إنقاذ العالم
العالم بؤس وفساد، لِمَ نحيا فيه إن لم نَسعَ لإنقاذه؟ ما معناه إن لم نُضْفِ عليه المعنى؟
معرفة الوجود الخالد الحق والمشاركة فيه لإنقاذ الوجود الأرضي المحسوس بقَدْر الإمكان، تلك هي مشكلة أفلاطون.
ليست مشكلته هي الخلاص من الثاني وإفناؤه، ولا الاتحاد مع الأول والفناء فيه، «فهذه آثار فلسفة أفلوطين وشُرَّاحه على التَّصوُّر الشائع عن أفلاطون!» بل حمل النفس على المشاركة فيه، «من هنا تأتي وظيفة التربية وتقسيم العلوم».
ارتباط الطبيعة بالأخلاق: من تَعلَّق بهذا العالم الحِسي أصبحت القيم الأخلاقية عنده مُتغيِّرة وقابلة للتحوُّل. لا عدل ولا حق ولا واجب، بل كلمات تُغوي وتؤثر، كل شيء كما يبدو لكل إنسان. أوضح من عَبَّر عن هذا كالليكيليس في «جورجياس» وثرازيماخوس في «الجمهورية»، من هنا كان فساد السُّفُسطائيِّين، وانحلال أثينا، وتضليل الجماهير بالكلمات. من هنا كان خداع كل الدجالِين، ينتظر الناس الحق فلا يجدون، غير بريق الكلم الزائف من فم مجنون.
الهُويَّة هي مجال الوجود الحق، مجال «الموضوعية» حين يعرف العقل حقائقه. والغَيرِية «أو الأقل والأكثر» هي مجال الصيرورة، مجال النسبية التي لا يستطيع العقل أن يَثبُت فيها، واللاوجود — أو الموجود في الظاهر فحسب — بينهما هُوة وانفصال، وانشقاق وثنائية حاسمة، هل يمكن أن يلتقيا؟!
أبينهما تناقض أم بينهما تضاد؟
أتصدق عليهما: إما «أ» أو «ب»، أم «أ» عكس «ب»؟
فرق كبير بين التضاد الذي يسمح بوجود حدود مُتوسِّطة بين الضدَّين، كالصيف والشتاء وبينهما خريف وربيع، والأبيض والأسود وبينهما عدة ألوان، وبين التناقض الذي لا يسمح بالتوسُّط، حياة وموت، حركة وسكون، ذكر وأنثى، زوجي وفردي، جوهر وعَرَض، صدق وكذب … الخ.
مع ذلك تسمح بعض المتناقصات بحدود وسطى من جانب واحد، كالظلم بالنسبة للعدل، فقد يقترب من العدل أو يبتعد عنه، بعكس الزوجي والفردي والحياة والموت … إلخ.
بين عالمي الصيرورة والوجود تناقض من النوع الأخير، الأول يسمح بالتقارب، يمكن أن يبتعد أو يقترب من الثاني. فالوجود مُطلَق، ولا بد من معرفته معرفة مُطلَقة في ذاتها. والصيرورة أو اللاوجود الذي يقترب منه أو يبتعد عنه يناقضه؛ لأنه يشتاق للوجود ويسعى للمشاركة فيه «إذ لو كان مثله لصار منافسًا له ولم يسمح بالمشاركة».
عالم الصيرورة نوع من اللاوجود «لسعيه الدائم إلى الوجود»، لكنه لا وجود ينطوي على درجات «مثل الظلم والكذب».
فالحكم الصادق «يناقض» الحكم الكاذب «وإن كان هذا على درجات تقترب من الصدق أو تبتعد عنه.»
و«السرمدية» تناقض «الزمانية»، وإن كان من الممكن أن تمتد وتدوم بعد موتها وانتهائها، كالفكرة العظيمة، والعمل الفني.
و«الإله» + يناقض «الإنسان»، وإن أمكن — في حدود الأرضية والبشرية — أن يوصَف بعض الناس — وهم الصفوة والقلة النادرة — بأنهم إلهيُّون.
