الآبقون

١

وا أسفاه! كل ما كان مُخضلًّا وزاهيًا بعديد ألوانه على هذه المروج أصبح الآن باهتًا وقد عراه الذبول، ولكَم جنيتُ هنا فيما مضى من عسل الآمال فحملته إلى قفيري.

لقد سطا الهرم على جميع القلوب الفتية، وما آن للهرم أن يتحكم بهؤلاء الفتيان، فما هم إلا متعبون يستسلمون للكسل وهم يبررون حالهم بقولهم: لقد عدنا إلى ممارسة التقوى.

ولكَم نظرت إليهم عندما كانوا يندفعون إلى السير بأقدامهم الجريئة، أما الآن فقد تراخت معرفتهم مع أقدامهم فأمسوا وهم يهزءون بما كانوا عليه من الشجاعة في صبيحتهم.

لقد كان أكثرهم يختالون كالراقصين معلنين بضحكهم أنهم من أتباع حكمتي، فإذا هم يستغرقون فجأة بالتفكير، وها هم الآن أمامي وقد انحنت ظهورهم يزحفون على ركابهم نحو الصليب.

لقد كانوا فيما مضى يحومون حول النور والحرية كما تحوم الفراشات والشعراء، ولكنهم ما شعروا بشيء يسير من وقر الأيام ومن صقيعها حتى هرعوا إلى الموقد يصطلون كأصحاب القلانس وأدعياء الحكمة.

أفَقَدَ هؤلاء الشجعان إقدامهم لأنني تواريت عنهم في عزلتي فباتوا يتنصتون عبثًا لدوي أبواقي وصيحات إنذاري؟

وا أسفاه! ما أقل القلوب التي تصمد بوجه الزمان! وليس في سواها ما يعزز الروح في حين يسطو الخور على سائر القلوب، وما أكثر الجبناء! فهم السوقة الدخلاء على الحياة.

لا بد لمن كان على مثالي أن يصادف في طريقه ما صادفت، ولا مناص له من أن يكون رفاقه الأولون أشلاء أموات ومتمرني ألعاب.

وإذا ما مر بهؤلاء أتته الفئة الثانية من رهط المؤمنين يسودهم كثيرٌ من الحب وكثير من الجنون وإجلال الطفولة وخشوعها. فليحترس من كان على مثالي أن يُولي هذه الفئة عواطفه؛ لأن العارف بضعف الإنسانية وتقلبها لا يثق بدوام زهو المروج أيام الربيع.

ولو كان هؤلاء المؤمنون على غير ما هم عليه من غريزة لتبدلت إرادتهم، وليس للنقص أن يجاري الكمال، فعلامَ نشكو إذا صارت ناضرات الأوراق إلى الذبول؟

دع الأوراق تنتثر، دعها تذهب مع الريح، أيْ زارا، وكفَّ عن الشكوى، فخير لك أن تساعد بزفيرك الرياح الهابة على أغصانها.

انفخ على هذه الأوراق، يا زارا، ليتبدد من حولك كل شيء عراه الذبول.

٢

يقول الآبقون إنهم إلى التُّقَى راجعون، وأكثرهم جبان لا يجسر حتى على التعلل بتقواه في خروجه، ولكنني أنظر إلى هؤلاء الخائفين، وأعلن لهم بوجههم أنهم قد عادوا إلى الركوع والصلاة، فأقول لكلٍّ منهم: إذا لم تكن إقامة الصلاة عارًا على الناس فهي عار على أمثالك وأمثالي ممن تنبه شعورهم في تفكيرهم، إن صلاتك تُعد منكرًا عليك؛ لأنك تعلم أن الشيطان الكامن فيك الذي يحلو له كتف ذراعيه تائقًا إلى حياة الرخاء يوسوس في روعك قائلًا لك: إن الله موجود. فأنت آبق يهرب من النور؛ لأن النور يشغل تفكيره فاذهب الآن في ضلالك سادرًا، وتوغَّلْ كل يوم في لبدات الظلام.

والحق أنك أحسنت اختيار الحين للانطلاق، وقد بسطتْ طيور الليل أجنحتها فهذه ساعة أبناء الظلام المضربين عن الأعمال. لقد حانت ساعة الاصطياد وما هذا الصيد الذي تقدم عليه مهاجمةً وعراكًا بل هو انزواء في كمين وتراخٍ وصمتٌ لا يسمع فيه غير همسات الصلاة. ذلك هو صيد أدعياء الحكمة ينصبون فيه شراكًا للقلوب فكلما هتكتُ سترًا رأيت وطواطًا صغيرًا ينطلق من ورائه، ولعله كان مختفيًا مع وطواط صغير آخر؛ لأنني في كل جهة أرى جماعات تستتر وما ينبعث عنها من رائحة التقى يستجلب إليها رهطًا جديدًا من المتقين، فهم يجتمعون لإحياء الليالي قائلين فلنعد إلى حالة الطفولة ولْنُناجِ الإله الصالح، يقولون هذا بعد أن تكون معدهم امتلأت بالحلوى من صنع أهل التقى، وهم يجتمعون أحيانًا في أوقات السمر؛ ليشهدوا حركات عنكب محتال يقف وراء الكمين ملقيًا على رفاقه العناكب مواعظ الحكمة قائلًا لهم: إن خير ما يرتاح العناكب إليه إنما هو حَبْكُ نسيجها في ظلال الصليب.

