المعتزل

وما سار زارا شوطًا في طريقه حتى لاح له رجلٌ كبير الهامة يتشح السواد جالسًا على جانب السبيل وعلى وجهه نحول وشحوب، فأزعجه هذا الشبح، وقال في نفسه ويل لي إنني أرى قناع الأحزان، فهذا الرجل من طغمة الكهنة، وما يطلب هؤلاء الناس في مملكتي؟

لقد تخلصت من ساحر لأقع على مناجٍ للأموات، على ساحر آخر يأتي بالعجائب بنعمة الله وهو يذم الحياة! فليت الشيطان يختطفه، ولكن الشيطان متغيب أبدًا عند الحاجة إليه، وإذا ما لبَّى هذا الملعون الطلب جاء متأخرًا.

وكان زارا يتمتم بهذه الكلمات وهو يفكر في وسيلة تمكنه من المرور أمام الرجل الأسود دون أن تقع أنظاره عليه، ولكن هذا الرجل لمح زارا من بعيد فنهض كمن يظفر بما يتوقع، وأسرع إلى ملاقاته قائلًا له: أيها المسافر المتجول أيًّا كنت، أَنجِدْ هذا التائه الشيخ المعرَّض للمخاطر في هذه الأرجاء، إنني أسمع زئير الوحوش من كل جانب، وقد كان هنا رجل بوسعي أن ألجأ إليه ولكنه توارى وعبثًا فتشت على مستقره، وهذا الرجل هو آخر الأتقياء، هو الناسك الصالح الذي لم تبلغ أذنيه الكلمات التي ذاعت بين الناس في هذه الأيام.

فقال زارا: وما هي هذه الكلمات؟ لعلها قولهم بأن الإله القديم الذي كانوا يؤمنون به من قبل قد مات.

فأجاب الرجل بلهجة حزينة: لقد قلتها وأنا قد خدمت هذا الإله حتى الساعة الأخيرة من حياته، وها أنذا أعتزل الآن ولا سيِّد لي ولكنني لم أنل حريتي؛ لذلك أصبحت ولا أمل لي بالسعادة إلا إذا تلمستها بأيامي الماضيات، وقد أتيت إلى هذه الجبال لأقيم شعائر الدين وأحتفل بالعيد على ما يليق برئيس أعلى وأب من آباء الكنيسة الأقدمين، فأنا هو آخر «البابوات».

ولكن الناسك الذي كان هنا، القديس الذي كان يسبح الله بصلواته وأناشيده قد مات، وقد فتشت عليه في كوخه فما وجدت إلا ذئبين يعويان أمام بابه نادبين، فقد كانت جميع الحيوانات تحن إليه في حياته، لذلك ذهبت في طريقي تائهًا وأنا مصمم ألا أعود بصفقة المغبون؛ فبدأت أفتش على رجل آخر هو في تقديري أتقى الجاحدين، بدأت أفتش على زارا.

قال الشيخ هذا وهو يحدج مُخاطبه بنظرات حادة، فمد زارا يده وقبض على راحة الشيخ، وبعد أن قلبها وتفرس فيها مليًّا قال له: ما أجمل يدك أيها المحترم فإنها والحق يدٌ تعودت أن تبارك، وها هي ذي الآن في يد زارا نفسه.

أنا هو زارا الجاحد القائل: أين أجد من يفوقني جحودًا لأفرح بتعاليمه.

وأرسل زارا نظرًا كالسهم يخترق عيني الشيخ سابرًا أفكاره وما وراء أفكاره إلى أن قال الشيخ: ما فقد الله أحدٌ بأكثر مما فقده مَنْ تناهى في حبه له وفاق الكل بامتلاكه انظر إليَّ، أفما ترى أنني أشد جحودًا منك، ولكن من منا أشد سرورًا بذلك من الآخر؟

وفكر زارا لحظة ثم قال: أخدمتَه إلى آخر حياته؟ إذن قل لي بأية ميتة قضى، أصحيح ما يقال من أن الرحمة قد قبضت على عنقه فأردته مخنوقًا؛ إذ رأى الإنسان معلقًا على الصليب فثقل عليه أن يصبح حبه للناس جحيمًا يورده الفناء؟

وسكت الشيخ وهو يتلفت ما حوله مرتعشًا وقد اكفهر وجهه وبدت دلائل الألم عليه.

فاستمر زارا في كلامه: دعه وشأنه، دعه يذهب، فإنه هالك لا محاله، وأنت تعلم، وإن حق ألا يذكر الأموات إلا بالخير، إنه كان يتبع مسلكًا غريبًا.

