات الغرب وجماعاته ونقاباته الصناعية والمالية فتمثلت هذه السُّنَن أشباحَ ألواحٍ تتراقص عليها ألوانُ البِدَع، فما وسع زرادشت إلا أن يثور عليها ويدعو أتباعه إلى تحطيمها.

أما اللوحان الأوَّلان وكلمة عيسى بأن يعامل الإنسانُ أخاه بما يريد أن يعامله أخوه به والشريعة الأحمدية التي جاءت على أساس هذا المبدأ بخير الكليات تُستنبط منها الأحكام لكل جماعة ولكل زمان، فإن زرادشت لم يبحثها مع أن نفسه كانت تصبو إليها لشعوره بوجودها وراء أقنعة النظم التي أسدلها الغرب على مجتمعاته، وإذ كان لم يتميزها فما ذلك إلا لأن دماغه كان يتصدع بما حُشر فيه من فلسفة اليونان القديمة ومن مشاحنات أعلام عصره الذين شُغلوا بالجدل والمماحكات المنطقية المجردة حتى أتوا بنظريات تورث الدوار وتبلبل الفكر فيضطر من ألمَّ بها إلى نبذها جميعًا؛ لأنها كدود القبور يلتهم بعضها البعض الآخر بعد أن تتغذى من جيفة لا حياة فيها.

•••

وفي هذا الحلم يسير زرادشت هادمًا كل ناموسٍ ونظام؛ لينبئ الناس بالخلود وبقاء الذات في وجودٍ شبَّهه بالساعة الرملية ينقلب أبدًا قسمها المفرغ لاستفراغ قسمها الممتلئ.

ولا يطمعنَّ القارئ في الظفر من زرادشت بما يثبت هذه العقيدة الراسية على خلود مبهم وعودة أشد إبهامًا؛ لأنه لن يظفر منه بغير صور يلمحها لمحًا في بيان شعري يتلبس الفلسفة دون أن يكون فيه أثر لأي استقراء أو لأي تعليل فيخرج من استغراقه، وهو لا يدري أيقصد نيتشه من العودة المستمرة ما يتوهمه الملحدون من خلود الآباء في الأبناء، أم هو يرمي إلى عودة الشخصية بالذات ناسية ماضيها تاركة في كل مرحلة من مراحلها جثة تتلوها جثة على مدى الأحقاب.

لقد تمرد نيتشه أمام العدم كما قلنا، وخفيت عنه حقيقة الدين الذي أخذ به الغرب عن عيسى فأحاطه بالمعميات، كما خفيت عنه حقيقةُ ما أُنزل على مُحَمَّدٍ فشوَّهه هذا الغربُ بالافتراء والتشنيع تعصبًا وجهلًا، فوقف مفكرًّا جبارًا لا يستسلم لفكرة العبث في غاية الكون ولا يرضى بالنظم الاجتماعية التي أوجدتها المدنية وأسندتها إلى الدين، وهكذا هب يطلب للإنسانية إلهًا منها يسودها وللأرض معنى أبديًّا يحوِّل كل زوال فيها إلى خلود مستمر التجدد بين الخفاء والظهور في محدود غير محدود …

ولو تسنَّى لنيتشه أن ينفذ حقيقة الإيمان الذي دعا عيسى إليه مكمِّلًا ما جاء به موسى لكان تجلى له إيمانًا بالقوة ترفع الضعفاء لا بالضعف يُسلط عليهم الأقوياء، ولو تسنى له أن يستنير بما جاء به الإسلامُ من مبادئ اجتماعيَّة عمليَّة عُليا تماشي ما جاء به عيسى ولا تنقضه لأدرك أن في الدين الحق دستورًا يهدم كل ما أراد هو هدمه من صروح الفساد في المجتمع ويوجد الإنسان المتصف بمكارم الأخلاق محبًّا للحياة والقوة والجمال والحرية، دون أن يكسر حلقة الإنسانية ويحاول الانطلاق منها، وهو لا يزال يلبس تراب الأرض ويرسف في أغلالها.

