الوصايا القديمة والوصايا الجديدة

١

ها أنذا جالس أنتظر بين ركام الألواح القديمة المحطَّمة والألواح الجديدة، ولمَّا تُستكمل كتابة الوصايا عليها.

فأي متى تأتي ساعتي؟ ساعةُ انحداري وجنوحي، فإنني أريد أن أنحدر إلى الناس ثانية، وذلك هو سبب انتظاري؛ إذ لا بد أن تُعلن لي علامة اقتراب الساعة فأرى الأسد الضاحك وسرب الحمام الزاحف.

وإلى ذلك الحين أتكلم كمن له سعة من وقته فأخاطب نفسي وأقص عليها ما أعلم؛ إذ لا يقص عليَّ أحدٌ شيئًا جديدًا.

٢

عندما أتيت إلى العالم وجدته جالسًا على افتراضات قديمة، واثقًا أنه عرف كل شيء وميز بين خير الحياة وشرها.

ورأيت الناس يعتقدون أن كل بحث عن الفضيلة قد انقضى زمانه، وبالرغم من هذه العقيدة كان كل منهم يأتي على ذكر الخير وهو متجه إلى سريره طلبًا للنوم الهنيء.

فوقفت أنبه الغافلين وأنا أعلن أن ليس من أحد عرف حقيقة الخير والشر؛ لأن المبدع وحده يعرفها، وهو من يخلق أهدافًا للناس ويولي الأرض معناها ومقدراتها، فليس سواه من يوجد لكل شيء خيره وشره.

وأمرت الناس بأن يهدموا كل قديم، وأن يقفوا أمام كل عقيدة هرمة ضاحكين مستهزئين بمعلميهم وقدِّيسيهم وشعرائهم ومخلصي عالمهم.

أمرتهم بأن يهزءوا بصرامة حكمائهم وحذرتهم من المفزعات السوداء المنصوبة على شجرة الحياة.

أمرتهم، واتخذت لي مقعدًا عند حافة مضيقهم، وقد حفل بالنعوش والأشلاء وحامت فوقه الغربان، وبت أضحك هازئًا بماضيهم المتداعي وقد تناثرت أمجاده، وأثور كمن أُعطي سلطانًا على الخير والشر وكمن مسَّه الجنون صابًّا جام الغضب واللعنة على كل كبائرهم وصغائرهم، وما هزئت إلا بأحقر ما في خيرهم وشرهم.

لقد كانت أشواقي تتدفق مني هتافًا وضحكًا، وما أشواقي إلا الحكمة المتوحشة التي نشأت في أعالي الجبال بجناحين يملأ حفيفهما الفضاء، ولكَم تسامت هذه الأشواق بي إلى ما فوق الذرى، فاندفعت معها كالسهم المرتعش يهزه حنينه إلى مصدر النور، إلى مجاهل المستقبل التي لم تبلغها الأحلام، إلى الظهيرات التي لم يلمس الوهم حرارتها، إلى حيث يرقص الآلهة وقد استحيوا من الاستتار بأي رداء.

ليس لي أن أصف ما هنالك بغير الرموز؛ لذلك أجدني محفوزًا إلى تمتمة ما أقول فأتذبذب كالشعراء، والحق أنني لأخجل من اضطراري إلى الأخذ ببيانهم.

لقد لاح لي كل شيء رقصًا ونكات إلهية؛ لأن العالم قد انطلق هنالك من كل قيد فالتجأ إلى نفسه، فازعًا إليها كما يفزع الآلهة أبدًا إلى ذاتهم مفتشين عليها بإنكارها وبتكرار العودة إليها.

هنالك لاح لي الزمان سخرية بالأزمان المجزَّأة، ورأيت واجب الوجود عبارة عن حرية سعيدة تداعب الحرية نفسها.

هنالك وجدت شيطاني القديم وعدوي الحديث روح الكثافة، وما أبدع من قبور وشرائع وضرورة ونتائج وأهداف وإرادة وخير وشر.

وجدت كل هذا ميدانًا ممهدًا لأقدام الراقصين، فليس من مرقص بلا مسرح، وليس من روح خفيفة لا تزحف عند أقدامها الخلدان والأقزام.

٣

هنالك أيضًا ظفرت بكلمة «الإنسان المتفوق» وبالتعليم القائم على أن الإنسان كائن يجب أن ينشأ منه ما يجتازه، ليس الإنسان هدفًا وغاية إنْ هو إلا عابر يدَّعي السعادة في ظهيرته ومسائه.

إن كلمات زارا عن الظهيرة العظمى وجميع ما رفعه فوق العالم إنْ هو إلا غروب أرجواني ثانٍ ينفلق من ورائه الفجر الجديد.

لقد عرضتُ لأنظار الناس كواكب جديدة ولياليَ لا عهد لهم بها، ونثرتُ الضحك على غيوم الليل والنهار فضربت قبَّة زاهية بعديد ألوانها.

علمت الناس جميع أفكاري وأبنت لهم جميع رغباتي؛ إذ أردت أن أجمع وأوحد ما في الإنسانية من بدد الأسرار وتصاريف الحدثان، فقمت بينهم شاعرًا أحل الرموز وأفتديهم من الصدف العمياء؛ لأعلمهم أن يبدعوا المستقبل وينقذوا بإبداعهم ما انصرم من الأحقاب.

لقد وجهت الناس إلى إنقاذ الإنسانية مما أدرج الماضي في أغوارها بتغيير كل «ما كان» إلى أن تنتصب الإرادات معلنة أن ما تمَّ هو ما كانت تريد أن يكون، وأن هذا ما ستريده في كل زمان.

