الفضلاء

لا ينبه الشعور الغافل إلا الإرعاء والإبراق، وما تكلم الجمال إلا بنبرات هامسة لا تنفذ إلا إلى أشد الأرواح انتباهًا.

أسمعتني عصمتي اليوم ضحكة تعالت فيها قهقهة الجمال السامية، فجمالي يسخر بكم أيها الفضلاء؛ إذ سمعته يقول: إنهم يطلبون لفضائلهم ثمنًا.

إنكم تتقاضون ثمن فضيلتكم وتطالبون بالجزاء، أيها الفضلاء، طامحين إلى امتلاك أماكن في السماء، بدلًا من أماكن في الأرض، وإلى الظفر بالأبدية بدلًا من الدهر الزائل.

إنكم لتحقدون عليَّ؛ لأنني أعلم الناس أن ليس هنالك لا حسيب ولا مثيب، والحق أنني أمتنع عن القول بالثواب، بل أذهب إلى أبعد من هذا فأقول أن ليس للفضيلة ما تجزي به نفسها جميل الجزاء.

إن ما يؤلمني هو أن العقاب والثواب قد دُسَّا دسًّا في غاية كل أمر، بل حُشرَا حشرًا في أعماق نفوسكم، أيها الفضلاء، ولكن لكلمتي أن تَلِج هذه النفوس ذاهبة فيها كقرنِ الوعل وكالسكة تشق الأرض لتحرثها. فلتتكشف نفوسكم عن خفاياها أمام النور؛ لأن الحقيقة لن تنفصل عن الضلال فيكم حتى تنطرحوا عراة تحت شعاع الشمس. ذلك لأن حقيقة ذاتكم إنما هي أطهر من أن تسمح بتدنسكم بكلمات الانتقام والعقاب والمكافأة والمقابلة بالمثل.

إنكم تحبون فضيلتكم كما تحب الأم طفلها، وهل سمعتم أن أمًّا طلبت مكافأة على عطف الأمومة فيها؟

هل فضيلتكم إلا ذاتكم نفسها وهي أعز ما لكم، وما أمنيتكم إلا أمنية الحلقة التي لا تلتوي وتستدير إلا ليصبح آخرها أولًا لها.

إن كل عمل ينشأ عن فضيلتكم إنما هو بمثابة نور كوكب يعروه الانطفاء، فما يزال نوره يخترق مجراه في الأفلاك، وليس من حد ينتهي سيره إليه، وهكذا لن تزال أشعة فضيلتكم سائرة في سبيلها حتى بعد انتهاء عملها وتواريه في عالم النسيان؛ لأن إشعاع الفضيلة مستمر لا يعروه زوال.

لتكن فضيلتكم تعبيرًا عن ذاتكم وما تلك غريبة عن هذه فلا تحسبوا أنها جِلْدٌ ورداء.

هذه هي حقيقة روحكم الكامنة أيها العقلاء، ولكن من الناس من يخيل له أن الفضيلة عبارة عن تشنج تحت السياط الجالدة، ولطالما سمعتم صياح هؤلاء الواهمين.

ومن الناس من يرى الفضيلة في الكسل والرذيلة، وما ينتبه عدلهم إلا عند ما يتثاءب حقدهم وحسدهم، عندئذ يفركون أجفانهم وقد أثقلها النعاس.

من الناس من تشدهم شياطينهم إلى أسفل فكلما تدهوروا على الدركات زادت أحداقهم توهجًا وتزايد شوقهم إلى ربهم. إن صوت هؤلاء المتدهورين يبلغ آذانكم، أيها الفضلاء، وهم يصيحون: إن كل ما هو خارج عن كياني إنما هو الله وإنما هو الفضيلة.

وهنالك آخرون يتقدمون مثقلين مقرقعين كأنهم عجلات تحمل صخورًا إلى الوادي، وهؤلاء الناس لا ينون يتكلمون عن الفضيلة، وما الفضيلة في عرفهم إلا عبارة عن كابح عجلاتهم.

