مستهل زرادشت

١

لما بلغ زارا الثلاثين من عمره هجر وطنه وبحيرته وسار إلى الجبل حيث أقام عشر سنوات يتمتع بعزلته وتفكيره إلى أن تبدلت سريرته، فنهض يومًا من رقاده مع انبثاق الفجر وانتصب أمام الشمس يناجيها قائلًا: لو لم يكن لشعاعك مَن يُنير أكان لك غبطةٌ أيها الكوكب العظيم؟ منذ عشر سنوات ما برحت تشرق على كهفي، فلولاي ولولا نِسْري وأُفْعُواني، لكنت مللت أنوارك وسئمت ذرع هذا السبيل، ولكننا كنا نترقب بزوغك كل صباح لنتمتع بفيضك ونرسل بركتنا إليك، أَصغِ إليَّ، لقد كرهتْ نفسي حكمتي كالنحلة أتخمها ما جمعت، فمن لي بالأكف تنبسط أمامي لأهب وأغدق إلى أن يغتبط الحكماء من الناس بجنونهم ويسعد الفقراء منهم بثروتهم.

تلك هي الأمنية التي تهيب بي للجنوح إلى الأعماق، كما تجنح أنت كل مساء منحدرًا وراء البحار حاملًا إشعاعك إلى الشقة السفلى من العالم، أيها الكوكب الطافح بالكنوز.

لقد وجب عليَّ أن أتوارى أسوة بك، وجب عليَّ أن أرقد على حد تعبير الأناسي الذين أهفو إليهم.

باركني — إذن — أيها الكوكب، فأنت المقلة المطمئنة التي يسعها أن تشهد ما لا يُحد من السعادة دون أن تختلج كمقلة الحاسدين.

بارك الكأس الدهاق تسكب سلسبيلًا مذهبًا ينثر على الآفاق وهجًا من مسراتك.

انظر! إن هذه الكأس تريد أن تندفق ثانية، وزارا يريد أن يعود إنسانًا.

وهكذا بدأ جنوح زارا إلى المغيب.

٢

وانحدر زارا من الجبال فما لقي أحدًا حتى بلغ الغاب حيث انتصب أمامه شيخٌ خرج من كوخه بغتة ليفتش عن بعض الجذور والأعشاب، فقال الشيخ: ليس هذا الرحالة غريبًا عن ذاكرتي، لقد اجتاز هذا المكان منذ عشر سنوات، ولكنه اليوم غيره بالأمس.

لقد كنتَ تحمل رمادك في ذلك الحين إلى الجبل، يا زارا، فهل أنت تحمل الآن نارك إلى الوادي؟ أفما تحاذر يا هذا أن ينزل بك عقاب مَن يضرم النار؟

لقد عرفت زارا، هذه عينه الصافية، وليس على شفتيه للاشمئزاز أثر، أفما تراه يتقدم بخطوات الراقصين؟

لقد تبدلت هيئة زارا؛ إذ رجع بنفسه إلى طفولته، لقد استيقظت يا زارا فماذا أنت فاعل قرب النائمين؟

كنت تعيش في العزلة كمن يعوم في بحر والبحر يحمل أثقاله، وأراك الآن تتجه إلى اليابسة، أفتريد الاستغناء عمن حملك لتسحب هامتك على الأرض بنفسك؟

فأجاب زارا: إنني أحب الناس.

فقال الشيخ الحكيم: إنني ما طلبت العزلة واتجهت إلى الغاب إلا لاستغراقي في حبهم، أما الآن فقد حولت حبي إلى الله، وما الإنسان في نظري إلا كائن ناقص، فإذا ما أحببته قتلني حبه.

فأجاب زارا: ومن يصف لك الحب الآن! إنني لا أقصد الناس إلا لأنفحهم بالهدايا.

فقال الحكيم القديس: إياك أن تعطيهم شيئًا، والأجدر بك أن تأخذ منهم ما تساعدهم على حمله، ذلك أجدى لهم على أن تغنم سهمك من هذا الخير، وإذا كان لا بد لك من العطاء فلا تمنح الناس إلا صدقة على أن يتقدموا إليك مستجدين أولًا.

فأجاب زارا: أنا لا أتصدق؛ إذ لم أبلغ من الفقر ما يجيز لي أن أكون من المتصدقين.

