المُنقذ يهجر كهفه

من المظهر إلى الحقيقة، من الظن إلى العلم، من الحس إلى العقل، من الصيرورة إلى الوجود، من الضرورة إلى الحرية، من الظلام إلى النور، ومن الظلم إلى العدل.

ثلاثة مجالات تُكوِّن لُب الفلسفة الأفلاطونية:

عالم الكينونة والصيرورة والضرورة الذي يشتاق للوجود الحق «المُثل».

المُثل أو الصُّور النُّموذجية والموجودات المُطلَقة الثابتة التي تشارك في الخير المشترك بينها.

الله أو الخير المُطلَق، وهو القوة المُحرِّكة «الدينامية» للوجود والصيرورة والكون، وهو الذي يُوجد كثرة المُثل ويُفيض الخير عليها وعلى كل شيء.١

والنفس وحدها هي التي تقطع هذا الطريق الشاق من عالم الكينونة إلى عالم المُثل إلى عالم الله. إنها تنتمي إلى عالم الكينونة، ولكنها لا تَكُف عن السعي إلى معرفة الوجود الحق. تسبح في نهر الظواهر والتجربة، لكنها لا تريد أن تغرق فيه.

كيف نُوضح هذا؟ برمز الكهف «أُمثولته أو تشبيهه». فهو الرمز الحي الملموس لنظرية المُثل، ونظرية الحب الفلسفي «الأيروس» الذي يدفع النفس لعبور الهُوَّة، للعُلو من الصيرورة إلى الوجود، من الجهل إلى العلم، من العبودية إلى الحرية.

والرمز يُصور قصة، قصة جهد وصراع. وصراع الموج عسير، قد نغرق فيه أو ننجو، فلينظر كل مِنَّا كيف سيُنقذ نفسه، إخوته ومدينته والعالم كله. وإذا سقط المنقذ؟ لا ضَير، فالمُنقذ يَتحمَّل قَدَره، والقَدَر يُنادي في صمت: هو أمر حياة أو موت.

سقراط: والآن، قارن طبيعتها من وجهة نظر التربية ونقص التربية بمثل هذه التجربة. تأمل هذا: أناس يقيمون تحت الأرض في مسكن أشبه بالكهف، مدخله الممتد إلى أعلى يواجه ضوء النهار. في هذا المسكن يقيمون منذ الطفولة، مُقيَّدِين بالأغلال من سيقانهم ورقابهم بحيث يَبقَون في نفس الموضع، فلا يملكون إلا النظر إلى الأمام ليَرَوا ما يواجههم. إنهم — بسبب هذه القيود والأغلال — عاجزون عن التلفُّت برءوسهم «والنظر» فيما حولهم. في إمكانهم مع ذلك أن يُبصروا نورًا يأتي من أعلى ومن بعيد، وإن كان ينبعث من نار تلمع خلفهم. بين النار وبين المُقيَّدِين بالسلاسل «أي في ظهورهم» يمتد في الجهة العُلوية طريق بُني على طوله — تَصوَّرْ هذا! — جدارٌ مُنخفضٌ شبيه بالحواجز التي يُقيمها المُهرِّجون «أصحاب الألعاب البهلوانية والعرائس المتحركة» أمام الناس ليَعرضوا عليهم ألعابهم.

قال: هذا ما أراه.

– تأمل كذلك كيف يَعبُر الناس على طول هذا الجدار الصغير حاملِين مختلف الأشياء من تماثيل وصُور من الحجر والخشب وغير ذلك مما يصنع البشر، فيتحدث بعضهم مع بعض كما هو مُنتظَر، ويمر البعض الآخر صامتين.

– صورة غريبة هذه التي تتكلم عنها، هكذا قال، ومساجين من نوع غريب.

قلت: إنهم يُشبهوننا نحن البشر شبهًا تمامًا، مِثل هؤلاء الناس لم تقع أعينهم منذ البداية، سواءٌ كان ذلك من أنفسهم أم من غيرهم، إلا على الظلال التي تُلقيها النار على جدار الكهف المواجه لهم.

قال: وكيف يُمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما داموا قد أُجبروا على عدم تحريك رءوسهم طوال حياتهم.

– ولكن ماذا عساهم يرون من هذه الأشياء التي يحملها الناس «خلف ظهورهم»، ألا يرون هذه «الظلال» نفسها؟

– الأمر كذلك في الواقع.

– لو كان في وُسعهم أن يتحدثوا مع بعضهم البعض عما يرون، ألا تعتقد أنهم كانوا سيحسبون أن ما يرونه هو الوجود؟

– بالضرورة.

– ماذا يكون الأمر إذن لو أن هذا السجن تردد فيه صدى من الجدار المواجه لهم؟ ألا تظن أنهم كلما صدر صوت عن واحد من الذين يمرون خلف المسجونِين اعتقدوا أن الحديث إنما يصدر عن الظلال التي تمر أمامهم؟

– لا شيء غير ذلك، بحق زيوس.

قلت: إنَّ أمثال هؤلاء المساجِين لن يعتقدوا في واقع الأمر أن هناك شيئًا حقيقيًّا سوى ظلال الأدوات «التي يحملها العابرون».

