على الطريق

وكان زارا وهو يقصد كهفه وجباله يمر بشعوب عديدة ومدن كثيرة متمهلًا في رحلاته حتى وصل فجأة إلى مدينة عظيمة، وإذ دخلها انتصب بوجهه مجنونٌ فاتحًا ذراعيه؛ ليصده عن التقدم والزَّبد يُرغي على شدقيه، وما كان هذا المعترض إلا من لقَّبه أهل المدينة بسعدان زارا؛ لأنه كان يقلد حركاته ولهجته ويستعير شيئًا من كنوز حكمته.

وخاطب المجنون زارا قائلًا: إن هنا المدينة العظمى، وما لك أن تظفر منها بشيء، بل عليك أن تفقد فيها كثيرًا.

ما الذي يضطرك في الانغماس في هذه الأوحال، فأشفق على قدميك، وقف عند بابها تافلًا عليه وعُدْ أدراجك.

هنا جحيم كل فكرة فريدة، هنا تُصهر الأفكار السامية حتى تصبح مزيجًا مائعًا.

هنا تتهرأ كل عاطفة شريفة، ولا يسمح إلا للعواطف الجافَّة بأن تعلن عن نفسها بخشيش اصطدامها.

أفما بلغتْ أنفك رائحة المجازر حيث تُنحر الأفكار ومطاعم السوقة حيث تباع بأبخس الأثمان، أفما ترى أبخرة العقول المضحاة تتصاعد منتشرة كالدخان فوق هذه المدينة.

أفما تلوح لك الأرواح معلقة معروضة كأنها خرق قذرة بالية، فإذا هي تنقلب صُحُفًا تنشر بين الناس.

أفلا تسمع البيان الطلي يستحيل هنا إلى تلاعب ألفاظ وسخائف تغصُّ بها جداول الصحف، فإذا هي مصارف أقذار.

إن بعضهم يتحدَّى البعض الآخر، ولا يعلمون على ما يختلفون، يأخذ بهم الغيظ كل مأخذ وقد غاب عنهم سببه، فلا يسمعونك إلا طقطقة فلوسهم ورنين دنانيرهم.

لقد استولى عليهم البرد فلا يدفئون إلا بكرع الخمور، وإذا ما دبت الحرارة فيهم لجئوا إلى مهب الأفكار الباردة، فهم أبدًا مسوقون بالرأي العام مأخوذون بدرجة غليانه.

هنا مقام جميع الرزائل والشهوات، وهنا أيضًا فضائل عديدة لها مهارتها ولها مشاغلها، ولتلك الفضائل الجمة أنامل للكتابة وأرداف من رصاص للمتحلين بها وسادات من الجلد علقت عليها الأنواط، ولهم أيضًا بنات هزلت أردافهن فاصطنعن لهن من القش أردافًا.

وإنك لتجد هنا كثيرًا من الإشفاق والاحتشام وكثيرًا من الاتضاع أمام رب الجيوش؛ لأن من مقامه الأعلى تتهاوى الكواكب ومعها النفثات، وكل صدر عاطل عن الكواكب يرسل نحو هذا المقام زفرات شوقه.

إن للقمر جوَّه وفي هذا الجو تدور أتباعه، والشعب المتسول لا يفترُّ مع الفضائل المتسولة يرفع الصلاة إلى كل ما يلتمع في مدار القمر، وما الصلاة إلا كلمات: خَدَمَ، خدما، خدموا، نحن نخدم. يترنَّم بها أهل الفضائل، وهم يتجهون إلى الحاكم الأعلى متوقعين سقوط الأنواط المتوهجة على صدورهم الضيقة، غير أن القمر نفسه يدور حول الأرض وما عليها من نتاج التراب، والحاكم أيضًا يدور حول كل ما هو أرضي، وما من شيء أعرق في الأرض من ذهب بائعي السلع، إن رب الجيوش ليس ربًّا للسبائك فإذا ما الحاكم دبَّر، جاء بائع السلع فقرر.

أي زارا، أستحلفك بكل ما فيك من نور وقوة وصلاح أن تتفل على هذه المدينة، مدينة بائعي السلع وتكرَّ راجعًا إلى الوراء. إن الذي يجري في عروق سكانها إنما هو دم مفسود، فاتْفُل على المدينة الكبرى؛ لأنها المزبلة التي تتراكم فيها الأقذار.

اتْفُل على مدينة النفوس الضعيفة والصدور الضيقة، مدينة العيون الحاسدة والأنامل اللزجة، مدينة الوقحين والفجار والمعربدين والطامعين اليائسين، المدينة التي يتكدس فيها من تأكَّلهم سوس الفساد من أهل الشهوات المضروبين بالقروح المتآمرين.

ابصق على هذه المدينة وعد أدراجك.

ومدَّ زارا يده مطبقًا فم المجنون المزبد في حدته قائلًا له: أمَا آن لك أن تصمت؟ لقد تحملت طويلًا حركاتك وأقوالك، ما الذي دعا بك إلى الإقامة على ضفاف هذا المستنقع حتى أصبحت أنت أيضًا ضفدعًا وعقربًا؟

أفما تسيل في عروقك أنت أيضًا دماء المستنقعات الفاسد؟ فها أنت تحسن النقيق وتجيد اللعن.

لماذا لم تطفر إلى الغاب، لماذا لم تذهب لحرث الأرض؟ أفليس في كل جهة من البحر جزيرة خضراء؟

إنني أحتقر احتقارك، وقد كان عليك أن تبذل نصحك لنفسك قبل أن تجود به عليَّ، فإن احتقاري وهو الطائر النذير لن يتعالى من أقذار المستنقعات، بل يهب من مواطن الحب والأشواق.

لقد لقَّبوك بسعدان زارا، أيها المجنون المزبد، أما أنا فأدعوك خنزيري، ألا فانقطع عن هذا الخوار وإلَّا دفعت بي إلى استنكار ما مدحتُ به سكرات الجنون.

ما الذي يهيب بك إلى رفع هذه الأصوات المنكرة؟ إن الناس لم يوجِّهوا إليك ما كنت تتوقع من ثناء؛ لذلك جلست إلى أكوام الأقذار مزمجرًا صاخبًا، مفتشًا فيها على ما تسلِّح به انتقامك، أتظن أن أمرك قد خفي عليَّ؟ وهل هذا الإزباد إلا من إرغاء الضغينة في قلبك؟

اصمت فإن كلماتك تلحق الضرر بي حتى ولو كمنت الحقيقة فيها، ولو انطوت ألف حقيقة في ما أقول؛ لأنك تسيء إليَّ بأقوالي نفسها.

هكذا تكلم زارا، وهو يتلفَّت إلى المدينة متنهدًا، ثم صرخ بعد صمت طويل: لقد كرهت هذه المدينة العظمى أنا أيضًا، وليس هذا المجنون من يثير كراهتي فحسب! فهي مثله وهو مثلها وليس فيهما ما يقبل إصلاحًا أو زيادة فساد.

ويل لهذه المدينة العظمى، وليت تجتاحها أعاصير النار فتذريها رمادًا؛ إذ لا بد من انطلاق مثل هذه الأعاصير منذرة بالظهيرة العظمى، ولكن انطلاقها مرهون بزمانها ومقدراتها.

أمَّا أنت أيها المجنون، فإنني أستودعك بهذا التعليم: إذا امتنع على الإنسان أن يبذل حبه فعليه أن يذهب في سبيله!

هكذا تكلم زارا، وسار في سبيله متجاوزًا المجنون والمدينة العظمى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