فضحك القديس مستهزئًا وقال: حاول جهدك إذن إقناعهم بقبول كنوزك، إنهم يحاذرون المنعزلين عن العالم، ولا يصدقون بأننا نأتيهم بالهبات، إن لخطوات الناسك في الشارع وقعًا مستغربًا في آذان الناس، إنهم ليجفلون على مراقدهم؛ إذ يسمعونها فيتساءلون: إلى أين يزحف هذا اللص؟

لا تقترب من هؤلاء الناس. لا تبارح مقامك في الغاب، فالأجدر بك أن تعود إلى مراتع الحيوان، أفلا يرضيك أن تكون مثلي دبًّا بين الدببة وطيرًا بين الأطيار؟

فسأل زارا: وما هو عمل القديس في هذا الغاب؟

فأجاب القديس: إنني أَنْظِم الأناشيد لأترنم بها، فأراني حمدت الله؛ إذ أسرُّ نجواي فيها بين الضحك والبكاء؛ لأنني بالإنشاد والبكاء والضحك والمناجاة أسبِّح الله ربي، ومع هذا، فما هي الهدية التي تحملها إلينا؟

فانحنى زارا مسلمًا وقال للقديس: أي شيء أعطيك؟ دعني أذهب عنك مسرعًا كيلا آخذ منك شيئًا.

وهكذا افترقا وهما يضحكان كأنهما طفلان.

وعندما انفرد زارا قال في نفسه: إنه لأمر جد مستغرب، ألمَّا يسمع هذا الشيخ في غابه أن الإله قد مات.١

٣

وإذ وصل زارا إلى المدينة المجاورة، وهي أقرب المدن إلى الغاب، رأى الساحة مكتظة بخلق كثير أُعلنوا من قبل أن بهلوانًا سيقوم هناك بالألعاب، فوقف زارا في الحشد يخطبه قائلًا: إنني آتٍ إليكم بنبأ الإنسان المتفوق، فما الإنسان العادي إلا كائن يجب أن نفوقه، فماذا أعددتم للتفوق عليه؟

إن كلًّا من الكائنات أوجد من نفسه شيئًا يفوقه، وأنتم تريدون أن تكونوا جزرًا يصد الموجة الكبرى في مدها، بل إنكم تؤثرون التقهقر إلى حالة الحيوان بدل اندفاعكم للتفوق على الإنسان، وهل القرد من الإنسان إلا سخريته وعاره؟ لقد اتجهتم على طريق مبدؤها الدودة ومنتهاها الإنسان، غير أنكم أبقيتم على جلِّ ما إن الصحراء تتسع وتمتد فويل لمن يطتتصف به ديدان الأرض، لقد كنتم من جنس القرود فيما مضى، على أن الإنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود في قرديته.

ليس أوفركم حكمة إلا كائن مشوَّش لا يمت بنسبه إلى أصل صريح، فهو مزيج من النبات والأشباح، وما أدعو الإنسان ليتحول إلى شبح أو إلى نبات.

لقد أتيتكم بنبأ الإنسان المتفوق.

إنه من الأرض كالمعنى من المبنى، فلتتجه إرادتكم إلى جعل الإنسان المتفوق معنى لهذه الأرض وروحًا لها.

أتوسل إليكم، أيها الإخوة بأن تحتفظوا للأرض بإخلاصكم فلا تصدقوا مَن يمنونكم بآمال تتعالى فوقها، إنهم يعللونكم بالمحال فيدسُّون لكم السم، سواء أجهلوا أم عرفوا ما يعملون أولئك هم المزدرون للحياة، لقد رعى السم أحشاءهم فهم يحتضرون، لقد تعبت الأرض منهم فليقلعوا عنها.

لقد كانت الروح تنظر فيما مضى إلى الجسد نظرة الاحتقار فلم يكن حينذاك من مجد يطاول عظمة هذا الاحتقار. لقد كانت الروح تتمنى الجسد ناحلًا قبيحًا جائعًا متوهمة أنها تتمكن بذلك من الانعتاق منه ومن الأرض التي يدبُّ عليها، وما كانت تلك الروح إلا على مثال ما تشتهي لجسدها ناحلة قبيحة جائعة، تتوهم أن أقصى لذاتها إنما يكمن في قسوتها وإرغامها.

