في الجزر السعيدة

ها إن التين يتساقط عن أشجاره عَطِرَ النكهة حلو المذاق، وقشوره الحمراء تتشقق بسقوطها، وأنا هو ريح الشمال يهب على هذه الأثمار الناضجة. إن تعاليمي تتساقط إليكم أيها الصحاب كمثل هذه الأثمار فتذوقوها الآن عند ظهيرة من أيام الخريف وقد صفت فوقكم السماء.

سرحوا أبصاركم فيما حولكم من خيرات الأرض، ثم مدوا بها إلى آفاق البحر البعيد فليس أجمل لمن فاض رزقه من أن يتطلع إلى الأبعاد.

لقد كان الناس يتلفظون باسم الله عندما كانوا يسرِّحون أبصارهم على شاسعات البحار، أما الآن فقد تعلمتم الهتاف باسم الإنسان المتفوق.

إن الله افتراضٌ وأنا أريد ألا يذهب بكم الافتراض إلى أبعد مما تفترض إرادتكم المبدعة.

أفتستطيعون أن تخلقوا إلهًا؟ إذن أقلعوا عن ذكر الآلهة جميعًا، فليس لكم إلا إيجاد الإنسان المتفوق.

ولعلكم لن تكونوا بنفسكم هذا الإنسان، ولكن في وسعكم أن تصبحوا آباء وأجدادًا له، فليكن هذا التحول خير ما تعملون.

إن الله افتراض وأنا أريد ألا يتجاوز بكم الافتراض حدود التصور، فهل تستطيعون أن تتصوروا إلهًا؟ فاعرفوا من هذا أنَّ واجبكم هو طلب الحقيقة فلا تطمحوا إلى ما لا يبلغه تصور الإنسان وبصره وحسه، أمسكوا بتصوركم كيلا يتجاوز حدود حواسكم.

يتحتم عليكم أن تبدءوا بخلق ما كنتم تسمونه عالمًا من قبل؛ فيتكون عالمكم من تفكيركم وتصوركم وإرادتكم ومحبتكم وعندئذ تبلغون السعادة يا من تطلبون المعرفة، وكيف تطيقون الحياة إذا لم يكن لكم هذا الرجاء؟

على من يطلب المعرفة ألا يتورط في ما يريده العقل من المعميات.

لسوف أفتح لكم قلبي فلا تخفى عنكم خافية فيه، فأقول لكم: لو كان هنالك أرباب أكنتُ أتحمَّل ألا أكون ربًّا؟ إذن ليس في الكون أرباب.

لقد استخرجت لذاتي هذه النتيجة، وها هي تستخرجني الآن.

إن الله افتراض ولكن من له بتحمل كل ما يضمر هذا الافتراض من اضطراب دون أن يلاقي الفناء؟ أتريدون أن تأخذوا من الخالق إيمانه ومن النسر تحليقه في أجواز الفضاء؟

إن الله عبارة عن إيمان ينكسر به كل خط مستقيم ويميد عنده كل قائم، فالزمان لدى المؤمن وهم، وكل فانٍ في عينيه بُطْل وخداع، فهل مثل هذه الأفكار إلا أعاصير تتطاير فيها عظام البشر وتورث الدوار لشاهدها؟ تلك افتراضات يدور المبتلى بها على نفسه كالرحي حتى يموت.

أفليست من الشر والافتيات على الإنسانية كل هذه التعاليم تقيم الواحد المطلق الذي لا يناله تحول ولا تغيير؟

إن الرموز وحدها لا تتغير، وطالما كذب الشعراء، غير أن خير ما يُضرب من الأمثال ما يصور الحاضر وآتي الزمان فيأتي حجة لكل زائل لا نقضًا له.

ليس في غير الإبداع ما ينقذ من الأوجاع ويخفف أثقال الحياة، غير أن ولادة المبدع تستدعي تحولات كثيرة وتستلزم كثيرًا من الآلام.

أيها المبدعون ستكون حياتكم مليئة بمرير الميتات؛ لتصبحوا مدافعين عن جميع ما يزول.

على المبدع إذا شاء أن يكون هو بنفسه طفل الولادة الجديدة أن يتذرع بعزم المرأة التي تلد فيتحمل أوجاع مخاضها.

لقد اخترقت لي طريقًا في مئات النفوس والأسرَّة وأوجاع المخاض، غير أنني كثيرًا ما نكصت على أعقابي؛ لأنني أعرف ما تقطِّع الساعات الأخيرة من نياط القلوب.

ولكن ذلك ما تطمح إرادتي المبدعة إليه، وبتعبير أشد صراحة: ذلك هو المقصد الذي تريده إرادتي.

إن جميع ما فيَّ من شعور يتألم مقيدًا سجينًا، وليس غير إرادتي من بشير يؤذن بالمسرة، ويأتي بالإفراج عن الشعور.

إن الإرادة وحدها تحرر، وما بغير هذه الآية من شرعة صحيحة للإرادة وللحرية، على هذا تقوم تعاليم زارا.

بعدًا وسحقًا لكل وَهْن وملال يشلَّان الإرادة، ويوقفان كل تقدير وإبداع.

إن طالب المعرفة يشعر بلذة الإرادة والإيجاد، وبلذة استحالة الذات إلى ما تحس به في أعماقها، فإذا انطوى ضميري على الصفاء فما ذلك إلا لاستقرار إرادة الإيجاد فيه، وهذه الإرادة هي ما أهاب بي للابتعاد عن الله وعن الآلهة؛ إذ لو كان هنالك آلهة لما بقي شيء يمكن خلقه.

إن طموح إرادتي إلى الإيجاد يدفعني أبدًا نحو الناس اندفاع المطرقة فوق الحجر.

أيها الناس إنني ألمح في الحجر تمثالًا كامنًا هو مثال الأمثلة، أفيجدر أن يبقى ثاويًا في أشد الصخور صلابة وقبحًا.

إن مطرقتي تهوي بضرباتها القاسية على هذا السجن فأرى حجره يتناثر.

أريد أن أكمل هذا التمثال. إن طيفًا زارني، وألطف الكائنات وأعمقها سكوتًا قد اقترب مني.

لقد تجلى بهاءُ الإنسان المتفوق لعيني في هذا الخيال الطارق فما لي وللآلهة بعدُ.١

هكذا تكلم زارا …

١  ونحن نقول بدورنا لنيتشه متخذين قياسنا من قياسه: لو أمكن للإنسان أن يخلق شيئًا لما كان هنالك إله، وبما أن الإنسان يقصر عن إيجاد ذرة وخطرة فكر في عالمي المادة والروح، فالكائن الأزلي مفروض فرضًا على العاقل، وكل قول يخالف هذا القول ثرثرة وجنون …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