المنقذ غادر بيته
أَجمَع أمره، صَمَّم أن يَتحدَّى قَدَره، أن يأخذ معه سِرَّه، الرحلة كانت خطرة، والمحنة مُرَّة، ما ضرَّ إذا أخفق مَرَّة؟ فليُعِد الكرَّة، وليحمل للعالم فكرة؛ فالفكرة إن كانت حُرَّة، فستصبح فعلًا أو ثورة، تُنقذه وتُحطِّم نِيره.
الرسالة السابعة: سيرةُ فشلٍ مُرٍّ، وثيقةُ اعترافٍ ودفاعٍ وتبرير. طالما أُثير الشك حولها، واليوم ينعقد إجماع العلماء أو يكاد على صحة نسبتها لأفلاطون. لعلها هي الوحيدة من بين رسائله الثلاث عشرة التي نجت من الشك، وربما شاركَتْها الرسالتان الثالثة والثامنة. فيها نقرأ قلبه، نعرف همَّه؛ فلقد وقف القلب وراء الفكر، طول العمر، يُشعل فيه نار العدل ويلهمه الحكمة والشعر.
الأصل والطبع والرغبة في «إنقاذ» مدينته تُوجِّه خُطاه على درب السياسة؛ ففي طفولته وشبابه شاهد مواطنِيه يُمزِّقون لحمهم بأيديهم، في أقسى حرب عرفتها بلده «حرب البيلوبينيز بين أثينا وإسبرطة، استمرت من ٤٣١ إلى ٤٠٤ق.م»، ورأى الكارثة بعينَيه، ونظام أثينا، حُريَّتها وحضارتها، تنهار أمامه: «كُنتُ لا أَزال في رَيْعان الشباب عندما حدث لي ما يَحدُث للكثيرِين، فقد تَطلَّعْت للإلقاء بنفسي في أحضان السياسة بمجرد بلوغي سن الرشد.»
كانت صورة الأحوال السياسية مُضطرِبة عجيبة؛ فالناس في مسقط رأسه ناقمون على النظام الخائن الذي تَسبَّب في الكارثة وجلب عليهم الهزيمة. وتَمَّت ثورة نَقلَت زمام السلطة المُطلَقة إلى حكومة الثلاثين. كان بعض هؤلاء من أقاربه؛ «فرئيسهم — كريتياس — هو عَم أُمه، وأحد زعمائهم — خارميدس — هو خاله»، وعلى الرغم من إعجابه بهما، فقد سَمَّى مُحاورتَين من محاوراته باسمهما، لم يملك نفسه من السخط على حُكمهما. لقد تَوقَّع أن ينقلوا المدينة من الظلم إلى العدل، ويستبدلوا بالإدارة الفاسدة إدارةً رشيدة. غير أنه سرعان ما اكتشف أنهم استطاعوا، في أقصر وقتٍ ممكن، أن يجعلوا الحكم السابق يبدو — بالقياس إلى حكمهم — أشبه بالجَنَّة أو بالعصر الذهبي. ساد الظلم وغلب الشر، واشتد العَسْف وكُتِم الصدر. وابتعد بنفسه، فلقد خاب الأمل وفَر.
لم يَمضِ وقتٌ طويلٌ حتى انهار حكم الثلاثين. وخَلفَت حكومةَ الأقليَّة «الأوليجاركية» حكومةٌ شعبيةٌ «ديمقراطيةٌ» مُعتدِلة.
لكن الحظ الأسود بالمرصاد؛ فلقد شاء رجال السلطة الجديدة أن يُقدِّموا للمحاكمة صديقه ومُعلِّمه الشيخ «سقراط» أعدل الناس وأطهرهم عنده. اتهموه بتُهَمٍ خسيسةٍ هو أَبعدُ الناسِ عنها، وأَدانَته المحكمة وقَضَت عليه بالموت. وأصابه الدُّوار أمام الاضطراب الشامل؛ فالعاملون بالسياسة أشرار وطغاة، وفساد التشريع والأخلاق العامَّة يستفحل بصورةٍ مُخيفة، والمبادئ التي عاش عليها الأجداد تتداعى وتنهار.
