الرحماء

لقد بلغني، أيها الصحاب، قول الناس: «أفما ترون زارا يمر بنا كأنه يمر بين قطيع من الحيوانات.»

وكان أولى بهم أن يقولوا: إن من يطلب المعرفة يمر بالناس مروره بالحيوانات.

إن طالب المعرفة يرى الإنسان حيوانًا له وجنتان حمراوان.

ولِمَ يراه هكذا؟ أفليس لأنه كثيرًا ما علته حمرة الخجل؟

هذا ما يقوله طالب المعرفة أيها الصحاب: إن تاريخ الإنسان عار في عار.

ولذلك يفرض الرجل النبيل على نفسه ألا يلحق إهانة بأحد لأنه يستحيي جميع المتألمين.

إنني والحق أكره الرحماء الذين يطلبون الغبطة في رحمتهم، فإذا ما قضي عليَّ بأن أرحم تمنيت أن تُجهل رحمتي وألا أبذلها إلا عن كثب. أحب أن أستر وجهي عند إشفاقي وأن أسارع إلى الهرب دون أن أعرف، فتمثلوا بي أيها الصحاب.

ليت حظي يسوقني أبدًا حيث ألتقي أمثالكم رجالًا لا يتألمون، وفي طاقتهم أن يشاركوني آمالي وولائمي وملذاتي.

لقد قمت بأعمال كثيرة في سبيل المتألمين، ولكن كنت أرى أن الأفضل من هذا زيادة معرفتي في تمتعي بسروري. فإن الإنسان لم يسرَّ إلا قليلًا منذ وجوده، وما من خطيئة حقيقية إلا هذه الخطيئة.

إذا نحن تعلمنا كيف نزيد في مسرتنا فإننا نفقد معرفتنا بالإساءة إلى سوانا وباختراع ما يسبب الآلام.

ذلك ما يدعوني إلى غسل يدي إذا أنا مددتها لمتألم، بل وإلى تطهير روحي أيضًا؛ لأنني أخجل لخجله وتؤلمني مشاهدتي لآلامه، ولأنني جرحت معزَّة نفسه بلا رحمة عندما مددت له يدي.

إن عظيم الإحسان لا يولِّد الامتنان بل يدعو إلى إيقاد الحقد، وإذا تغلب تافه الإحسان على النسيان فإنه يصبح دودًا ناهشًا.

لا تقبلوا شيئًا دون احتراس، وحكموا تمييزكم عندما تأخذون، ذلك ما أشير به على من ليس لهم ما يبذلونه للناس.

أما أنا فممن يبذلون العطاء، وأحب أن أعطي الأصدقاء كصديق، أما الأبعدون فليتقدموا من أنفسهم لاقتطاف الأثمار من دوحتي فليس في إقدامهم على الأخذ ما في قبولهم العطاء من مهانة لكرامتهم.

غير أنه من اللازب أن يُقطع دابر المتسولين؛ لأن في الجود عليهم من الكدر ما يوازي كدر انتهارهم وحرمانهم.

وكذلك هو حال الخطاة وأهل الضمائر المضللة؛ فإن تبكيت الضمير يحفز الإنسان إلى النهش وإيقاع الأذى.

وشرٌ من كل هذا الأفكار الحقيرة، وخير للإنسان أن يسيء عملًا من أن تستولي المسكنة على تفكيره.

إنكم تقولون: «إن في التفكير الملتوي كثيرًا من الاقتصاد في شر الأعمال.» وما يستحسن الاقتصاد في مثل هذا.

إن لشر العمل أكَلانًا والتهابًا وطفحًا كالقروح، فهو حرٌّ وصريح؛ لأنه يعلن نفسه داءً كما تعلن القروح، في حين أن الفكرة الدنيئة تختفي كنوامي الفطر، وتظل منتشرة حتى تودي بالجسم كله، ومع هذا فإني أُسرُّ في أذن من تملَّكه الوسواس الخناس: «إن من الخير أن تدع الوسواس يتعاظم فيك؛ لأن أمامك أنت أيضًا سبيلًا يوصلك إلى الاعتلاء.»

مما يؤسف له أن يكون جهل بعض الشيء خيرًا من إدراك كله، غير أن من الناس من يشفُّ حتى تبدو بواطنه، ولكن ذلك لا يبرر طموحنا إلى استكناه مقاصده، ومن الصعب أن نعيش مع الناس ما دمنا نستصعب السكوت.

إن ظلمنا لا ينزل بمن تنفر منه أذواقنا، بل يسقط على مَن لا يعنينا أمره.

وبالرغم من هذا، إذا كان لك صديق يتألم فكن ملجأ لآلامه، ولكن لا تبسط له فراشًا وثيرًا بل فراشًا خشنًا كالذي يتوسده المحاربون، وإلا فما أنت مجديه نفعًا.

وإذا أساء إليك صديق فقل له: إنني أغتفر لك جنايتك عليَّ، ولكن هل يسعني أن أغفر لك ما جنيته على نفسك بما فعلت؟

هكذا يتكلم عظيم الحب؛ لأنه يتعالى حتى عن المغفرة والإشفاق.

علينا أن نكبح جماح قلوبنا؛ كيلا تجر عقولنا معها إلى الضلال.

أين تجلى الجنون في الأرض بأشد مما تجلى بين المشفقين؟ بل أي ضرر لحق بالناس أشد من الضرر الناشئ عن جنون الرحماء؟

ويلٌ لكل محب ليس في محبته ربوة لا يبلغها إشفاق الرحماء.

قال لي الشيطان يومًا: إن للرب جحيمًا هو جحيم محبته للناس.

وقد سمعت هذا الشيطان يقول أخيرًا: لقد مات الإله وما أماته غير رحمته.

احترسوا من الرحمة؛ لأنها لا تلبث حتى تعقد فوق الإنسان غمامًا متلبدًا، وما أنا بجاهل ما تنذر به الأيام.

احفظوا هذه الكلمة أيضًا: إن المحبة العظمى تتعامى عن رحمتها؛ لأن لها هدفها الأسمى وهو خلق من تحب.

إنني أقف نفسي على حبي، وكذلك يفعل أمثالي: هذا ما يقوله كل مبدع، والمبدعون قساة القلوب.

هكذا تكلم زارا …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