بهذا رأيت السلام للناس، وهذا ما علَّمتهم أن يدعوه سلامًا.

وأنا الآن أتوقع السلام لي لأعود للمرة الأخيرة للناس؛ لأنني أريد أن أذهب من بينهم إلى الفناء، فأودعهم أثمن كنوزي أسوة بالشمس تلقي على البحار نضارها وهي تتوارى في الظلام، حتى ترى أفقر الصيادين يداعبون صفحة البحر بالمجاذيف المذهبة.

لقد تعلمت هذا الجود من الشمس عندما كنت أشخص إليها غاربة فتندفق الدموع من عينيَّ.

هكذا يريد زارا أن يتوارى فيغرب كما تغرب الشمس، وها هو ذا جالس ينتظر بين ركام الألواح القديمة المحطمة والألواح الجديدة، ولمَّا تُستكمل كتابة الوصايا عليها.

٤

انتبهوا، إنني آتيكم بلوح جديد، ولكن أين هم إخوتي يحملون معي هذا اللوح إلى الوادي؛ لتحفر وصاياه على أعشار القلوب.

إن محبتي لمن سيأتون فيما بعد تقضي بهذه الوصية: لا تدار قريبك؛ لأن الإنسان معبرٌ يجب علينا اجتيازه للتفوق عليه.

وقد أعطي للإنسان أن يجتاز نفسه على طرق عديدة وبوسائل عديدة، فما عليك إلا أن تتجه للوصول، وليس غير الممثل المضحك من يقول بإمكان التفوق على الإنسان طفرًا وقفزًا.

تفوَّق على نفسك في ذات قريبك، فلا تدعه يُنيلك حقًّا بوسعك أن تأخذه اقتدارًا، فإن ما تفعله لا يبادلك إياه أحد؛ لأن ليس من مكافأة في العالم، ومن لا قبل له بحكم نفسه وجبت الطاعة عليه.

إن في العالم كثيرين يعرفون أن يتحكموا بأنفسهم، ولكنهم لا يعرفون كيف يطاوعونها.

٥

إن النفوس النبيلة تأنف أن تأخذ شيئًا بلا بدل فهي ترد الحياة قبل كل شيء إذا هي لم تكتسب عيشها، أما القطيع البشري فيريد أن يعيش دون أن يبذل شيئًا.

لقد وُهبت لنا الحياة فعلينا أن نفكر في كل حين بخير ما يمكننا أن نبذل لقاء هذه الحياة، وهل أشرف من أن نقول: يجب أن نحقق للحياة ما وعدتنا به.

ليس للمرء أن يتمتع بلذة إذا هو لم يبذل لذة، فما اللذة عبارة عن التوجه للتمتع بها؛ لأن التلذذ كالطهارة كلاهما حييٌّ ممنَّع، وليس لأحد أن يفتش عليها إذا هو لم يملكها امتلاكًا، وخير له أن يفتش في هذه الحال على الدنس والأوجاع.

٦

كل طليعة تُضحَّى، أيها الإخوة، وهل نحن إلا طليعة مُنذِرة، تنزف جراحنا دمًا في هيكل الأسرار، ونُقدَّم محرقة يذوب لحمها تمجيدًا للأصنام القديمة.

إن خير ما فينا لم يزل غضًّا رطيبًا، وذلك ما يهيج شهوة الأشداق الهرمة، فلحمنا طريٌّ وجلودنا جلود حملان، فكيف لا نثير جشع الكهان في هياكل الأوثان؟

إن كاهن الأوثان الهرم لم يزل يسكن ذاتنا الخفية، وهو يتهيأ لإقامة وليمة يبتلع فيها خير ما فينا، فكيف تسَلَم الطليعة، أيها الإخوة، من أن تصبح ضحية وقربانًا؟

ولكن بهذا تقضي مهمتنا وأنا أحب من لا يتمسك بالبقاء، ومن يتوارون أُرفقهم بكل عطفي؛ لأنهم يذهبون إلى الجهة الأخرى.

٧

ما أقل من يعرفون الصدق والإخلاص! والعارف لحقيقة الصراحة لا يريد أن يكون صريحًا، فأكثر الناس تمويهًا هم المشفقون؛ لأنهم لا ينطقون أبدًا بالحق، ومثل هذا الإشفاق مرض كامن في العقل.

إن الرحماء يرضخون ويستسلمون للقلب يملي إرادته فيهم على العقل والعقل يمتثل دون تروٍّ وإدراك، فما تتكون الحقيقة في الرحماء إلا من تراكم كل ما هو شر في عينهم، فهل لديكم من الشر ما يكفي لإيجاد مثل هذه الحقيقة أيها الإخوة؟!

لا تولد الحقيقة إلا من تزاوج الوقاحة وسوء الظن والرفض القاسي والكره والشقاق في الحياة، وما أصعب أن تتوافق وتتحد جميع هذه المقدمات!

إن الضمير الشامل قد نشأ حتى اليوم قرب الضمير الشرير، فهيَّا أيها الإخوة إلى تحطيم الألواح القديمة إذا كنتم تفتشون عن مبدأ المعرفة.

٨

إذا رأيت المعابر منصوبة فوق مجاري المياه، والجسور معقودة فوق الأنهار، فهل تصدق من ينادي بالثبور وينذر بالغرق إذا كان الحكماء أنفسهم يكذبونه؟!