وهنالك قوم أشبه بالساعات يربط زنبركها فتسمعك تكتكتها، وهم يريدون أن تُدعى حركتهم الآلية فضيلة. إنني ألهو بمشاهدة مثل هذه الساعات؛ لأنني ما صادفتها مرة إلا ربطت زنبركها بتهكمي وأكرهتها على تحريك رقاصها.

وهنالك المغترون بذرة من العدل ترتفع فيهم على جبل من الدعوى، فتراهم يجدفون على كل شيء إلى أن يغرقوا العالم بظلمهم، وما تخرج كلمة الفضيلة من أفواه هؤلاء الناس إلا وتحسب أنهم يتجشئونها، وإذا قال أحدهم: لقد عدلت. فكأنه يقول: انتقمت.

هؤلاء من يريدون أن يفقئوا أعين أعدائهم بفضيلتهم، وما يطلبون من الاعتلاء إلا إسقاط سائر الناس.

وهنالك من يدب إليهم الفساد كأنهم ماء آسن في المستنقعات، فهؤلاء الناس يعلنون أنهم لا ينهشون أحدًا ويتحاشون الالتقاء بالناهشين، فإذا عرض عليهم أي رأيٍّ أخذوا به تفاديًا لكل أخذ ورد.

وهنالك عشاق الحركات المعتقدون بأن الفضيلة نوع من الإيمان، فتراهم في كل حين جاثين على ركبهم وقد قبضت إحدى راحتيهما على الأخرى تمجيدًا للفضيلة، وما يدرك قلبهم منها شيئًا.

وهنالك من يرون الفضيلة في القول بلزوم الفضيلة، وهم لا يعتقدون إلا بلزوم ردع الشر بالقوة.

وبعض من امتنع عليهم إدراك ما في الإنسان من صفات عليا لا يذكرون الفضيلة إلا عندما ما يحدقون بما فيه من دنايا، وهكذا لا تنشأ فضيلة هؤلاء القوم إلا من عيوب عيونهم.

من الناس مَن يطلب المعرفة وتقويم ما التوى فيه فيدعو هذه النزعة فضيلة، ومنهم مَن يطلب قلب كيانه رأسًا على عقب فيدعو هذه الرغبة فضيلة أيضًا، وهكذا ترى الجميع يعتقدون بوجود الفضيلة في ناحية من نواحي كيانهم، وتراهم يتجهون إلى معرفة ما فيهم من خير وشر. غير أن زارا قد جاء إلى جميع هؤلاء المخادعين وإلى جميع هؤلاء المجانين؛ ليقول لهم إنهم لا يعرفون عن الفضيلة شيئًا وأن ليس في وسعهم أن يعرفوها.

ما أتى زارا إلا ليشعركم بأنكم تعبتم من تكرار الأقوال القديمة التي علمكم إياها المخادعون والمجانين، فينفركم من كلمات المكافأة والمقابلة بالمثل والعقاب والانتقام في العدل؛ لتقلعوا عن القول بصلاح الأعمال عند تجردها عن الغايات.

لتكن ذاتكم متجلية في عملكم كما تتجلى الأم في طفلها، وليكن هذا التعبير ما تعرِّفون الفضيلة به.

والحق أنني انتزعت منكم كثيرًا من أقوالكم وسلبتكم أعز ما تتلهون بمضغه عن الفضيلة؛ لذلك أراكم تزورُّون كالأطفال، وقد كنتم مثلهم تتسلون بألعابكم على الشاطئ فطغت موجة انتزعتها من بين أيديكم وحملتها إلى العباب، فها أنتم تعولون الآن كهؤلاء الأطفال، غير أن الأمواج ستكر راجعة حاملة إليهم ألعابًا جديدة ناثرة بين أيديهم الأصداف المخططة، وأنتم أيضًا أيها الصحاب ستسلون مثلهم حين تأتيكم التعزية ناثرة بين أيديكم الأصداف المخططة.

هكذا تكلم زارا …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