قال: بالطبع هذا أمر ضروري.

قلت: تَتبَّعْ إذن بنظرتك كيف يُفكُّ هؤلاء المسجونون من قيودهم ويُشفون في نفس الوقت من فقدان البصيرة، وتَفكَّرْ عندئذٍ كيف تكون طبيعة فقدان البصيرة هذه إن حدث لهم ما يلي، كلما فُكَّت السلاسل عن أحدهم وأُجبر على الوقوف على قدمَيه فجأةً والالتفات برقبته والسير قُدُمًا والتطلع للنور، فلن يقوى على ذلك إلا إذا عانى ألمًا «شديدًا»، ولن يستطيع من خلال الوهج أن ينظر إلى تلك الأشياء التي رأى ظلالها من قبلُ. «لو حدث له كل ذلك» فماذا تحسبه يقول لو أخبره أَحدٌ بأن ما رآه من قبلُ لم يكن إلا عدمًا وأنه الآن أقرب إلى الوجود وأن نظره أكثر صوابًا لأنه يلتفت إلى ما هو أكثر وجودًا؟ ولو أن أحدًا عرض عليه الأشياء التي مَرَّت عليه واحدًا بعد الآخر واضطره أن يجيب عن سؤاله عمَّا هو هذا الشيء، ألا تعتقد أنه سيَحار كيف يَرُد عليه وأنه سيَعُد ما رآه بعينَيه من قبلُ أكثر حقيقة مما يُعرض عليه الآن؟

– بالطبع.

– وإذا أُجبر أَحدٌ على النظر إلى النور «المنبعث من النار»، ألن تؤلمه عيناه ويتمنى أن يُحوِّلهما عنه ويَفِرَّ إلى ما يقوى على النظر إليه ويعتقد أن ما رآه أوضح في الواقع بكثير مما يُعرض عليه الآن؟

– الأمر كذلك.

قلت: وإذا حدث أن جذبه أحد بالقوة من هناك وشَدَّه على الطريق الوَعْر «إلى خارج الكهف»، ولم يتركه قبل أن يُعرِّضه لضوء الشمس، ألن يشعر عندئذٍ بالألم والسخط؛ إذ يُحس، وقد وقف في نور الشمس، بأن عينَيه قد بهرهما الضوء الساطع، وأنه لن يكون في وُسعه أن يرى شيئًا مما يُقال له الآن إنه الحق؟

– لن يقوى أبدًا على ذلك، أو على الأقل لن يقوى عليه فجأة.

– أعتقد أن الأمر يحتاج إلى التعوُّد إذا كان عليه أن يرى ما هناك «أي خارج الكهف في ضوء الشمس»، وسيتمكن في أول الأمر «نتيجة لهذا التعود» من النظر في يُسرٍ شديدٍ إلى الظلال، وسيكون في وُسعه بعد ذلك أن يرى صُور الناس وبقية الأشياء منعكسةً على صفحة الماء، حتى يتمكن أخيرًا من رؤية هذه الأشياء نفسها «أي الموجودات الحقيقية بدلًا من انعكاساتها». ألا يكون في وُسعِه أن يرى من بين هذه الأشياء ما يَتجلَّى منها في قُبة السماء كما يرى السماء نفسها، وأن تكون رؤيته لها بالليل حين يتطلع ببصره إلى ضوء النجوم والقمر أيسر من رؤيته للشمس وضوئها بالنهار؟

– لا شك في ذلك.

– أعتقد أنه سيتمكن آخر الأمر من النظر إلى الشمس نفسها لا إلى صورتها المنعكسة في الماء أو حيثما ظهرت فحسب، وسيتمكن من النظر إلى الشمس نفسها كما هي عليه في ذاتها وفي الموضع المُحدَّد لها، لكي يتأملها ويتعرف طبيعتها.

– من الضروري أن يصل به الأمر إلى ذلك.

– وبعد أن يبلغ ذلك سيكون في مقدوره أن يُجمل القول عنها «أي عن الشمس» فيعرف أنه هي التي تضمن «تعاقب» فصول السنة كما تضمن «مَرَّ» السنين وتتحكم في كل ما هو موجود الآن في محيط الرؤية، بل إنها علة كل ما يجده أولئك «المقيمون في الكهف» حاضرًا أمامهم على نحو من الأنحاء.

– واضح أنه سيصل إلى هذا «أي إلى الشمس وما يستضيء بنورها» بعد أن تجاوز ذلك «أي ما كان ظلًّا وانعكاسًا فحسب».

– ماذا يحدث إذن لو تَذكَّر سكنه الأول، وتَذكَّر المعرفة التي كانت سائدة فيه، والمساجِين الذين كانوا معه؟ ألا تعتقد أنه سيسعد بهذا التغيير الذي حدث له بينما يأسف لأولئك؟

– أسفًا شديدًا.

