الثلاثة الشرور

١

ورأيت في آخر أحلامي هذا الصباح أنني واقف على جرف ينهار إلى ما وراء هذا العالم، وقد نصبت بيدي ميزانًا طرحت الدنيا بإحدى كفتيه.

أوَّاه! ليت الفجر لم يباغتني بعنفه، فإنه لغيور عليَّ من أحلام صباحي وعنف أشباحها.

لقد أراني حلمي أن لمَن ملكَ الزمان أن يقيس الدنيا، ولمن أحسن الوزن أن يَزِنها، ولمن له جناحان جباران أن يجتاز مداها، وكل بصيرة حديدة تقتحم المعضلات بوسعها أن تدرك ما تضمر هذه الدنيا.

بأي صبر تذرَّع حلمي اليوم ليزن الدنيا، وهو المَرْكب نصفه شراعٌ ونصفه عاصفة، وهو السابح صامتًا بجناح الفراش والمنقضُّ متسارعًا بمخالب الصقور؟

هل أسرَّت حكمة نهاري نجواها إلى هذا الحلم، وهي الحكمة الهازئة بكل «العوالم التي لا حدَّ لها.» وأنا القائل: حيث توجد القوة فهنالك يتسلط الكمُّ فالعدد هو الأقوى.

لقد أحاط حلمي بكل وثوق بهذا العالم المتناهي فما ذهب مع سائق الفضول ولا التجسس، وما ارتعد ولا توسل.

رأيت الدنيا على متناول يدي كتفاحة ناضجة ذهبية ناضرة المنظر ناعمة الملمس.

رأيت الدنيا على الجرف العالي المشرف على البحر كأنها شجرة تومئ إليَّ وقد انبسطت أفنانها والتوى جزعها كمتكَأ للمسافر وقد أنهكه التعب.

رأيت العالم يتقدم لملاقاتي كأنه يدان تحملان طبقًا نُثر عليه كل ما تشتهي الأعين المتعففة الخاشعة.

إن العالم الذي طالما كان بغيضًا مذمومًا تجلَّى لي اليوم طيبًا في إنسانيته، فهو لا يصد الناس بانكماشه على أسراره، ولا يخدِّر حكمتهم بالإغراق في إبهامه.

أنا مدين بالشكر لحلم صباحي؛ لأنه وزن العالم في الساعة الأولى فبدأ لي العالم طيبًا في إنسانيته وهكذا جاء الحلم معزيًا لقلبي، وها أنذا أقتدي به وقد طلع النهار فأضع في الميزان الثلاثة الشرور العظمى.

إن الذي علَّم الناس أن يباركوا علَّمهم أيضًا أن يلعنوا، فما هي الأشياء الثلاثة المستحقة اللعنة في الأرض. إنها الثلاثة التي أريد وزنها: الشهوة والتحكم والأنانية، وهي التي استحقت أشد لعنات الناس حتى اليوم.

هذا هو الجرف الذي وقفت عليه في حلمي، وهو يشرف على البحر المتدحرج بقطعانه البيضاء نحوي، وما البحر إلا ذلك الكلب الهرم الأمين وذلك المسخ الرائع يشمخ بمئات الرءوس.

هنا أريد أن أنصب ميزاني فوق البحر الهائج، وأختار شاهدًا عليَّ هذه الشجرة المنفردة الوارفة الظلال المالئة الفضاء بعبيرها الشديد.

على أي جسر يتجه الحاضر إلى المستقبل، وما هي القوة التي تُكره المرتفع إلى الانخفاض إلى الأدنى، وتدفع بالأرفع إلى مرتبة أعلى.

تساوت كفتا ميزاني فقد طرحت في إحداهما ثلاث مسائل ثقيلة فإذا في الكفة الأخرى ثلاث أجوبة تضاهيها ثقلًا.

٢

الشهوة هي للمتقشفين المتقمصين الصوف الخشن والمحقِّرين للجسد؛ الحافزُ والمعذِّبُ في وقت واحد، وهي للمستغرقين في بحران العالم الثاني لعنةُ هذا العالم الأول؛ لأنها تهاجم أهل الضلال فتقصيهم وتطردهم طردًا.

الشهوة للئيم نارٌ يتحرق فيها اللؤماء، نار بطيئة الإحراق يتصاعد منها أشد الروائح كراهة.

الشهوة للقلوب الحرة عاطفة بريئة حرة، فهي سعادة الجنة الأرضية، وعرفان المستقبل جميل الحاضر.

الشهوة سُمٌ حلو المذاق لكل من عراه الذبول، غير أنها شراب القوة وخمرة الخمر للآساد يكرعونها بثمل الخاشعين.

الشهوة أعظم لذة ترمز إلى السعادة والأمل الأسمى؛ لأن في الحياة أشياء كثيرة حقَّ لها أن تتمتع بالاقتران بل بأكثر منه، فهنالك أشياء بعدت شقة الانفصال بينها بأكثر من انفراجها بين الرجل والمرأة، ومن تُرى تمكَّن يومًا من أن يدرك حقيقة تباعد أحدهما عن الآخر ومدى الشقة بينهما؟

إن الشهوة … سأضع حصونًا بين أفكاري، وأمتنع عن الكلام كيلا يجتاح جنتي الخنازير والمتهوسون.

أما الطموح إلى التحكم فسوطٌ يلهب أشد القلوب قسوة، وعذابُ استشهاد يُعد للطغاة لهبًا قاتمًا من محارق الأحياء.

إن الطموح إلى التحكم لجامٌ قاسٍ تُراض به أشد الشعوب غرورًا، فهو المداعب للفضائل الحائرة الممتطية صهوات الخيلاء.

