الصورة الممزقة (٣)

تصوير داخلي:

حجرةٌ جانبية في منزل سعاد.

سعد (زميل محمود في الكلية) يقف منتظرًا.

محمود يدخل بسرعة إليه ومن ورائه سعاد. سعد يتقدَّم إليه.

محمود : فيه إيه يا سعد؟
سعد : اللجنة مجتمعة دلوقت في الكلية وعاوزينك حالًا.
محمود : ليه؟ وصلكم أنباءٌ جديدة من القتال؟
سعد : ممدوح انقتل، والكتيبة بتاعته اتنسفت كلها الا اثنين رجعوا النهارده.
محمود (في ألم) : ممدوح!

(محمود يُطرِق ويفكِّر في صمت.)

(ينظُر إلى سعاد وسعاد تنظُر إليه في ألم.)

(تمر لحظة صمت. الثلاثة مطرقون إلى الأرض في حزنٍ صامتٍ عميق.)

(محمود ينظر إلى سعاد.)

محمود : أنا مضطر يا سعاد انزل دلوقت اروحلهم في الاجتماع.
سعاد : أنا جاية معاك يا محمود
سعاد : لازم اشترك معاكم.
سعد : طبعًا يا سعاد. أنت عضو في اللجنة.
محمود : أنا عارف. بس.
سعاد : بس إيه؟
محمود : طيب يللَّه بينا.

(يخرجون.)

تصوير داخلي:

مدرج كلية الطب.

يجلس في صفوفه الأمامية حوالي عشرين طالبًا من مختلف الكليات هم أعضاء اللجنة التنفيذية العليا للطلبة. أحد الطلبة واقف (عزيز) يتحدث. الباقي يستمعون في اهتمامٍ شديد. يبدو على وجوههم الألم أيضًا. بعض الطلبة يناقشون المتكلم.

الطالب : احنا كنا معتمدين اعتماد كلي على ممدوح والكتيبة بتاعته.
الواقف (واسمه عزيز) : الفدائيين في القنال دلوقت ضعفوا. لازم نبعث لهم كتيبة قوية ثانية.
طالب آخر : ده شيء ضروري. الكتيبة جاهزة. بس المهم نبعث مين رئيس الكتيبة؟
عزيز : لازم واحد جامد قوي نعوض بيه ممدوح.
طالب : تفتكر مين يا عزيز؟
عزيز : محمود زكي.
طالب : فعلًا! هو ده!
طالب : بس احنا محتاجينله هنا.

(الطلبة يناقشون فيما بينهم.)

عزيز : هناك أهم من هنا.
طالب : فين محمود؟
عزيز : زمانه جاي. بعتنا له سعد بيته.
طالب : لا. بيت سعاد زغلول.
طالب : بيت سعاد ليه؟
طالب : يا أخي ما تعرفش ان خطوبتهم الليلة؟
طالب : والله؟ أتارینی کنت باشوفهم سوا اليومين الأخرانيين!

(يدخل محمود وسعد وسعاد.)

(الطلبة يسلِّمون على محمود وسعاد ويهنِّئون بالخطبة في وجوم.)

(محمود وسعاد وسعد يجلسون بين الطلبة.)

عزيز : أظن يا محمود انت عرفت الأخبار الأخيرة السيئة؟
محمود (في ألم) : عرفت يا عزيز.
عزيز : البقية في حياتك يا محمود. أنا عارف ان ممدوح كان عزيز عليك.
طالب : كان عزيز علينا كلنا.
عزيز : معلهش. الموت مكتوب علينا كلنا واحنا فدائيين ولازم نجهز نفسنا للموت.
ودلوقت يا محمود احنا قرَّرنا نبعت كتيبة بكرة القنال بدل كتيبة ممدوح.
محمود : کویس.
عزيز : وكنا لسة بنفكر مين مننا يروح مع الكتيبة.
محمود : أي واحد فينا مستعد يروح.
عزيز : تروح انت يا محمود؟
محمود : أروح.
طالب : أيوه محمود هو اللي يروح.
طالب : أنا رأيي نبعت حد غيره. احنا محتاجين لمحمود هنا. إنت عارف يا عزيز انه ماسك معظم أعمال اللجنة والطلبة كلهم بيحبوه. زائد المجلة! مين اللي حيطلعها وهو في القنال؟
عزيز : أنا حامسك المجلة مكان محمود لغاية ما يرجع. إيه رأيك يا محمود؟
محمود : موافق.
سعد (في هدوء) : وأنا حروح مع محمود.
عزيز : کویس. إيه رأيك يا محمود.
محمود : سعد کویس. وينفعني هناك.

(سعاد تقف. الكل ينظر إليها.)

سعاد (في هدوء) : وأنا حروح معاهم.