النسخة الناقصة والظاهرة المُتغيرة، تتفاوت بين وجود مَظهري خداع وآخر مشارك في الماهيَّات والحقائق الثابتة، والصُّور أو المُثل الخالدة تتفاوت أيضًا في طبيعتها، فهي جسدية أو جمالية أو نفسية …
والمُثل لا تُرى بالعين، حتى لو كانت عين العقل!
لكن العقل يفترض وجود المُثل أو الصُّور الأصلية كأساس منطقي لا بد من الاقتناع به.
ثنائية حاسمة، هُوَّة وانفصال: بين العقل والمحسوس، والوجود والصيرورة، والمُثل والأشياء، والمعرفة والجهل، والنور والظلام، والحرية والعبودية.
علينا نحن أن نُقرِّر: هل نريد البقاء في عالم الصيرورة والضرورة، والتجربة والحس، أم نريد الارتفاع إلى عالم الفكر والعقل، والإرادة والسلوك، الأول ينقصه كل ما يُميِّز الحق من قيم «الثبات والتحدُّد، الجوهريَّة والاستقلال» لأنه عالم التغير والفساد. أمَّا الثاني فيحتوي على كل معيار للمعرفة، كل قانون للفكر والعلم؛ لهذا تُقاس به المعرفة التجريبية ولا يُقاس هو بها.
هل يمكن أن يلتقيا؟
فإذا شاءت وُلد «المُنقذ»: سيكون شبيهًا ببروميثيوس الذي جلب النار للبشر أو بأسكلبيوس الذي وهبهم فن الطب والعلاج. سيكون مفاجأة، حدثًا فريدًا وجديدًا قد يتبعه غيره، وقد ينتهي الأمر عنده ويأتي بعده الفساد …
هذا المُنقذ هو الذي سيُوحِّد بين العالمَين، عالم التجربة وعالم الحكمة. هو الذي سيحقق الدولة المثالية العادلة؛ إذ يجمع بين القوة العملية والرؤية الفلسفية.
فلقد عرف السر الأكبر، لا يشبهه سر الطب أو النار؛ فهم مثال العدل وطلب الخير المُطلَق …
الأمر إذًا لله، لا للعالم التجريبي «الدينامي»، ولا لعالم المُثل «الوجودي»، فهو القادر أن يُوحِّد بينهما؛ لأنه هو القوة الوحيدة الفعَّالة فيهما.
لن تنشأ الدولة المثالية من عالم التجربة، بل ستكون — شأنها شأن كل المُثل — مخالفة له. لن تتحقق مهما توافرت الشروط المطلوبة «من تجريد الطبقة العليا من الملكيَّة واختيار الحُرَّاس والفلاسفة، والتجنيد العام … إلخ.» ولن تتم عن طريق الثورة والعنف، بل تتحقق حين يشاء الله أو تشاء المصادفة أن يُولد هذا المُنقذ، فيُخلِّص كل البشر من البؤس، ويُبدِّد ليل الظلم ويَنصب ميزان العدل …
حتى يحدث هذا، ما هو واجب الفلاسفة؟ عليهم أن «يُربُّوا» الناس تربيةً فلسفيةً تهيئهم لتحقيق الخَير المُطلَق على الأرض، أن يُعلِّموهم كيف يحافظون عليه كما عَلَّموهم كيف يفكرون فيه. عليهم أيضًا أن يُعدُّوهم لاستقبال المُنقذ والعمل معه، حتى لا يُدمِّروه باللؤم والحسد والغدر والغباء …
ماذا يُطلب منهم؟ ما الشروط الواجب أن تتحقق فيمن يطمح للحكمة؟ فيمن يريد أن يكون فيلسوفًا، وقد يُتاح له فرصةُ تدبيرِ أمور الناس وتصريفِ شئون حياتهم السياسية والعملية، أي فرصة إنقاذهم بالحكمة والحكم؟
- (١)
عالم التجربة.
- (٢)
عالم المُثل.
- (٣)
عالم الخير الإلهي.