إن كل ما يعلو النهر من معابر، كل ما هو خير وكل ما هو شر ثابت مكين، وعندما يجيء الشتاء المتسلط على الأنهار يرتاب في ثبات كل الأشياء أشدُّ الناس فطنة، غير أن من يحبون الاستغراق في نوم الشتاء والاستسلام إلى بطالته يحلو لهم أن يعتقدوا برسوخ المعابر وسكون كل حركة في الأعماق، ولكن الهواء المذيب للجليد يكذب هذه الطمأنينة؛ إذ يهب كأنه الثور الهائج ضاربًا الجليد بقرنيه، وإذ يتحطم الجليد تتداعي الجسور، وعندئذ تغرق في المياه كل المعابر فلا يجد أحد ما يستند إليه من الخير والشر.

يا لشقائنا، بل يا لسعادتنا! لقد هبت الأرياح تذيب الجليد، فاذهبوا يا إخوتي على الطرق مبشرين بهبوبه.

٩

إن من الجنون جنونًا قديمًا عرف بالخير والشر، فدار حتى اليوم على محور العرافين والمنجمين.

لقد ساد الاعتقاد فيما مضى بالعرافة والتنجيم؛ لذلك آمن الناس بالقضاء المحتوم فقالوا بالواقع وجوبًا، وداخلهم الشك في الكشف فارتدوا إلى الإرادة الحرة ينادون بها قائلين: إذا أنت أردت فقد قدرت.

أيها الإخوة، كل ما بني حتى اليوم على استنطاق النجوم والمستقبل لم يكن إلا افتراضًا يقوم على افتراض؛ لذلك لم يعرف أحد شيئًا عن الخير والشر، وما قيل عنهما لم يتعدَّ حدود الرجم بالغيب.

١٠

لا تسرق، لا تقتل: تلك كلمات كانت مقدسة في غابر الزمان، إذا سمعها إنسان جثا على ركبتيه، وأحنى رأسه وخلع نعليه.

غير أنني أسألكم فأجيبوا: هل وُجد في الدنيا لصوص وقتلة أوفر سرقة وأشد فتكًا ممن استفزتهم هذه الكلمات المقدسة؟

أفليست السرقة والقتل من طبيعة الحياة نفسها؟ وهل كان تقديس هذه الكلمات النافية إلا قتلًا لحقيقة الحياة؟

أكان القصد من مغالطة الحياة والردع عنها إذن دعوة في سبيل الموت والفناء.

أيْ إخوتي، حطِّموا هذه الألواح القديمة ولا تترددوا.

١١

إنني لأشعر بإشفاق على الماضي وقد أصبح متروكًا مهملًا، معرضًا لما سينشأ في الأجيال الآتية من اعتبار وتفكير وجنون، فإن هذه الأجيال ستصطنع لنفسها جسرًا من كل قديم مضى عهده.

لقد يجيء طاغية له روح إبليس يتسلط على الماضي بلطفه وعنفه فيعالجه حتى يصبح معبرًا لإقدامه وشعارًا له ومكانًا يصيح عليه ديك فجره.

غير أن إشفاقي ينطوي أيضًا على توقع الخطر: لأن تفكير من ينشأ من الغوغاء لا يذهب إلى عهد أبعد من عهد جده، وهنالك يتناهى في تقديره الزمان القديم.

إلا أن الماضي أصبح متروكًا، وقد تسود الغوغاء يومًا فتدفع إلى اللجج بميراث العصور.

لذلك وجب أن تقوم فئة لها نبلها الحديث تناوئ الغوغاء وتصد الطغاة، فئة نبيلة تُنزل الشرف وصية محفورة على ألواح جديدة.

لا يقوم النبل إن لم يكثر عدد النبلاء، وقد أوردت هذا المبدأ ورمزت إليه عندما قلت: بتعدد الآلهة لا بالإله الواحد تقوم الألوهية.

١٢

إنني أوليكم النبل الجديد، أيها الإخوة، عندما أقتضي منكم أن تبدعوا وتعلِّموا وتلقوا بذوركم لآتي الزمان.

تلك كرامة لا يسعكم ابتياعها بذهب التعامل كالمتاجرين، وما أزهد قيمة ما يباع ويشرى!

لن يكون حَسَبكم بعد الآن مشرِّفًا لكم، بل الهدف الذي تتجهون إليه أن شرفكم كامن في إرادتكم وفي الخطوة التي تندفعون بها إلى التفوق على أنفسكم واجتياز حدودها، ذلك هو شرفكم الجديد.

إن خدمتكم لأميرٍ لا تُنيلكم شرفًا، وما هو قدر الأمراء، وهل يشرفكم أن تقفوا كالحصون حول ما هو كائن لتزيدوا في مناعته وتطيلوا بقاءه؟

انسحبوا من السلالة التي تعلمت التلون في القصور، وتعودت الوقوف أبدًا أمام المياه الآسنة، إن علم الوقوف على القدمين يُعد فضيلة لخدام القصور، وهم لا يتوقعون الحصول على لذة الاستراحة إلا إذا طرحهم الموت عن مواقفهم.

ليس شرفكم أيضًا في انتسابكم إلى أجداد قذف بهم روحٌ يدعونه روح القدس إلى أرض الميعاد، إلى الأرض التي لا أجد فيها ما يُحمَد، وهل تحمد تربة أنبتتْ أسواءَ الأشجار: عود الصليب.١

وهل سارت فيالق الفرسان أيان كان يدفعها هذا الروح القدس إلا ومن ورائها قطعان الماعز والبط ورهط المجانين والمعتوهين.

أي إخوتي، ليس إلى ما ورائكم يجب أن يتطلع نُبْلكم، بل إلى ما هو خارج عن سبيلكم، عليكم أن تنفوا نفوسكم من جميع البلدان والمواطن التي سكنها أجدادكم.

لا تعلقوا قلوبكم إلا على أوطان أبنائكم، وليكن هذا الحب حَسَبكم النبيل الجديد، تلك هي الأوطان التي لم تطأها قدم بعد وراء البحار السحيقة، وأنا آمركم بنشر شراعكم للتفتيش على مراسيها.

