محادثة مع الملكين

١

وما مضت ساعة على سير زارا وتوغله في جباله وأحراشه حتى اعترضت طريقه قافلة غريبة، فرأى ملكين كل منهما متوج وممنطق بالأرجوان، يسوقان أمامهما حمارًا محملًا، فقال زارا في نفسه: ماذا يطلب هذان الملكان في أراضيَّ، وأسرع إلى الاختفاء وراء عوسجة حتى إذا اقتربت القافلة من مكمنه تمتم بصوت خافت: يا للغرابة! إنني أرى ملكين ولا أرى غير حمار واحد.

وتوقف الملكان وهما يبتسمان ويلتفتان إلى مصدر الصوت الخافت، فقال ملك الميمنة: إن مثل هذه الأفكار تمر في الخاطر عندنا ولكن لا يعبر أحد عنها.

فهز ملك الميسرة كتفيه وقال: لعل المتكلم راعٍ أو ناسكٌ عاش طويلًا بين الصخور والأشجار فالابتعاد عن المجتمع مفسد للأخلاق المهذبة.

فقال الملك الآخر — وقد ظهرت عليه إمارات الكدر: الأخلاق المهذبة! وهل غادرنا مجتمعنا إلا هربًا من أخلاقه المهذبة؟ لخيرٌ لنا أن نعيش بين النساك والرعاة من أن نعيش بين قومنا وقد اتشحوا المذهبات واستعادوا من الطلاء ملامحهم الكاذبات، ما تجدي الأنساب العريقة إذا كان من يباهون بها قد تهرءوا وغدا أفسدَ ما فيهم دمُهم لِما عاث فيه من أمراضٍ قديمة، ولِما أدخله عليه الأُساة الجاهلون.

لخير من هؤلاء القوم الفلَّاح السليم، فهو بخشونته واحتياله وصبره ومجالدته أشرف أنواع الإنسان في هذا الزمان.

إن فلَّاح هذا الزمان خيرُ ما في المجتمع، وطبقته أولى بالحكم ولكن الشعب هو الحاكم، وما أنخدع به بعد الآن فهو عبارة عن غوغاء من جميع الطبقات يختلط فيه القديس والسافل والصعلوك المغرور واليهودي، فكأنك منهم تجاه ما جمعت سفينةُ نوح.

كيف نذكر العادات الحسنة وليس عندنا إلا الرياء والفساد، وقد نسي الجميع معنى الاحترام. لقد أردنا أن نهرب من كل هذا فلا نعود نرى الكلاب يقتلها الجشع والفضول وتبهرها السعف المذهبة.

لقد بلغ الاشمئزاز مني مداه؛ لأننا نحن أيضًا أصبحنا كاذبين نرفل بِبُرود أجدادنا وقد أخلقها الزمان، ونتقلد الأنواط لنبهر أجهل القوم وأشدهم احتيالًا ولنمالئ جميع من يتعاملون بالربا الفاحش مع كل سلطة.

لسنا أول المالكين فعلينا ألا نكون على ما كانوا، لقد تعبنا وشبعنا مخادعة واحتيالًا.

لقد أعرضنا عن الشعوب وتولينا عن هؤلاء المشاغبين وهذه الهوام القابضة على الأقلام، فهربنا من رائحة الحوانيت الكريهة ومن الأنفاس الخانقة تحشرج في صدور الجهود القاصرة.

أفٍّ للحياة بين الشعوب ويا لشقاء من يمشون في طلائعها، أية أهمية للملوك! ما لك ولهم.

فقال ملك الميسرة: لقد عاودك داؤك القديم، لقد استولت نوبة الاشمئزاز عليك يا أخي، ولكنك نسيت أن هنا من يسمع حديثنا.

وخرج زارا من مكمنه وقد سمع كل ما دار من حديث بين الملكين فتقدم إليهما وقال: إن من أصغى إليكما فرَاقَه ما سمع إنما هو رجلٌ يُدعى زارا، وأنا هو زارا القائل: أية أهمية للملوك بعد.

فاغتفرا لي مسرتي لسماعي منكما ما قلتُه من قبل.

أنتما الآن في مملكتي وتحت سلطاني، فماذا عساكما تطلبان فيها؟ لعلكما وجدتما في طريقكما من أُفتش عليه، فأنا أفتش على الإنسان الراقي.