عالم التجربة لكيلا يَخدَعه السُّفسطائيون ويسرقوا منه آذان العامَّة بكلامهم المُختلط البَرَّاق، وعالم المُثل والماهيَّات الذي يحتوي وحده على معايير المعرفة الحقَّة وموضوعاتها، وعالم الخير الإلهي الذي هو «شمسُ نهارِ الأخلاق …»
أمَّا عالم التجربة فلا بد أن يعرف أنه عالم الظواهر والقيود، عالم النقص والعذاب؛ لأنه إن رضي به فلن يستطيع «إنقاذه» بالفلسفة … «لا بد أن يعرف خداع الكلمات التي تُغري والإحساسات التي تُغوي، والقوى المادية التي تُضِل. لا بد أن يعرف أنَّ هذا العالم، عالم الزمان والمكان والظواهر»، هو الضد من عالم الحقيقة والمعنى الثابت الأصيل …
لا بد أيضًا أن يقتنع بالوجود المُطلَق الثابت للمُثل «فوق الزمان والمكان». وبعد أن يتمرس بالطريقة المنهجية في التفكير، ويتدرب على الحياة العملية والعسكرية، عليه أن يرجع — من حين لآخر — إلى المجال الموضوعي الوحيد للعلم، لكي يعرف أن التصوُّرات والأفكار الحقَّة ليست مجرد تجريدات من الأشياء التجريبية، بل إن الأمر يتعلق بالمعايير الثابتة التي ينبغي أن نقيس الأشياء بمقياسها لنعرفها معرفة صادقة.
من شعر بأنه يعيش في عالم المُثل الخالدة كأنه يعيش في وطنه فهو وحده الذي يمكنه أن يتجه بفكره نحو المُطلَق والخالد، ومن أحس المسئولية التي تنتظره ليكون مُرشدًا للناس، ينبغي أن يكون ثابت الفكر والرأي كالكواكب الثابتة في السماء. إن لم يفعل هذا ضل وتاه بعالمنا التجريبي، فتَّش عبثًا عن سند يعتمد عليه.
أمَّا أسمى واجبات الفيلسوف فهو أن يعرف طبيعة الواحد الإلهي، الخير المُطلَق الشامل الفريد، «فليس له مبدأ مُضاد كالشر الأصلي الحاسم مثلًا».
كيف نعرف الطاغية؟ كيف نعرفه؟
هو — مثل كل ما هو شر — نفي الحاكم الخيِّر، كما أن اللادائرة هي نفي الدائرة الحق، والسُّفسطائي هو نفي المُعلِّم الصحيح، والمرض هو نفي الصحة …
هذه المشاركة تتحقق على أكمل وجه في عالم الصُّور والمُثل، فكل صورة أو مثال على حدة — كالحقيقة أو الجمال أو العدالة أو المساواة أو الدائرة أو الدولة والمجتمع …إلخ — هي التي تكون الوجود الحق على نحوٍ نموذجيٍّ أو معياريٍّ أصيل، وكل مثال أو صورة يُمثِّل، مع سائر المُثل أو الصور، جانبًا من الخير الواحد، «فالدائرة التجريبية الناقصة تشارك في مثال الدائرة، والدولة في عالم التجربة تشارك في مثال الدولة، كل الموجودات في عالم التجربة ناقصة مُتغيرة، وهي تشارك في ضدها، أي في وجود كامل في ذاته.»
هل يناقض هذا مبدأ عدم التناقض الإيلي؟
لا يناقضه؛ لأن هذا المبدأ لا ينطبق إلا على عالم الواقع والتجربة، ولأن الفكر عندما يكون في مجال المشاركة لا يكون في مجال وجود أفقي، بل في مجال وجود رأسي يعبر عن مشاركة الموجود الناقص المتغير في الوجود الكامل الثابت، عن علاقة اللاوجود بالوجود نفسه.
الله — أو الخير الواحد الأسمى — هو علة هذه المشاركة.