عليكم أن تكفِّروا أمام أبنائكم عن ذنب تحدُّرِكم من آبائكم، وبغير هذه الكفارة لن تنقذوا الماضي.

هذه هي الوصية الجديدة أعلِّق لوحها فوق رءوسكم.

١٣

لماذا نحن نحيا، وكل شيء باطل! وهل الحياة إلا عبارة عن دق سنابل والاصطلاء قرب نار تحرق ولا تدفئ.

هذه هي الثرثرة القديمة لا تزال تُحسب حكمة، والناطقون بها شيوخ تفوح منهم رائحة الانزواء، والتعفن يكسب نبلًا فهؤلاء الشيوخ لتعفنهم يكرَّمون وما يقصر الأطفال عن الإتيان بمثل وصاياهم، لقد لذعتهم النار فهم يخافونها، إن كتب الحكمة القديمة مشحونة بكثير من الأوهام الصبيانية.

إن من يدق السنابل لا يحق له أن يهزأ بمن يستخرج القمح منها، إن هؤلاء المستهزئين لمجانين يجدر بنا تقييدهم، فأمثالهم يجلسون إلى الموائد دون أن يأتوها بشيء حتى ولا بشهية للطعام، فهم يجدفون قائلين: إن كل شيء باطل.

صدقوني أيها الإخوة، إن من يحسن الأكل والشرب لا يمتلك فناء باطلًا حطموا، حطموا ألواح الوصايا التي كتبها من لا يزالون أبدًا ساخطين متذمرين.

١٤

«إن الطاهر يرى كل شيء طاهرًا.» هذا ما يقول به الشعب.

أما أنا فأقول لكم إن كل شيء خنزيري في عين الخنازير.

ولذلك يقف المأخوذون بالتواضع وانسحاق القلب داعين الناس إلى الاعتقاد بأن العالم مستنقع أوحال وأوضار، وما الأوضار إلا في عقول هؤلاء الوعاظ الذين لا يحلو لهم أن ينظروا الدنيا إلا مدبرة فما يستهويهم منها إلا قفاها …

إلا أنني أصرخ بوجه هؤلاء المأخوذين وإن جنحت عن حدود اللياقة لأقول لهم: إن العالم لشبيه بالإنسان فله أيضًا قفاه، وفي هذا العالم كثير من الأقذار أيضًا، ولكنه ليس مستنقعًا يغص بالأوضار على رحبه.

لقد أرادت الحكمة أن يكون في العالم أشياء كثيرة تنبعث الروائح الكريهة منها، فإن الكراهة تستنبت الأجنحة وتولد الشوق إلى صافيات الينابيع.

إن خير مَن في الحياة لا يخلون مما يوجب الاشمئزاز، بل في أرقاهم ما يجب اجتيازه والتفوق عليه، فمن الحكمة إذن، يا إخوتي، أن تكون الأقذار كثيرة في هذا العالم.

١٥

لكَم سمعت الأتقياء المأخوذين بالعالم الآخر يناجون ضمائرهم بأقوال سداها الضلال ولحمتها الشر، يقولونها مصدقين بها لا مواربين ولا مازحين.

«دع العالم على حاله ولا تحرك إصبعًا لاعتراضه في سبيله، دع الناس يستسلمون لأية يد تشد على خناقهم، دعهم يتناحرون ويتضاربون ويتعاملون بالسوء ويتسالخون، إياك أن تحرك إصبعًا لردعهم، دعهم وما يفعلون فإنهم بذلك ينتهون إلى الزهد بهذا العالم.»

«احذر حكمتك؛ لأنها هي أيضًا من هذه الدنيا وعليك أن تكبتها وأن تنحرها نحرًا؛ لأنك بذلك تتعلم أنت أيضًا الزهد بهذا العالم.»

أيْ إخوتي، تقدموا إلى هذه الألواح القديمة، ألواح وصايا الأتقياء وحطموها تحطيمًا، بل اقضموا بأسنانكم هذه الوصايا فلا تتفوه شفاهكم بها لأنها كلمات المشنعين بالحياة.

١٦

سمعت الناس يتهامسون في الأزقة المظلمة قائلين: «من يتعلم كثيرًا يفقد شهواته العنيفة كلها.»

ورأيت ألواح وصية جديدة تعلق حتى في الساحات العمومية وقد كتب عليها: «الحكمة مرهقة، ولا شيء يستحق العناء، فلا تعلق شهوتك على شيء.»

سارعوا أيها الإخوة إلى تحطيم هذه الألواح الجديدة، وما علقها فوق الرءوس إلا من تعبوا من الحياة، ما علقها الإ كهان الموت وحراس المواخير، وهل هذه الوصية إلا دعوة إلى العبودية.

لقد تعلم هؤلاء الكهنة والحراس ولكنهم اتبعوا منهجًا سيئًا؛ فأغفلوا من العلوم خيارها، تعلموا قبل الأوان متسرِّعين، فازدردوا ما تناولوا حتى استحكم في مِعَدهم الداء، وما عقلهم إلا معدة عليلة ساء هضمها ولهذا ينادي عقلهم بالفناء.

إن الحياة ينبوع مسرة، ولكن المنتصت إلى عقله المَمْعود وقد ساء التمثيل فيه وحكمته السوداء يخيل له أن في كل ينبوع سمومًا.