وقرع الملكان صدريهما قائلين: لقد كُشف أمرنا، فقد اخترقتَ بكلمتك هذه أعماق قلبنا وأدركت سبب بلوانا. نحن ذاهبون للعثور على الإنسان الراقي، الإنسان الذي يفوقنا بالرغم من أننا في مرتبة المُلك، وقد أتينا إليه بهذا الحمار؛ لأن على الإنسان الأعلى أن يكون المعلم الأعلى.

إن أقسى ما يجتاح الأرض من نوازل أن لا يكون أصحاب السلطان على الناس أفضل الناس، كيلا يسود الكذب والفظائع فتلتوي الأمور ذاهبة على غير مجاريها؛ لأنه عندما يكون أرباب السلطان من زعانف القوم بل ومن حيواناته يتعالى الشعب ويتعالى حتى ليسمعك صوته قائلًا إنني أنا هو الفضيلة.

فهتف زارا: ماذا أسمع أعند الملوك مثل هذه الحكمة؟! لقد أثارت هذه الكلمات قريحتي، ولسوف أنظم مقطعًا بما أوحته إليَّ، ولعل ما سأنظم لا تقبله آذان الكثيرين، ولكنني منذ زمان طويل نسيت مداهنة الآذان الطويلة.

ونهق الحمار كأنه يحتج، فقال زارا: «في ذلك الزمان، في السنة الأولى من التاريخ الجديد، هتفت آلهة الأقدمين دون أن تكرع خمرًا، فقالت: الويل … الويل … لقد ساءت الحال!

يا للانحطاط، إن العالم لم يسقط إلى مثل هذه الدركة قبل الآن؟

فقد استحالت روما إلى عاهرة،

وتدنَّى قيصرها إلى مرتبة الحيوان،

حتى إن الله نفسه استحال يهوديًّا …»

٢

واستحسن الملكان نشيد زارا، وقال ملك الميمنة: لقد كان من حظنا أن خرجنا على الطريق فلقيناك، وقد كان أعداؤك عكسوا لنا صورة منك على مرايا نفوسهم فرأيناك شيطانًا ضاحكًا ساخرًا أدخل الرعب إلى قلوبنا، ولكن كلماتك ومبادئك كانت تخترق آذاننا لتهز أحشائنا فتغلَّبت على ما أدخلت صورة وجهك من الاضطراب في روعنا، فقررنا أن نجيء إليك وأنت القائل: «عليكم أن تحبوا السلم كوسيلة توصلكم إلى حروب جديدة، وأن تفضلوا فترة السلام القصيرة على الهدنة الطويلة الأمد.» وما نطق أحد قبلك بآية حربية كقولك: «لا خير يضاهي الشجاعة وغاية الحرب الحُسنى تبرر كل واسطة.»

أيْ زارا، إن دم أجدادنا قد ثار في عروقنا عندما سمعنا آيتك فكأنه الخمر المعتق يغلي في الدنان لسماعه همسات الربيع، وهل كان أجدادنا يشعرون بلذة الحياة إلا عند اشتباك النصال اشتباك الأفاعي تقطر دمًا، وهل كانت شمس السلام في أعينهم إلا نورًا خاسئًا، فكل هدنة طويلة الأمد كانت تلفعهم بالعار.

لكم من زفرة دفعها آباؤنا وهم ينظرون إلى النصال المرهفة تتدلى صابرة على جدران القصور، فإنهم كانوا يشعرون في أحشائهم بظمأ النصال نفسها، وما لمعان الحديد إلا وهج شهوته وتحرقه إلى شرب الدماء.

وبينما كان الملكان يتحدثان بحرارة عن سعادة آبائهما، ثارت عوامل التهكم في زارا وهو ينظر إلى ملامح الملكين التي تنمُّ على الدعة والسكون غير أنه امتلك حوافزه وقال: هيَّا بنا إلى الذروة، إلى غار زارا فسيعقب هذا النهار سمرٌ طويل، وأنا مضطر لمغادرتكما؛ لأن صوت مستنجد يدعوني من المدى البعيد.

ستنال مغارتي الشرف من نزول ملكين فيها، حيث لا بد لهما من الانتظار طويلًا، ولن يصعب الانتظار عليكما وقد تعودتماه في بلاطيكما، وهل بقي للملوك من فضيلة سوى فضيلة الصبر والانتظار؟!

هكذا تكلم زارا …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