المُشارَكة هي شرط الفكر الموضوعي والمعرفة نفسها. لم يُقرِّر أفلاطون طبيعة هذه المشاركة إلا في مرحلة متأخرة من تطوره:
نقول في الأحكام والقضايا الحملية: أ هي ب «هذه دائرة»، أو س هي م «أثينا مدينة». والكينونة هنا تعبر عن التساوي. لكن حين يُقاس كلاهما بحقيقة الدائرة أو بحقيقة المدينة يصبح معناها الشوق والنزوع والطموح للمُشارَكة، فكل ما هو تجريبي يشتاق للمشاركة في الوجود الكامل الموجود في ذاته، أو للخير الذي تمثله سائر المُثل كلٌّ من ناحيته.
فالله أو الخير الأسمى هو سبب المُثل وعِلتها «لأنها تشارك فيه»، كما هو سبب عالم الأشياء والظواهر «لأن كل شيء يمكن أن يشتاق للمشاركة في المُثل».
وإذن فعلة نزوع الأشياء إلى الخير هو الخير نفسه؛ لأنه مُتعالٍ على الأشياء وكامنٌ فيها في نفس الوقت كقوة وإمكان، وهي لا تأتي من المُثل المتعالية على الأشياء لأن المثل غايات وأهداف ونماذج لا قوى دينامية، ولا من الأشياء نفسها؛ لأنها ناقصة وبلا ماهيَّة.
والخير الواحد ومثال المُثل، الله أو الخير الإلهي، لا يكاد الفهم يعرفه إلا مَعرفة تقريبيَّة، ولا يمكن التعبير عنه إلا من وجهة نظر أسطورية لا فكرية دقيقة «كما في الجمهورية وفايدروس وطيماوس».
أنه لا يُدرك، أي لا يُعرف ولا يُحدَّد؛ لأن الفكر تحديد وتعريف. وهو مثال المُثل — الخير في ذاته — الذي تُقاس به المثل الأخرى، كما نقول «١» بالقياس إلى سائر الأعداد «٢، ٣، ٤، …» ولهذا فهو فوق الفكر الماهَوي، وفوق كل المُثل وقبلها، كما أن العدد «١» فوق كل الأعداد وقبلها، وإن كان كل عدد في ذاته وكل مثال في ذاته واحدًا أو وحدة.
هو في «الجمهورية» الشمس التي تتحكم في قُبَّة السماء، والسماء تُزيِّنها المُثل كالكواكب الثابتة، وهو الذي يُشيع الحياة والدفء والوجود في عالم الكائنات والأشياء.
وهو في «فايدروس» الرب الذي يقود موكب الأرباب الراقص والنفوسُ الفرديةُ تتزاحم في حاشيته لتفوز بنظرة إلى المُثل الخالدة ونماذج الوجود الأزلي.
وهو في المجال الرياضي والحسابي الوَحدة المُطلَقة السابقة على كل كثرة وتَعدُّد.
وفي مجال المُثل — أو جماعتها الحية المتجانسة! — هو الذي يفوقها في الوجود والرتبة والشرف، وهو مصدر الخير فيها وفي سائر الكائنات، ولهذا لا يكاد العقل يقدر على التفكير فيه.
كل المُثل «تمثله» وتشارك فيه، وهو وحده المبدأ الصانع الذي يَهدي الكائنات الناقصة إلى الكمال ويَدلُّها على طريقه.