(لحظة سكوت.)

عزيز : إيه رأيك يا محمود؟ سعاد مش أول مرة لها تشترك معانا في الكفاح. لكن مسألة السفر دي هي اللي صعبة شوية؟!
محمود : سعاد لها هنا دور أهم.
محمود : ينظر إلى سعاد. سعاد تنظر إليه. لحظة صمت.
طالب : لا. مش من رأيي إن أي طالبة تشترك مع الفدائيين في القنال. دي بهدلة مش ممكن واحدة تقدر عليها.
محمود : سعاد مش أي طالبة!

(سعاد تنظر إليه حين يقول هذه الجملة.)

(صورةٌ مكبَّرة لوجه سعاد تعبِّر عن السرور والفرحة لكلمة (مش أي طالبة).)

محمود : سعاد مش أي طالبة. وأنا واثق انها تقدر أكثر تسافر. لكن احنا محتاجين هنا لها أكتر. مش كده يا سعاد؟
سعاد : والله إذا كنتم شايفين ان دوري هنا أهم استنى هنا!

(سعاد تنظر إليه وتُطرِق إلى الأرض.)

(محمود يفكِّر لحظة في صمتٍ ويُطرِق إلى الأرض. الطلبة ينظرون إليهما في استطلاع.)

سعد : وحنسافر امته يا عزيز؟
عزيز : بكرة الصبح الساعة خمسة.
سعد : أهو ده عيبه.
طالب : ليه؟
سعد : ألذ نومة عندي من خمسة لتسعة الصبح.

(الطلبة يضحكون.)

(يقفون ويصافحون محمود وسعد في وداع ويعانقونهما بشدة.)

عزيز : مع السلامة يا محمود شد حيلك. مع السلامة يا سعد.
خلي بالك من نفسك.
محمود : الله يسلمك يا عزيز.
سعد : الله يسلمك.
مع السلامة.

الله يسلمكم … إلخ.

(المدرَّج يخلو تدريجيًّا من الطلبة. لا يبقى بالمدرج سوى محمود وسعد وسعاد.)

سعد : والله يا سعاد أنا عارف اني طول ما أنا ماشي ورا محمود حاروح في داهية!
سعاد : داهية؟
سعد : أيوه داهية! هو فيه أكثر من كده داهية! دانا زي اللي بيرمي نفسه تحت القطر. بانتحر يعني. ده انتحار مش كفاح ووطنية!
سعاد : ليه يا سعد بس؟
سعد : ليه؟ كده! حرب إيه وإنجليز إيه؟ بقى احنا شوية العيال حنطلع الإنجليز من مصر؟
سعاد : حاجة غريبة! ازاي حتروح تحارب في القنال، وفدائي کمان، وانت مش مقتنع بالحرب أبدًا؟

(محمود يتابع الحديث بينهما.)

سعاد : أمال رايح ليه يا سعد؟

(وهو يعبث بمجلة في يده.)

(وهو مُطرِق إلى الأرض.)

سعد : أهو رايح! رايح مع محمود!

(محمود ينظر إلى سعد.)

محمود : لا يا سعد. أنا عاوزك قبل ما تسافر تكون مقتنع بالفكرة. وإلا خليك هنا أحسن!
سعد : يعني حخليني اعمل ايه؟
سعاد : ما فيش حاجة تعملها؟ تشترك معانا في الكفاح هنا، أو تحضر في الكلية وتذاكر وتتخرَّج.
سعد : أتخرَّج؟ ليه؟ ده أنا باخد من ابويا مصروف جيب قد الماهية اللي حاخدها لما اتخرج.

(محمود وقف وأخذ يتمشى في المدرج مطرقًا مفكرًا.)

سعاد : طيب ورايح تنتحر ليه؟
سعد : وحاعيش ليه؟ كل حاجة في عيني ما لهاش معنى. البيت ما لوش معنى. والكلية ما لهاش معنى. والشارع ما لوش معنى. يمكن الحرب تكون لها معنى. أهي حاجة جديدة. أهي تغيير هوا!
محمود : يقف ويكلم سعد.
محمود : اسمع يا سعد، إنت عارف اني مش باحب الهزار وقت الجد. احنا مسافرين بكرة الفجر ولازم نحضر نفسنا. اعمل كل الترتيبات واتصل بكل واحد في الكتيبة وادیني خبر في البيت. اعتبر إن ده أمر! مفهوم!

(سعد يضُم قدمَيه ويخبطهما محدثًا صوتًا بحذائه، كما يفعل الجنود عند تلقي الأوامر، ويضرب بيده سلامًا كالجنود.)

سعد : مفهوم يا فندم! تمام يا فندم!
محمود : انصراف!

(سعد يكرِّر التحية وخبط القدمَين ثم يستدير ويغمز لمحمود بعينه ويخرج من المدرج.)

