عجز الكلمات عن التعبير عن الواقع

أودُّ الآن أن أتحدث عن هذه المسألة بشيءٍ من التفصيل، فقد يزداد المعنى الذي أريده وضوحًا. هناك حُجة لا يمكن دحضُها تقف في طريق كل من يَتجرَّأ على كتابة أيِّ شيءٍ عن هذه الأمور، وهي حُجَّة طالما استَخدمتُها في الماضي، ويبدو أن الضرورة تقتضي تَكرَارها في هذه المُناسَبة (٣٤٢أ).

هناك ثلاث أَدواتٍ لا بُد من تَوافُرها لمعرفة أيِّ شيءٍ، تُضاف إليها المعرفة نفسها كأداةٍ رابعة، أمَّا الخامسة فهي الموجود الحق وموضوع المعرفة نفسه، فأوَّلها هو الاسم، وثانيها هو التعريف، وثالثُها هو التمثُّل١ ورابعها هو المعرفة. خذ لذلك مثلًا واحدًا إذا أَردتَ أن تفهم ما أقول، ثُمَّ طَبِّقْه بعد ذلك على كل شيء. فهناك موضوع يُسَمَّى «الدائرة» واسمه هو الكلمة التي ذكرناها الآن، ثُمَّ يأتي تعريفه الذي يتكون من أسماء وأفعال (٣٤٢ب)، فالعبارة التي تقول: «الشيء الذي يتساوى بعد أطرافه في كل اتجاه عن المركز»، ستكون هي تعريف الموضوع الذي نصفه بأنه مُستديرٌ ومتساوي الانحناء ودائرة، ثُمَّ يأتي التمثُّل في المقام الثالث، ويُمكِن أن يُرسم ويُمحى، وأن يُخرط بالمِخرطة ويُدمَّر بعد ذلك (٣٤٤ﺟ).
ولكن هذه الأمور الثلاثة التي تَتعلَّق بالدائرة لا تؤثِّر على الدائرة الحقيقية ذاتها التي تختلف عنها كل الاختلاف. وفي المقام الرابع تأتي المعرفة والفهم والرأي الصادق٢ عن هذه الأمور، ويجب أن تُضَم هذه الثلاثة في فئة واحدة؛ لأنها لا توجد في الأصوات «اللغوية» أو الأشكال المكانية وإنما تُوجَد في النفس، ومن الواضح أنها مختلفة عن٣ ماهية الدائرة الحقيقيَّة في ذاتها وعن الأدوات الثلاث التي ذكرناها في البداية. والفهم هو أقرب هذه الأدوات الثلاث إلى الموضوع الخامس؛ لما يربطه به من قرابة وتشابه، أما الأداتان الأُخرَيان فهما أكثر بُعدًا عنه.
ويصدق نفس الشيء على الأشكال المستقيمة والأشكال والسطوح٤ المُنحنِية، وعلى اللون والخير والجمال والعدالة، وعلى كل الأجسام الطبيعية أو المصنوعة، وعلى النار والماء وما يُشبههما «من العناصر»، وعلى كل الكائنات الحية والطباع الخلقية، وكل ما يفعله البشر أو ينفعلون به. وإذا لم يتيسر فهم الأمور الأربعة (٣٤٢ﻫ) مجتمعة، فلن يَتمكَّن الإنسان أبدًا من معرفة الخامس معرفةً تامة، أضف إلى هذا أن هذه الأمور الأربعة — بسبب قصور اللغة وعجزها — تهتم ببيان خصائص أي موضوعٍ مُعيَّنٍ بقَدْر ما تهتم بالكشف عن ماهيَّته الحقَّة. ولهذا فلن (٣٤٣أ) يخاطر عقل بوضع أفكاره في ثوب هذه اللغة الضعيفة، والأَوْلى من ذلك ألَّا يُخاطِر بوضعها في تلك الصورة الجامدة التي تُميِّز كل ما يُكتب بالحروف.