انشَقَّت الهاوية بينه وبينهم، تَحطَّمَت كل الجسور. مع ذلك لم يَتوقَّف عن التفكير في الإصلاح وتَرقُّب الفرصة المُواتية للعمل، «فلا يزال القلب مُفعَمَ الحماسِ للتغيير والإنقاذ». حتى اقتنع — أخيرًا — بصعوبة حكم الدولة حُكمًا ترضى عنه النفس. بل اقتنع بأن أحوال الدول الحاضرة كلها تدعو للرثاء، وأن دساتيرها المريضة لن يَشفيَها إلا مُعجزةٌ تأتي معها بالإصلاح، مُعجزةٌ يتولاها الحظُّ الطيب أو ترعاها عين الله: «وهكذا وجدتُني مدفوعًا إلى الاعتراف بقيمة الفلسفة الحقَّة، والتأكُّد من أنها هي — وحدها — التي تُمكِّن الإنسان من معرفة العدل والصواب الذي تَصلُح به الدولة والحياة الخاصة، وأن البشرية لن تتخلص من البؤس حتى يصل الفلاسفة الأُصلاء إلى السلطة، أو يصبح حكام المدن — بفضلِ معجزةٍ إلهية — فلاسفةً أُصلاء.»
اليوم يُحوِّم فوق ربوع أثينا، والتُّهم تشير أصابعُها نحوه، فيهجر هذا البلد الخَرِب سنينَ طويلة، ولْيَبدأ رحلته الكبرى، يَتزوَّد من بحر العلم، يزور رِفاق الدَّرس، من حوالي ٣٩٩ حتى حوالي ٣٨٨ق.م. «ترسو المركب في ميجارا، ثُمَّ تطوف بمصر وقورينا، حتى تصل إلى «تارنت» وتقف على شطآن صِقِلِّيَّة».
ما زال الحلم يداعب عينه، حُلم الحاكم حين يكون حكيمًا، رجلًا يجمع بين القدرة والعلم، بين السلطة والحكمة …
هل زار صِقِلِّيَّة في نهاية هذه الرحلة وتَعرَّف بحبيب عُمره «ديون»، أم عَرفه في بلاط صديقه الحاكم الحكيم الفيثاغوري النبيل «أرخيتاس» في «تارنت»؟ لا ندري على وجه التحديد. لكن الرسالة تُشير إلى هذه الزيارة الأولى، التي تمت حوالي سنة ٣٨٨ق.م عندما كان يُناهز الأربعِين من عمره، وإن بَقِيَت دوافعها غامضة. لم يكن يصل إلى هناك حتى أصابه الاشمئزاز والنفور من حياة القوم؛ فهي حياة يُنفقها أصحابها على مَلذَّات الطعام والشراب والعشق، ولا يمكن أن تتيح لإنسان فانٍ أن يصبح حكيمًا. والأخطر من هذا أن مثل هذه الدولة التي يتهالك أهلها على المَلذَّات لا يمكن أن تنعم بالطمأنينة والسلام، ولا بد أن تقع تحت سطوةِ طاغيةٍ فرد أو استبدادِ بعضِ الأُسر أو حكم الغوغاء، ولن يَتحمَّل حكامها سماع كلمة «الحكم العادل». وأَنَّى لها بالعدل وقد فقد الحاكم والمحكوم كل إحساس بالتدبُّر والاعتدال؟
كان ديونيزيوس الأول يُسيطر — بقبضته — على أقدار الجزيرة ومعظم الجُزر اليونانية في جنوب إيطاليا. أقام فيها مملكة عسكرية مُستبِدة، واحتفظ في الظاهر بأشكال الحكم الديمقراطي، لكنه كان في الواقع من أبشع الطغاة الذين عرفهم التاريخ القديم أو الحديث «لعل صورته أن تكون هي صورة الطاغية المُطلَق الذي يهاجمه أفلاطون في الجمهورية وغيرها من محاوراته، فهو الذئب، الليل، السِّكِّير الأحمق، مجنون يتصور أن يحكم غيره وهو العاجز عن أن يحكم نفسه، يَلبَس ثوب الطغيان ويُمسك سيفه، وهو العبد بمعنى الكلمة، هو أشقى من أشقى الناس …»
لا ندري في الحقيقة هل اتصل أفلاطون مباشرةً بهذا العسكري المحترف، أم لم يتمكن من الاتصال به. فبعض الروايات تحكي عن خلاف وقع بينهما أدى إلى مُشادَّة حادَّة اتهمه فيها أفلاطون بالاستبداد، فلم يكن من القائد المحترف إلا أن أهانه وطرده، ومن الطبيعي ألا يُحس بقيمة الثقافة أو يحترم قَدْر الفيلسوف. وبعض الروايات تقول إنه أمر بترحيله إلى سوق الرقيق في جزيرة «أيجينا»، وكان من حظه أن رآه أحد مواطنِي قورينا — ويُدعى أنيكريس — فافتداه ومكَّنه من العودة سالمًا إلى وطنه.