أفليست روحكم، أيها الإخوة، مثل هذه الروح؟ أفما تعلن لكم أجسادكم عنها أنها مسكنة وقذارة وأنها غرور يسترعي الإشفاق؟

والحق ما الإنسان إلا غديرٌ دنس، وليس إلا لمن أصبح محيطًا أن يقتبل انصباب مثل هذا الغدير في عبابه دون أن يتدنس.

تعلموا من هو الإنسان المتفوق.

إن هو إلا ذلك المحيط تُغرقون احتقاركم في أغواره.

وهل تتوقعون بلوغ معجزة أعظم من هذه المعجزة؟

لقد آن للاحتقار أن يبلغ أشده فيكم، بعد أن استحال شرفكم ذاته كما استحالت عقولكم وفضائلكم إلى كره واشمئزاز.

لقد آن لكم أن تقولوا: ما يهمني شرفي، وما هو إلا مسكنة وقذارة وغرور، في حين أن على الشرف أن يبرر الحياة نفسها.

لقد آن لكم أن تقولوا: ما تهمني القوى العاقلة فيَّ، إذا لم تطلب الحكمة بجوع الأسد، وما هي الآن إلا مسكنة وقذارة وغرور.

لقد آن لكم أن تقولوا: ما تهمني فضيلتي فإنها لما تصل بي إلى الاستغراق، وقد أتعبني خيري وشري، وما هما إلا مسكنة وقذارة وغرور.

لقد آن لكم أن تقولوا: ما يهمني عدلي، إن العادل يقدح شررًا ولما اشتعل.

لقد آن لكم أن تقولوا: ما تهمني رحمتي، أفليست الرحمة صليبًا يسمر عليه من يحب البشر، ورحمتي لمَّا ترفعني على الصليب.

أقلتم مثل هذا وناديتم به؟ ليتني سمعتكم تهتفون بمثله!

إن ما يرفع عقيرته على السماء إن هو إلا غروركم لا خطاياكم، إن هو إلا حرصكم حتى في خطاياكم.

أين هو اللهب الذي يمتد إليكم ليطهركم؟ أين هو الجنون الذي يجب أن يستولي عليكم؟

هأنذا أنبئكم عن الإنسان المتفوق.

إن هو إلا ذلك اللهب وذلك الجنون.

وما فرغ زارا من كلامه حتى ارتفع صوت من الحشد قائلًا: «لقد كفانا ما سمعنا عن البهلوان، فليبرز لنا الآن لنراه.»

فضحك الجميع مستهزئين بزارا، وتقدم البهلوان ليقوم بألعابه وهو يعتقد أنه كان موضوع الحديث.

٤

وبهت زارا مجيلًا أنظاره في القوم، ثم قال: ما الإنسان إلا حبل منصوب بين الحيوان والإنسان المتفوق فهو الحبل المشدود فوق الهاوية.

إن في العبور للجهة المقابلة مخاطرة، وفي البقاء وسط الطريق خطرًا، وفي الالتفات إلى الوراء وفي كل تردد وفي كل توقف خطر في خطر.

إن عظمة الإنسان قائمة على أنه مَعْبَرٌ وليس هدفًا، وما يستحب فيه هو أنه سبيل وأفق غروب.

إنني أحب من لا غاية لهم في الحياة إلا الزوال، فهم يمرون إلى ما وراء الحياة.

أحب من عظم احتقارهم لأنهم عظماء، أحب المتعبدين يدفعهم الشوق إلى المروق كالسهم إلى الضفة الثانية.

أحبُّ من لا يتطلبون وراء الكوكب معرفة ما يدعو إلى زوالهم أو ما يهيب بهم إلى التضحية؛ لأنهم يقدمون ذاتهم قربانًا للأرض، لتصبح هذه الأرض يومًا ميراثًا للإنسان المتفوق.

أحب من يعيش ليتعلم، ومن يتوق إلى المعرفة ليحيا الرجل المتفوق بعده، فإن هذا ما يقصد طالب المعرفة من زواله.

أحب من يعمل ويخترع ليبني مسكنًا للإنسان المتفوق فيهيئ ما في الأرض من حيوان ونبات لاستقباله، فإن هذا ما يقصد طالب المعرفة من زواله.

أحب من يحب فضيلته، فما الفضيلة إلا الطموح إلى الزوال وإن هي إلا السهم تُنشبه أشواقه.

أحب من لا يحتفظ لنفسه بشرارة واحدة من روحه، فيتجه إلى أن يكون بكليته روحًا لفضيلته؛ لأنه بهذا يجعل روحه تجتاز الصراط.

