المقدمة

بقلم  مصطفى صادق الرافعي
هذا كتاب «أوراق الورد» فحدثني من حدث١ … في سبب هذه التسمية قال: كانت معها ذات يوم وردة لا أدري أيتهما تستنشي الأخرى٢ فجعلت لها ساعة من حفاوتها تلمسها مرة صدرها ومرة شفتيها، والوردة بين ذلك كأنما تنمو في شعاع وندى، إذا رأيتها وقد تفتحت وتهدلت حتى لحسبت أنها قد حالت أوراقها شفاهًا ظمأى.
ثم تأملتها شيئًا، ثم نحت إلي بصرها٣ وقالت: ما أرى هذا الحب إلا كورق الورد في حياته ورقته وعطره وجماله، ولا أوراق الوردة إلا مثله في انتثارها على أصابع من يمسها إذا جاوز في مسها حدًّا بعينه من الرفق، ثم في تفترها على إلحاح من يتناولها إذا تابع إلحاحه عليها ولو بالتنهد، ثم في بناء عقدها على أن تتحلل أو تذوي إن لم يمسكها مع بنائها الرفيق حذر من أن تكون في يده٤ … لأنها على يده فن لا وردة.

ثم دنت الشاعرة الجميلة فناطت وردتها إلى عروة صاحبها فقال لها: وضعتها رقيقة نادية في صدري، ولكن على معان في القلب كأشواكها … فاستضحكت، وقالت: فإذا كتبت يومًا معاني الأشواك فسمها «أوراق الورد» وكذلك سماها!

•••

عمر الورد فصل من السنة! أما الشوك فعمره ما بقيت الشجرة وما بقي حطبها، ولذلك ينسى الحبيب ويذهب الحب، ويبقى بعدهما القلب العاشق وليس بينه وبين آلامه إلا كما ذر الضياء بين أول الفجر وآخرة الليل في مرأى من النور والظلمة يخيل إليك من غبشه٥ أن الليل ظلام مكفوف وراء حائط من البلور: فالآلام دائمًا بمنزلة من القلب المحب والأشواق منه أبدًا على أسباب؛ ومن أحب مرة فما اهتدى إلى حبيب ينتهي منه إذا سلاه، وإنما ابتدأ في جمال هذا الحبيب أشواق الحياة التي لا تنتهي، وعرف من الحب طريقًا بين الحس والغيب آخره دائمًا أول غيره كطريق السماء لعينك؛ كل مسافة أنت مقدرها فيه تراها قد نيطت بمسافة أخرى٦ إلى ما لا ينتهي ولا ينقطع؛ إذ ليس ذلك اتصالًا بين المسافات المكونة للأبعاد أكثر مما هو اتصال بين النواميس المكونة للأبدية.

وإلقاء الحب الصحيح في قلب من خاطره الهوى، معناه إيحاء الفن إلى صاحب ذلك القلب يفهم به الصورة الشعرية الجميلة التي يلبس منها الحبيب جماله، فيرى كيف يجيء كل شيء من حبيبه كأنه في وزن من الأوزان، حتى لكأن هذا الشكل المحبوب إن هو إلا لحن موسيقي خلق إنسانًا يجاوب بعضه بعضه …

… وبذلك يخرج من فهم جمال الحبيب إلى فهم جمال الطبيعة، ويدرك بروحه ما حول كل شيء من الجو الخيالي البديع المحيط به إحاطة الوزن الشعري بالكلمة والنغمة الموسيقية بالصوت، ومن ذلك ينبثق في نفسه نور إلهي خالق يفيض على كل جمال في الأرض والسماء ما يجعل هذا الجمال من إدراكه أو حسه بسبب قريب، فتشتمل نفسه العاشقة على آفاق واسعة من جمال الخليقة ما دام في نفسه الحب، كما تحيط العين بالأفق فتحويه ما دام في العين البصر!

