نشيد الثمل

١

وبينما كان يتكلم خرجوا الواحد تلو الآخر إلى الهواء الطلق وقبض زارا على ذراع أقبح العالمين، وخرج به ليريه مشاهد الليل والشلالات المتدفقة قرب غاره مفضضة بشعاع القمر، وأمام هذه الشلالات وقف جميع هؤلاء الشيوخ وقد تسرب العزاء إلى قلوبهم فشدد عزائمهم، وكان كل منهم معجبًا بذاته، وقال زارا في نفسه، لكم تشوقني رؤية هؤلاء الراقين الآن.

وعندئذ وقع أغرب حادث شهده القوم طوال يومهم؛ إذ رأوا أقبح العالمين يهدر مفتشًا على كلمات لبيانه، فإذا به يتناول مسألة خطيرة ذهبت تهز أحشاء السامعين.

قال: أيها الأصحاب، هذه لأول مرة أحيا فيها الحياة كلها بيوم واحد، فقد كفاني هذا العيد بصحبة زارا لأتعلم محبة الأرض، فيمكنني الآن أن أقول للموت: أهذه هي الحياة؟ إذن أعدني إليها مرة أخرى.

أفلا تريدون أيها الأصحاب أن تقولوا للموت ما أقوله له أهذه هي الحياة إذن أعدنا إليها من أجل محبة زارا مرة أخرى.

هكذا تكلم أقبح العالمين وكان الليل قد قارب الانتصاف.

وأحس الرجال الراقون عندئذ بأنهم تحولوا عما كانوا عليه، وقاربوا الشفاء وعلموا أن زارا قد بدل من حالهم فأقبلوا عليه يلثمون راحتيه حبًّا واحترامًا فضحك بعضهم وبكى البعض الآخر، وكان الساحر القديم يرقص طربًا، ولعله كان مأخوذًا بالسكر، على ما ينقله بعض الرواة، ولكنه ولا ريب كان ثاملًا من حياته الجديدة بعد أن تخلى عن حياة التراخي والكسل، وقال بعض الرواة: إن الحمار نفسه بدأ يرقص متأثرًا مما سقاه أقبح العالمين، وقد لا يكون الحمار استسلم للرقص في ذلك المساء فليس للأمر أهمية ما دامت الحوادث الجسام التي وقعت حينذاك تفوت ما لرقص الحمار من شأن.

إن من آيات زارا قوله: وأية أهمية لهذا.

٢

وعندما نطق أقبح العالمين بما ذكرنا كان زارا في حالة اضطراب شديد؛ إذ انعقد لسانه وارتجفت ركبتاه وتماوت نظره، ومن يدري ما كان يدور حينذاك في خلده، فكأنه كان يذهب بفكره مدًّا وجزرًا ويتحفز للطيران، وقد شخص إلى الأبعاد مطلًّا من الذروة على بحرين أو سائرًا كغمام كثيف بين الدابر والمقبل من الزمان.

وأحاط الراقون بزارا يسندونه بسواعدهم إلى أن ثاب رشده إليه فدفع عنه القوم المسارعين إلى تمجيده دون أن يقول شيئًا، ولكنه شخص كما يسمع صوتًا، فوضع سبَّابته على شفتيه وصرخ: تعالوا …

وساد الصمت ودوت من بعيد رنَّة جرس، فتنصت زارا ومن معه، ثم عاد يقول وقد وضع سبابته على شفتيه ثانية: تعالوا … تعالوا … لقد اقترب نصف الليل.

وتغيَّرت نبرات صوته، ولكنه ظل في موقفه.

وعاد السكوت يثقل على الكل حتى على الحمار والنسر والأفعوان والغار والقمر الباهت والليل نفسه.

ورفع زارا سبابته للمرة الثالثة إلى شفتيه وقال: تعالوا … تعالوا … هيا فقد دنت الساعة، هيا بنا إلى الليل.

٣

أيها الرجال الراقون لقد انتصف الليل، ولسوف أُسِرُّ إليكم بما أسره إليَّ الجرس القديم في رنينه.

سأناجيكم بالرهبة والإخلاص الذين ناجاني بهما جرسُ نصف الليل القديم البالغ من العمر ما لا يبلغ الإنسان الفرد.

لقد عدَّ هذا الجرس من قلوب آبائكم نبضاتها فهو يزفر ساعة نصف الليل زفيرًا، ويرسلها ضحكًا في قلب الظلام.

أنصتوا! إن من الأشياء ما لا تُعلن في نور النهار أما في هذه الساعة وقد اعتل الهواء، وسكنت ضوضاء قلوبكم فإن الأشياء تتناجى وتتفاهم وتتسلل إلى أرواح السمر فيمتد بها ويطول، فاسمعوا زفير ساعة الليل وضحكها في أحلامها.

أفلا تسمعها أنت تناجيك برهبة وإخلاص، أفلا تسمع ما تقول ساعة نصف الليل في قِدَمها وعمقها؟

أيها الإنسان كن على حذر!

٤

ويل لي! أين تسرَّب الزمان؟ أفما وقعتُ في آبار لا قعر لها.