إن المعرفة مسرة لمن تعززه إرادة الأسد، وما المتعب تسيره إرادة سواه إلا قطعة عائمة تتقاذفها الأمواج، وهل الضعفاء إلا من أضلوا السبيل حتى إذا نفدت قواهم وقفوا متسائلين عمن دفع بهم إلى السير قائلين أن لا شيء يستحق الاهتمام، هؤلاء هم من يلذ لهم سماع الداعين إلى الاستعباد بقولهم: لا شيء يستحق الاهتمام، فعليكم أن تشلوا إرادتكم.

أي إخوتي، إن زارا يهب كالهواء اللافح مدغدغًا معاطس كل من أتعبهم السير على طرقهم، وهذا الهواء الطلق يخترق حتى جدران السجون ويبلغ حتى سجناء التفكير.

لا مخلص إلا الإرادة لأن الإرادة مبدعة، هذا هو تعليمي، وعلى الإنسان أن يتعلم ليبدع، وعليه أن يأخذ عني دون سواي الطريقة التي تبلغه العلم.

من له أذنان سامعتان فليسمع.

١٧

لقد أُعدَّت السفينة فهي متجه إلى بعيد، ولعلها سائرة إلى لجة العدم، فهل فيكم من يريد السفر إلى المجهول المفترض؟

ليس منكم واحد يريد أن يركب هذه العائمة، سفينة الموت فعلامَ تريدون إذن أن تسئموا الحياة؟

أيها المتعبون من الدنيا قبل أن يستعيدكم ترابها، ما عهدتكم إلا متشوقين للأرض عاشقين لمتاعبكم منها.

هذه شفتكم تتدلى بشهوة ترابية تعلقت فيها، وهذه نظراتكم تجول فيها خيالات ملذات أرضية لما نسيتموها بعد.

إن على الأرض مُبدعات وفيرة بعضها للفائدة والبعض الآخر للتنعم، فأحبوا الأرض من أجل هذه المبدعات، وفيها ما جمع كنهود الكواعب بين ما يفيد الحياة ويبهج الحياة.

أمَّا أنتم أيها المتعبون من العالم، أيها المتكاسلون، فقد حق عليكم أن تدغدغ جلودكم السياط لتشتد عزائمكم وقوائمكم؛ لأنكم إذا لم تكونوا ممن نفدت قواهم فتعبت الأرض منهم، فأنتم ولا ريب من فئة المحتالين المتكاسلين أو من المنتقمين المنقطعين إلى اللذات كالهررة الجشعة الخبيثة. إذا أنتم أصررتم على اختيار الجمود وامتنعتم عن الركض بفرح وحبور، فما لكم إلا أن تتواروا عن الوجود.

لا دواء للداء العُقام، هكذا يعلم زارا، فاغربوا إذن عن الحياة.

ولكن الإتيان ببيت الختام في قصيدة أصعب من نظم بيوت جديدة فيها، ووضع حد للحياة يستلزم من الشجاعة ما لا يقتضيه البقاء فيها، وذلك ما يعرفه الشعراء ولا يجهله الأطباء.

١٨

أي إخوتي، لقد كتب التعب وصاياه كما كتب الكسل وصاياه أيضًا، وبالرغم من أن نص كليهما واحد فإن معنى كلٍّ منهما يختلف عن الآخر، وهل كالكسل ما يدخل التعفن إلى النفوس.

انظروا إلى هذا الرجل وقد تراخت عزيمته، ولم يبق بينه وبين هدفه إلا قيد شبر واحد، ولكن التعب أضناه، فأصبح وهو الجسور المقدام منطرحًا على الرمال متبرمًا حانقًا.

ها هو ذا يتثاءب من لغبه، وقد سئم الطريق والأرض والهدف حتى سئم نفسه، فهو لا يريد أن يخطو خطوة واحدة بعد.

إن الشمس ترشقه بسهامها وقد دارت به الكلاب متحفزة؛ لتلغ ما تصبب من عرقه وهو لا يزال ممددًا ممنَّعًا بعناده مفضلًا على النهوض أن تنثره الشمس رمادًا.

يا للغرابة أن يفنى الإنسان وهو على قيد شبر من هدفه! تقدموا وجروا البطل بشعره لإبلاغه الجنة التي تاق إليها.

ولكن لا! خيرٌ لهذا الرجل أن تَدَعوه حيث انطرح ليأتيه الوسن المعزِّي ويتساقط عليه الرذاذ المبرد من السحاب.

دعوه يغط في نومه إلى أن ينتبه لنفسه، إلى أن يتغلب وحده على التعب وعلى كل ما علَّمه أن يتعب.

ولكن اطردوا من حوله الكلاب الخبيثة الكسولة وأسراب الذباب المالئة جوَّه بالطنين، وما هي إلا أرهاط المثقفين المتغذين مما تنضحه رءوس الأبطال.

١٩

إنني أرسم حولي خطوطًا وأنصب التخوم حدودًا مقدسة؛ لذلك يتناقص عدد من يتسلقون الجبال معي كلما ازددت ارتفاعًا نحو الذرى، فحاذروا يا إخوتي، في أي مرتقى أن يندسَّ بينكم الطفيليون، إن الطفيلي حشرة تتغذى من كل خلية عليلة فيكم، فهي تهتدي بالغريزة إلى مواطن ضعفكم وتدرك بسليقتها الزمن الذي تهي فيه عزائمكم، فلا تلبث أن تعشش في مكامن استيائكم ووهن معزتكم.

إن مثل هذه الحشرة لا تتخذ مقرها الكريه إلا في مكامن الضعف من الأقوياء وفي مواطن الإشفاق من النبلاء، وحيث تلوح لها علة حقيرة لعظيم فهنالك تتخذ مسكنًا لها.