•••

وتاريخ الحب عند صاحب هذه الرسائل كان كله نظرة أخذت تنمو وبقيت تنمو … وهو حب قد كان من نمائه وجماله وطهره كأنما أزهرت به روضة من الرياض لا امرأة من النساء، وكان من مساغه وحلاوته ولذاته البريئة كأنما أثمرت به شجرة خضراء تعتصر الحلاوة في أثمارها أصابع النور فأنت لا تجد في هذه الرسائل معاني النساء متمثلة في امرأة تتصبى رجلًا، ولكن معاني الحب والجمال متألهة في إنسانية تستوحي من إنسانية أو توحي لها.

وبين الدهر والدهر تخرج الأقدار على طوفان الشهوات الذي يغرق الإنسانية عاشقًا روحانيًّا في طباعه مثل شموخ الجبل العالي وقوته وتماسكه تأوي إليه صفات الحب السامية يعصمها ويبقيها على ندوها٧ ولو في إنسان واحد كما هي على أصيلها في جمال الكون، وهذا الإنسان لا يعطي الدنيا إلا من سبيل حرمانه هو، وكأنما يحترق قلبه ليسطع بالنور والدفء على القلوب المظلمة الباردة التي لا يكون الحب فيها إلا خديعة مسولة من الطبيعة بين الجنسين حين تعمد إلى حسابها العجيب في جعل الاثنين ثلاثة.٨

وكل الصفات السامية متى نزلت إلى الدهماء والأوشاب وهذا الهمج الهامج في إنسانية الحياة، نحلوها أسماء من طباعهم لا من طباعها؛ فاسم الفضيلة عندهم غفلة، والسمو كبرياء، والصبر بلادة، والأنفة حماقة، والروحانية ضعف، والعفة خيبة، والحب اسمه الفسق …!

•••

وصاحب هذه الرسائل يرى نفسه في الحب كأنما وضع على هامش الناس، منطلقًا غير مقيد، عزيزًا غير ذليل؛ فهو كالسطر الذي يُكتب على هامش الصفحة يستعرض ما ملأها بين أعلاها وأسفلها، وله الشرح والتعليق وما في معناهما، إلى التهكم والضحك والسخرية، ومن ثم فرسائله كذلك على هامش كل رسائل الحب: يتجافى بها عن ألفاظ الشهوات ومعانيها مما يتعمده بعض فحول الكتاب في أوربا، ولا طلاوة لرسائلهم وقصصهم بغيره؛ إذ هو يشبه أن يكون روح اللحم والدم في اللغة، ويتوخون التأثير من أقرب الطرق إليه، فيمسون شهوات القراء بالحادثة والوصف والعبارة كما يدر لعاب الجائع على ألفاظ الطعام وأوصافه ورائحته … وإنما نحن نرى أن لحياة الحب — حتى يكون حبًّا صحيحًا — واقعًا غير الواقع في هذه الحياة، وأوهامًا غير أوهامها، وحقائق غير حقائقها، فلا بد لها من كلام يلائمها في هذا المعنى الطائف بين القلب والروح يكون أشبه بكلام النية الصادقة لو نطقت في لسان، وبكتابة الضمير المخلص لو كتب في قلم.

والحب الصحيح إذا سلمت فيه دواعي الصدر،٩ واعتدلت به نوازي الكبد،١٠ وتوثق فيه عقد النية،١١ واستوى غيبه ومشهده١٢ كان أشبه بقوة سماوية تعمل عملها لتبدع من الإنسانية شعرًا أسمى من حقائقها؛ كما كانت الإنسانية نفسها قوة عملت أعمالها؛ لتبدع من حقائق الطبيعة أخيلة أجمل من مادتها. فشعرُ العقل تخلقه الإنسانية من الطبيعة بالعلم، وشعرُ القلب يخلقه الحب من الإنسانية بالجمال؛ ومن ثم فالحب كالطبقة بين الإنسانية والإلهية، أفلا تراه يأبى حين يكون إلا أن يكون وحده هو الحق الذي ليس له في البشرية فوق فليس في البشرية ما يوضع فوقه، حتى كل ما عداه من الحقوق والواجبات فهو من بعده في الموضع والمنزلة؟

الحب الصحيح ليس له فوق، ولا يشبهه من هذه الناحية إلا الإراة الصحيحة، فليس لها وراءٌ ولا يمين ولا شمال، وما هي إلا أن تمضي أمام أمام.