(سعاد تضحك وهي تراقب سعد. تظل تضحك بعد أن يخرج وتنظر إلى محمود. محمود واقف صامت لا يبتسم وهو ينظر إليها في شوق.)

(يتبادلان النظرات في صمت وإطراق.)

(سعاد تقترب من محمود.)

سعاد : خلاص يا محمود. حتسافر بكرة الصبح صحيح؟

(محمود يومئ برأسه دليل الإيجاب.)

سعاد : وحتقعدوا أد إيه في القنال؟
محمود : مش عارف! ما حدش يعرف!
سعاد : تصمت شاردة. محمود ينظر إليها في حب.
محمود : سعاد.
سعاد : أيوه يا محمود.
محمود : حتوحشيني قوي يا سعاد!

(سعاد تطرق والدموع في عينَيها.)

محمود : لكن دايمًا حتكوني جنبي. قصاد عیني. بتشجعيني. بتشدیني عشان ارجع تاني للحياة. إنتي مش عارفة يا سعاد وجودك في حياتي بيعمل إيه!

(يسكت لحظة.)

إنتي يا سعاد اللي خليتي الحياة لها معنى في عیني … تعرفي أنا باقسو على سعد ليه لما بيقول ان الحياة ما لهاش معنى؛ لأنه بيقول الكلام اللي في نفسي من جوه ومش قادر اقوله … كنت باقسو عليه عشان أداري عذابي. لكن دلوقت انت خليتي لحياتي معنى يا سعاد. حسافر احارب مع الفدائيين وارجعلك تاني يا سعاد … حتكوني جنبي يا سعاد؟

(محمود يمسك يدها ويقبِّلها. الدموع في عينَي سعاد.)

سعاد : دايمًا يا محمود! دايمًا! حكون جنبك دايمًا!

(يقبِّل يدها في حب.)

(لحظة صمت.)

(سعاد تُخرج من حقيبتها صورة لها وتعطيها لمحمود.)

(محمود يتأمل الصورة وهو يبتسم.)

سعاد : عشان كل ما تشوفها تفتكرني.
محمود : حافتكرك يا سعاد من غير الصورة.

(يتأمل الصورة طويلًا.)

سعاد : وانت مش تدیني صورتك يا محمود؟
محمود : حافتكرك يا سعاد من غير الصورة.
الصورة حلوة بس هي مش انت. أنا باحب عنیکي دول يا سعاد! عنیکي الحلوين.

(سعاد تبتسم.)

محمود : مش عارف معايا صورة والا لأ. أظن معايا صورة الكارنيه. أيوه اهه!

(يعطيها صورته. سعاد تتأملها وتنظر إليه وتبتسم.)

(يتأهبان للخروج من المدرج.)

محمود : اوعديني يا سعاد انك حتكوني لي طول عمرك.
سعاد : أوعدك يا محمود اني أكون لك طول عمري. أوعدك من كل قلبي.

(يمسك يدها بكلتا يدَيه في حب وحنان.)

(ويقبلها. يخرجان معًا.)

محمود : سعاد حبيبتي!
سعاد : ربنا يرجعك بالسلامة يا محمود!
تصوير خارجي:

لقطات تصوِّر بعض مشاهد من حرب الفدائيين وحرب العصابات. فدائي يفجِّر قنبلةً يدوية.

أصوات انفجارات وحرائق. وصراخ أصوات الحرب بما فيها من بشاعة.

مجموعة من الفدائيين يفجرون الألغام. ويجتازون الأسلاك الشائكة.

فدائي يأسر بيديه جنديًّا إنجليزيًّا.

فدائي يقتل جنديًّا إنجليزيًّا بسكين.

مناظر الجري وتسلُّق الحواجز وإطلاق الرصاص والرعب والفزع وجو الحرب المخيف.

تصوير خارجي:

سعاد تسير في الشوارع ليلًا تجمع التبرُّعات من المنازل.

سعاد تجتمع ببعض الطالبات والطلبة.

سعاد تحمل حقيبةً كبيرة وتسلِّمها لأحد الفدائيين بملابس الحرب.

سعاد تجري في الشارع ومعها بعض المنشورات. تختفي من المطاردين في مدخل بيت.

سعاد توزِّع المنشورات على بعض الناس. سعاد وسط مجموعة من الطلبة تخطب فيهم. في مدرج الكلية.

سعاد تجلس في اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للطلبة. تشترك في المناقشة.

منظر أرض ملاعب كلية الطب والطلبة يتدربون على حرب العصابات وتفجير القنابل اليدوية. وقد لبسوا ملابس حرب الفدائيين. سعاد تقف بينهم.