إن أدنى فئة وأحطها في أي نوع إنما هم الطفيليون وما يغذِّي هذه الفئة الدنيئة إلا أرفع فئة وأشرفها في ذلك النوع، وكيف لا يتراكم العدد الأوفر من الطفيليين على نفسٍ طال سلمها فطال المدى بين أحط مدرج وأعلى مدرج فيها.

كيف لا يتراكمون على نفس رحب مداها؛ فتراكضت فيه تائهة مستسلمة للطارئات، على نفس تستغرق في آتي الزمان وتندفع إلى أغوار الإرادة والشوق، على نفس تفزع من ذاتها وتفزع إلى ذاتها مندفعة منجذبة في أفسح دائرة وأبعد مجال، على نفس تناهت في الحكمة فراودتها على مهل طلائع الجنون، وتلك هي النفس التي أحبت ذاتها فوق كل حب فبدت فيها مصاعد ومنازل لكل الأشياء، واتسعت لكل جزر ومدٍّ فكيف لا تعلق بأكبر النفوس أحقر فئات الطفيليين …

٢٠

ما أحسبني قاسيًا عاتيًا، ومع ذلك فإنني أقول لكم: إذا ما رأيتم متداعيًا إلى السقوط فادفعوه بأيديكم وأجهزوا عليه.

إن كل شيء يتفسخ ويتداعى في هذا الزمان، فمن ترى يحاول دعم ما هوى؟ أما أنا فإنني أريد سقوطه.

وإذا كنتم لم تتذوقوا لذة دفع الصخور من ذرى المنحدرات فانظروا إلى رجال هذا الزمان يتدهورون إلى أغواري.

ما أنا إلا أول المدحرجين وسيأتي بعدي من تفوق مهارته مهارتي، فاقتدوا الآن بي.

كل إنسان تعجزون عن تعليمه الطيران علِّموه على الأقل أن يسرع بالسقوط.

٢١

إنني أحب الشجعان، وما يقنع إعجابي منهم بإحكامهم ضرب السيف؛ إذ عليهم أيضًا أن يمهروا في اختيار من يضربون.

ولقد يكون الإقدام الأوفى في الإحجام أحيانًا وفي الاحتفاظ بالقوة لمن يستحق أن تبذل له.

لا تتخذوا لكم من الأعداء إلا من يستحق البغضاء، وتجاوزوا عن عداء من لا يستحق إلا الاحتقار؛ إذ عليكم أن تباهوا بعدوكم وما هذه أول مرة آتيكم فيها بهذه الوصية.

احتفظوا بقوتكم، وما أكثر من يجب أن تمروا بهم متغافلين! وأحقهم بإغفالكم أولائك الزعانف الذين يخدشون آذانكم بما يتصايحون به عن الأمم والشعوب.

أعرضوا عما يهاجمون به من حُجج، وعما يدافعون به من براهين، فما أقوالهم إلا مزيج توافر حقه وباطله، ومن أصغى إليها لا يأمن ثورة غضبه، فإذا هو منقاد إلى إرسال ضرباته يمنة ويسرة في الجموع؛ لذلك سارعوا للالتجاء إلى الغابات ودعوا سيوفكم مرتاحة في أغمادها.

سيروا في طريقكم ودعوا الأمم والشعوب تتبع مسالكها، إنها لمسالك جلَّلها الظلام فلن يلوح عليها بارقٌ لأمل.

على تلك السبل لا يسود إلا المتاجرون بالسلع؛ حيث لا بارقة إلا من لمعان دنانيرهم، فقد انقضى عهد الملكية وما هذه الكتل التي يسمونها شعوبًا لتستحق قيادة الملوك.

انظروا إلى هذه الأمم وقد أصبحت تمثل دور بائع السلع بمجموعها تروها تجمع حقيرات الأرباح من أقذار أية دمنة لاحت لها، لقد انتصبت كل أمة تترصد الأخرى وتقلِّدها وتدَّعي جميعها حرمة الجوار. فيا له عهدًا سعيدًا ذلك الزمان الذي كان يهب فيه شعب معلنًا إرادته بأن يسود غيره من الشعوب.

أقول هذا يا إخوتي؛ لأن من حق الأفضل أن يحكم، ولأنه يريد أن يحكم، ولا تسود قاعدة غير هذه القاعدة إلا حيث لا أفضل منها يعمل بها.

٢٢

ويل لهؤلاء الناس لو أن خبزهم يوزع مجانًا عليهم، فإنهم لا يجدون من يصبُّون غضبهم عليه، بأي حديث يتحدثون إذا حُرموا قساوة الحياة؟

إنْ هؤلاء الناس إلا وحوش كاسرة، في أعمالهم ترصُّد واختطاف، وفي أرباحهم مراوغة واحتيال، فكيف تلذ لهم الحياة إذا هي خلت من الشدة والقسوة، وهم يرون الارتقاء في التفوق على الحيوانات افتراسًا ومراوغة؛ لأن الإنسان في اعتقادهم أفضل حيوان كاسر.

لقد اقتبس الإنسان صفات جميع الحيوانات؛ لذلك كانت حياته أوفر شدة عليه من حياة أية فئة منها، ولكن الإنسان لم يرتفع فوق الأطيار بعدُ، وويل له إذا هو تعلم الطيران أيضًا؛ إذ لا نعلم إلى أي ارتفاع سيندفع بجشعه وحرصه.

٢٣

إن ما أريده للرجل وللمرأة هو أن يكون أهلًا للكفاح وأن تكون أهلًا للتوليد وأن يكونا كلاهما أهلًا للرقص برأسيهما وأرجلهما.

لنعدَّ كل يوم يمر بنا دون أن نرقص فيه ولو مرة واحدة يومًا مفقودًا، ولْنعتبرْ كل حقيقة لا تستدعي ولو قهقهة ضحك بيانًا باطلًا.