أحب من يكون من فضيلته ميوله ومطمحه؛ لأنه بمثل هذه الفضيلة يتوق إلى إطالة حياته كما يتوق إلى قصرها.

أحب من لا يريد الاتصاف بعديد الفضائل؛ إذ في الفضيلة الواحدة من الفضائل أكثر مما في فضيلتين، والفضيلة الواحدة حلقة ترتبط فيها الحياة.

أحب من يجود بروحه فلا يطلب جزاء ولا شكورًا، ولا يسترد، فهو يهب دائمًا ولا يفكر في الاستبقاء على ذاته.

أحب من يخجل من سقوط زهر النرد لحظِّه فيرتاب بغش يده، إن أمثاله هم التائقون إلى الزوال.

أحب من يبذل الوعود وهاجة ثم يتجاوز عمله وعده، إن أمثاله هم التائقون إلى الزوال.

أحب من يبرر أعمال الخلف ويدافع عن السلف لأنه بذلك يسلم نفسه إلى نقمة معاصريه، فهو ممن يتوقون إلى الزوال.

أحب من يعلن حبه لربه بتوجيه اللوم إليه؛ إذ يجب أن يهلك بغضب ربه.

أحب من يبلغ التأثر أعماق روحه في جراحها فيعرضه أتفه حدث للفناء، إن أمثاله يعبرون الصراط دون أن يترددوا.

أحب من تفيض نفسه حتى يسهى عن ذاته؛ إذ تحتله جميع الأشياء فيضمحل فيها ويفنى بها.

أحب من تحرر قلبه وتحرر عقله حتى يصبح دماغه بمثابة أحشاء لقلبه، غير أن قلبه يدفع به إلى الزوال.

أحب جميع من يشبهون القطرات الثقيلة التي تتساقط متتالية من الغيوم السوداء المنتشرة فوق الناس، فهي التي تنبئ بالبرق وتتوارى.

ما أنا إلا منبئٌ بالصاعقة، أنا القطرة الساقطة من الفضاء، وما الصاعقة التي أبشر بها إلا الإنسان المتفوق.

٥

وبعد أن ألقى زارا هذه الكلمات أجال أنظاره في الحشد وسكت ثم قال في قلبه: لقد تملكهم الضحك، فهم لا يفهمون ما أقول، وما أنا بالصوت الذي يلائم هذه الأسماع.

أعليَّ أن أسد آذانهم ليتمرنوا على الإصغاء بعيونهم؟ أم يجب أن أضرب الصنج أسوة بوعاظ الصيام؟ لعل هؤلاء القوم لا يتقون إلا بالألكن من المتكلمين.

إن لهؤلاء الناس ما يباهون به فما عساه أن يكون؟

إنهم يسمونه مدنية ليميزوا بها أنفسهم على الرعاة، فهم لذلك ينفرون من لفظة الاحتقار إذا ما ذُكرت في معرض الكلام عنهم، فلسوف أخاطبهم إذن عن غرورهم.

سأخاطبهم عن أحقر الكائنات، عن الإنسان الأخير. وتوجه إلى الحشد قائلًا: لقد آن للإنسان أن يضع هدفًا نصب عينيه، لقد آن له أن يزرع ما يُنبت أسمى رغباته ما دام للأرض بقية من ذخرها؛ إذ سيأتي يوم ينفذ هذا الذخر منها فتجدب ويمتنع على أية دوحة أن تنمو فوقها.

ويل لنا! لقد اقتربت الأزمنة التي لن يفوق الإنسان فيها سهام شوقه محلقة فوق البشرية؛ إذ تخونه قوسه وتتراخى أوتارها.

الحق ما أقوله لن يخرج من الإنسان كوكب وهاج للعالم حين تزول بقية السديم من نفسه، وهذا السديم لم يزل فيكم.

ويل لنا! لقد اقتربت الأزمنة التي لن يدفع الإنسان فيها بالكواكب للعالم، ويل لنا؟ لقد اقترب زمان الإنسان الحقير الذي يمتنع عليه أن يحتقر نفسه.

اسمعوا! هأنذا منبئكم عن الرجل الأخير.

إنه مَن يقف متسائلًا عن نفسه فلا يعلم أمحبةٌ هي أم إبداع أم تشوق، أم توهج كوكب.