إن الطموح إلى التحكم زلزال هدام لكل متداعٍ قديم، فهو الثائر المحطم للقبور المكلَّسة يُزمجر وينزل العقاب، وهو نبرة الاستفهام تتعالى تجاه كل جواب مُبتسر.

إن للطموح إلى التحكم نظراتٍ تحني هام الرجال فتجعلهم يزحفون زحفًا، وتستعبدهم وتهوي بهم إلى دركة أحط من دركة الخنزير والأفعى إلى أن يأتيهم الاحتقار بالسكون.

ما الطموح إلى الحكم إلا المعلم المخوف يلقن الازدراء الأعظم صارخًا بوجه المدن والممالك: أفسحي لي المجال ولا يزال يهتف حتى تنادي قائلة: إنني أفسح لك مجالًا.

إن الطموح إلى الحكم يتعالى أيضًا نحو الأتقياء والمنعزلين ليستهويهم فيذهب إلى ذرى الاعتزاز بالنفس كأنه غرام مشتعل يرسم في الخيال المسرات الحمراء الساحرة.

ومن له أن يدعو هذه الشهوة للتحكم طموحًا، وما هي إلا اندفاع من الأعالي إلى الأعماق طلبًا للقوة، وما أرى في مثل هذا الانحدار شيئًا من حرارة الحمَّى ولا من أعراض الأدواء.

ليس للذُّري المنفردة أن تبقى أبدًا منقطعة إلى نفسها، فلتنحدر الأنجاد إلى الأغوار ولتهب الرياح العالية في مناسف الأعماق.

إن مثل هذا الطموح لأسمى من أن يصفه بيان فهو «الفضيلة الواهبة» كما دعاه زارا من قديم الزمان، فكان بوصفه هذا يوجه الثناء لأول مرة إلى الأنانية، وما الأنانية إلا توكيد للذات يتفجر من الروح المقتدرة، من روحٍ جبَّارة اتحدت بجسم متكامل في جماله وانتصاره، فأصبح كل ما حولها يستمد القوة منها ويعكس كالمرآة خيالها.

وما الجسم المرن الذي ينطوي على قوة الإقناع إلا كالراقص الذي يرمز بحركاته عن مسرة نفسه، وهل المرح الأناني في مثل هذه الأرواح والجسوم إلا الفضيلة بعينها.

ومهما يقل هذا المرح الأناني عن الخير والشر فإنه يحوط نفسه بما يقول بغابة مقدسة لوقايتها، فهو يتمتم بأسماء السعادة كتعويذة ترد عنه كل ما يستحق الاحتقار.

إنه ليقصي كل ما هو دنيء؛ إذ يعتبره شرًّا وما الدنيء المحتقَر لديه إلا المتألم لا ينقطع عن الشكوى والأنين، ولا يتأخر عن التقاط أية فائدة مهما صغرت.

وهذا المرح يكره كل حكمة معولة؛ لأن من الحكمة ما لا تنور إلا في الظلام فتلوح كأشباح الليل هاتفة: كل شيء باطل.

وهو لا يحترم أبناء الرِّيبة القلقة يطلبون من الناس الأيمانات المغلَّظة بدلًا من النظرة الصريحة واليد الممتدة بإخلاص، كما أنه لا يحترم الحكمة المدَّعية الحزم بسوء الظن؛ لأن بمثل هذا تنمُّ النفوس عن خَوَرها وجبنها.

وليست المجاملة بأقل دناءة في عينه، فهي كالكلب ينطرح متصاغرًا على ظهره، ولكَم من حكمة كهذا الكلب زحَّافة خاشعة متلاطفة.

ولكن ما يكرهه المرح الأناني فوق كل كره الرجلُ المستنيم للضيم، الممتنع عن الدفاع، المزدرد ما يتفل الناس على فمه من سموم وما يُلقى عليه من النظر الشذر، الرجلُ الموغل في صبره المتحمِّل لكل شيء والقانع بكل شيء، تلك شيمة المستعبَد المأجور.

إن هذه الأنانية السعيدة تتسفل في وجه كل عبودية، فتزدري بكل متصاغر أمام الأرباب يركلونه بأرجلهم وأمام الناس ووراء الناس.

إن هذه الأنانية تعد شرًّا كل متَدَنٍّ منكسر يستسلم للعبودية بعين منخفضة وقلب منسحق، وكل مصانع ينحني مقبِّلًا الراحات بشفاه متراخية مرتجفة.

إنها لتدعو حكمة مضلِّلة كل كلمة ناعمة يتلفظ بها المستبعَدون ومن دبَّ إليهم الهرم ومن أرهقتهم العلل، وتدعو بهذا الوصف أيضًا ما يتفوه به الكهان في جنونهم وادعائهم.

إنما الحكماءُ الكذبة جميعُ الكهنة وجميع من سئموا الحياة، وكل من تجول فيهم أرواح النساء والمستخدَمين، إن مثل هؤلاء الناس يدسون للأنانية ويتآمرون عليها، مدعين أن محاربتها هي الفضيلة بعينها، ولهذا طمح جميع الجبناء والعناكب المتعبة من الحياة إلى الادعاء بالتنزه عن كل مأرب في أعمالهم.

سيتدفق النور مكتسحًا لهؤلاء الناس جميعًا، وعندئذ يلمع سيف الظهيرة الكبرى، سيف الدينونة الفضَّاح.

أما من يمجد الذاتية وينادي بالأنانية فذلك وحده يقول بما يعلم عندما يهتف: لقد لاحت تباشير الظهيرة العظمى، ولن يطول الزمن حتى تتوهج أنوارها في الآفاق.

هكذا تكلم زارا …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