فقال الشيخ: إذا لزم أن نتكلم بين ثلاثة عيون — وكان المتكلم أعور — عن أحوال الله وأموره، فأنا أحق بذلك لأنني أَخْبَر من زارا بهذه الأمور بعد أن خدمت الله سنوات طويلة واستسلمت لمشيئته، وكم يعلم الخدَّام من أحوال ساداتهم ما يخفونها هم عن أنفسهم …

لقد كان إلهًا خفيًّا ملفَّعًا بالأسرار، وفي الحقيقة إن ابنه لم يأت إليه إلا عن الطريق الملتوي، لذلك كان الزنا أول مرحلة من مراحل الإيمان به.١

من يسبح الله كأنه رب المحبة فقد قصرت مداركه عن بلوغ مرتبة الحب السامية، أفما أراد هذه الإله أن يقيم نفسه قاضيًا؟ والمحب يجتاز أي حد من حدود العقاب والثواب.

لقد كان هذا الإله الشرقي في شبابه قاسيًا تجول فيه روح النقمة فأوجد جحيمًا لتسلية صحبه، ولكنه شاخ مع الأيام فأصبح متراخيًا رحيمًا وانقلب جدًّا بعد أن كان أبًا، بل انقلب جدة هرمة تتداعى.

وجلس يومًا قرب الموقد يصطلي وقد تجعدت أسارير وجهه وتقطب جبينه لشعوره بوهن رجليه، فأحس بتعبه من إرادته ومن العالم وما عتم حتى قضى مختنقًا بعميم رحمته.

فاستوقفه زارا قائلًا: أرأيت ذلك بعينك؟ فلقد يكون قضى على هذا الوجه كما يكون قضى بصورة أخرى، فإن الأرباب إذا ماتت تموت بأسباب متنوعة.

وعلى كل فأيًّا كان السبب، فإنه قد قضى، وشر ما أذكره به هو أنه كان يشوش عليَّ أبصاري وأسماعي، فأنا أحب كل من صفت نظراته وكلماته، وقد كان هو — كما تعلم — على شيء مما تتصف به أنت أيها الكاهن الشيخ، وما يتصف به كل كاهن، فقد كان مبهمًا غامضًا.

أفما كان في تفكيره كثير من الإبهام؟ ولكَم ثار علينا بغضبه؛ لأننا لم ندرك غوامض أقواله، وكان الأجدر به أن يأتي ببيان صريح لا يحتمل تأويلًا.

وإذا كانت آذاننا هي التي أساءت سماع أقواله فعلامَ جهزَّنا بآذان لا تحسن السمع؟ وإذا كان في آذاننا طين يسدها فمن ترى وضع هذا الطين فيها؟

ولكم انحطم من إناء تحت يد هذا الخزَّاف الذي لم يتم تعلمه ولم يتقن صنعته، فعلامَ ينتقم من مخلوقاته التي أبدعها، إذا كانت خرجت مشوهة من بين يديه؟

أفما كان هذا العمل خارجًا على ما يليق؟ حتى إن اللائق نفسه في الرحمة هتف قائلًا: أنقذوني من هذا الإله فخير لي ألا يكون لي إله فأتحكم في مقدراتي، خير لي أن أصاب بالجنون فأقيم نفسي إلهًا …

عندئذ صاح الحبر القديم قائلًا: ما أسمع منك يا زارا والحق أنك بلغت من التقوى ما لا تدرك مداه، فلا بد أن تكون لقيت إلهًا هداك إلى كفرك؛ لأن إيمانك نفسه قد صدك عن الاعتقاد بالله، ولسوف يقودك إخلاصك أخيرًا إلى ما وراء الخير والشر.

لقد قُدر لك أن تأتي بالبركة الأبدية بعينيك وبيدك وفمك، فليست اليد وحدها أداة للبركة.

إنك تحاول الظهور أمامي كأشد الناس كفرًا، ولكنني أشتمُّ منك عطر البركة المستمرة فأشعر منها بلذة يخامرها الألم. دعني أنزل ضيفًا عليك ولو ليلة واحدة فليس في الأرض مكان أرتاح فيه ارتياحي بقربك.

واستولت الدهشة على زارا فقال: ليكن ما تريد، فهناك على القمة الطريق المؤدي إلى مغارة زارا، وكنت أود أن أذهب بك إليها، أيها المحترم، فإنني أحب جميع الأتقياء ولكنني مضطر إلى الإسراع نحو صوتٍ تعالى مستنجدًا بي.

اذهب إلى مغارتي حيث لا يتعرض أحد لضرر فهي ميناء السلام لكل قاصد، وأنا أود أن يستقر على أرضها الجامدة كل حزين.

ولكنني أرى نفسي أضعف من أن أبدِّد أحزان روحك، ولقد يمر زمان طويل قبل أن يجيء أحد بوسعه أن يقيم إلهك من الموت، وقد مات هذا الإله القديم ولن يحيا بعد.

هكذا تكلم زارا.

١  إلى مثل هذه النتائج دفع لاهوت الغرب وفلسفته الدينية عن رسالة عيسى بالعدد الغفير من جبابرة التفكير بين شعوبه، أما والله إن كُفْرَ نيتشه فيما يقول عن هذه المرحلة من الإيمان إنما هو كُفْرٌ بالصورة المشوهة التي عُرِضتْ عليه لا بالمسيح الذي عنى أمثاله بقوله: «اغفر لهم يا رب لأنهم لا يدرون ما يفعلون.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