مهما يكن الأمر في هذه الروايات والحكايات، فيبدو أنه تَعرَّف في بلاط الطاغية بشاب ذكي مُتحمِّس في حوالي العشرين من عمره، سَحرَته عصا المُعلِّم فانقاد لِسِحرها حتى النهاية، ذلك هو «ديون» شقيق إحدى زوجتَي الطاغية، وصديق أفلاطون ويده اليمنى في تحقيق الحُلم الأكبر: «يبدو أنني عندما التَقيْت بديون في ذلك الحين — وكان لا يزال شابًّا صغيرًا — قد عَمِلْت دون قصد مني على انهيار الطغيان، وذلك عندما أَفضيْت إليه برأيي عن أفضل الأمور للبشرية وحثَثْته على اتباعها بصورة عمليَّة.» تَحمَّس له ديون تحمُّسًا فاق ما عرفه من الشباب الذين قابلهم في حياته، وتَشرَّب بتعاليمه حتى تَحوَّلت نفسه بكُليَّتها إلى الحكمة، وأَصبحتِ الفضيلة عنده أسمى من المَلذَّات والمباهج الحسية، وانطوى على نفسه مع أحلام مُعلِّمه حتى أثار حِقد الحاشية …
واستمر يَنسِج أحلامه حتى مات الطاغية سنة ٣٦٧ق.م، وخلفه ابنه ديونيزيوس الثاني الذي كان أبوه قد أقصاه عن مَهامِّ الحكم وفرض عليه الجهل. حانت الفرصة ليُلقي ديون شبكته على الصيد الثمين، ليصنع منه الحاكم الفيلسوف، أخذ يلحُّ عليه حتى اقتنع بدعوة أفلاطون ثُمَّ أخذ يلحُّ على أفلاطون لكي يقبل الدعوة: «أهناك فرصة أنسب من هذه الفرصة التي هيَّأتها العناية الإلهيَّة؟ أن الملك الشاب شَغوفٌ بالعلم، وأقاربه يمكن أن نَكسبَهم بسهولة، والأمل كبير في أن يتحقق حُلمك، أن يتحد الحُكم مع الحِكمة في شخصٍ واحد، وبذلك تسعد سيراقوزة والبشرية، أَسرِع لا تبطئ عنَّا، فالمَثَل الأعلى يُوشِك أن يَتجسَّد في إنسانٍ حي …»
واستجاب المُعلِّم للدعوة، انتَصرَت إرادة الحلم على مخاوف التردُّد: «فقد كُنتُ الآن بحاجة إلى إقناع إنسانٍ واحد بآرائي لكي أُحقِّق كل الخير الذي قَصدتُ إليه.» وما قيمة آرائه عن القانون والحكم إن لم تُوضعْ موضع التنفيذ في الواقع الملموس؟ فليُقدِم إذًا على المخاطرة «حتى لا أخجل من نفسي، أو أبدو في عيني مجرد رجل نظري لا يُحسن إلا الكلمة.» حتى لا يُتَّهم بنسيان الواجب أو خِذلان الحق، سيكون عليه أن يتخلى عن عمله، يهجر أخلص أبنائه، ليعيش ببلد يتحكم فيه الطغيان، أبغض شيء عنده، لكن هذا أهون من أن يُوصم يومًا بالجُبن وإيثار الراحة …