وهو فكرة الإله نفسها التي تَتردَّد في صور مختلفة في أعمال أفلاطون …
والآن … ما شأن المُثل؟ ألها دور في إنقاذ العالم؟
لم يُوضِّح أفلاطون ترتيب المُثل وتنظيمها، لكن يمكن أن نستخلص طبيعتها من محاوراته:
فهي لا زمانية ولا مكانية «قبلية بلغة كانط!»، يسري الخير فيها جميعًا، والحق والصدق طابع مشترك بينها، وهي متعددة «لأن وحدة المعرفة لا تقوم بغير هذا التعدد، ولأنها تفترض وجود بعضها وعلاقتها ببعضها كالإيجاب والسلب، والصدق والكذب، والظلم والعدل، والواحد والغير …» ولكنها في نفس الوقت واحدة، تمثل جماعة حية مشتركة، نسقًا عضويًّا متجانسًا، وإذا اختلف الواحد منها عن الآخر في نوع وجوده، فهي جميعًا في الوجود متشابهة؛ إذ هي موجودة في ذاتها، مكتفية بذاتها، مُطلَقة، ثابتة وخالدة …
هي — باختصارٍ — جواهر ونماذجُ أصليةٌ باقية، حتى الصانع لم يَخلُقْها، بل يَتطلَّع إليها ويُحاكيها «محاكاة النجار والرسام للسرير في ذاته!» وهي كذلك — ابتداءً من محاورة «جورجياس» وخصوصًا في «السُّفسطائي» — نِسَب وعلاقات «كالاختلاف، والتضاد، والسلب»، لكنَّ أعلاها وأعمَّها وأهمَّها هي مُثل الخير والحق والجمال:
والجمال؛ لأنه المثال الوحيد الذي يمكننا أن نفكر فيه بالعقل والفهم معًا، أي كنُموذجٍ مُطلَقٍ وصورةٍ موجودةٍ في عالم الحس «في جمال وردة أو حُسن فتاة … إلخ».
هي في النهاية (أي المُثل) أصل الوجود والحقيقة معًا «ميتافيزيقية-وجودية، ومنطقية-معرفية، نظرية وعملية في آنٍ واحد».
ما هو موقف الفكر منها؟ ما واجبه نحوها؟
إن العقل يُفكر فيها بالجدل وبالتركيب «ديالكتيك وسيلليتيك»، وبالتحليل أو التقسيم وبالتأليف «دياريزيه وسينتزيه». لكن واجبه ومهمته أن يعرفها، يوجد معها وفيها وبها … لا ليُدير ظهره أو يصرف نظره عن الكائنات المحسوسة المتغيرة، بل ليُحسِن فهمها وتقديرها وقياسها بمقياس المُثل والنماذج، أي ليُغيِّرها ويُعدِّلها ويرتفع بها «على أساس مثال التساوي أو العدالة مثلًا.»
لكي تُمثل «المُثُل» الخير بشكل فعَّال لا بد أن يوجد عالم تكون هي هدفه وغايته، مقياسه وأساسه من ناحية الوجود والمعرفة جميعًا، هذا هو أساس نظرية أفلاطون عن الصيرورة والمشاركة والحب والنفس، أساس «دليله» على وجود الله وعنايته «إن جاز التعبير المتأخر عن التيوديسيه»، وأساس الجهد والمعاناة في شخصية أفلاطون وكفاحه لتحقيق الاتحاد بين الوجود والصيرورة في عالمنا التجريبي بقَدْر الإمكان، بقَدْر ما تسمح به ظروف هذا العالم.
لكن كيف سنرقى لسماء المُثل، لكواكبها الخالدة الساطعة الضوء؟ كيف لنا أن نعرفها ونشارك فيها؟ من يصنع هذا الجسر ومن يَعبُره؟
تَعبُره نفس الإنسان، بالحب وبالشوق الظمآن «الأيروس».
تَطوَّرَت فكرة أفلاطون عن النفس من «فايدون» إلى «فايدروس» إلى «طيماوس»: من النفس الخالدة لأنها حياة ومختلفة عن الجسد «قبر النفس أو الموت»، إلى النفس التي تتحرك بذاتها وتختلف عما يُحرك غيره أو يتحرك به، إلى نفس كُليَّة هي القانون الباطن للكون. النفس في «فايدون» جوهر حي؛ لأنه يشارك في مثال الحياة، بالتذكر أو بِالضدِّية. وهي في «فايدروس» مبدأ الحياة والحركة، وما يتحرك من نفسه فهو خالد؛ إذ لو مات فسوف يموت الكون كله وتفنى الحياة، ليس هناك تعارض، بل تَطوُّر من المستوى الفردي إلى المستوى الكوني.