وستصغر الأرض في ذلك الزمان فيطفر على سطحها الرجل الأخير الذي يحول إلى حضارة كل ما يدور به، إن سلالة هذا الرجل لا تباد، فهي أشبه بالبراغيث، والإنسان الأخير أطول البشر عمرًا.

ويقول أناسي الزمن الأخير متغامزين: لقد اخترعنا السعادة اختراعًا.

لقد هجر هؤلاء البقاع التي تقسو عليها الحياة؛ لأنهم شعروا بحاجتهم إلى الحرارة فأصبح كل واحد يحتك بجاره وقد احتاجوا إلى الدفء جميعًا.

إنهم يقتحمون الحياة باحتراس؛ لأن الوجل والمرض في عينهم خطأ، وما سلم من الجنون من يتعثر منهم بالحجارة وبالناس.

إنهم يأخذون قليلًا من السموم حيث يجدونها طلبًا لملاذ الأحلام ويكرعون منها ما يكفي دفعة واحدة طلبًا للذة الموت.

وإذا هم عملوا فإنما يعملون للتسلية محاذرين أن تذهب هذه التسلية بهم إلى حدود الإنهاك.

ليس بينهم من يصبح غنيًّا أو يمسي فقيرًا، وكلا الفقر والغنى يُجلب الضنى، وما منهم من يطمح إلى الحكم أو يرضى بالخضوع وكلاهما مُحرِج مُرهق.

ليس هنالك راعٍ وليس هنالك إلا قطيع واحد. إن كلًّا من الناس يتجه إلى رغبة واحدة، فالمساواة سائدة بين الجميع، ومن اختلف شعوره عن شعور المجموع يسير بنفسه مختارًا إلى مأوى المجانين.

ويغمز أمكر هؤلاء الناس بعينهم ويقولون: لقد كان الجميع مجانين فيما مضى.

لقد ساد الاحتراس بين هؤلاء القوم؛ لأنهم أخذوا بالعبر، فهم يتلقون الحادثات متهكمين، وإذا نشأ بينهم خلاف بادروا إلى حسمه صلحًا؛ لأنهم يحاذرون أن تصاب معدهم بالعلل والأدواء.

لهؤلاء الناس لذات للنهار ولذات أخرى لليل، غير أنهم يراعون صحتهم أولًا.

«لقد اخترعنا السعادة اختراعًا» ذلك ما يقوله أناسي الزمن الأخير وهم يغمزون.

عند هذا أنهى زارا خطابه أو بالحري تمهيد خطابه فتعالت أصوات التهليل من الحشد وهو يقول: إلينا بهذا الرجل الأخير يا زارا، اجعلنا على مثال أناسي الزمن الأخير فقد تخلينا لك عن الإنسان المتفوق.

ولكن زارا وجم أمام هذا الحشد يسوده مثل هذا الروح فاستولى الحزن عليه وقال في نفسه: إنهم لا يفهمون كلامي، فلست بالصوت الذي تتطلبه هذه الأسماع.

لقد عشت طويلًا في هذه الجبال وأنصتُّ طويلًا إلى هدير الغدران وحفيف الأشجار، فأنا أكلم هؤلاء الناس الآن كأنني أخاطب رعاة الماعز.

إن روحي صافية تغمرها الأنوار كما تغمر القممَ تباشيرُ الصباح، ولكنهم يحسون بالصقيع في قلبي ويحسبونني مهرجًا يأتيهم بالمفجع من النكات.

إنهم يحدِجونني بأنظارهم ويتضاحكون، ففي قلبهم ثورة البغضاء وعلى شفاههم بسمة الثلوج.

٦

وطرأ حادث كمَّ الأفواه واسترعى الأبصار، وكان البهلوان بدأ بألعابه فاندفع من النافذة وأخذ يتمشى على الحبل الممدود بين برجين فوق الساحة وما عليها من المتفرجين، وما وصل إلى وسط الحبل حتى فتحت النافذة مرة ثانية، واندفع منها فتى مخطط بالألوان كالمهرجين وسار متَّبعًا خطوات البهلوان صارخًا: «إلى الأمام أيها الأعرج! إلى الأمام أيها الكسلان، أيها المرائي ذو الوجه الشاحب! اذهب لئلا تداعبك نعلي، ما هو عملك بين هذين البرجين؟ أفليس في البرج مكان سجنك؟ أنك تسد الطريق في وجه من هو أفضل منك.»