ويُقدِم على المخاطرة. ويُفاجأ ببلاطٍ يموج بالدسائس والمؤامرات على ديون. ثُمَّ يُفاجأ بعد وصوله بقليل بنفي صديقه وتلميذه من صِقِلِّيَّة. وتسري الشائعات بأنه تآمر معه على خلع الملك الشاب عن العرش، وأنهما أرادا أن يُوقِعاه في سحر الفلسفة لينشغل عن مهام الحكم. هل يمكن أن يبقى في هذا الجو الخانق؟ هل يملك شيئًا بعد رحيل صديقه؟ أَيُجرِّب أن يَهدي المَلِك الأَخرَق لطريق الحكمة؟ لكن الشر استشرى فيه وفي حاشيته. وسهام الحكمة تَتكَّسر فوق صخور الغِلظة، بل إن الهمس يُردِّد أن ديونيزيوس قتله، أو أَمَر بقتله، فلْيطلُب إذنًا بالعودة. ويَتردَّد الملك؛ فسُمعَته مرهونة ببقاء الفيلسوف ببلاطه. وتَوسَّل إليه أن يبقى، وتَوسُّلات الطغاة تهديد ووعيد. ووافق الفيلسوف على أمل أن تُخالجه الرغبة في الحياة الفلسفية. بكنه ظل يُقاوم إلى النهاية، بل أمر بأن يُحبس الفيلسوف في بُرج لا يخرج منه إلا بإذنه. وأخيرًا وافق أن يرحل على وعد بأن يرجع عندما يستقر السلام في الجزيرة ويعود ديون من المنفي.
وتمر ستة أعوام، ويعود أفلاطون إلى صقلية سنة ٣٦١ق.م. فقد ألحَّ عليه ديونيزيوس أن يقبل دعوته، ووعد بأن يُنفِّذ العهد الذي قطعه على نفسه بتسوية شئون ديون. كيف استجاب الفيلسوف على الرغم من سوء ظنه بالطاغية؟ ألم تَكفِه مرارة التجربة السابقة؟ يبدو أنه لم يشأ أن يُضيِّع الفرصة الأخيرة لهداية ديونيزيوس إلى الطريق، ولم يفقد الأمل في مساعدة ديون، ولم يقطع كل رجاء في «إنقاذ» سكان الجزيرة والعمل على سيادة القانون وإقامة نظامٍ عادلٍ يحل محل الحكم المستبد. ارتفع شُعاع الأمل الأخير فوق ظُلمات الشك والريبة، لكن ماذا يجد أمامه؟
تتحول الزيارة إلى كارثة؛ فلم يَفِ ديونيزيوس بوعوده، ولا استدعى ديون من منفاه، لم يدخل في حوار مع الفيلسوف إلا مَرة واحدة، ومع ذلك فسوف يدَّعي الإحاطة بمذهبه. وتثور ثورة المُرتزقة طالبِين رفع أجورهم. ويُتَّهم الفيلسوف بمساندة المُتمردِين. ويجد نفسه سجينًا في حديقة القصر كالطائر الحبيس في قفصه، ويحاصره التهديد بالقتل من كل ناحية. ولولا شفاعة صديقه النبيل أرخيتاس لما قُدِّرتْ له النجاة.