ولكن نيتشه باندفاعه إلى معارضة الفلاسفة من معاصريه وبثورته على التفكير الديني والتفكير المطلق في آن واحد؛ رأى أن التكامل لنوال عطف الألوهية الراسخة في الأذهان، والتخلص من عقابها الصارم؛ يقتضي الإعراض عن الزائلات والاستكانة إلى السلطة واعتبار العاطفة الجنسية ملطخة بأوضار الخطيئة الأصلية فثار على هذه الألوهية المزيفة التي عرفها الشرق في أي دور من أدوار وحيه، وهكذا كفر نيتشه بالله فأعلن موته واختناقه برحمته …

هذا هو جحود نيتشه في تعاليم زرادشت، وهو في تقديرنا إذا نحن استنرنا بالدين الحق كما تدركه ذهنيَّتُنا السامية جحود يتجه إلى غير الإله الواحد الأحد ربِّ الناس أجمعين.

بل إننا إذا ذكرنا القاعدة المثلى التي وردت في حديثٍ للنبيِّ الكريمِ على قولٍ أو في كلمة لأمير المؤمنين عمر على قول آخر، وهي: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.»

إذا ذكرنا ذلك، يتضح لَدَيْنا أن نيتشه قد ذهب إلى أبعد مدى في الامتثال للوصية الأولى وقد فاتته الوصيَّةُ الثانية وهي وصيةٌ راسخة في أرواح أبناء هذه البلاد الشرقية العربية، فليس إذن في عظات زرادشت ما يزعزع عقائدنا أو ينال من إيماننا، بل إن فيها ما يتمشَّى والمبادئَ العليا التي اتخذها السلف الصالح أساسًا لإقامة عظمة الدين على عظمة الحياة.

وفي اعتقادنا أن نيتشه قد فاق كل كاتب في تصويره واجب الإنسان نحو الحياة الدنيا؛ لأن العلماء الماديين من جهة اعتبروا الحياة زائلة فما اهتموا لرقي الإنسان الأدبي فيها قدر اهتمامهم بإطالة حياته وإيلائه التنعم الأوفر بالجهد الأقل، ولأن المفكرين المؤمنين، من جهة أخرى، ما كان بوسعهم أن يفكروا للأرض ويحصروا كل جهد فيها كأنها دارُ قرارٍ؛ لأن العمل للأرض ليس إيمانهم كله بل هو نصف إيمانهم، أما نيتشه فبعد أن أقفل على تفكيره وخياله كل نافذة يمكن للروح أن تتطلع منها إلى السماء، وبعد أن تاقت نفسه إلى الخلود فاستنزله كمعنى لهذه الأرض كما يقول جاعلًا هذا التراب وطن الإنسان الدائم، لم يسعه إلا توجيه كل قواه لتصور إنسانيةٍ تتمتع بكل ما يمكن اعتصاره من الدنيا وتبلغ عليها من الرقي مرتبة الألوهية.

•••

تلك حقائق لم تفت ثلاثةً من أعلام الشرق العربي أهابوا بنا إلى ترجمة زرادشت، ونشره في هذه البلاد لتسديد عزم الشبيبة في هذه المرحلة التي يتوقف على نهضتنا فيها مستقبلنا واستعادة أمجاد تاريخنا. أولئك الثلاثة هم: المغفور له السيد مصطفى صادق الرافعي فقيد الشرق والعروبة والإسلام، والأستاذ حافظ عامر بك قنصل مصر العام في الآستانة مؤلف رسالة الحج التي كان لها دويٌّ في أوساط المفكرين، والأستاذ أحمد حسن الزيات القابض على آداب الغرب باطلاعه وتفكيره والرافع عَلَمَ الآداب الشرقية بقلمه، وقد تفضل الأستاذ المشار إليه فنشر في مجلته الرسالة أكثر من ربع الكتاب في مدى سنة، ولولا تقديرنا أن الزمان سيطول على نشره برمته لما كنا بادرنا إلى طبعه كاملًا مستقلًّا.