وكان الفتى يتقدم خطوة كلما قال كلمة حتى أصبح على قاب قوسين من البهلوان، وعندئذ وقع الحادث الذي كمَّ الأفواه واسترعى الأبصار؛ فإن الفتى لم يلبث أن صرخ صرخة الجن وقفز فوق العقبة القائمة في سبيله، ولما رأى البهلوان انتصار خصمه عليه أخذه الدوار، وخلت رجله عن الحبل فرمى عارضة التوازن من يديه وسقط في الفضاء حيث لاحت رجلاه ويداه كعجلة تدور في الهواء.

وماج الحشد على الساحة كالبحر اجتاحته العاصفة الهوجاء، وانفرط الناس مولِّين الإدبار، وانفرج المكان حيث كان يتجه الجسم بانحداره.

ولكن زارا لم يتحرك فوقع الجسم على مقربة منه حيث تقطعت أوصاله وتهشم، غير أنه كان لم يزل حيًّا، وما عتم أن عاد روع الجريح إليه فرأى زارا جاثيًا قربه فرفع رأسه وقال له: ماذا تفعل هنا؟ ما كنت أجهل أن الشيطان سيُضل خطواتي يومًا وها هو ذا الآن يجرني إلى جحيمه، أفتريد أن تمنعه؟

فقال زارا: وشرفي يا صديقي إن ما تذكره لا وجود له، فليس من شيطان وليس من جحيم، إن روحك ستموت بأسرع من جسدك فلا تخشَ بعد الآن شيئًا.

فرفع الرجل بصره مشككًا وقال: إذا كان ما تقوله صحيحًا فإنني لا أفقد شيئًا بفقد الحياة، فلست أنا إذن إلا حيوانًا وقد رُقِّصتُ بالضرب وغُذِّيتُ بأفخر غذاء.

فقال زارا: لا، ليس الأمر كما تقول فإنك اتخذت المخاطرة مهنة لك ولم يكن فيها ما يشين، أما الآن فمهنتك هي أن تفنى، من أجل هذا سأدفنك بيديَّ.

ولم يحر المدنف جوابًا بل حرك يده باحثًا عن يد زارا ليصافحها دلالة على شكره.

٧

وأمسى المساء مرخيًا سدوله على الساحة، فتفرق عنها المتفرجون وقد أرهقهم الفضول والرعب، وبقي زارا جالسًا على الأرض قرب الميت فاستغرق في تفكيره ناسيًّا مرور الزمان حتى هبت نفحات الليل عليه منفردًا، فناجى نفسه قائلًا: لقد كان صيدك موفقًا اليوم يا زارا! لقد أفلت الناس منك فاصطدت جثة هامدة.

إن حياة الإنسان محفوفة بالأخطار، وهي فوق ذلك لا معنى لها … فإن مهرِّجًا يمكنه أن يقضي عليها.

أريد أن أعلِّم الناس معنى وجودهم؛ ليدركوا أن الإنسان المتفوق إنما هو البرق الساطع من الغيوم السوداء: من الإنسان.

ولكنني لم أزل بعيدًا عن هؤلاء الناس وفكرتي بعيدة عن مداركهم، فأنا لم أزل متوسطًا المدى بين مجنون وجثة هامدة.

إن الليل مظلم ومسالك زارا مظلمة أيضًا، تعال أيها الرفيق المتيبِّس في صقيعه! إنني ذاهب بك إلى حيث أواريك التراب بيدي.

٨

ورفع زارا الجثة على كاهله ومشي، ولكنه ما قطع مائة خطوة حتى زحمه رجل، وما كان هذا الرجل إلا مهرج البرج، فأسرَّ إليه: اذهب من هذه المدينة يا زارا، فإن مبغضيك فيها كثيرون، هنا يكرهك أهل الصلاح والعدل، فيصفونك بالعدو والمزدرى، ويكرهك المؤمنون بالدين الحق فيرون بك خطرًا على عامة الناس، وقد كان من حظك أن هزأ الحشد بك؛ لأنك كنت تتكلم كالمهرجين، وكان من حظك أيضًا أن اشتركت والكلب الميت، فقد كان خلاصك هذه المرة في إسفافك إلى هذه المهاوي، ولكنك لن تسلم في الثانية فاذهب من هذه المدينة وإلا فإنني قافز غدًا فوق جثة أخرى.