صوت الراوية:

أيام عشتها. كيف عشتها؟

أيام لا يمكن أن أنساها. كيف أنساها؟

أيام الكفاح والسعادة والخوف والقلق. أيام مليئة بالحياة. أيام لها معنى. ولها طعم ولها لون. ليست كباقي أيام الحياة.

كنتُ أخرج من البيت صباحًا فلا أعود إلا بعد منتصف الليل. وحينما تسألني أمي أين كنتِ أقول لها: كان عندنا سهرة ولادة! كان الألم يُدمي قدميَّ من كثرة المشي والجري ودخول البيوت وجمع التبرعات وتوزيع المنشورات. وكان الخوف يعصف بي أحيانًا حين تشتد الظلمة في الشارع أو حين يطاردني أحد. لكن السعادة كانت تملأ قلبي. كنتُ أُحس أنني أفعل شيئًا خطيرًا. كذلك الذي يفعله الطلبة الفدائيون. لم أكن أُحس أنني مجرد فتاة أو بنت كما كانت تسمِّيني أمي.

وكنت كلما أجلس على مكتبي لأذاكر. تتراءى لي صورة محمود. بملامحه القوية النبيلة.

أُحبه! نعم أُحبه بكل ما أُحس وأفهم وأعي الحب. لكني لم أحبه أبدًا كما أحببتُه حين قال إنني لست كالفتيات.

(صدى صوت محمود: سعاد مش أي طالبة!)

تصوير داخلي:

سعاد تجلس على مكتبها في حجرة نومها وأمامها كتاب الجراحة تذاكر.

تشرد بأفكارها لحظة (صدى صوت محمود: سعاد مش أي طالبة).

تُخرج صورة محمود من درج مكتبها وتتأملها في شوق وحب.

تدخل الدادة ومعها فنجان ينسون دافئ.

الدادة : فنجان الينسون اللي بتحبيه يا ست سعاد.
سعاد : مِرسي يا دادة.
الدادة : اشربيه وهو دافي وقومي نامي بقه … حرام عليکي عنيکي! عنيکي الحلوين دول!

(لقد سمعَت الدادة تقول نفس عبارة محمود عنيکي الحلوين!)

سعاد : قولي تاني يا دادة!
الدادة : أقول إيه يا ست سعاد؟
سعاد : عنيکي الحلوين!

(الدادة تقول في مكرٍ شديد):

الدادة : وهو أنا قوالتي تنفع يا ست سعاد؟!
سعاد : فهمتيها ازاي بقه يا دادة؟

(سعاد تنظر إليها وتبتسم في سعادة وتقف أمامها في دهشة.)

الدادة : إلا أفهمها! ده أنا افهمها وهي طايرة!

(سعاد تُعانِقها وتقبِّلها.)

سعاد : ياختي عليكي يا دادة! باحبك قوي! باموت فيكي! باعبدك!
الدادة : يوه! يوه! اسما الله عليكي. ده انا دادة ام علي! مش حد تاني!

(سعاد تضحك والدادة تضحك. تعود سعاد لتجلس على المكتب. لكن يدها تخبط كوب الينسون فيقع على الأرض وينكسر محدثًا صوتًا.)

(موسيقى تصور الكسر والفزع.)

(وجه سعاد يبدو فزعًا مضطربًا.)

(موسيقى تصويرية.)

تصوير داخلي:

صوت انفجار.

تظهر صورةٌ مكبَّرة لمحمود وهو منبطح على الأرض (في الحرب) تنزف الدماء من ذراعه. وقد انفجرَت قنبلة إلى جواره. يزحف على بطنه فيجد زميلًا له يلفظ أنفاسه الأخيرة.

محمود يحتضنه ويحاول إسعافه دون جدوى. الزميل يموت بين ذراعَي محمود. صورةٌ مكبَّرة لوجه محمود تُعبِّر عن الأسى والألم والدموع، ثم يترك الميت ويهبُّ كالملسوع ويجري ويقذف بقنبلةٍ يدوية تُحدِث حريقًا كبيرًا.

صوت انفجار قنبلةٍ يدوية.

صورةٌ مكبَّرة لمحمود وهو يجري. يقابل إنجليزيًّا. يهجم عليه ويقتله بالمطواة. الإنجليزي يموت بين يدَيه.

صورةٌ مكبَّرة لوجه محمود تُعبِّر عن الأسى والألم أيضًا. والدموع.

صورة مكبرة لمحمود وهو جالس على الأرض وحده. ذراعه ينزف دمًا. وهو يلهث من الإعياء. يُخرج من جيبه صورة سعاد. يتأملها. الدموع تظهر في عينَيه. يهمس بصوتٍ ضعيف خائر.

سعاد! سعاد!