– فإذا حُدِّدت في المكان القديم «بين من كانوا يقيمون في الكهف» جوائز وألوان مُعيَّنة من التكريم لكل من يرى الأشياء العابرة رؤية حادة، ويتذكر ما يمر منها في المقدمة ثُمَّ ما يتبعها أو يتفق مروره معها في وقت واحد ويكون أقدرهم على التنبؤ بما سيأتي في المستقبل قبل غيره، أتعتقد أنه «أي ذلك الذي غادَر الكهف ورأى نور الشمس والحقيقة» سيُحِس الشوق إليهم «أي إلى الذين ما يزالون في الكهف» لكي يتنافس مع الذين يضعونهم موضع التكريم والقوة، أم تعتقد معي «على العكس من ذلك» أنه سيأخذ نفسه بما يقول عنه هوميروس «من خدمةِ رجلٍ غريبٍ فقير» وسيتحمل كل ما يمكن احتماله ويُؤثِره على اعتناق الآراء «التي يؤمنون بها في الكهف» والحياة كما يَحيَون؟

– أعتقد أنه سيُفضِّل أن يحتمل كل شيء على أن يحيا تلك الحياة «التي يعيشونها في الكهف».

قلت: والآن تَفكَّرْ في هذا: لو حدث لذلك الذي خرج على هذا النحو من الكهف أن هبط إليه مرةً أخرى وجلس في نفس المكان «الذي كان يجلس فيه»، ألن تمتلئ عيناه بالظلمات بعد رجوعه فجأةً من رؤية الشمس؟

قال: طبيعي جِدًّا أن يحدث له ذلك.

– فإذا عاد إلى الجدال مع المُقيَّدين الدائمين هناك حول الآراء المختلفة عن الظلال، في الوقت الذي لا تزال فيه عيناه تَعشَيان «من الضوء» قبل أن تعودا سيرتهما الأولى — الأمر الذي سيستغرق منه زمنًا غير قليل حتى يتعود عليه، ألا تعتقد أنه سيُعرِّض نفسه للسخرية وأنهم سيحاولون إقناعه بأنه لم يغادر الكهف إلا ليرجع إليه بعينَين مريضتَين، وأن الأمر لا يستحق أبدًا أن يشق الإنسان على نفسه بالصعود إلى هناك؟ وإذا حاول أحدٌ أن يمدَّ يدَيه لِيفُكَّ عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى، «ألا تعتقد» أنهم لو استطاعوا أن يمسكوا به ويقتلوه فسوف يقتلونه حقًّا؟

قال: يقينًا سيفعلون ذلك.٢

ما معنى هذا الرمز؟ ماذا يقصد أفلاطون بهذه الحكاية؟ إنه يتولى الجواب بنفسه، يقوم بتفسيرها بعد الانتهاء من روايتها مباشرة (٥١٧أ، ٨، إلى ٥١٧د، ٧).

فالمسكن الذي يشبه الكهف هو صورة «المقر الذي يتبدى للنظر كل يوم»، والنار المتوهجة في الكهف، فوق رءوس سكانه، هي «صورة» الشمس، وقُبة الكهف تُمثِّل قبة السماء. تحت هذه القبة يعيش البشر مُرتبطِين بالأرض مُقيَّدِين بها، كل ما يُحيط بهم ويشغلهم هو بالنسبة إليهم «الواقع» أو الموجود. في هذا المسكن الشبيه بالكهف يُحسون أنهم «في العالم»، يشعرون أنهم «في بيتهم»، يجدون كل ما يثقون فيه ويعتمدون عليه.

هذه الأنواع المختلفة من التطابق بين الظلال والواقع الذي يُجرِّبه الإنسان كل يوم، بين انعكاس النار في الكهف والنور الساطع الذي يغمر الواقع القريب المألوف، بين الأشياء الموجودة خارج الكهف والمُثل، بين الشمس ومثال المُثل؛ هذه الأنواع المختلفة من التطابق لا تستنفد مضمون الرمز. فهو يروي لنا أحداثًا ولا يقتصر على بيان الأماكن التي يقيم فيها الإنسان داخل الكهف وخارجه. والأحداث التي يُصورها هي مراحل انتقال من ظلام الكهف إلى ضوء النهار يَعقُبها الرجوع من ضوء النهار إلى ظلام الكهف؛ هي في الواقع مراحل انتقال أو تحوُّل من مُستوًى للمعرفة إلى مُستوًى أعلى منه، من مفهوم غامض عن الحقيقة إلى مفاهيم أخرى أكثر وضوحًا.

في المستوى الأول يحيا البشر في الكهف مُقيدِين بالسلاسل والأغلال، أُسارى التعوُّد على القريب والمألوف. إنهم يعيشون في عالم «الكلمات»، وهو العالم الذي ينشأ فيه الإنسان بالطبيعة، ويُقيَّد بالنظم والعلاقات الاجتماعية. هذا العالم يُولَد فيه الإنسان ويستسلم له. بل إن الناس جميعًا تحيا فيه على نحوٍ سلبي، أشبه بعبيدٍ مَغلولِين، تحملهم سفن الرِّق إلى هدفٍ مجهول. قُيِّدوا من أعناقهم وسيقانهم بالسلاسل، طُرحوا في كهف سُفلي مُظلم، لا يستطيعون أن يلتفتوا وراءهم، لا يرون إلا الظلال التي تتحرك على جدار مُواجهٍ لهم، لا يسمعون غير الأصداء التي تصل إلى آذانهم، لا يدرون أن هذه الظلال والأصداء ليست سوى ظلال وأصداء … هم في مرحلة خداع الكلمات، مرحلة الظن أو التخمين «أيكازيا»،٣ يَحيَون فيها منذ الطفولة، وقد يعيشون فيها ويموتون ضحايا السفسطة والسُّفسطائيِّين، والجهال والدجالِين … هذا العالم هو نُسخةُ كلِّ النُّسخ على الإطلاق …