قال الرجل هذا وتوارى وتابع زارا سيره في الشوارع المظلمة، ولما بلغ باب المدينة التقى حُفَّار القبور فوجهوا إلى رأسه أشعة مصابيحهم وإذ عرفوا فيه زارا أشبعوه سخرية وهزءًا وقالوا: مرحى يا زارا! لقد صرت الآن حفارًا للقبور، إنك تحمل الكلب الميت. لقد أحسنت، فإن أيدينا أطهر من أن تدنس بجثته، أتريد يا زارا أن تختلس من الشيطان طعامه؟ كُلْ هنيئًا ولكن الشيطان أمهر منك، ولعله يسرقكما كليكما فيلتهمكما التهامًا.

ودار حُفَّار القبور بزارا يتفرسون فيه، أما هو فلزم الصمت وسار في طريقه، وبعد أن مشى ساعتين يقطع الأحْراج والمستنقعات، شعر بالجوع لكثرة ما عوت حوله الذئاب الجائعة، فوقف أمام بيت منفرد لاحت له الأنوار من نوافذه، وقال: لقد عضني الجوع وداهمني كاللص بين الأحراج في الليل البهيم.

إن لجوعي نزوات مستغربة وقد يداهمني حتى بعد الطعام، ولكنه اليوم ندَّ عني منذ الصباح حتى المساء فأين كان هذا الجوع؟

وطرق زارا باب البيت فظهر له منه شيخ يحمل مشعلًا، وقال له: من الآتي إليَّ وإلى رقادي المضطرب؟

فأجاب زارا: أتيناك اثنين حي وميت، أعطني مأكلًا ومشربًا فقد نسيت الغذاء النهار بطوله، إن من يشبع الجياع يولي نفسه قوة، هكذا قالت الحكمة.

فغاب الشيخ وعاد بخبز وخمر وقال: إنها لأماكن موحشة للجياع، وذلك ما دعاني إلى السكن هنا حيث يهرع إليَّ البشر والحيوان في وحدتي، أفلا تدعو رفيقك ليأكل ويشرب معك فهو أشد تعبًا منك.

فقال زارا: إن رفيقي ميت ولا يسهل عليَّ إقناعه بتناول الطعام.

فتمتم الشيخ: ذلك لا يهمني، إن من يطرق بابي عليه أن يأخذ ما أقدمه له، كُلا هنيئًا.

وعاد زارا إلى السير فمشي ساعتين أيضًا وهو يهتدي إلى رسوم الطريق بنور النجوم، وقد كان معتادًا السُّرى ويحب أن يتفرس في كل ما يروق له، وعند ما لاح الصباح كان زارا وصل إلى غابة كثيفة حيث انقطع كل طريق أمامه، فتوقف ووضع الجثة في فراغ شجرة حواها حتى رأسها ليقيها هجمات الذئاب، ورقد بعد ذلك متوسدًا نبات الأرض وما عتم حتى استغرق في نومه منهوك الجسم مرتاح الضمير.

٩

وطال نوم زارا حتى غمرت وجهه أنوار الضحى بعد أن داعبته تباشير الفجر، ففتح عينيه مبهوتًا وسرح أبصاره على الغاب ثم حولها يستكشف نفسه ساكنًا مستغربًا.

وهب من مجلسه فجأة كما يهب الملاح تبدو لعينه الأرض فهتف وقد هزَّه المرح؛ لأنه اكتشف حقيقة جديدة فخاطب قلبه قائلًا لقد انفتحت عيناي. إنني بحاجة إلى رفاق أحياء لا إلى رفاق أموات وجثث أحملهم إلى حيث أريد.

إنني أطلب رفاقًا أحياء يتبعونني؛ لأنهم يريدون أن يتبعوا أنفسهم أيَّان توجهت.

لقد انفتحت عيناي؛ ليس على زارا أن يخاطب جماعات بل عليه أن يخاطب رفاقًا، يجب ألا يكون زارا راعيًا للقطيع وكلبًا له.

إنني ما جئت إلا لأخلص خرافًا عديدة من القطيع، وسوف يتمرد الشعب والقطيع عليَّ، إن زارا يريد أن يعامله الرعاة معاملتهم للصوص.

قلت رعاة غير أنهم يُدعون بالصالحين والعادلين، قلت رعاة غير أنهم يدعون بالمؤمنين بالدين الحق.