إن ما قلناه الآن يحتاج إلى مزيد من الشرح والتوضيح. فكل دائرة تُرسم أو تُخرط تمتلئ في الواقع بضد الحقيقة التي جعلناها الخامسة في الترتيب. فهي في كل نقطة منها تشارك في المستقيم، بينما الدائرة ذاتها — وهذا هو الذي نُؤكِّده — لا تتضمَّن أيَّ عنصرٍ صغيرٍ أو كبيرٍ من طبيعة ذلك الشيء المضادِّ لها،٥ وفضلًا عن هذا فليس لأي شيءٍ اسمٌ ثابت، فما من شيءٍ يمنع (٣٤٣ب) أن يُطلَق على ما يُسَمَّى الآن «دائريًّا» اسم «مستقيم»، أو على العكس من ذلك أن يُسَمَّى «المستقيم» «دائريًّا»، ولن يتأثر ثباتُ الأشياء «أو بقاؤها على طبيعتها الواقعية»، إن غيَّرنا أسماءها وأطلقنا عليها أسماء مضادة. ونفس الشيء ينطبق على التعريف، فهو مؤلَّف من أسماء وأفعال، وتبعًا لذلك فهو أبعد ما يكون عن الثبات. ويمكننا أن نستخدم حُججًا لا حصر لها٦ لإثبات أن كل واحد من الأمور (أو الأدوات) الأربعة السابقة بعيدٌ عن الدقة، ولكن أقوى هذه الحُجج هو أن النفس — كما قلنا — تسعى إلى معرفة الوجود الحقيقي للشيء ولا تكتفي بمعرفةِ صفاتهِ وخصائصِه. بَيْدَ أن ما يُقدِّمه لها كل واحد من الأمور الأربعة السابقة — سواءٌ في صورة كلمات أو في صورةٍ ماديةٍ «مرئية» — (٣٤٣ﺟ) ليس هو الذي تبحث عنه، بل هو شيءٌ يمكن بسهولة أن تَدحَضَه شهادة الحواس؛ ولهذا يُمكِن أن يَخلُق الحَيرة «والارتباك» والغموض في «عقل» كلِّ إنسان. وعندما نكون بصَدد موضوعاتٍ لم نألف — نتيجة التعوُّد السيِّئ — أن نبحث فيها عن الحقيقة، بل نَقنَع منها بالنسخ التي تُمثِّلها، فإننا «في هذه الحالة» (٣٤٣د) لا نضع أنفسنا مَوضِع سُخرية السائلِين، حتى ولو كانت لدى هؤلاء القدرة على نقدِ أدواتِ المعرفة الأَربع وإثبات خطئها. أمَّا حين يتعلق الأمر بموضوعاتٍ نَتطلَّب فيها الدليل الواضح على الوجود الحقيقي الذي يَشغَل المكان الخامس، فإن أيَّ إنسانٍ بارعٍ في الحجاج والتفنيد سيخرج منتصرًا وسيجعل المُتحدِّث «الذي يَعرِض المذهب» — سواءٌ لجأ إلى الكلام المُتَّسِق أو الكتابة أو صيغة السؤال والجواب — «سيجعله» يبدو في أعين جمهور المُستمعِين جاهلًا جهلًا تامًّا بالموضوع الذي يُحاول أن يكتب فيه أو يتكلم عنه. قد يحدث أحيانًا ألَّا يفطن الجمهور إلى أن الخطأ لا يرجع لنفس الكاتب أو المُتحدِّث بقَدْر ما يرجع (٣٤٣ﻫ) لكل أداةٍ من أدوات المعرفة الأربعة الناقصة بطبيعتها. ولكن التعمُّق المُستمِر فيها جميعًا٧ بالتحرُّك صعودًا وهبوطًا من أحدها للآخر، هو السبيل الوحيد لتوليد المعرفة بما هو بطبيعته خيرٌ في نفس هي بطبيعتها خَيِّرة، مع العلم بأن هذا أيضًا يستلزم أكبر قدر من الجَهد والعَناء. أمَّا إذا كان الإنسان سَيِّئ التكوين، وكذلك أغلب الناس من الناحيتَين العقلية والخُلقية — وكم من نفسٍ طيبةٍ أصابها التلف — فإن «لينوكويس»٨ نفسه لن يستطيع أن يَهبَه القدرة (٣٤٤أ) على البصر. وصفوة القول أنَّ من لا يشعر نحو الموضوع بِصِلة القرابةِ الحميمةِ فلن تُقرِّبه منه سهولة التعلم ولا قوة الذاكرة؛ لأنه (أي الموضوع) لا يَمُد جذوره أبدًا في طبائعَ غريبةٍ عنه.