إهداء

إلى حضرة صاحب السعادة أسعد باسيلي باشا

سيدي الأستاذ

إن حياتك الأدبية التي ولجتَ منها إلى حياة الأعمال لمَّا تزل تسيطر على حوافزك وتراود تفكيرك وعواطفك، فإنك وإن أصبحت من رجال المشروعات التجارية الكبرى تُحكِمُ إعدادَها وتنفيذها ما برحت تحتفظ بطابع الفيلسوف في وضع نظريات عملك وبطابع الشاعر في تقدير الحياة والتمتع بها، في حين أن عقم التفكير وجفاف الطبع يسيطران على معظم رجال الثروة بخاصة في هذه الأقطار التي لم تزل في بدء نهضتها، ولم يجمع الارتقاء بعد في طبقتها الموسرة بين حكمة إنماء الثروة وحكمة التمتع بما في الحياة من مباهج التفكير والشعور والتضامن الإنساني.

لقد أردت أن أنشر في بلاد العرب كتاب «زرادشت» الذي صدم به نيتشه الفيلسوف الألماني الأشهر تياراتِ الفلسفات المتناقضة منذ نصف قرن في أوروبا موجِّهًا الإنسان إلى تلمس مواطن القوة في نفسه لإنشاء الجبابرة في المجتمع، فإذا باسمك يُفرض على قلمي فرضًا لأتوِّج به هذا الكتاب، وقد حقَّ عليَّ أن أورد الأسباب التي حفزت بي إلى تقديمه إليك، لا لأبرر عملي تجاه تواضعك، بل لأبرئ نفسي من اختيار تعسفي قد يُحمل على محمل التزلف وما أنا مَنْ يتدنى إليه ولا أنت من يؤخذ به.

لقد بدأتَ حياتك في شبابك بتعهد تعليم الناشئة وتهذيبها في مسقط رأسك، ثم بارحتَ مطارح ظِلال الأرز حيث كان الحكم المطلق الجائر يصدُّ العبقريات عن مصاعدها، ولجأتَ إلى وادي الملوك أنت ورفيقك المرحوم فرح أنطون فقيد الوثبة الأولى نحو النور في تطور التفكير الحديث، وما تحولتَ عن هذا الرفيق إلى مراكض جهودك حتى تركت في جامعته طابع نفسك الحرة وتفكيرك العميق، وإنك لتذكر، ولا ريب، تقريركما ترجمة «زرادشت» إلى العربية والصفحات المعدودة التي أعار فيها فرح بيانه الجزل للفيلسوف الألماني فسايره في أجوائه وأغواره. فأنت وفرح رأيتما قبل كل أحد في فلسفة نيتشه ما تحتاج النفوس المتواكلة إليه من حزم وانطلاق، كما أدركتما أن إلحاد هذا الفيلسوف لن يؤثر في إيمان الشرق؛ لأنه لا يستند إلا إلى شكوك نشأت من حالة خاصة بالغرب وأنَّ القوة وحدها التي نحتاج إليها في نهضتنا ستنسرب من كتابه الخالد إلى بياننا في كتاب تفتقر المكتبة العربية إليه بعد أن تُرجم إلى لغات الدنيا وطالعه المفكرون من كل الشعوب.

لقد أردتُ بهذا البيان أن أبرر تقديم ترجمتي لزرادشت إليك في نظر القراء لا في نظرك؛ لأنك تعلم أن هذا الكتاب إنما هو تحقيق حلم رأيته أنت ورفيقك القديم وتنفيذٌ لرغبة لم تزل مكبوتةً في خفايا سريرتك، وإنني لأرى في المرحلة التي قطعتَها منذ ذلك العهد ما يزيدك رغبة في نشر زرادشت في بلادك بعد أن تيقنت باختبارك وأثبتَّ بحياتك نفسها وهي مجلى الثقة بالنفس والإيمان بالخير أن الجبار الذي حَلمَ به نيتشه عاملًا لدنياه كأنه لا يموت أبدًا إنما يستكمله الجبارُ الآخر الذي يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا.

الإسكندرية في ٢٠ / ٩ / ١٩٣٨
فليكس فارس
figure
حضرة صاحب السعادة أسعد باسيلي باشا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