تصوير داخلي:

منظر محمود يربط ذراعه وهو بملابس الحرب وزميله سعد يعرج قليلًا وهما ينزلان من القطار الذي حملَهم من منطقة القنال إلى محطة القاهرة.

يندفع نحوهما بعض الجنود المصريين ويسوقانهما إلى المعتقل.

تصوير داخلي:

محمود وزميله سعد جالسان كلٌّ منهما على سرير من أَسرَّة المساجين في حجرةٍ عارية من حُجرات المعتقل.

سعد : أنا مش فاهم حاجة خالص! ليه بقه جابونا هنا في المعتقل؟ ده احنا كنا بنحارب الإنجليز؟
ده كنت متصور إنهم حيحطوا أسامينا في لوحة الشرف مع الأبطال يقوموا يسجنونا؟ شيء غريب خالص!
محمود (في غيظ) : شيء مش غريب عليهم!
سعد : مين؟
محمود : الخونة اللي في القاهرة!

(سعد يقرب فمه من أذن محمود.)

سعد (هامسًا) : الملك؟
محمود (بصوتٍ عالٍ) : والحكومة بتاعته!
سعد : وطي صوتك! أحسن نخرج من هنا على حبل المشنقة!
محمود : إحنا شوفنا الموت بعينينا. خلاص ما فيش حاجة حتخوفنا!
سعد : لا والنبي. أنا لسة بخاف!
محمود : بتخاف من إيه بعد كل اللي حصل؟
سعد : بخاف ليفرجوا عني وبعدين أخرج تاني لحيرتي بتاعة زمان. تعرف مش أنا كنت وسط الحرب والنار والموت لكن اهو كنت حاسس اني عايش. حاسس ان الدنيا حوالي دنيا. فيها دوشة وحركة. كانت الحياة لها معنى في عيني. مش انا محبوس دلوقت لكن والله وأنا بره عايش حر في الكلية وفي البيت وفي الشوارع كنت باحس اني محبوس أكثر من هنا. على الأقل هنا لما باحس اني محبوس باقتنع واستريح!
محمود (تأثُّرًا) : كفاية يا سعد! كفاية! مش عاوز اسمع الكلام ده. سيبني شوية! سيبني افكَّر!
سعد (ساخرًا) : تفكَّر؟ هئ! ده أنا عاوز ما فكرش أبدًا. عاوز أنسى كل حاجة حتى نفسي! تعالى. تعالى انسى نفسك معايا!

(سعد يشد محمود من يده إلى ركن في الحجرة فيه حقيبة سعد.)

محمود : إيه حتعمل إيه يا سعد؟

(سعد يُخرِج من الحقيبة علبة حقن.)

محمود : إيه دي؟
سعد : دواء! دواء يريح الأعصاب ويلين المفاصل ويمنع الإمساك ويزيل الهموم من القلب.

(يضحك ساخرًا.)

ها! ها!
محمود : والله انت رايق وفايق. وراك ايه؟
سعد : وانت يعني وراك ايه؟
محمود : سعاد هي اللي مخلياني حريص على حياتي وحريتي!

(سعد يُخرِج حقنة ويعطيها لنفسه في ذراعه في الوريد.)

سعد : سعاد؟ هئ! زمانها اتخرجت وبقت دكتورة عظيمة. تفتكر انها حترضى تاخذ طالب فاشل زيك ومحبوس كمان!
محمود (ثائرًا) : اسمع! أنا أقبل منك الهزار في كل حاجة الا دي!

(محمود ينظر إلى سعد وقد أخذ الحقنة.)

محمود : إنت بتاخد الحقن دي صحيح؟
سعد : أمال هزار يعني؟ أهو أنا اهزر في كل حاجة الا دي؟
محمود : حقن إيه دي؟

(محمود يأخذ علبة الحقن من سعد ويقرؤها ويضعها في جيبه.)

محمود : مين اداك العلبة دي؟
سعد : زكريا. عارفه؟ كان في الكتيبة بتاعتنا. كان دايمًا سعيد ومش خايف من الحرب وأنا عمال باترعش. وكل ما اسأله يقول لي البركة في الحقنة!
محمود : مسكين!
سعد : ليه؟! عشان مات؟! اهو استريح. يعني احنا ما كأننا متنا أهوه. ده حتى الموت مش طايلينه.
محمود : لا. مش عشان مات.
سعد : أمال مسكين ليه؟

(محمود لا يتكلم. ينظر شاردًا. سعد يبدو عليه الإعياء والتعب. العرق يتصبَّب من جبهته. يغمض عينَيه ويستلقي على سريره. محمود يجلس وحده شاردًا يفكِّر.)

(تظهر له صورة أمه وهي تضربه وهو طفل في السابعة من عمره.)

(ثم صورتها وهي تنهره وهو شاب وتقول له إنت خايب.)