لقد نامت الدنيا، ويلاه إنني أسمع هرير الكلب، وأرى لمعان القمر، إنني لأفضِّل الموت على أن أبوح لكم بما يعتقده فؤادي عن نصف الليل.

لقد مت وقُضي أمري!

لماذا تمدين نسيجك حولي أيتها العنكبة، أتطلبين دمًا؟ ويلاه لقد تساقطت الأنداء ودنت الساعة، الساعة التي سأرتجف فيها بردًا وأتحول منها إلى جليد، الساعة التي تسأل وتسأل ولا تكف عن السؤال قائلة: من سيجرأ على هذا؟ من سيكون سيد العالم، من يرضى ويريد أن يهتف بالأنهار كبيرها وصغيرها، سِيري على ما أقرر لك.

لقد دنت الساعة أيها الإنسان الراقي، فكن على حذر إن هذا الخطاب موجه إلى مرهفات الأسماع، إلى أسماعك.

ماذا يقول نصف الليل في أعماقه؟

٥

إنني محمول إلى هنالك، وروحي ترقص في كل يوم! من سيكون سيد العالم يا ترى؟

لقد نور القمر وسكن الهواء، وا أسفاه، هل تسنى لكم أن ترتفعوا بطيرانكم، لقد رقصتم ولكن الساق ليست جناحًا.

أيها المجيدون في رقصكم، لقد انقضى زمن الحبور فاستحال الخمر إلى خميرة، لقد فرغت الكئوس وعلت همسات القبور.

إنكم لم تبلغوا الأعالي في طيرانكم لذلك تنادي القبور: «أنقذوا الأموات، لماذا طال بنا الليل؟ فهل أسكرنا شعاع القمر؟»

فيا أيها الراقون أنقذوا القبور، ما لكم لا تُنهضون الأموات، كفى الديدانَ ما رعت! لقد دنت الساعة.

لا يزال الجرس يدوي برنينه فالقلب يزفر زفرات الاحتقار، إن سوس القلب ينخر شغافه.

ويلاه! ما أعمق هذا العالم.

٦

أيتها القيثارة! لكَم أُحب نغمات أوتارك كأنها تتعالى من بعيد ومن الزمان المنصرم عن ضفاف نهر الغرام.

ما أنت أيها الجرس إلا هذه القيثارة المشجية فلكَم قرعتْ قلبَك الأحزانُ، أحزان الآباء والأجداد والسلفاء الأقدمين، حتى أنضجت دعوتك الأزمان فغدت كالخريف المذهب وكقلبي المنفرد، فأصبح صوتك كلامًا والعالم نفسه قد نضج كالعناقيد لوَّحها الاسمرار فهو يريد أن يموت مكفَّنًا بحبوره.

أفما تنشقون يا رجال الرقي عبيرًا يضوع خفيًّا، إنْ هو إلا عبير الأبد، رائحة خمرة السعادة المعتَّقة، السعادة الثاملة بشوقها إلى الموت المطلقة إنشادها في نصف الليل قائلة: إن العالم عميق، إن العالم أعمق مما كان يظن النهار.

٧

دعني … دعني، إنني أطهر من أن تمسني يدك وقد أُكمل عالمي، دعني أيها النهار الأحمق العبوس الثقيل، أفليست ساعة نصف الليل أشد منك إشراقًا؟

يجب على الأطهار أن يسودوا العالم وهم المجهولون الأقوياء تكمن فيهم أرواح نصف الليل المشعة بأنوار أعمق وأصفى من أنوار النهار.

أيها النهار، إنك حولي وتراود سعادتي؛ لأنك تجد فيَّ أنا المنفرد ينبوع كنوز لا تفنى.

أنت تطلبني، أيها العالم، وما أنا بالعالمي ولا بالديني ولا بالإلهي، ما أثقلك أيها النهار وما أثقلك أيها العالم!

لتذهب أيديكما على هدًى، لتذهب قابضة على سعادة أعمق وشقاء أعمق، لتذهب مستولية على أحد الآلهة ولتدعني وشأني.

أيها النهار، إن سعادتي عميقة وشقائي عميق، ولكنني لست إلهًا ولست حتى جحيم إلهٍ، وما أعمق أوجاع العالم!

٨

أيها العالم الغريب، إن أوجاع الإله أعمق من أوجاعك فاقبض على أوجاع الإله ودعني وشأني، فما أنا إلا قيثارة تفيض عذوبة وسحرًا.

أنا قيثارة نصف الليل، أنا جرس لا يفهم أحد بيانه وعليه أن ينطق أمام الصم، وأنتم أيها الراقون لا تفهمون ما أقول.

لقد قُضي الأمر وتوارى الشباب مع الظهيرة والعصر، فحان وقت المساء وأقبل الليل ونصف الليل، وهذا الكلب وهذا الريح كلاهما يعوي.

وهل الريح إلا كلب يئنُّ ويعوي، فيا لصوت الريح من زفير وضحك وحشرجة عند انتصاف الليل.

إنها لشاعرة سكرى تجاوزت حدود النشوة وطال سهدها، هذه الساعة القديمة تداعب أوجاعها عند نصف الليل وتداعب أيضًا مسراتها، والمسرة عند اشتداد الألم تفوق الألم شدةً وعمقًا.