فَشِلَت المغامرة الثالثة وخاب الأمل. تَحطَّم الحلم على صخور الغدر والحسد واللؤم، وتهاوى في أوحال الواقع برج الفكر. ماذا يفعل؟ ها هو يرجع، ماذا في جعبته إلا المُر؟ فليلزم دارًا لا يدخلها الشر. وليُعطِ صغار الطير حصاد العمر. ولْيَزرعْ في الأفئدة بذور الخير، فلعل النبتة تنمو في بستان الوعي وتُثمر، والقوة تُسقَى من ماء العلم فتُزهر، في فردوس العدل، الحُلم الأكبر، يتولاه راعِ يَحكم … ويُفكر …
مسئولية من؟ ومن الجاني ومن المجنيُّ عليه؟ أهو ديون أم ديونيزيوس؟ أم قَدَرٌ خافٍ بين حنايا العصر؟
إن كلامه عن ديون يفيض بالعرفان والحنان «لا تَخفى منه نَغْمة إحساس بالذنب!» لقد استمع إليه ديون وفهم عنه، شرب من نبعه وتَطهَّر بمائه. ربما تَحمَّس أكثر مما ينبغي، والحماس المشبوب وراء كل علم أو إبداع أو إصلاح. لكن التطرُّف فيه فاسد؛ لأنه بداية طريق لا منهج سير، كما أن الانفعال شيء غريب على عالم العقل والنظام والتدبير …
كان ديون طيب القلب، تسقط كلمات الفلسفة في بُحيرة وجدانه فتثور وتمور، لكن قلما تلمس الموجة قمة جبل العقل. وهو يُذكِّرنا بشخصية شاب آخر يتحمس للفلسفة كالمجنون وينفعل بها إلى حد البُكاء والهِياج. إنه «أبوللودور» الذي نراه في اللحظات الأخيرة من محاورة فايدون (٥٩) ومن حياة سقراط يشهد مع أصحابه أخر فصل في حياة المُعلِّم الكبير. فلا يكاد سقراط يضع كأس السم على فمه حتى ينفجر وحده من بين الحاضرين بالبكاء والنشيج. ويلتفت سقراط — الذي احتفظ بسُخريتِه الحَنونِ إلى آخرِ لحظة — لأحد تلاميذه ويقول عنه: «إنك تعرف هذا الشاب وتعلم طبعه!» وهو نفس أبوللودور «المجنون» الذي نراه في محاورة المأدبة (١٧٢ وما بعدها) يروي ما جرى من حديث الحُب في بيت الشاعر «أجاثون». إن لقاءه بسقراط قد بدَّله وحوَّله: «كنت قبل لقائي به أَهيم هنا وهناك كيفما اتفق، وكنت أتوهم أنني أصنع شيئًا، بينما كنت في الحقيقة وحيدًا منسيًّا، أتعس من أي إنسان آخر.» الناس تدعوه أبوللودور المجنون. وهو في كل مكان يحكي — في طيبة قلب — عن شعوره بالفرح والسرور كلما أمكنه أن يتكلم عن الفلسفة أو يستمع لمن يتكلم عنها. ثُمَّ لا يلبث أن يرتد إلى الحزن واليأس كلما وجد أنه لم يتوصل بعد إلى التشبُّه بسقراط …
هنا وهناك تَحوَّل التلميذ وتَبدَّل. لكنه لم يكن التحوُّل الذي يقصده المُعلِّم والمُربِّي من تحويل النفس بكُلِّيتها نحو الحكمة، كلاهما طيب القلب، حسن النية، مندفع في حماسه إلى حد السذاجة والطَّيش، والنيات الحسنة أقصر الطرق إلى الجحيم. يَصدُق هذا في الأدب وفي الفلسفة، فما بالك بالواقع؟