(موسيقى تصويرية مناسبة. تتابع الصور التي يتخيلها ويستعيدها من الماضي.)

(صورة الطلبة في الكلية وهم منهمكون في الدراسة والتحصيل.)

(صورة لزميله الذي مات في الحرب بين يديه.)

(صورة للإنجليزي الذي قتله في الحرب.)

(صورة للجنود وهم يقبضون عليه.)

(صورة للطلبة وقد أصبحوا أطباء وارتدوا البلاطي البيضاء والسماعات في آذانهم.)

(صورة سعاد بالبالطو الأبيض والسماعة متعلقة برقبتها.)

(موسيقى مناسبة.)

(صورةٌ مكبَّرة لوجه محمود وقد اهتزَّت عيناه بالاضطراب وتصبَّب العرق من وجهه.)

(يقوم ويمشي في الحجرة بعصبية. يتحسس جبينه. يُخرج علبة الحقن. وينظر إليها. يضعها في جيبه ويجلس يفكِّر. يخرجها من جيبه مرةً أخرى وينظر في داخلها.)

(موسيقى تصويرية.)

(يتحسَّس ذراعه في خوف.)

(يرجعها إلى جيبه مرةً أخرى. أخيرًا يفتح علبة الحقن.)

(ويسحب منها واحدة ويذهب إلى سعد النائم ويوقظه.)

محمود : سعد! سعد! سعد!

(سعد يفتح عينَيه في بطء نصف فتحة.)

سعد : إيه؟ فيه إيه؟
محمود : قوم اديلي حقنة. أما اجربها كده! وانا متأكد انها مش حتعملي حاجة!

(سعد ينهض متثاقلًا.)

سعد : مش حتعمل لك حاجة! هئ! هئ! لو كنت حاسس انها مش حتعمل لك حاجة يا بطل ما كنتش تفكر أبدًا انك تاخذها!

(محمود يكشف ذراعه الأيسر. سعد يعطيه الحقنة في الوريد.)

(محمود يُغمِض عينَيه قليلًا، ثم يفتحها.)

(يبتسم لنفسه. تبدو عليه الحيوية والنشاط.)

(يقوم ويمشي في الحجرة في نشاط وقلق.)

(سعد يتأمله قليلًا ثم يقول):

سعد : إيه؟ ما لك مش على بعضك كده؟
محمود : أفكار! أفكار كتير قوي جاتلي دلوقت! عاوز اكتب. آه لو كان هنا ورق يا سعد! راسي مليانة أفكار. خايف لتطير مني.
سعد (في برود) : طيب اقعد. استريح. الأفكار مش حتطير يا بطل الأفكار. دي حتجيلك دايمًا. والحارس بتاعنا زمانه جاي. نديله البقشيش بتاعه يشترلنا الحقن ويشترلنا الورق.
(ساخرًا): أيوه يشترلنا الحقن ويشترلنا الورق. أمال! يشترلنا الحقن ويشتر لنا الورق. هو احنا ورانا إيه يعني؟

(يُسمَع وقع أقدام الحارس الثقيلة. يظهر الحارس على باب الحجرة. سعد يعطيه بعض النقود ويهمس في أذنه ويغمز بعينه. الحارس يأخذ النقود ويبتسم في مكر. وينصرف.)

تصوير داخلي:

منزل أم محمود. أم محمود جالسة إلى ماكينة الخياطة.

تظهر قدماها أولًا. الأخت الخرساء. تجلس إلى جوارها تُعاوِنها. يبدو عليهما الحزن والألم لفراق محمود.

الجرس يدُق. الأخت تنتفض فرحة والأم تتوقف عن الخياطة متهلِّلة وقد ظنا أن محمود هو الذي جاء. الأخت الخرساء تفتح الباب.

تظهر سعاد. الأخت تعانقها وتسألها بالإشارة عن محمود. سعاد ترُد بأنها لا تعرف.

الأخت تتألم.

الأم تنهض وتستقبل سعاد.

الأم : أهلًا سعاد بنتي! أيوه! الدكتورة سعاد! مبروك يا حبيبتي النجاح والتخرج! ألف مبروك.
سعاد (في حزن) : مِرسي يا تانت.

(الأم تمسح دموعها وقد تذكَّرَت محمود.)

الأم : يعني لو كنت واخد بالك من كليتك يا محمود مش كان زمانك بقيت دكتور؟!

(سعاد تجلس والأم تجلس.)

سعاد : يا ترى ما عندكيش أخبار عن محمود يا تانت؟
الأم : ده أنا كنت لسة حسألك يا بنتي. هو مش بيبعت لك جوابات؟

(الأخت تقف. تُحاول فهم ما يدور بينهما.)