النفس مبدأ تلقائي متحرك بذاته. من هنا تأتي قدرتها على المشاركة؛ لأن كل ما هو حي — لا الإنسان وحده، بل الكون كله — له نفس ذاتية الحركة. والمشاركة لا تتم إلا بالنفس وفي النفس، سواء كانت هي الفردية أم الكونية. فهي مبدأ الحياة والحركة الذاتية في الفرد، وهي مبدأ الحياة والحركة الذاتية في الكون.
المعرفة إذًا هي الحركة غير المكانية ولا الزمانية للنفس العاقلة؛ وهي لهذا أيضًا تختلف عن حركة كل الموجودات الخاضعة للضرورة في عالم المكان والزمان والأجسام. كل تفكير أو حركة عقلية هي في الواقع حوار يتم في النفس ذاتها وينقلها إلى الوجود «من الحس إلى العقل في المعرفة، ومن اللا إلى النعم في الحكم».
حركة النفس «ديناميتها» هي القوة الوحيدة التي تحقق المشاركة في المُثل «أو هي الأنتليخيا بتعبير أرسطو وليبنتز»، والنفس تنتمي لعالم الصيرورة والضرورة والتجربة ولكنها لا تستغرق فيه، بل تسعى للعلو عليه. غير أنها تواجه دائمًا بالمقاومة، إمَّا بسبب الجسد ووجودها في عالم المكان والزمان الخاضع للضرورة، أو بسبب طبيعة الفكر نفسه. فالفكر حوار، اختيار بين لا ونعم، وكذب وصدق، وشر وخير، والنفس هي المجال الوحيد للحوار بين الطرفَين.
تتميز النفس عن الجسد والأجسام المحسوسة — كما تقدم — بأنها مبدأ حركتها الذاتية، كما تتميز عن المُثل — التي هي نماذج وغايات وأهداف في ذاتها — بأنها حركة مُندفعة مُشتاقة إلى هذه المُثل.
وحيث تكون الصيرورة تكون المشاركة والشوق، يكون الوجود واللاوجود.
والقوة الوحيدة التي يمكنها التوحيد بين الوجود واللاوجود هي النفس التي تسعى للكمال وتشتاق للمشاركة في المُثل والنماذج الأصلية، «واللاوجود تصورٌ حَدِّي، هو «الغَير» من الناحية الجدلية؛ لأنه «غير» كل ما هو واقعي؛ ولهذا لا يُعبَّر عنه إلا بالأسطورة. لقد خلقه الله أو الخير المُطلَق، عندما خلق الوجود، ولكنه حدَّد له مكانه ودوره، لكي تكون الظواهر ظواهر، ولكي يفنى ما في الزمن ويبلى. ويبقى الله — وهو قمة الوجود ومصدره — مختلفًا عن اللاوجود اختلافًا أساسيًّا، فعلاقته به كعلاقة المربية بالطفل الذي لم تلده ولكنها ترعاه … ويبقى اللاوجود — الذي يعجز الفكر عن تبرير خلقه، فيلجأ للأسطورة في «طيماوس» — في صورة السلب، فهو شرط تَعدُّد المُثل وكثرتها وغَيريَّتها، وهو كذلك شرط تَعدُّد سبل المعرفة العقلية ومراحلها».
بالنفس — التي تملك قوة المشاركة — وبمشيئة الله — الذي يهدي الكائنات الناقصة للكمال — يمكن أن يتحد الأرضي وفوق الأرضي، أن يمتد الجسر على الهاوية الفاغرة الفم.
هل يمكن أن يلتئم الصدع؟ هل يمكن أن تتحد الثنائية؟ هذا هو واجب الإنسان، هو — بالتعبير الحديث — مسئوليته والتزامه، من ناحية المعرفة وناحية الأخلاق والسياسة. لن نفهم هذه الثنائية حتى نفهم أن معرفة المُثل تُحررنا وتُمكِّننا من السعي إليها والعمل على تحقيقها، بقدر الطاقة والإمكان! حتى نفهم أيضًا ما يحول بيننا وبين هذا التحرر من مُعوِّقات وضغوط وأوهام و«أصنام». وأول هذه الأصنام هي الكلمات التي تُقيِّدنا منذ الطفولة وتجعلنا عبيدًا للظلال والأصداء «حيث يعيش السُّفسطائي في ظلام اللاوجود، يُفسد ويُخادع في كهف لم يتحرر منه بعدُ …»
هذه الثنائية أو التضاد الأساسي يقوم بين الخير الذي يُحرِّرنا «وتُمثله كل المُثل» والضرورة الآلية التي تقيدنا «كأننا مجرد أجسام لا عقول مُفكرة.»