•••

إن ما دعانا وأصحابنا المشار إليهم إلى تقرير ترجمة زرادشت هو أننا نظرنا إلى فلسفته من الوجهة الملامسة للمبادئ الدينية الاجتماعية التي تتجه إلى إحياء حضارتنا القديمة على أساسها، وقد رأينا أن هذا المؤلَّف الفريد في نوعه ليس من الكتب التي تُنقل إلى بياننا لما لها من قيمة فلسفية وأدبية فحسب، بل هو من الكتب التي يجدر بالناشئة العربية درسها كما يدرسها طلاب الجامعات في كل قطر أوروبي، فإن كتاب زرادشت قد أثر التأثير الأكبر على تطور الحركة الفكرية في أواخر القرن التاسع عشر في عالم الغرب، واشتمل من المبادئ على ما كان ولا يزال محور الخلاف المستحكم بين ذهنيته وذهنية الشرق العربي بوجه خاص، ولقد مضى على ظهور هذا الكتاب زهاء نصف قرن، ولم يكن العالم العربي في ذلك العهد على اتصال وثيق بالحركة الفكرية الغربية؛ فلم يُسمع في هذه البلاد بنيتشه وفلسفته إلا بمقالات موجزة، وكل ما عُرف عنه هو أنه يدعو إلى التحرر من ربقة الأوهام واطراح الزهد واليأس والاتجاه إلى إيجاد الإنسان المتفوق.

ولعل المفكرين يسلمون معنا بأن خلوَّ المكتبة العربية من هذا المؤلف الفريد الذي ترجم إلى جميع اللغات الحية؛ فاتُّخذ أنموذجًا بين أبنائها للصراحة والإخلاص في طلب الحقيقة؛ يُعدُّ نقصًا في هذه المكتبة، وُيسجِّل قصورًا علينا، لذلك اقتحمنا إعارة بياننا لكتاب زرادشت الذي قالت فيه الموسوعة الكبرى إنه لا يعد أروع ما كتب نيتشه فحسب، بل أروع ما كُتب في اللغة الألمانية على الإطلاق.

•••

ولا بد في ختام تمهيدنا من إِلفات المفكرين إلى فصل من كتاب زرادشت عنوانه: «بين غادتين في الصحراء» وفيه نشيد لخيال زارا فإننا وقفنا عنده مليًّا؛ لأنه من نوع البيان المستغرق في الرمزية فلا يفهمه القارئ إلا بحسه الكامن وقد لا يتفق اثنان على تأويله تأويلًا واضحًا جليًّا.

ولو أننا ترجمناه بالحرف لجاء كأحد الرسوم التي ابتدعها أنصار التكعيب يقف المشاهد أمامها فلا يدري أجبلًا يرى أم شجرة أم إنسانًا.

لذلك اضطررنا إلى إملاء بعض الفراغ بين الخطوط، وإلى الالتجاء لكسر النتوءات عند نقل بعض المكعبات المبهمة الصارمة، فجاء هذا النشيد أقرب إلى البيان المألوف دون أن يخرج عن أصله الرمزي الذي يحتاج إلى كثير من الاستغراق في تفهم معانيه.

وحاذرنا أن نكون تجاوزنا حد الخطوط الأصلية في النقل فرجعنا إلى عالم معروف من علماء الغرب ممن أحاطوا بفلسفة نيتشه وذهبوا إلى حد بعيد في تحليلها، وهو حضرة الدكتور روبرت ريننجر الأستاذ في جامعة فينا نعرض عليه ما رأيناه في رموز نشيد الصحراء، ونسأله إقرارنا على ما أصبنا فيه وتصحيح ما قد نكون ضللنا في تبيانه، فوَرَدَنا جوابُه مؤرخًا في ١٩ أبريل من هذه السنة وفيه يقول:

إنني أرى خلاصة معنى النشيد في فقرته الأولى المكررة في آخره وهي: «إن الصحراء تتسع وتمتد فويلٌ لمن يطمح إلى الاستيلاء على الصحراء.» فإن نيتشه قد رمز بالصحراء إلى الوجود القاحل الذي لا غاية له، وقد أتيت على بحث هذا الرمز في كتابي «جهاد نيتشه من أجل معنى الحياة وغايتها».