سعاد : أبدًا. بقى له كام شهر ما كتبليش كلمة واحدة. والحروب انتهت من زمان والفدائيين كلهم رجعوا!

(وجه الأخت الخرساء مكبَّرًا. يبدو عليه الفزع والألم.)

الأم (في خوف) : رجعوا؟! أمال هو فين؟ يا خوفي ليكون جرى له حاجة! يادي المصيبة اللي جايالي! يادي الكارثة!
سعاد : لا يا تانت ما تخافيش. اطَّمني. محمود عايش وبخير. الطلبة اللي اتقتلوا في القنال عارفاهم واحد واحد.

(وجه الأخت وهي تُحاوِل أن تفهم.)

الأم : واسمه مش فيهم يا سعاد يا بنتي؟ قوليلي والنبي. طمني قلبي، ربنا يطمن قلبك.
سعاد : لا يا تانت اسمه مش فيهم.

(وجهها يُعبِّر عن القلق والهم والألم.)

الأم : أمال يعني ما رجعش ليه؟ ليكون متعور والا حاجة ومش قادر يرجع. أو مرمي هنا والا هنا رمية الكلاب. آه يا غلبي ياني! كده يا محمود توريني المر طول عمري! مش كفاية العذاب والشقا اللي انا فيه؟!

(الأم تنشج بالبكاء.)

(الأخت تبكي معها وتربتُ عليها.)

(سعاد تحاول تهدئة الأم.)

سعاد : مش كده يا تانت! محمود بخير وإن شاء الله حيرجع بالسلامة. يمكن بيصفي الكتيبة بتاعته. إنتي عارفة انه كان زعيم. مش مجرد فدائي.

(الأم هدأَت وبدأَت تثور.)

الأم : زعيم إيه وفدائي إيه! هو حياكل والا حيشرب الزعامة دي؟ أنا عارفة هو طالع خايب كده ليه؟
سعاد : خايب ازاي يا تانت؟ ده أحسن واحد عندنا! ده الطلبة كلهم جنبه عيال.

(الأخت تفهم كلام سعاد ويظهر وجهها معبِّرًا عن الأمل.)

بكرة محمود يبقى بطل وكل الناس تتكلم عنه وتفخر بيه!
الأم : بطل؟ بطل إيه يا سعاد؟ فيه واحد يبقى بطل من غير ما يذاكر ويسهر؟
سعاد (في حماس) : المذاكرة مش كل حاجة يا تانت. معظم العباقرة والأبطال كانوا يسقطوا في مدارسهم. ويعني عملوا إيه الطلبة اللي ذاكروا واتخرجوا وبقوا دكاترة؟

(وجه الخرساء مكبَّرًا تتابع بعينَيها كلام سعاد في اهتمام.)

أهو اللي راح فيهم الأرياف عشان يعمل له ثروة من عرق الفلاحين الغلابة. أو اللي قاعد في مصر في وظيفة بخمستاشر جنيه في آخر الشهر. أو اللي قاعد في بيتهم مستني لما وزارة الصحة تحن عليه بشغل.

(وجه الأم معبِّرًا عن عدم الفهم والدهشة.)

تفتكري يا تانت الحياة دي ممكن تعجب واحد زي محمود؟

(وجه الأخت معبِّرًا عن الفهم والتشجيع لسعاد.)

لا يا تانت، محمود مش ممكن يعيش حياة خاملة. مش ممكن يبقى هدفه إنه يعمل ثروة من عرق الفلاحين. محمود اتخلق عشان يبقى إنسان عظيم. عشان يجدد! عشان يخلق!
الأم : يخلق؟ يخلق إيه يا سعاد يا بنتي؟ هو ربنا؟ أما صحيح اللي قالوا الأمثال ما كدبوش!
سعاد : أمثال إيه يا تانت؟
الأم (تبتسم) : اللي قالوا مراية الحب عامية!

(الأخت تبتسم أيضًا.)

سعاد : أبدًا! ده الحب بيخلي الواحد يشوف اللي الناس مش شايفاه!
الأم : المهم يا بنتي هو فين دلوقت؟
سعاد : اطمني يا تانت. أنا لازم حسأل واعرف هو فين وآجي أطمنك.
الأم : أي والنبي يا سعاد يا بنتي. اسألي عليه وطمنيني. ربنا يطمن قلبك.

(سعاد تقف.)

سعاد : حاضر يا تانت

(الأخت تقترب منها وتُحاول أن تُفهِمها بالإشارات أن تُطيل بقاءها.)

الأم : اوعي تتأخري علي يا سعاد. ده إنتي والنبي بقيتي في غلاوة محمود تمام.
سعاد : مِرسي يا تانت. أنا حاجي دايمًا اشوفكم واقعد معاكم.

(سعاد تعانق الأم وتقبِّلها.)

(وتعانق الأخت وتقبلها.)