في المستوى الثاني يُحدِّثنا «الرمز» عن الخلاص من القيود والأغلال، فقد يَتحرَّر أحد المسجونِين أو يُحرِّره أحد، سيُمكِنه أن يلتفت برأسه ويُحرك رقبته وساقَيه. وستؤلمه حركة أعضائه، لا سيما إذا نهض واقفًا على قدمَيه ومشى على الطريق الذي كان مَدخلُه يقع في ظهره وظهر زملائه المساجين «وهو الطريق المُؤدِّي إلى أعلى وإلى خارج الكهف». وستؤلمه أيضًا عيناه لأنه سيرى نارًا صناعيةً مُشتعلةً وراء ظهورهم، وسيدرك أنها عِلَّة الظلال التي تسقط على الجدار المواجه لهم. وسيصبح «أكثر اقترابًا من الموجود» (الجمهورية ٥١٥د، ٢)؛ لأنه سيشاهد موكب المُمثلِين العابرِين على الطريق الممتد بين النار والمساجين، ويعرف أن أشكال هؤلاء المُمثلِين وأدواتهم هي الظلال التي كان يراها معهم، وأن أصواتهم هي الأصداء التي كانوا يسمعونها. وسيفرح لأنه يرى الآن بشرًا حقيقيِّين ومُدرَكات واقعية، بدلًا من رؤية الظلال «نُسخ الأشياء» وسماع الأصداء «نُسخ الكلمات».

أَخذَت الأشياء الأصلية الواقعية تعرض نفسها كما تعرض ظلالها على ضوء النار المشتعلة داخل الكهف. فإذا اتفق للعينَين أن تقعا على الظلال، غَشِيَت هذه الظلال على البصر وحَجبَت عنه رؤية الأشياء نفسها. عندئذٍ يمكن أن يعتبر أن ما كان يراه من قبل — أي الظلال — أكثر تَكشُّفًا ووضوحًا أو أكثر حقيقة،٤ مما يظهر له الآن «نفس الموضع السابق من الجمهورية»، وربما حن للرجوع إلى حالته الأولى حيث لم تكن تؤلمه الحرية ولا كان نور المعرفة يَعشَى عينَيه، بل كان سعيدًا بتقبُّل أصداء الكلمات التي تصل إليه بغير مقاومة، قانعًا بمُشاهدة الأشباح والظلال، بل بمُشاهدة نِصفها الأعلى وحده! ولعل هذا الاحتمال الثاني — كما يقول أفلاطون — هو الأرجح. لأن معظم الناس لا يعرفون شيئًا في حياتهم ولا يريدون أن يعرفوا شيئًا؛ ولهذا قلَّما يتحرر واحد من كهف المَسجونِين، وأقل منهم من يقطع طريق المعرفة في مرحلته الثانية …

تَوصَّل السجين المتحرر في هذه المرحلة إلى شيء من الحرية، ولكنه لم يبلغ الحرية الحقيقية بعدُ. فلا يزال حبيسًا داخل الكهف، ولا يزال يتصور أن الظلال الذي تغشى بصره وتحجب عنه رؤية الأشياء أكثر وضوحًا من هذه الأشياء نفسها. فهل سينجح في تحويل بصره من الظلال إلى النار والأشياء التي تظهر على ضوئها؟ هل ستتحول نفسه بعد أن تحولت عينه وسائر أعضائه؟ هل سيكون لديه الصبر والجهد اللازم لإنقاذ نفسه من هذه الحال وتعويدها على حال أخرى؟

إن المتحرر لم يتحرر بعدُ تمامًا. فهو يدرك الواقع المحسوس، يعرف بعض القوانين التي تتحكم فيه «كالمعية والتتابع حين يشاهد المُمثِّلِين المُتجوِّلِين — على باب الله! — عند حضورهم وانصرافهم، وحين يلاحظ تسلسل الأحداث والظواهر وَفقَ نظامٍ مُعيَّن، ويتنبأ بما يَتبعُها ويترتب عليها»، هذه المرحلة والمرحلة التي سَبقَتها ترمزان للإنسان الذي يعيش في عالم التجربة، عالم الأشياء والمحسوسات والمرئيات، والمكان والزمان والضرورة. هو — في اصطلاح أفلاطون — يحيا في مستوى الإدراك الحسي «أيسثيزيس»،٥ والرأي المبني على الظن «دوكسا»٦ وخبرة التجربة «إمبيريا»٧ القائمة على المعرفة بالتتابع والمعيَّة والقوانين العِلِّية «وكلها ضد المعرفة العقلية بالتصورات والمفاهيم — نؤزيس٨ — والعلم اليقيني الثابت — إبيستيميه»،٩ ولكنها ضرورية ضرورة اللغة والإدراك الحسي، لا بد من البدء بها للوصول إلى المعرفة الحقيقية، من المستحيل تجاوُزُها وتَخطِّيها، لكن من يبقى فيها لن يمكنه أن يخرج من كهفه، من يستسلم لإغرائها لن ينفذ من عالم الظواهر إلى عالم الحقائق «بتعبير كانط!»، لن يتجاوز نقص التربية والاستنارة أو التكوين «أبايدويزيا»١٠ إلى التربية الحقة، وهي الهدف الأصلي كما حَدَّده رمز الكهف …
فمتى تتحول نفس الإنسان بكُلِّيتها؟ ومتى تتكون أو «تتربى» التربية الحقة؟ ومتى تبلغ عتبة ما هو حق؟ بل ما هو أكثر حقيقة وتكشفًا ووضوحًا؟١١ (الجمهورية ٤٧٤ح، ٥، وما بعدها).