بذل ديون كل ما في وُسعه للتأثير على الأب والابن الطاغيَين، أحسن الظن في الحالَين فلم يتعلم مما لقي من الصدمات. ولم يقف طموح آماله عند «إنقاذ» سيراقوزة لينعم أهلها بسعادة تَجل عن الوصف وتستحق أن تُشرِّف اسمه، بل أراد أن ينقذ البشرية كلها بمجرد أن ينجح في تحقيق مثال الحاكم الحكيم والملك الفيلسوف في شخصية الطاغية. واسترسل مع الأحلام وأخذ يُلح على المعلم لاغتنام الفرصة النادرة. واندفع المعلم أيضًا مع حماسه حتى أفاق على الصدمة تلو الصدمة، نُفيَ التلميذ وأُبعد عن بلده، نُهبت ثروته، بِيعَت فجأة. بعد سنين ثار لنفسه ومُعلِّمه واغتصب الحكم، لكن أصبح طاغية أقسى من كل طغاة صِقِلِّيَّة، وأخفق في تطبيق الحكم العادل أو إصلاح الدستور، وأخيرًا ثار عليه الشعب، حتى انغرز الخنجر — بيد صديق — في أعماق القلب …
ما من أحد مِنَّا خالد. ولقد مات ديون ميتة رائعة: «وإنه لشيء جميل وجدير بالسعي إليه في كل الأحوال أن يتحمل المرء كل شقاء يصيبه به القَدَر، مهما تكن وطأته ثقيلة، في سبيل كفاحه لبلوغ أسمى الخيرات لنفسه ووطنه.» فهل استجاب حقًّا لتعليم أستاذه؟ هل جنى عليه الأستاذ دون أن يدري؟ أم كان الذنب أخيرًا هو ذنب «الحلم»؟ فعل ديون كل ما يستطيع ليُغيِّر الطاغية، لكن هل تتجه النفس إلى الخير إذا لم تكُ خيرة بطبيعتها؟ نفاه الطاغية وأهان أستاذه، فانتقم منه وحَرَّر الجزيرة منه ليصبح طاغية مثله! قتل أخلص أعوانه، نشر الخوف والرعب، نسي على عرش السلطة ما لا يُنسَى من تعليم الأستاذ: «لا يجوز لِصِقِلِّيَّة ولا لغيرها من المدن أن تخضع للسلطة المُطلَقة أو الطغيان الفردي، بل يجب أن تخضع لحكم القانون، فالسلطة المُطلَقة مُضرَّة بالحُكام والمحكومِين، وهي مؤذية لهم ولأبنائهم وأبناء أبنائهم؛ لأن مثل هذه التجربة لا بد أن تؤدي إلى الخراب …»
لكن المُعلم يَتحسَّر على مصير تلميذه، «الذي كانت لديه الرغبة الحارة في تحقيق العدالة.» يعتذر عنه بأنه «لو تَمكَّن من تدعيم حكمه لبدأ على الفور بتزويد مُواطنِيه بأفضل وأنسب ما يستطيع من قوانين.» هل يجهل أفلاطون أم يتجاهل أنه سرعان ما تحول إلى طاغية قاسٍ؟ هل تمنعه عاطفة الحب من الاعتراف بأنه أهمل تعاليمه؟ أم إن بذرة التسلط كانت كامنة في هذه التعاليم؟ يبدو أن قلبه يمنعه من سماع صوت العقل، أو أن هدف الرسالة السابعة كلها — وهو تبرير رحلاته والدفاع عن فلسفته ومدرسته — يحول بينه وبين السير في الاعتراف إلى آخر مداه. ها هو يُلقي الذنب على أكتاف المجهول: «ولكن يبدو — بعد أن تحولت الأمور على هذه الصورة — أن روحًا شريرًا (أو ربة من ربات الثأر) قد هاجمنا واستطاع بما جُبل عليه من احتقار القانون والدين وبما هو أسوأ منهما من رعونة الغباء أن يقلب كل خُططنا ويُفسدها للمرة الثانية.»