٩

لماذا تمتدحينني، أيتها الكرمة، أفما قطعت جفنتك بقساوة؛ فقطرت دمًا فما لثنائك يتجه إلى قسوتي الثاملة؟

أسمعك تقولين: كل شيء بلغ كماله ونضوجه يطلب الموت تبارك منجل الكرام، فما يتمسك بالحياة إلا ما لم يبلغ النضوج بعد.

إن الألم يقول لنفسه مرَّ وانقضِ، ولكن المتألم يطلب الحياة قاصدًا أن ينضج ويصبح مرحًا مليئًا بالشهوات متشوقًا إلى الأبعد والأعلى والأشد صفاء، فكل من يتحمل العذاب يصيح: «أريد وَرَثة لي، إنما مقصدي هو أولادي لا أنا.» في حين أن المسرة لا تطلب ورثة ولا أولادًا. لا تقصد المسرة إلا ذاتها ولا تتشوق إلا إلى الخلود، إلى عودة الأشياء بعد عبورها وإلى كل ما يشبه ذاته مستقرًا إلى الأبد.

يقول الألم: انحطم يا هذا، اقطر دمًا أيها القلب اذهبي أيتها الساق وتطاير أيها الجناح بعيدًا نحو الأعالي فما أنت إلا آلام وأوجاع.

فهيا إذن يا قلبي الهرم ما دامت الآلام تقول لك مرَّ وانتهِ …

١٠

أيها الرجال الراقون ما تراكم تحسبونني؟ أنبيٌّ أنا أم متوهم أم ثامل أم معبر أحلام أم جرس يدوي في نصف الليل؟

أأنا ندى أم بخور من الأبدية؟

أفما سمعتم؟ أفما شعرتم بأن عالمي قد اكتمل؟

إن نصف الليل هو الظهيرة أيضًا.

إن الألم لذة واللعنة بركة والليل شمس مشرقة.

ابتعدوا كيلا يقال عنكم أيضًا إن الحكيم مجنون.

إذا كنتم أحسستم بفرح فقد أحسستم أيضًا بجميع الأتراح، فجميع الأشياء متسلسلة متداخلة متعاشقة.

أفما اشتهيتم أن تعود المرة مرتين فهتفتم ارتياحًا للذة لحين من الدهر ولطرفة عين؟ إنكم بهذا التمني وددتم لو تعود الأشياء جميعها متسلسلة متداخلة متعاشقة، وهكذا أحببتم العالم، أيها الخالدون، فكان حبكم أبديًّا لا نهاية له. قلتم للآلام أن تنقضي ولكنكم دعوتموها لتعود؛ لأن كل لذة تطلب الخلود.

١١

إن اللذات تطلب الخلود لكل شيء، فتريد عسلًا وخميرًا وساعة ثاملة في نصف الليل، تريد قبورًا وتريد الدموع تنسكب مؤاسية على القبور والشمس الجانحة بنورها الذهبي إلى الغروب.

وأي شيء لا تتشوق اللذة إليه؟! فهي أشد ظمأ وجوعًا من الألم وفيها ما ليس فيه من روعة وأسرار، فاللذة تطلب ذاتها وتنهش ذاتها، فهي إرادة تناضل في حلقة مفرغة، تريد حبًّا وتريد بغضًا، تتمتع بالسعة فتجود وتقذف بما تبذل، تتسول تسولًا لتهب نفسها وتشكر من يأخذها، فهي تشتهي أن تُقابل بالبغضاء.

اللذة المتمتعة تشتهي الأوجاع والاحتراق في الجحيم والعار وكل ما عراه التشويه، فهي تلتهب بظمأ الحياة، وما خفيت عنكم الحياةُ في هذا العالم.

إن اللذة الثائرة السعيدة تشتاقكم أيها الراقون، وتحن إلى آلامكم أيها الفاشلون؛ لأن اللذة الأبدية تتشوق أبدًا إلى كل محاولة فاشلة، فهي تطلب ذاتها إذ تطلب الألم.

انحطم أيها القلب فأنت اللذة وأنت الألم.

تعلموا هذا أيها الراقون: إن اللذة تطلب الخلود.

إن اللذة تطلب الخلود لجميع الأشياء، خلودًا لا نهاية له.

١٢

أتعلمتم نشيدي الآن! أأدركتم مغزاه؟

هيا إذن أيها الرجال الراقون، ترنموا بهذا النشيد، فهو نشيدي وعنوانه «مرة أخرى» ومعناه «مدى الأبد».

تغنوا جميعًا بنشيد زارا
أيها الإنسان، كن على حذر
ماذا يقول نصف الليل؟
لقد استسلمت طويلًا للوسن
وها أنذا انتبه من رقادي
إن العالم جد عميق
فهو أعمق مما يعتقد النهار
وآلامه عميقة
واللذة أعمق من الآلام
يقول الألم: مرَّ يا هذا وانقضِ
ولكن ليس من لذة لا تطلب الخلود
خلودًا لا نهاية له!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