عندما تصل إلى المستوى الثالث فتدخل مرحلة الحرية الرحبة، والمعرفة المُطلَقة، والحقيقة الناصعة.

انطلق المسجون إلى خارج الكهف، حطَّم آخر أغلاله، لكن هل يكفي تحطيم القيد لكي يكتسب الحرية؟ إن الحرية لا تبدأ إلا بالتحول نحو الإعداد لتحويل اتجاه الإنسان بكُلِّيته وفي صميم ماهيَّته، فإنها لا تتم إلا في هذا الأفق المضيء، حيث الشمس «مثال المُثل» تُفيض الدفء وتَهَب الخير، أي تمنح كل الموجوداتِ المَقدرةَ على أن تُوجَد.

تلك هي الخطوة الحاسمة، غادر السجين كهفه، أمكنه أن ينتشل نفسه من عالم الحس المشترك والرأي الشائع «والموقف الطبيعي»، أخذها بالصبر والجهد على التحول بكُلِّيتها نحو الموجود الحق.

لم يعُد هناك ضوء صناعي شاحب، بل نور الشمس في وضح النهار. لم تعُد هناك ظلال وأصداء، بل واقع حقيقي وطبيعة حية. الانتقال هنا أشد إيلامًا مما سبقه، لأن رؤية الوجود الأصلي تؤلم العين التي لم تتعود الرؤية بعدُ. وأين ألم العين التي رأت النار الصناعية بعد رؤية الظلال من ألم العين التي تتطلع الآن إلى نور الشمس؟

لا مفر إذًا من أن يُعوِّد نفسه على توجيه البصر إلى الأرض «وهذا هو المستوى الثالث» قبل أن يرفعها إلى السماء، وينظر للشمس نفسها «وهو المستوى الرابع». سيُمكِنه في الحالة الأولى أن يرى كل ما يزدهر وينمو في ضوء الشمس ودفئها. ولأن «التحول الكلي» لم يتم بعدُ، فمن الأنسب لعينه ونفسه أن ينظر إلى ظلال الأشياء قبل أن يستطيع التعود على رؤية الأشياء نفسها، أن يرى انعكاس النجوم في الماء قبل أن يرفع بصره للنجوم. إنه يستضيء بنور الشمس والنجوم «التي تُعبر عن المُثل» ولكنه يزال عاجزًا عن رؤية المُثل الأصلية؛ ولهذا يكتفي بإدراك نُسخها أو صُورها على هيئةِ تصوراتٍ أو مفاهيم. فانعكاس النجوم على سطح الماء يُعبِّر عن انعكاس المُثل في التصورات والمفاهيم، وكل ما يزدهر وينمو في ضوء الشمس يُعبِّر عن آثار العلة الوجودية «أو الخير المُطلَق» على الأرض. إنه يقف الآن على حدود العلم الجزئي، ومعرفته معرفةٌ وَسطٌ بين المعرفة التجريبية «العِلِّية» والمعرفة العقلية «الماهوية». وهي تتم بطريقة رياضية — فرضية استنباطية — وتستخلص المفاهيم «كالتساوي والتدوير والاستقامة وسائر النسب والعلاقات» من الأشياء الحسية. ولهذا تتجه من أعلى إلى أسفل، ولهذا أيضًا سمَّاها معرفة الفهم «ديانويا»١٢ ليُفرِّق بينها وبين معرفة العقل «نؤزيس»١٣ التي ترتفع إلى أعلى. فالفهم استنباطي، والعقل جدلي «إن جاز لنا أن نُطبِّق هنا استخدام كانط …»

إذا كانت المعرفة التجريبية استقرائية تسير من الجزئي إلى الكلي، بحيث يعتقد التجريبي أن في إمكانه الوصول من الحالات الفردية إلى القوانين العامة، فالرياضي على العكس منه يبدأ من العام «من فكرة المثلث أو الزاوية أو الخط المستقيم أو المنحني» ليهبط إلى الموضوع الخاص «كالمثلث الواقعي مثلًا». وإذا كان التجريبي يقول: الدائرة المرسومة هي الدائرة الحقيقية، وما كلمة الدائرة إلا اصطلاح رياضي متفق عليه، فإن الرياضي يقول: تعريف الدائرة يُحددها ويُعين ماهيتها، أمَّا الرسم فنسخة منها قد تقترب من الحقيقة أو تبتعد عنها. ولهذا فمنهجه — كما تقدم — فرضي استنباطي يصل إلى نتائج عِيانية حِسية. وهو يُجرد ويتوسط بين العالمَين المحسوس والمعقول ويحقق المشاركة بينهما؛ ولهذا أيضًا كانت الرياضة هي هدية الآلهة للبشر. ولقد تلقى أفلاطون هذه الهَديَّة في رحلته الكبرى حيث تعلم من أصدقائه — الفيثاغوريِّين والأيليِّين — أن الرياضة تُحقِّق المعجزة لأنها الوسيط أو «الثالث» الذي يقيم الجسر على شفا الهاوية فيربط بين عالمَي الحس والعقل.