ويتذكر الصَّديقَ المسكينَ الذي يحتل من قلبه أغلى مكان. وينصح أصدقاءه وأتباعه بأن يقتدوا به في حب الوطن، ويهتدوا بحياته التي اتسمت بالبساطة وضبط النفس، ويحاولوا تحقيق أهدافه — التي هي نفس أهدافه! — في ظل ظروف أنسب. صحيح أنه يؤكد لهم ضرورة احترام القانون الذي يكفل الحقوق المتساوية للجميع، ولا بد أن يخضع له الفريق المنتصر قبل الفريق المهزوم، بل ينصحهم باختيار مجموعة من حكماء اليونان لوضع هذه القوانين. فهل أنسته عاطفة الحب لصاحبه أنه تجاهل المبادئ التي عمل معه على تحقيقها «مَدفوعَين بالحب لأهل سيراقوزة»؟ هل صحيح أن «قَدَرًا يفوق قدرة البشر» هو الذي حال دون نجاح خُطتهما؟
ويواصل الاعتذار عن «ديون» والتحسر عليه، فقد كانت آراؤه «هي نفس الآراء التي يفترض فيَّ وفي أي إنسان عاقل أن يعتنقها.» لقد وضع نُصْب عينَيه ألا يصل إلى السلطة وأسمى الوظائف إلا عن طريق التفاني في خدمة الصالح العام، وكان هدفه وضع دستور حقيقي وإقامة قوانين طيبة عادلة تنفذ بغير قتل أو إعدام أو نفي. فهل هذا كان حقًّا هو المَثَل الأعلى الذي وضعه ديون لنفسه مؤثرًا تَحمُّل الظلم على اقترافه؟ هل غاب عن المُعلم أن تلميذه أغرق يدَيه ومَثَله الأعلى في الدماء؟ وهل كان سبب سقوطه أنه انخدع في المدى الذي وصلت إليه خِسَّة الأشرار الذين لم يَغِب عنه أنهم أشرار؟ كالملَّاح البارع الذي يَتوقَّع هبوب العاصفة، ومع ذلك تُداهمه بقوتها وعنفها المفاجئ فتغرقه؟ أم إن القلب المحب يصعب عليه الاعتراف بأن «الحلم المنقذ» بحاجة إلى إنقاذ؟ وأن طريق «الحكمة» أشق مما تَصوَّر المُعلم والتلميذ؟!
هل المسئول ديونيزيوس؟
لقد تعب أفلاطون وديون في توجيهه نحو الخير. بذلا له النصيحة تِلو النصيحة ليبدأ بتغيير حياته من أساسها. لكن عَبثًا يحاولان علاجَ مَريضٍ يُصِر على رفض تعاليم طبيبه. عَبثًا تُكرِه إنسانًا على شيء يأباه طبعه. فالخير يسعى للخير، وطريق الحكمة وَعْر، درب يرقاه السالك بالعرق المُر، تحويل النفس بِرُمَّتها نحو الخير، هل تَصلُح نفسٌ جُبلت من طين الشر؟
عَلَّماه أن يُصادق نفسه. فالذي لا يحب نفسه لا يحب غيره. لكن كيف يُصادق طاغيةٌ نفسه؟ كيف تعرف الصداقة طريقها إلى قلبه؟ إنه عدو نفسه الأول. ولهذا فهو عدو الناس جميعًا، والناس جميعًا أعداؤه، إن لم يجدهم في الداخل فهم وراء الحدود، وإن لم يهددوه من الخارج فكل من حوله يهدده: الذئب يهاجم أو ينتظر هجومًا …
نعم، لقد دعا الفيلسوف لضيافته. واستقبله بالترحاب اللائق والتكريم. لكنه لم يَدعُ فِكره وحِكمته، بل أراد أن يستغل سُمعته، أن يُباهي به أمام الرأي العام الإغريقي، أن يجعله زينة قصره، تُحْفةَ تُحَفِه، أن يروي الناس ويحكي التجار ومَلَّاحو السفن بأن ديونيزيوس صاحب أفلاطون، بل يفهم عنه أيضًا ويحاوره في آرائه! فإذا همس رجال الحاشية بأن أفلاطون يريد أن يوقعه في سِحر الفلسفة، ويَشغَله عن واجبات الحكم، أسرع بحبسه في بُرج لا يخرج منه إلا بإذنه، ولا يستطيع الملَّاحون أن يأخذوه منه إلى وطنه …