٢٤

انتبهوا لكل زواج تعقدونه واحذوا العقود الفاسدة؛ لأنكم إذا تسرعتم بها لا تجنون غير حلِّها. على أن فسخ الزواج خيرٌ من تحمله بالمصانعة والمخادعة.

قالت لي امرأة: «ما حطمتُ قيود زواجي حتى حطمتْ هذه القيود حياتي.»

ما رأيت زوجين لا تكافؤ بينهما إلا وتبينت فيهما عاطفة الانتقام؛ إذ يتحول نفور كل منهما إلى عداء للناس، وقد امتنع عليه أن يسير طليقًا لوحده.

لذلك وجب على أهل الإخلاص أن يثقوا بصدق ما يشعرون به، وأن يوجهوا قواهم للاحتفاظ بعواطفهم؛ كيلا ينخدعوا بما يعاهدون عليه، ولْيطالبوا بالاتحاد إلى حين ليثقوا من إمكان اتحادهم إلى أمدٍ طويل فليس من هيِّنات الأمور أن يجتمع اثنان إلى مدى العمر.

ذلك ما أوصي به المخلصين؛ لأنني إن قلت بغير هذه الوصية عدمت محبتي للإنسان المتفوق ولكل ما أتوقعه لآتي الزمان.

ليس ما فُرض عليكم أن تتناسلوا وتتكاثروا فحسب، بل عليكم أن ترتقوا أيضًا، فلتكن جنة الزواج مدخلكم إلى المرتقى.

٢٥

ليس إلا لمن اختبر حادثات الزمان القديم أن يدرك في الينابيع العتيدة ما سيندفق منها من حادثات لمستقبل الأزمان.

لن يطول الزمن، أيها الإخوة، حتى تنشأ شعوب جديدة وتبدأ ينابيع جديدة بالهدير في مجاهل الأغوار.

تزلزل الأرض زلزالها فتكرع المياه الدافقة فيكثر عدد الظامئين، ولكنها في الوقت نفسه تقذف من باطنها إلى النور بالقوى الخفية وبكثير من الأسرار، وهنالك زلازل تفجر من الأعماق على الأرض ينابيع جديدة، فإذا ما انخسفت البسيطة بالشعوب القديمة تدفقت تلك الينابيع.

في ذلك الحين إذا ما وقف رجل يدعو الناس هاتفًا: تعالوا! ههنا عينٌ تروي كثيرًا من العطاش فتشدد القلوب الواهية وتخلق العزم فيمن فقدوا إرادتهم. يهرع الشعب إليه طالبًا أن يجرب وما يطمح الناس في تجاريبهم إلا إلى التمييز بين من له أن يأمر ومن عليه أن يطيع، ولكَم ستقتضي هذه المحاولة من تفتيش واستقراء ومشاورة واختبار.

إن ما يرسو عليه المجتمع الإنساني إنما هو المحاولات لا النظام المبرم بالعقود، هذا ما أعلمه أنا، وما هدف هذه المحاولات إلا وجود من يحسن الحكم.

فأعرضوا يا إخوتي عن كل قول آخر مصدره القلوب الخائرة والأفكار العاجزة عن وجود الطرق الحاسمة.

٢٦

أين يكمن الخطر الأعظم المهدد لمستقبل الإنسانية يا إخوتي؟ إنني أراه كامنًا في نفوس أهل الصلاح والعدل، وهم القائلون في نفوسهم: «إننا نعرف ما هو صلاحٌ وعدلٌ وهو كائن فينا، فويلٌ لمن يريدون أن يوجهوا أبحاثهم إليه.»

إن ما يرتكبه الأشرار من المآتي لا يوازي بضرِّه ما يرتكبه الأخيار، فإن وطأتهم لأشد على العالم من وطأة المفترين عليه.

أي إخوتي، لقد تطلَّع يومًا أحدُ الناس إلى قلوب أهل الصلاح والعدل قائلًا: «هؤلاء هم الفريسيون.» فما فهم أحدٌ قوله، وما كان الصالحون العادلون ليفهموه أيضًا؛ لأن عقلهم سجين في ضميرهم. إن حماقة الصالحين حكمة لا يدرك كنهها أحد، ولكن لا مفر لهم من وصفهم بالفرنسيين، وقد قضي عليهم أن يصلبوا كل من يبتدع لنفسه فضيلتها. تلك هي الحقيقة لا مرية فيها.

لقد جاء رجل آخر فاكتشف مواطن الصالحين والعادلين، وما خفيت عنه أرضهم ولا قلوبهم، فأورد سؤاله وأجاب عليه: أي إنسان يصب عليه هؤلاء الناس أشد كرههم؟

إنهم لا يكرهون أحدًا كرههم للمبدع؛ لأنه في نظرهم المجرم الهدَّام لتحطيمه ألواح الوصايا القديمة.

ذلك لأن أهل الصلاح عاجزون عن الإبداع، وما هم إلا بداية النهاية، فلا بدع إذا صلبوا من يحفر وصايا جديدة على ألواح جديدة، وإذا ضحَّوا المستقبل لأنفسهم، والمستقبل للعالمين أجمعين.

هل كان أهل الصلاح في كل حقبة من حقب الزمان إلا بداية النهاية.٢

٢٧

أفهمتهم يا إخوتي هذه الكلمة، وما قلته لكم أولًا عن الإنسان الأخير؟

أفما اتضح لكم أن الخطر الأكبر المهدد مستقبل الإنسانية إنما هو كامن في مبادئ أهل الصلاح وأهل العدل.

هيا! حطموا الصالحين والعادلين.