ويختتم أفلاطون رمز الكهف بقوله: «وفي آخر الأمر يتمكن من رؤية الشمس — لا مجرد انعكاس ضوئها في الماء ولا في موضعٍ آخر غير الموضع الخاص بها — الشمس نفسها في واقعها الكامل وفي مكانها ويتمكن من تَأمُّل طبيعتها. وسيستطيع عَدَّ ذلك عن طريق الاستنتاجات الصائبة أن يتبين أنها هي التي تضمن تَعاقُب الفصول وتتحكم في العالم المرئي كله، كما هي — بِمعنًى من المعاني — أصل كل ما رأوه من قبلُ».

من قبلُ … أي على الطريق الطويل الذي يسير من الكلمات إلى الانطباعات والتجارب الحسية إلى التصورات والمفاهيم حتى يصل إلى المُثل، فإذا بلغ نهاية الطريق وجد نفسه في مجال العقل الخالص، يتحرك حُرًّا بين «الأصول» والنماذج الأولية للتصورات والظواهر، بين المُثل أو الموجودات الحقة ذاتها!

إنه الآن في المستوى الرابع من رحلته الجدلية، بلغ نهاية درب شاق، وصل إلى آخر درجات السُّلم، نفذ من الموج الهادر بالظلمات إلى نور الحق الغامر، نور العلم المُطلَق والخَلَّاق. إنه الآن لا يضطرب بين المحسوسات، لا يبدأ من الفروض بل يناقشها ويسأل عن مشروعيتها. يناقش مثلًا فكرة المساواة فيسألها: أأنت فكرة هندسية أم حسابية أم أخلاقية أم سياسية أم من نوع آخر؟ ثُمَّ يقفز إلى فكرة المساواة في ذاتها، فهي الأصل المشترك الواحد لكل ألوان المساواة. الفرض عند صاحب الفهم سقف، أمَّا عند صاحب الجدل فأرضية يبدأ منها الصعود، هل معنى هذا أن منهجه يرجع للوراء؟ نعم. ولكن ليصعد إلى أعلى ليقيم أخيرًا في مملكة العقل، بين «نجوم المُثل»، ينابيع العلم الحق.

هكذا مضى به الطريق من الظلال المُمزَّقة إلى نور الشمس الخالص، من تقبُّل الكلمات الجوفاء بلا مقاومة إلى «الرؤية» السامية لمثال المُثل، مثال الخير المطلق، من شبه حياة يحياها شبحًا بين أشباح في عالَمٍ سفلي كالجحيم، عالَمٍ رطب وكئيبٍ محروم من النور، إلى حياةٍ حقيقيةٍ تستضيء بشمس الحقيقة:

أوضح مثلٍ يكشف عن هذا هو رمز الخط المرتبط برمز الكهف:

أصل «أيدوس» نسخة «أيدلون».١٤
«ب» «أ»

«ب»، «أ» يمثلان العالم المحسوس والعالم المعقول على الترتيب: الأول نسخة ناقصة من الثاني، والنصف الأول من كل منهما نسخة من نصفه الآخر.

في «النسخة» نجد التخمين والظن عن طريق سماع الكلمات ورؤية الظلال والحصول على معرفة بالنُّسخ، كما نجد الإدراك الحسي والمعرفة التجريبية التي نتلقاها من عالم النبات والحيوان وكل ما صنعته يد الإنسان. وفي «الأصل» نجد «الفهم» عن طريق التصورات، والفنون والمهارات والعلوم الخاصة التي نتعامل بها مع الأشياء وتقوم على الرياضيات. نحن هنا أقرب إلى المناهج الفلسفية في الوصول للمعرفة، ولكنها تظل مرتبطة بالعالم المحسوس وبالمعرفة الغالبة عليه؛ لأنها تبدأ من فروض لم نتحقق من صحتها. وأخيرًا نجد المعرفة العقلية والاستبصار بوجود المُثل أو بحقائق العلم ونماذجه:

من الظن والتخمين «أيكازيا» — إلى الاعتقاد والتجربة «إيستثيزيس» — إلى الفهم «ديانويا» إلى التعقل «نؤزيس». ومعرفة الله «مثال المُثل، الخير المُطلق» وراء حدود التقسيم. مع هذا فهو الطاقة المحركة الكامنة في كل مراحله؛ لأنه هو الذي يضمن المشاركة بينها، وهو علة كل ما هو خَيِّر وجميل.