هذه الثنائية: بدلًا من أن تلعنها «كما فعل نيتشه ويفعل اليوم كثيرٌ من المُشوشِين» حاول أن تقهرها! لن تقهرها حتى تصبح حُرًّا.
ومن الحُر؟! مَن — بالفكر وبالعقل — اتجه إلى المُثل فلم تستعبده الأشياء، مَن رفَض حياة في كهف لا يشهد فيه إلا الأشباح ولا يسمع غير الأصداء، مَن فَكَّ قيود الليل، الجهل، الذُّل، وخرج — نبيلًا وشجاعًا — كي يغزو النور … مَن أَنقذ نفسه، كي يُنقذ غيره …
ومن المنقذ؟!
لكن المُنقذ ليس مثاليًّا أعمى، فالحُلم عسير، والحالم يَحلُم مفتوح العينَين:
فليس من السهل على كل إنسان أن ينفصل عن العالم السفلي ليطمح إلى الأعلى، أن يخرج من الظلام والضلال والاضطراب إلى النور والوعي والحرية.
وليس من السهل أن يتحقق عالم المُثل «أو قل عالم العقل» فوق الأرض الناقصة بطبيعتها، وسط الناس المَفطورِين على الحسد والشر والغدر.
ليس من السهل أخيرًا أن يُوجَد هذا المُنقذ، وإذا وُجد — بمعجزة أو صدفة — فلن يسلم من شر الناس.
الأمر عسير، وجناح الحُلم كسير، ماذا نفعل كي يخرج هذا المُنقذ من كهفه؟
نُربِّيه ونُحوِّل نفسه، لكن كيف؟ الحكمة ستُوجِّهه نحو الخير، «معرفة الأشياء جميعًا لا جَدوَى منها إن لم تعرف هذا الخير!» «الجمهورية ٥٠٥أ-ب».
هل يكفي هذا؟ هل يُغْني كنز الحكمة عن سيف القوة؟ وإذا الحكمة والسيف اجتمَعا، هل يُولَد حُلم مدينتنا المُثلى؟
لا يكفي الحُلم. لا بد للمُنقذ من أكبر قدر من المشاركة في عالم المُثل، لا بد من أكبر قَدْر من الجهد والكفاح والعذاب «ليعرف» مثال الدولة العادلة، ويحاول «التقريب» بينه وبين نظام الدولة القائمة، التقريب بقَدْر الطاقة والإمكان، وبقَدْر ظروف العالم والواقع.
والأمر أخيرًا لله، في يده، رهن مشيئته، فهو السيِّد، لسنا إلا أدواته، «القوانين، ٦٤٤د».
المحنة تشتد علينا، والليل طويل ممتد، هل تُولد معجزة كبرى، أم إن المهد هو اللحد؟ هل يُبعث يومًا فنراه، أم يمضي العمر ولا يبدو؟ — المُنقذ في الكهف سجين، مغلول يَرسُف في القَيد، فلعل إلهًا يُنقذه، ويمن علينا بالوعد، المُنقذ حر لا يحيا، ما بين عبيد كالعبد، والمُنقذ شهم وكريم، يَسخو بالنور بلا حد، ويُفيض الخير «بلا حسد».
هل يبقى أم يهجر كهفه؟
Hoffmann, Ernst, Platon-Munchen, Rowohlt, 1961, S. 30–37.
Von Aster, Geschichte der Philos. Stuttgart, Kroner, S. 61.
Kruger, Gerhard, Einsicht und Leidenschaft. Das Wesen des Platon. Denkens, Frankfurt, Klostermann, 1973. S. 173.