(الأخت تشير إليها بأن تزورهم مرة أخرى. توصلها إلى الباب.)

(سعاد تخرج.)

الأم : يا ترى انت فين يا محمود يا بني؟! يا مين يطمني عليك! ده أنا قلبي انفطر عليك!

(الأم تبكي. الأخت تراها تبكي. تجلس إلى جوارها وتبكي معها.)

تصوير داخلي:

محمود وسعد يجلسان في حجرة المعتقل.

محمود قد طالت لحيته وبدا عليه التعب.

وسعد أيضًا يضحك باستهتار. ومحمود أمامه رزمة من الورق يكتب ويقطع.

وأمامه صورة سعاد يتأملها قليلًا ويتركها.

يمسك القلم ويكتب كلمة سعاد ويكتب كلمة محمود.

يضيف لها كلمة دكتور. يشطب.

يكتب دكتورة. ويشطبها. يمزِّق الورقة إثر الورقة.

إلى جواره كوم من الورق الممزَّق.

سعد يتأمله ويضحك باستهتار.

سعد : إنت مش حتبطل كتابة بقه؟ ها! ها بقى لك عشرين يوم بلياليهم وانت قاعد قعدتك دي. يظهر ان الحقن بتطلع في دماغك وتنقلب حبر! ها! ها!

(محمود يكتب ولا يرد ولا يرفع رأسه.)

سعد : ما ترد! إنت يابكم!
محمود : لا يرد. كأنه لا يسمعه.

(سعد يقف ويذهب إلى محمود ويهزُّه من كتفه هزةً خفيفة يقع محمود من أثرها على الأرض في إعياء شديد.)

(يتنفس بصعوبة على الأرض.)

(ويستريح لحظة ثم يهب ثائرًا كالأسد.)

(ويمسك سعد من ملابسه.)

محمود : أنا قلت ميت مرة ما تلمسنيش! إيدك دي ما تلمسش جسمي!

(سعد ينتزع نفسه منه ويترنَّح ساخرًا.)

سعد : يعني حالمس شباك النبي يا أخي!
على فكرة. أنا حلمت امبارح حلم غريب قوي.

(محمود يجلس إلى الورق مرةً أخرى ويمسك القلم.)

سعد : حلمت اني بقيت نبي!

(محمود ينظر إلى سعد في دهشة.)

(سعد ينظر إليه في دهشة أيضًا.)

(ثم ينفجران في الضحك والقهقهة العالية.)

(ثم يتوقفان عن الضحك فجأة.)

(يصمتان ويشردان ويطرقان إلى الأرض في حزن.)

(محمود يقف مضطربًا. يمشي في الحجرة قلقًا.)

(ثم يذهب إلى الحقيبة ويفتحها ويخرج علبة الحقن.)

(ويعطي نفسه حقنة في ذراعه الأيسر. سعد ينظر إليه في دهشة.)

سعد : لا! ده انت زودتها خالص! حقنتَين في اليوم؟
محمود : أيوه اثنين، وبكرة حيبقوا تلاتة، وبعده أربعة، وبعده خمسة، لغاية ثلاثين!
سعد : ده انت غلبتني. طول عمرك تغلبني. حتى في الإدمان!

(محمود يسمع كلمة إدمان فيبدو وجهه مكبَّرًا مضطربًا. عيناه تبرزان في فزع.)

محمود (غاضبًا) : إيه الكلمة اللي انت قولتها دي؟!
سعد : كلمة إيه؟
محمود : الكلمة الأخيرة!
سعد : الأخيرة أنهيه!
محمود (ثائرًا) : الأخيرة! الكلمة الأخيرة! مش عارفها؟ الكلمة اللي قولتها! قولها تاني! قولها! قولها! انطق!
سعد : لا ماقولهاش. قولها أنت!

(محمود يمسك بخناق سعد في ثورةٍ شديدة.)

محمود : يا جبان! يا رعديد! طول عمرك طفل! أنا حقولها! أيوه أنا حقولها! إدمان أيوه! إدمان!

(في شدة وعنف.)

أنا مدمن! مدمن! مدمن! مدمن!

(يمسك رأسه بيدَيه في قوة. يترنح وصوته ينقلب إلى نشيج ويقع على الأرض محدثًا صوتًا.)

(موسيقى تصويرية. تعبِّر عن سقوط شخص إلى الأرض.)

(يهذي بكلمة سعاد!)

سعاد! سعاد!
تصوير خارجي:

حقيبة سعاد تقع منها على الأرض وهي تجري في الشارع.

تترك الحقيبة وتجري كالمجنونة وهي تلهث والدموع في عينيها وهي تقول كالمجنونة.

محمود! محمود!

تجري في الشارع نحو المعتقل وتدخله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