وعساكم تدركون معنى هذه الكلمة أيضًا.

٢٨

أراكم تذهبون بددًا من حولي، أراكم ترتعشون فكأن كلمتي هذه أدخلت الرعب إلى قلوبكم.

أيْ إخوتي، إنني ما دفعت بسفينة الإنسان نحو الغمر إلا عندما أهبت بكم إلى تحطيم الألواح وإسقاط الصالحين، وها إن الرعب الأعظم يستولي على من دفعتُ إلى اجتياز الغمر فقد غارت عيناه وحَكَمه دُوار البحار.

لقد أراكم أهلُ الصلاح وجهاتِ الأمور الخادعة، وعللوكم بحالات أمن كاذب، وكنتم واجهتم أكاذيبهم وأنتم أطفال فما انقطعتم عن الالتجاء إليها.

لقد شوَّهوا كل شيء وأفسدوه حتى في أصوله.

ولكن من اكتشف الإنسان لم يفته اكتشاف مستقبل الإنسانية، فكونوا لي أيها الإخوة البحارة الشجعان المجالدين، وهيا بنا إلى الأمام نشق عباب البحر مقتحمين أمواجه الصاخبة، تعلَّموا السير على الوجهة المستقيمة فإن كثيرين يحتاجون إلى الاقتداء بكم.

البحر هائج وفي البحر كل شيء، فإلى الأمام أيتها العزائم، عزائم البحارة القدماء.

ما يهمنا ما يدور بنا، إننا ننشر الشراع قاصدين وطن أبنائنا ما وراء الغمر حيث ترغي وتزبد أشواقنا الهائجات.

٢٩

قال الفحم يومًا للماس: من أين لك هذه الصلابة؟ أفما نحن نسيبان.

وأنا أقول لكم: أفما أنتم إخوتي، فمن أين جاءكم هذا الخَوَر؟

لِمَ هذه الليونة لِمَ هذا الميعان؟ أين توكيد الذات في قلبكم وأين غارت سطور مقدراتكم فلا تلوح في أحداقكم؟

إذا أنتم اطرحتم العزم الحاسم فكيف تتوقعون الظفر يومًا إلى جانبي؟ وكيف يتسنى لكم أن تشاركوني بالإبداع إذا لم يكن لعزمكم لمعان الجُراز ومضاؤه؟

هل يكون المبدع إلا صلبًا شديدًا؟ وهل من غبطة لكم أعظم من أن تطبعوا يدكم على صفحات القرون فترتسم عليها كارتسامها على قطعة من الشمع؟

إنها لأعظم غبطة أن يكتب الإنسان على إرادة ألوف الأجيال والأجيال أقوى من الصلب وأسمى شرفًا؛ لأن أصلب الأشياء أشرفها.

إنني أعلق فوق رءوسكم لوح هذه الوصية: اتصفوا بالصلابة وتشددوا.

٣٠

أيْ إرادتي، لقد آن لنا أن نضع حدًّا لكل الصغائر، وما لي من مطلب سواك؛ لأنك وحدك سؤلي ومقصدي. أنقذيني من كل انتصار حقير.

وأنتِ أيتها الصدفة التي أدعوها مقدراتي، أنت القائمة في ذاتي فوق ذاتي احفظيني وأعدي للعظائم نفسي.

احتفظي أيتها الإرادة للخاتمة بآخر عظمة فيك، كيلا يهي عزمك عند نوالك الظفر؛ لأن ليس من أحد لا يسقط عندما يبلغ الانتصار.

وا أسفاه! أية عين لم يغشاها الظلام في سكرة الظفر، سكرة الغَسَق، وا أسفاه! أية قدم لم تتعثر ولم تتحول عن مسلكها ساعة الانتصار.

إنني أعدُّ نفسي لأكون ناضجًا للظهيرة العظمى، فألقاها صلبًا ألانتْه النار للانطباع، وغمامة تتمخض بالبروق، وضرعًا يتفجر بدرِّه.

أريد أن أهيِّئ ذاتي وصميم إرادتي فأصبح كالقوس ألتوي شوقًا لاحتضان سهمه، وكالسهم يطير شوقًا نحو كوكبه.

أريد أن أكون الكوكب المتألق بأنواره في الظهيرة العظمى، وقد هزته الغبطة والسهم السماوي يخترقه ليفنيه.

أريد أن أتحول شمسًا وإرادة شمس لا تتزعزع، فأكون مهيَّأ للاندثار في أفق الانتصار.

هذا ما أطمح إليه، فلنضع حدًّا يا إرادتي لكل الصغائر، أنت مقصدي، فاحفظيني للظفر الأعظم.

١  إن كل ما أمكن للفلسفة المستغرقة في الآرية أن تدركه من حياة عيسى هو ما حوَّله الغرب إلى معميات … وما كان أجدر بنيتشه وهو المتهم المسيح بإدخال الإشفاق القاتل للمجتمع ألَّا يرى الصليب مقتطعًا من شجرة السوء؛ لأنه قتل المشفق الأكبر ولكن التناقض شر بلايا الفكر، وأسهل ما يقع المفكر فيه إذا هو مد بمقياسه إلى ما يعلم وإلى ما لا يعلم دون تحقيق.
٢  ما لصاحبنا نيتشه يعترف بتمرد عيسى على شر من يدعوهم أهل الصلاح والعدل، وما له يباهي باقتفاء أثر هذا السامي الضعيف، على أن عيسى ما جاء ناقضًا بل مكمِّلًا وما جاء محطمًا للوحي الوصايا ولا مبتدعًا فضيلة لنفسه على ما يقصد نيتشه، بل رفع منار فضيلة يهتدي بها الناس أجمعون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