أما سائر ما في النشيد فأراه يرمي إلى وصف أجواء الصحراء المتمتعة بالحرية، وهي بابتعادها عن المعمور تولي أبناءها الحياة الساذجة الطاهرة على نقيض ما تورثه ثقافة أوروبا الشمالية من الخشونة والكثافة.

أما كلمة «صلاة» فقد أصبتم في ترجمتكم إياها: «حيَّا على الصلاة.»

هذا، وقد يكون النبيُّ محمدٌ هو المرموز إليه بأسد الصحراء ونذيرها حسب تأويلكم.

لقد سرَّنا وايم الله أن يوافقنا هذا العالم على تأويلنا، وإن يكن ذهب في تفسير اتساع الصحراء وامتدادها إلى غير ما ذهبنا إليه فقد كنا صارحناه بأن ما فهمناه من اتساع الصحراء وامتدادها وتهديد مَنْ يطمح للاستيلاء عليها إنما هو انبعاثُ الإيمان الحق بالفضائل العليا وتمرُّدها على الجحود والتضعضع في الحياة.

وقد كان دليلنا على صحة مذهبنا ما ورد في النشيد من صراحةٍ تؤيدنا خاصة في الفقرة الأخيرة وهي:

ارتفعْ يا مظهر الجلال ولتهبَّ مرة أخرى نسمة الفضيلة.
ويا ليت أسد الفضائل يزأر أيضًا أمام غادات الصحراء فإنه أقوى ما ينبه أوروبا ويحفز بها إلى النهوض.
وها أنذا ابن أوروبا لا يسعني إلا الخشوع لدويِّ هذه الآيات البيِّنات.

للعالِم الأوروبي تأويله ولنا تأويلنا، وللصحراء في بلاد العرب رموزها فلندع للأزمان تأويلها ولنكرر ما جاء في نشيد الجاحد الطامح إلى الخلود:

إن الصحراء تتسع وتمتد فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء على الصحراء.

إن عبير الشرق لا يضوع من نشيد الصحراء فحسب، بل هو يفوح من كل حكمة ينطق بها زرادشت أمام مشاهد التضعضع الأوروبي، ولسوف يقف رجال العلم من أبناء الضاد عند كثير من أقواله، فيعرفون فيها آية من الآيات التي أُوحيت لأنبيائهم أو أُلهمت لحكمائهم أو حديثًا لذلك الأُمِّيِّ الأعظم الذي تناول أدقَّ القضايا الاجتماعية فردها إلى مكارم الأخلاق؛ ليحلَّها جميعًا.

إننا ونحن نخطُّ هذه الأسطر نتذكر صديقنا فقيد الشرق المغفور له السيد مصطفى صادق الرافعي، الذي قلَّ مَنْ جاراه في تفهم دين الله والشعور بالقومية العربية ووحدة الإنسانية. إننا لنذكره ونحس بما كان يمكننا أن نستمده من ثقافته العريقة ومعارفه الواسعة من آياتٍ وأحاديث وحكم يتجلى فيها ما أجمع مفكرو الغرب على الخشوع أمامه من نظرات زرادشت الصائبات في اتجاهات العالم المتمدن وفي طلب رقي الإنسان والإهابة به إلى العمل في الأرض كأنه خالدٌ عليها لا يموت.

غير أننا إذا كنا حُرمنا الآن من هذه النجدة في كتابة تمهيدنا هذا فلن تُحرم البلاد أعلامًا يقومون بهذا الواجب نحو مهبط وحي الله ومنبت العباقرة من السلف والمعاصرين.

فليكس فارس
الإسكندرية في ٢٠ / ٩ / ١٩٣٨

لقد اخترنا إيراد اسم زارا بدلًا من زرادشت تخفيفًا، وأتينا في سياق الترجمة بردود علقناها على الهامش حيث رأينا لزومًا لذلك.

figure
فليكس فارس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