انظروا إلى أهل الصلاح والعدل لتعلموا من هو ألدُّ أعدائهم، إنه من يحطم الألواح التي حفروا عليها سُننهم، ذلك هو الهدام ذلك هو المجرم، غير أنه هو المبدع.

انظروا إلى المؤمنين بجميع المعتقدات تعلموا من هو ألد أعدائهم إنه من يحطم الألواح التي حفروا عليها سننهم، ذلك هو الهدام ذلك هو المجرم، غير أنه هو المبدع.

إليَّ بالرفاق، إنني أطلبهم مبدعين ولا أطلبهم جثثًا وقطعانًا ومؤمنين.

إن المبدع لا يتخذ له رفاقًا إلا من كانوا مثله مبدعين، إنه يتخذهم ممن يحفرون سننًا جديدة على ألواح جديدة.

إن من يطلب المبدع إنما هم الحصَّاد يعاونونه في الحصاد؛ لأن كل شيء قد أصبح في عينه ناضجًا للحصاد، ولكن المائة منجل ليست بين يديه فهو يتميز غضبًا ويقتلع السنابل من أصولها.

إن المبدع يطلب رفاقًا له بين من يعرفون أن يشحذوا مناجلهم، وسوف يدعوهم الناس هدامين ومستهزئين بالخير والشر، غير أنهم يكونون هم الحاصدين والمحتفلين بالعيد.

إن زارا يطلب من هم مثله مبدعون يشاركونه في الحصاد وفي الراحة فلا حاجة له بالقطعان والرعاة وأشلاء الأموات.

وأنت يا رفيقي الأول، ارقد بسلام لقد أحسنت دفنك في فراغ الشجرة ووقيتك افتراس الذئاب.

غير أنني سأفترق عنك لأن الزمان قد مر سريعًا، وقد انبثقت حقيقة جديدة في أفق نفسي ما بين فجرين.

لن أكون راعيًا، ولن أكون حفار قبور، ولسوف لا أقف بعد الآن في الجماعات خطيبًا فقد وجهت آخر خطبي إلى ميت.

أريد أن أنضم إلى المبدعين، إلى أولئك الذين يحصدون ويرتاحون فأريهم قوس قزح والمراتب التي يرقاها الواصلون إلى الإنسانية المتفوقة.

سأهتف بنشيدي للمعتزلين ولمن يشعرون بمثنويَّتهم في انفرادهم. إنني سأملأ بغبطتي قلب كل من له أذنان تصغيان إلى ما لم تسمعه أذن بعد.

إنني أسير إلى هدفي وأتبع طريقي فأقفز فوق المترددين والمتأخرين، وهكذا سيكون سيري جنوحًا إلى الغروب.

١٠

وكان زارا يناجي نفسه بهذا القول والشمس في الهاجرة، وإذا به يسمع صوتًا جارحًا في الفضاء ولاح له نسر يعقد حلقات في طيرانه، وقد تعلق به أفعوان وما كان النسر يقبض عليه بمخلبيه كفريسة، بل كان الأفعوان ملتفًّا حول عنقه التفاف المحب.

فهتف زارا والحبور يملأ فؤاده: هذان نسري وأفعواني؛ فالنسر أشد الحيوانات افتخارًا، والأفعوان أشدها مكرًا تحت الشمس، وكلاهما ذاهبان مستكشفَيْنِ في الفضاء؛ ليعلما ما إذا كان زارا لم يزل في الحياة، فهل أنا لم أزل حيًّا بعد؟

لقد اعترضني من المخاطر بين الناس ما لم أجد مثله بين الحيوانات، إنني أتبع السبل المخطرة فلأقتدين بنسري وأفعواني.

وتذكر زارا القديس المنعزل في الغاب فتنهد وقال: لأكونن أوفر حكمة لأكونن ماكرًا كأفعواني، غير أنني أطلب المستحيل لذلك أتوسل إلى افتخاري أن يلازم حكمتي ولا ينفصل عنها.

وإذا ما تخلت حكمتي عني يومًا وهي تتوق إلى الطيران وا أسفاه؛ فإنني لأرجو أن يطير افتخاري مستصحبًا جنوني.

وهكذا بدا جنوح زارا إلى المغيب.

١  هذه الخطوة الأولى. وسنرى أي إله يقول نيتشه بموته وأي إله يتجه هذا الفيلسوف إلى اكتشافه في سريرة الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