وتُردِّد الشائعات أن الطاغية تحمَّس فجأةً للفلسفة! وتصله الرسائل التي تؤكد — حتى من أصدقائه الفيثاغوريِّين في تارنت — أنه تَغيَّر وغَيَّر نفسه، وأنه عازم على سلوك الحق والفضيلة. ويُصدِّق الفيلسوف على الرغم من سوء ظنه به وبحماس الشباب الذي يشتعل فجأةً ويخبو فجأة. ويُسرع إليه على أمل أن تتحقق الفرصة الأخيرة ويصنع منه تِمثال الحاكم الحكيم. لكن الطِّينة نجِسة، وغناء الضفدع لا يحلو إلا في قلب المُستنقَع. ها هو ذا قد أخلف وعده، لم يَستدعِ ديون من منفاه، لم يرسل إليه نصف دخله كما تعهد على نفسه، والأدهى من هذا أن المتعطش للفلسفة لم يُكلِّف نفسه عناء لقاء الفيلسوف إلا مرة واحدة! مع هذا سوف يُشيع بين الناس أنه يُحبه ويفهمه، بل سينشر كتابًا يعرض فيه مذهبه! …
كيف تَجرَّأ أن يفعل هذا مع أن صاحب المذهب يؤكد أنه لم يفكر يومًا في كتابة شيء عنه؟ لقد آمن دائمًا بأن «حقائق الطبيعة» و«القضايا الأخيرة» تستعصي على التدوين في الكلمات الجامدة والحروف الصماء. فالفلسفة طريق وحوار حر، نور ينبض فجأة، في نفس خَيِّرة سَمْحة، وهنالك ينمو ويعيش. ولو تَصَوَّر أن نشر أفكاره يمكن أن ينفع الناس، فهل كان يَتردَّد عن تقديم هذا المذهب الذي يُنقِذهم من بؤسهم ويُبيِّن لهم حقائق الأشياء؟ أكان هنالك عملٌ أجمل أو أنبل من هذا العمل؟ لكن القلة القليلة هي التي ستفهمه على الوجه الصحيح، أمَّا الكثرة فلن يصيبها منه إلا الأذى والاضطراب، «ولهذا لن يخاطر إنسانٌ جادٌّ بوضع أفكاره في ثوب اللغة الضعيفة، وأولى من ذلك ألا يخاطر بوضعها في ذلك الشكل الجامد الذي يميز كل ما يكتب بالحروف.»
لكن غرور الطاغية صوَّر له أن الأمر هيِّن، وهل هناك ما هو أهون من إطلاق شِراع القلم فوق بحر المِداد؟ هل ثمة شيء أيسر من تلويث الورق الطاهر؟ لن يكون ديونيزيوس أول ولا آخر من يكتب عن الخير ونفسه مليئة باللؤم والحسد والشر، «انظُرْ وتأمَّلْ حولك: كم من شِرِّيرٍ لبس مُسوح العلم، اجتَرَّ مئات الكتب وفوق الورق العُذري أَسال بحور السُّم، ماذا كسب العلم أو العالم منه؟ وا أسفاه! صار الرأس وصار الفم، مَقبرة الكلمات الصُّم، ماذا يَجنِي الشوك من الشوك الشائك — إلا الظلم؟ هل تلد الأرض العاقر إلا العقم؟ ما قيمة بحر مداد لم تسقط فيه قطرة دم؟»
لم يَعرِف شيئًا من هذا. والمُنقِذ أسفر عن وجهه، فإذا هو ذئب!
هل مات الحُلم؟ فلْيَحمِل معه أشلاءه، ويعود إلى الوطن الأم.
هل بقي أمل في الإنقاذ؟ ألا يزال في قدرة الفلسفة أن تنقذ البشرية؟ أم تَظل تحلُم حتى يُطفئ الجراد سِراج الحُلم؟ أننتظر المُنقذ أم نحاول إنقاذ أنفسنا؟
ويَعكُف المُربِّي الأَثيني على تربية النفوس والعقول، ويُقدِّم لمُواطنِيه طريقًا أو مشروعًا يُنقذهم من الانهيار. فلننظر في هذا المشروع، ولنسأل ماذا يمكن أن يُعطينا في زمن المحنة …