كل قسم من أقسام الخط نسخة من القسم الذي يليه، والحياة داخل الكهف نسخة من الحياة خارجه. بين النسخة والأصل تناقضٌ حاسم، ثنائيةٌ مُطلَقة، هُوَّةٌ فاصلة. لن تتحد النسخة مع الأصل أبدًا. ومع ذلك فبينهما تشابه بجانب التناقض، وتناسب بجانب الثنائية: إذ لو كانت النسخة منقطعة الصلة بالأصل، فكيف تكون «نسخة» منه؟

طريق مُضنٍ شاق. لن يفهم سر مَشقَّته إلا «العارف»، إلا «المُنقذ». ليست مسألة تطور يبدأ من مرحلة أولى ليتم بعد ذلك من تلقاء نفسه؛ إذ لن يعرف مقدار الألم ولا مقدار الصبر، إلا من عاناه وقطعه، إلا من صعد عليه. لا بد من الاستعداد لمن يتصدى لعناء الرحلة؛ إذ لن يعرف معنى الخير سوى الخَيِّر، والخيِّر ليس أنانيًّا. فالسُّلم ما زال أمامه، لن يطرحه، لن يستغني عنه. سيعود ليهبط درجاته، هل يمكن أن يستأثر بالخير لنفسه، أن ينسى أصحاب الأَسْر، رفاق السجن السفلي؟ إنَّ الطَّريق طريق التربية، والمربي يفترض من يتربى على يدَيه. التربية تحرير وإنقاذ. فكيف يكتفي بتحرير نفسه وإنقاذها؟

لن تنتهي «قصة» الكهف بالنهاية التي يحلو لبعض الناس أن يتخيلوها. لو كانت مسألةَ معرفةٍ لما كان هناك داعٍ للمرحلة الخامسة والأخيرة. لو كانت التربية مجرد «صب» المعلومات في وعاء النفس ما كانت له ضرورة. لكنها تجاوز مستمر لنقص التربية، تحويل اتجاه الإنسان بكُلِّيته وفي ماهيَّته، هي — بتعبيرنا الحديث — صراع ومسئولية والتزام …

والمسئولية تفترض من نكون مسئولين عنه ومن أجله.

والالتزام لا معنى له بغير من نلتزم بهم وفي سبيلهم. ولو اكتفى السجين المُتحرِّر بالخروج من الكهف لأصبح الرمز كله بلا معنى، وأصبح أفلاطون مثاليًّا هاربًا من العالم، كما يتصور الكثيرون الذين يسيئون فهمه ويظلمونه …

لو صحَّ هذا الفهم الخاطئ الظالم لبَطَلَت فلسفة أفلاطون كلها، لا رمز الكهف وحده. إنها فلسفةٌ متطورةٌ حية، هي في صميمها «طريق» يصعده «العارف» بالحب وبالشوق، يخطو فيه «بحوار» سَمْح حر. المعرفة لا تنفصل فيه عن الوجود، وكلاهما لا ينفصل عن العدالة. وإذا قنَع العارف بالمعرفة، فهل سيكون لفلسفته معنًى، وجوهرها — كما علمنا — هو الانفصال بين عالم الصيرورة وعالم الوجود والمشاركة التي تُقرِّب بينهما بقَدْر الطاقة؟ هل سيكون للعارف نفسه مكان فيها؟ كيف سيمكنه أن «يعرف» إن لم «ينقذ»؟ ما أبعد أفلاطون عن العِلم المترف! ما أبغض هذا العلم لذات العلم إلى نفسه! حكم عليه «ديونيزيوس» أن يُحبس في برجٍ عالٍ، لكن رفض الفكر ورفض القلب، أن يسكن سجنًا من عاج أو من طين …

هبوط السجين المُتحرر إلى الكهف ورجوعه إلى زملائه المُقيَّدِين بالأغلال جزء متمم للحكاية التي يرويها الرمز. ليس مُجرَّد فصل فيها أو حادثة، بل هو قمة كل الأحداث وغايتها. إنه يرى الآن من واجبه — بعد أن اطلع على المُثل وعرف — أن يُحوِّل عيونهم عما يتصورونه حقيقة إلى الأكثر حقيقة، أن يساعدهم على «انتزاع» الحق من الباطل، والنور من الظلام، والعلم من الظن، والواقع من المظهر.

غير أن التحرير لا يتم بسهولة، والسجين لا يدري أنه سجين، والناس تطمئن إلى «الحقيقة» التي تتصور أنها ثابتة الأساس والجدران كالبيوت التي تسكنها وتطمئن إليها، هي إذًا مغامرة. وعلى العارف أن يكون مُستعدًّا لمواجهة الخطر المُحدِق بحياته. سيحاول أن يُخلِّصهم من قبضة «الحقيقة» السائدة هناك، وسيكون هو نفسه عُرضةً للوقوع تحت سيطرتها. سيكافح لانتشالهم من قيد الواقع المألوف والحس المشترك، وسيصبح هو نفسه مُهدَّدًا بالاستسلام له والخضوع لسلطانه الأزلي. بل سيشعر بأنه مهدد باحتمال قتله، وهو احتمالٌ تَحوَّل ويتحول كل يوم إلى واقع، كما نعلم من قَدَر سقراط الذي «عَلَّم» أفلاطون والأثينيِّين. فلقد حاول هو أيضًا أن «ينقذهم» من «الحقيقة» الزائفة التي اطمأنوا إليها، أن يساعدهم على مناقشتها والتساؤل عنها. لكن أثينا كانت تنهار. عجز الناس عن «الدهشة»، خافوا كل «جديد»، ركنوا «للتقليد»، ضاقوا بنداء الطيف الحافي في طرقات أثينا، بعثوه لمسامرة الأطياف الأخرى في «هاديس». شرب السُّم وبدأ سقوط أثينا. فاعتبري أيتها المدن الساقطة بأحضان الزيف! …