أتُراهم يقضون أيامًا طويلة يلقون الشباك في المستنقعات معتقدين أنهم يسبرون الأغوار، ولا يعلمون أن من يمضي الوقت بالصيد حيث لا أسماك لا يصح أن يدعو عمله حتى محاولة سطحية؟

وتراهم أحيانًا يمزجون تقواهم بالسرور فيتلقون دروسًا للعزف على القيثارة عند موسيقيٍّ يتلمس الطرق الموصلة إلى قلوب الصبايا وقد أتعبه ثناء العجائر.

أو يذهبون إلى حكيم لم يستكمل جنونه؛ ليتمرَّنوا على الرهبة والخوف فيقف معهم في غرفة مظلمة منتظرين ظهور الأرواح وقد طارت أرواحهم شَعَاعًا.

أو هم يتنصَّتون إلى دجَّال هرم يتجول منشدًا بنبرات لقنها الريح الأنين، فهو يقلد الريح داعيًا إلى الحزن بصوته الحزين.

ولقد اتخذ بعضهم مهنة الحراسة في الليل، فتعلموا النفخ في الأبواق ليذهبوا في الظلمة ويبعثوا كل قديم طواه الزمان.

مررت أمس قرب جدران الحديقة وقد أخلقها الدهر فسمعت من حارسين خمس كلمات تدور على القديم البالي.

قال أحدهما: إن هذا الإله يعتني برعاية أبنائه، فالآباء من البشر أشد عناية منه بأبنائهم.

فأجاب الآخر: لقد أدركه الهرم فهو لا يهتم لهم.

– وهل لهذا الآب من أولاد؟

– من سيثبت هذا إذا هو لم يثبته بنفسه، ولطالما تُقت أن أراه آتيًا ببرهانه عن جد.

– أهو يأتي بالبرهان؟ وفي أي زمان أقام شيئًا من الأدلة؟ إنه ليستصعب الإثبات ولكنه يتمسك بأن يؤمن الناس به.

– أجل! إن الإيمان ينقذ هذا الأب، وإذا قلت الإيمان فإنما أعني إيمانه هو بنفسه، وتلك شيمة من بلغوا من العمر عتيًّا، أفما نحن شيوخ وكلنا أشباه؟

بهذا كان يتحدث حارِسا الليل، وحرَّاس الليل أعداءٌ للنور، ونفخ كل منهما في بوقه بالنغم الحزين.

هذا ما شهدت أمس في الليل، وأنا سائر قرب الجدار القديم، فكنت أحس بقلبي يتفجر ضحكًا ويهزُّ أحشائي هزًّا، والحق أنني سأموت مختنقًا بضحكي من النظر إلى الحمير الثاملين ومن سماعي أمثال حراس الليل يرتابون بالله.

أفما انقضى منذ زمان طويل عهدُ الوقوف عند مثل هذه الشكوك؟ ومن يحق له يا تُرى أن يتقدم إلى هذه الأشياء المظلمة الثاوية ليبعثها من لحودها؟

لقد انقضى عهد قدماء الآلهة، فطوتهم الأحقاب وقد كان لهم الفناء بالمرح الإلهي الذي يليق بهم؛ لأنهم لم يمروا بالغَسَق ليتراموا إلى ظلمة الموت، وقد كذب من يدَّعي عكس ما أقول، فقدماء الآلهة انتحروا انتحارًا وهم بضحكهم يختنقون، انتحروا عندما تلفَّظ أحدهم بآية الجحود الكبرى قائلًا: أنا هو الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. فكأن هذا الإله قد أُخذ بغضبه وغيرته في شيخوخته فذهل هذا الذهول حتى أضحك جميع الآلهة، فتمايلوا على عروشهم هاتفين: أفليس في هذا النهي اعترافٌ بأن هنالك ألوهية لعدة أرباب، وليس هنالك رب واحد.

من له آذان صاغية فليسمع.١

هكذا تكلم زارا في مدينة «البقرة العديدة الألوان» التي يحبها، وكان لم يبق أمامه سوى مسافة يومين سيرًا ليصل إلى مغارته ويلتقي نسره وأفعوانه، فامتلأت روحه مسرة وحبورًا.

١  ورد في الإصحاح العشرين من سفر الخروج: «أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا ولا صورةً ما ممَّا في السماء من فوقُ وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن …»
فيا لأمانة نيتشه في وضعه أساس برهانه!
إن هذا الفيلسوف لم يتورع من بتر الكلام لتحويل معناه إلى ما يريد، فما أشبهه بمن ينادي المؤمنين إلى الامتناع عن الصلاة بآية: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ واقفًا عند النهي إطلاقًا.
أفليس من الغريب أن يعمد فيلسوف إلى إثبات تعدد الآلهة من نهي الناس عن الضلال وعن إقامة المعلول مقام العلة واتخاذ الفاني معبودًا أمام مبدأ الآزال والآباد؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