٩ ولهذا فإن الذين لا تربطهم صلة القرابة أو الشَّبَه بالعدالة والجمال بكلِّ صُوره وأشكاله مهما يُبدوا من موهبةٍ وقوةِ ذاكرةٍ في أمورٍ أُخرى، والذين تَتوفَّر لهم القرابة الطبيعية «بالموضوع»، ولكن تنقصهم الموهبة وقوة الذاكرة؛ كلا الفريقَين لن يستطيع أَحدٌ منهما أن يتوصل إلى المعرفة المُمكِنة بحقيقة الخير والشر.١٠ «وقد أَضَفتُ الشر»؛ لأنه يجب عليهم أن يعرفوهما معًا كما يعرفون المظهر والحقيقة في الطبيعة كلها١١ (٣٤٤ب)، ويبذلوا في سبيل ذلك من الجهد والوقت بقَدْر ما ذَكرتُ في بداية حديثي. وعندما يتم احتكاك الأسماء والتعريفات والتمثُّلات والانطباعات الحسيَّة بعضها ببعض١٢ وتخضَع جميعُها لبحثٍ تسوده السماحة وتبادُل الأسئلة والأجوبة بغير حَسَد «أو لؤم»؛ عندئذٍ فقط تسطع شرارة الفهم والبصيرة لتُضيء الموضوع قَيْد البحث، ويَتوهَّج ضوءُها بقَدْر ما في طاقة الإنسان. ولهذا السبب لن يفكر أيُّ إنسانٍ جادٍّ في الكتابة عن الموضوعات الجادَّة حتى لا يجعل (٣٤٤ﺟ) الحقيقة نهبًا لحسد الناس وغبائهم. والنتيجة التي نستخلصها مما سبق هي أننا إذا رأينا مؤلَّفًا دُوِّنَت فيه أفكار أحد الناس، سواءٌ كان مؤلَّفًا في القانون لأحد المُشرِّعِين أو في أيِّ موضوعٍ آخر، فيجب أن نعلم — إذا كان الكاتب إنسانًا جادًّا — أن هذا الذي دَوَّنه لا يُعبِّر عن أفكاره الجادَّة بحق، وإنما تظل «هذه الأفكار» كامنةً في أجملِ مكانٍ في أعماقه.١٣ وإذا صح أنه كان جادًّا بحق في تدوين فكره، فلا بد في هذه الحالة أن يكون الناس، (٣٤٤د) لا الآلهة، هم الذين سلبوه عقله.١٤
يتضح إذًا لكل من تَتبَّع بعناية هذا الحديث المُتأنِّي١٥ أنه لو كان ديونيزيوس أو غيره — عظُم شأنُه أو قل — قد دَوَّن شيئًا من الحقائق الأساسية للطبيعة،١٦ فلا يمكن في اعتقادي أن يكون قد حَصَّل أية معرفةٍ سليمةٍ عن الموضوع الذي كتب عنه، ولو تيسر له ذلك لشعر بنفس الإجلال الذي أَشعُر به نحو الحقيقة،١٧ ولاستحال أن يُعرِّضها للمهانة في عالم لا يلائمها ولا يليق بها. ولا يمكن أيضًا أن يُقال إنه كَتب ما كَتب ليُعين ذاكرته «على الحفظ»، فمن المستحيل أن ينسى الإنسان الحقيقة بعد ما استَوعَبَتها نفسه؛ لأنها (٣٤٤ﻫ) تكمن «هناك» في حَيِّزٍ صغيرٍ جِدًّا.١٨ والواقع أنه لو كان قد كَتب شيئًا على الإطلاق فإنما فَعل ما فَعله عن طموحٍ فاسدٍ «مُلتوٍ»، إمَّا لادعاء أن هذه الأفكار هي أفكاره الخاصة أو الظهور بمظهر المشاركة في ثقافة١٩ لم يكن جديرًا بها؛ لأن هدفه منها لم يكن غيرَ الشُّهرة «التي تصوَّر أنه سيحصل (٣٤٥أ) عليها عندما يُذاع عنه أنه شارك فيها». أجل، لو كان ديونيزيوس قد تَوصَّل إلى هذه المعرفة من اللقاء الوحيد «الذي تَمَّ بيننا»٢٠ لما كان في الأمر ما يُستَغرَب، ولكن كيف كان من الممكن أن يحدث هذا؟ هذا ما يعلمه الله، كما يقول أهل «ثيبة». ذلك لأنني تَناقشتُ معه في الأمر — على نحو ما وَصفتُ — مَرةً واحدة، ثُمَّ لم يَدُر أيُّ حوارٍ بيني وبينه بعد ذلك أبدًا. وكل من يُهمُّه أن يعرف كيف حَدثَت هذه الأمور ينبغي عليه أن يَتدبَّر الأسباب التي منَعتْنا من تَكرار الحوار٢١ بعد ذلك مرةً وثانيةً وثالثةً أو أكثر من ذلك أيضًا. هل تصور ديونيزيوس، بعد ذلك اللقاء الوحيد،٢٢ أنه قد اكتشف الموضوع بنفسه أو تَعلَّمه قبل ذلك من غيري، أم تُراه رأى أن مذهبي لا قيمة له، أم ثبت له — وهذا هو الاحتمال الثالث — أنه يفوق قُدرتَه وأنه لن يستطيع أن يحيا حياة الحكمة والفضيلة؟ إن كان قد تَصوَّر أن ما قُلته له شيءٌ تافه، فسيكون عليه أن يستمع إلى كثيرِين يؤمنون برأيٍ يُخالف رأيه ويَصلُحون أن يكونوا حُكَّامًا أكفأ منه في هذا الأمر. وإن كان قد اعتقد من جهة أخرى انه قد اكتشف بنفسه أو تَعلَّم من قبلُ شيئًا يَصلُح في ذاته لتربية إنسان يسعى إلى الحرية، فكيف تسنى له — بغير أن يكون إنسانًا مُلتوِيًا٢٣ إلى أقصى حَدٍّ — أن يُهينَ الرجل الذي هو الدليل والحُجة في هذا الأمر؟ لقد كان هذا — على التحقيق — هو الذي فعله، أمَّا كيف أهانه فسوف أَروِي لكم الآن قِصَّة ذلك.
١  أ: النسخة (أو الصورة المتمثلة عن الأصل) ويلاحظ أن هذه بداية شرح جديد لنظرية المُثل (راجع التعليقات).
٢  أ: تأتي المعرفة والرؤية (أو البصيرة) والاعتقاد الصادق.
٣  ب: من الواضح أنه يجب تمييزها عن … إلخ.
٤  زيادة في «ب».
٥  المعنى أن أي مماس لدائرة مرسومة سيتلاقى معها لمسافة معينة؛ لأن أي دائرة محسوسة لا يمكن أن تكون دائرية بشكل مطلق.
٦  أ: كلمات لا حصر لها.
٧  أي في أدوات المعرفة الأربع التي سبق ذكرها.
٨  كان يضرب به المثل في حدة البصر لدرجة النفاذ في الجوامد، قتله أحد التوأمين (الديوسكوريين) الذي اختطف عروسه، وقد صوره جوته حارسًا للبرج في القسم الثاني من فاوست.
٩  ب: وصفوة القول أنه لا سهولة التعلم ولا قوة الذاكرة يمكن أن يجعلا الإنسان قادرًا على الرؤية إذا لم تكن طبيعته قريبة من الموضوع.
١٠  ب: الفضيلة والرذيلة.
١١  زيادة في «ب» وإن كان يستبدل الرذيلة بالشر.
١٢  تتكرر صورة الاحتكاك الذي يولد الشرارة في الجمهورية (١٤٣٠أ) حيث «تحك» النتائج المترتبة على تحقيق العدالة في الدولة وفي الفرد لبعضها لقدح الشرارة التي تضيء ماهية العدالة.
١٣  ب: وإنما تبقى مختزنة في أنبل منطقة من شخصيته.
١٤  نص مقتبس من إلياذة هوميروس (النشيد السابع، سطر ٤٦٠).
١٥  أ: هذه الأسطورة (أو الحكاية) أو هذا الحديث الذي يتحسس طريقه.
١٦  ب: عن أول مبادئ الطبيعة وأسماها لشعر بنفس التقديس نحو هذه الأمور.
١٧  أ: لما طاوع نفسه أن يقدمها لرأي عام غير مناسب لها ولا جدير بها.
١٨  أ: لأنها وضعت في شكل أو صيغة تفوق في إيجازها أي شيء آخر.
١٩  أ: في تعليم.
٢٠  ب: من حوار وحيد معي.
٢١  أ: بعد أن استمع إليَّ مرة واحدة.
٢٢  ب: إنسانًا غير عادي. ولعل الأقرب إلى السياق أنه إنسان شاذ.
٢٣  آخر أخبار أفلاطون مع ديونيزيوس ورحيله عن سيراقوزة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