العظماء

إن فيَّ بحرًا هدأت أعماقه، فمن يظن أنه يُخفي مسوخًا دأبها المزاح؟ إن أغواري صامدة لا تتزعزع، غير أنها تتماوج بالمعميات وتتجاوب فيها من الضحك نبرات وأصداء.

رأيت اليوم رجلًا من العظماء الأجلاء الذين يكفِّرون من أجل الروح؛ فاستغرقت روحي في ضحكها هازئة بقبحه. غير أن هذا العظيم لم يُبد ولم يعد، بل انتفخ صدره كمن يتنفس الصعداء، فلاح لي بحقائقه المروعة وبأثوابه الممزقة غصنًا كله أشواك وليس فيه ورود.

ما تعلَّم هذا القناص الضحك ولا عرف الجمال، فإنه راجعٌ من غاب المعرفة أغبر الوجه بعد أن صارع فيها الوحوش فانطبعت صورهم على سيمائه، فهو كالنمر يتحفز للوثوب، وما أحب مثل هذه الأرواح المنقبضة على ما تضمر.

تقولون، أيها الصحاب، إنه لا جدال في الذوق وفي الألوان فكأنكم تجهلون أن الحياة بأسرها نضال من أجل الأذواق والألوان.

ما الذوق إلا الموزون والميزان والوازن … فويل لكل حيٍّ يريد أن يعيش دون نضال من أجل الموزونات والموازين والوازنين.

ليت هذا الرجل العظيم يتعب من عظمته؛ ليظهر الجمال فيه فإنه في ملاله من هذه العظمة يستحق أن أتذوقه فأجد له طعمًا.

إذا لم يتحول العظيم عن نفسه فلا يمكنه أن يقفز فوق خياله لتغمره أشعة شمسه. لقد تفيَّأ الظلَّ طويلًا هذا المفكرُ من أجل الروح، فشحب وجهه وكاد في انتظاره أن يموت جوعًا، وهذه عيناه تشعَّان بالاحتقار وشفتاه تتبرمان بالاشمئزاز، إنه يلتمس الراحة الآن ولكنه لم ينطرح تحت الشمس بعد.

ليت هذا الرجل يتمثل بالثور فيفوح من سعادته عبق الأرض لا احتقار الأرض، ليته كالثور الأبيض يعج أمام المحراث فيرتفع عجيجه تسبيحًا للأرض وما عليها.

لقد اكفهرَّ وجه هذا العظيم؛ إذ تلاعبت على خديه أظلال يده فاختفت عيناه، وأعماله لم تزل كالخيال تلوح ولا تبدو عليه، فإن اليد ترسل ظلًّا قاتمًا على العامل إذا هو لم يتفوق على عمله.

إنني أقدِّر احتمال هذا الرجل لنير الثور، ولكنني أتمنى أن تشعَّ نظرات الملاك في عينيه، ولن تشع هذه النظرات ما لم ينس ما فيه من إرادة الأبطال؛ لأن ما أريد له هو أن يصير رجلًا ساميًّا لا أن يبقى في مرتبة الرجل العظيم حيث يفقد الإنسان إرادته فتتلاعب به أضعف النسمات.

لقد تغلب هذا العظيم على الجبابرة، وتوصَّل إلى حل الرموز، ولكن عليه الآن أن ينقذ هؤلاء الجبابرة وهذه الرموز؛ ليحولها إلى طفولة الألوهية.

إن معرفة هذا الرجل لم تتعلم الابتسام ولا الترفع عن الحسد، كما أن موجة شهواته لم تسكن في خضم الجمال، وما عليه أن يدفع بهذه الشهوات إلى سكون الشبع، بل عليه أن يغرقها في الجمال؛ لأن اللطف لا ينفصل عن مكارم من بلغوا الأوج بتفكيرهم.

على البطل ألا يستسلم للراحة ما لم يضع يده على رأسه يتفوق على راحته، وما يصعب على البطل شيء كإدراكه الجمال؛ لأن الجمال لا يستسلم لأبناء العنف.

إن بين الإفراط والتفريط قيد أنملة، فلا تحتقروا هذا المدى لأنه بعيدٌ وإن قصر، وفيه الأهمية الكبرى. ولكن عضلات العظماء لا تلجأ إلى السكون وإرادتهم لا تنضب، وما من جمال إلا في تنازل القوة إلى الرحمة وحلولها في المنظور.

إنني لا أطالب بالرحمة سواك، أيها المقتدر، فلتكن الرحمة آخر مرحلة تقطعها في انتصارك على ذاتك، وما كنت لأفرض الخير عليك لولا أنني أراك قادرًا على ارتكاب كل الشرور، ولكَم أضحكني أولئك الصعاليك يعدُّون أنفسهم رحماء وقد شلت يدهم ولا حَول لهم ولا طَول.

عليك أن تتمثل في فضيلتك بفضيلة الأعمدة التي تزداد بهاء ودقة وصلابة في لبابها كلما ازداد ارتفاعها.

أجل أيها الرجل العظيم إنك ستبلغ الجمال يومًا، فترفع المرآة إلى وجهك لتتمتع برؤية جمالك وعندئذ تختلج روحك بالشهوات وعندئذ تتجلى العبادة في غرورك.

لا يقترب البطل في أحلامه إلى مرتبة البطل الكامل ما لم يُغفل الروحَ ويتحول عنها.

هكذا تكلم زارا …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