كان حتمًا على رمز الكهف أن ينتهي بانتزاع الحقيقة من حُجب الباطل، والنور من ثنايا الظلام، لهذا كان تخليص «السجين» من الكهف ووضعه في مجال الحرية صراع حياة أو موت. ولو لم يكن التحرير والإنقاذ هو الهدف من هذا الرمز لما كان لتصوير الكهف المُغلَق في القَبْو المظلم أية قيمة، ولا كان هناك معنى الصور المُوحِية فيه، كالنار والضوء المُنعكِس منها، والظلال ونور النهار الساطع، وضوء الشمس والشمس نفسها …

إن داخل الكهف وخارجه مُتضادَّان تَضادَّ المظهر والوجود، وظلام «هاديس» ونور الحياة، وزيف السفسطة وصدق الخبرة والعلم. أحدهما نسخة من الآخر: النار الصناعية من الشمس، والممثلون وأدواتهم من الواقع الخارجي، وعلة الأشباح والأصداء من العلة الحقيقية للوجود والمعرفة في عالم النور. تَطوُّر الإنسان من الكلمات إلى التجربة نُسخة من المعرفة التي تسير من المفاهيم إلى المُثل في عالم العقل. بين النسخة والأصل تناقض. بينهما هُوَّة، والمعنى كل المعنى في نفس الإنسان، نفس العارف — لا الدجال — تُقرب بينهما، تطبع أختام العلم على جسد الواقع، وبحب الحكمة تبني جسرًا بينهما، والحكمة حب …

حتى لو أنكرنا وجود المثل الواقعي — كما فعل أرسطو والاسميُّون — فسيبقى دور النفس ودور العقل، وسيبقى العبء الأبدي، عبء «العلم» لينقذنا من كهف الجهل، وسنحمل هذا العبء الكبر: تحقيق العدل …

لكن كيف وأين؟ في الدولة. من يحمله؟ المُنقذ. فعندما تجتمع الحكمة والقوة، وتتحدد الرؤية مع السلطة، عندما تأذن المشيئة يظهر الملك الفيلسوف «الكتابان الخامس والسادس من الجمهورية» سيكون هنالك أمل في «إنقاذ» الجنس البشري من البؤس، في إنقاذ الواقع وإشراكه في عالم العقل «الكتابان السادس والسابع من الجمهورية والرسالة السابعة».

أن يتحد العلم مع العزم، أن يتلاقى العارف والثائر — هل يمكن أن يجتمعا في إنسان؟

لا بد من المعجزة الكبرى، والمعجزة ستَنسِجها كف الصُّدفة، والصدفة طيبة١٥ حين يشاء الله ويجري الحظ على سنن القدرة …

من يعطينا شمعة أمل في ظلمات اليأس المُطبِق؟ أين، متى يجتمع العلم مع الثورة والعاطفة مع المنطق؟ أترانا نخدع أنفسنا بالوهم المُطلَق؟ ونظام العدل «الممكن» هل يتحقق؟ أم تبقى عين الحُلم مُسهَّدة والجَفن مُؤرَّق؟ لِمَ ننتظر وقد يأتي أو لا يأتي، قد ينجح في مسعاه أو قد يُخفق؟ ماذا لو ينقذ كل مِنَّا نفسه؟ يخرجها من ظلمات الكهف ومن أَسر الرق؟ ويشيد مع إخوته بيت العدل ومدن الحق؟!

١  هوفمان، المصدر السابق، ص٤٧.
٢  الجمهورية، الكتاب السابع، من ٥١٤أ، ٢ إلى ٥١٧أ، ٧، الترجمة العربية للدكتور فؤاد زكريا من صفحة ٢٤٦ إلى صفحة ٢٤٩ — وقد تكرر هذا الجزء من المحاورة في مقال لي عن كهف أفلاطون من كتاب مدرسة الحكمة (ص٣١–٤٥)، وفي دراسة هيدجر عن نظرية الحقيقة عند أفلاطون التي قدمتها في كتابي «نداء الحقيقة» (ص٣٠٣–٣٥٩) — ووجدت من الضروري الاستشهاد به في هذا السياق …
٣  Eikasia.
٤  Alethestera (من Alethes أي الحق أو المكتشف اللامحتجب في تفسير هيدجر).
٥  Aisthesis.
٦  Doxa.
٧  Empeiria.
٨  Noësis.
٩  Episteme.
١٠  Apaideusia.
١١  Alethestation.
١٢  Dianotic.
١٣  Noëtic.
١٤  Eidolon, Eidos.
١٥  Agathe Tyche.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