•••

إنك لا ترى في هذه الرسائل ما ينزع به الكلام ذلك المنزَعَ الذي أشرنا إليه آنفًا، ولا ما يتوسع به كتّاب أوربا من الحشو الذي يوجه على عِلل مختلفة بين التاريخ والاجتماع وما إليهما، ولا ما يقحمونه في رسائلهم من كلامٍ نازلٍ كالكلام الذي يتراجعه العامة،١٣ فإن كتابنا خالص للجمال بذاته، واقع من الحب في خاص معانيه، ولقد كانت حوادث صاحبنا في حبه كالسحب الرقيقة في سماواتها، عمرَ ساعة من الشفق، وتأتي وعليها ألوانها الإلهية أصباغًا واقعة كما تتفق، ثم لا يكون الجمال والتناسب مع ذلك إلا كما تتفق، فكذلك نشأت رسائله من وحي القلب وروحانيته، تموج بمعانيها وتتبرج في معارضها، ولعمري لمن كتب في الحب والجمال بقلم لقد كتب صاحب هذه الرسائل بقلب؛ ولو تحيا الابتسامة والدمعة لكانتا سرور ذلك الحب وحزنه كما وقعا في حياة الكاتب وأيامه من صاحبته، فهما لا يتجاوزان البث والتشاجي، وتباريح الصبابة، وتسليم الابتسامة على الابتسامة، ومغاضبة الدمعة للدمعة، ولكليهما من روح صاحبه داعٍ ومجيب، وعلى ما طال بينهما من زمن الحب فهي كأنها لم تزد له على أن سَنحت مَسح الغزال وولت …

•••

وكان القدر ينقي حوادث هذا الغرام كما تنقى المدرة من الحب١٤ بأصابع دقيقة تحت عينين مبصرتين؛ فكانت النفس فيه مع جمحاتِها كالفرس تترامى في عنانها مخلى لها الطريق، ولكن أمر الطريق لها، ونهيه في العنان الذي يُلجمها، وظلمات الحب في بعض النفوس المختارة كظلمات الليل في بعض الليالي: هذه لها القمر وتلك لها الفضيلة.
وما أحسب حب هذا الشاعر وتلك الشاعرة قد كان في كل حوادثه إلا تأليفًا من الأقدار لهذه الرسائل بمعانيها، حتى إذا كسيت المعاني ألفاظها، انبثقت كالنور، وصدحت كالنغم، وجاءت كإشراق الضحى؛ لتناسم الأرواح١٥ بعبارات صافية من روح قوية فرض عليها أن تحب، فلما أحبت فرض عليها أن تتألم، فلما تألمت فرض عليها أن تعبر؛ فلما عبرت فرض عليها أن تسلو …!
١  نسبت رسائل الأحزان إلى صديق على طريق الرواية، فظنها البعض حقيقة لذلك الصديق وما هي له.
٢  تستنشق رائحتها وطيبها.
٣  أي صرفت إليه بصرها.
٤  يعلم القارئ من (رسائل الأحزان) أن الحبيبة شاعرة روحانية تسمو هي وصاحبها بالحب فوق المادة، ولا يريدان إلا وحي النفس الجميلة للنفس الجميلة.
٥  الغبش: آخر ظلمة الليل. فيكون بياض الفجر على حدها.
٦  أي اتصلت بمسافة، إذ هو فضاء ممتد لا تقيم فيه الحدود.
٧  أي نداوتها ونضرتها.
٨  كناية عن النسل واستيلاد الاثنين ثالثًا. ومذهب أن الحب خداع من الطبيعة وتسويل بين الذكر والأنثى لإيجاد النسل: مذهب صحيح؛ ولكن في الطبيعة من يسمو عليها ويقهرها، فلمثل هذا حب آخر ومذهب غير ذاك.
٩  كناية عن أسباب المودة وأغراضها.
١٠  كناية عن مواد الشهوات فلا تطير فيه حماقاتها.
١١  كناية عما تربط عليه القلب، فتحت كل حب نية آثمة أو بريئة.
١٢  كناية عن الحب للحب لا لغاية أخرى، فهو في غياب الحبيب مثله في حضوره.
١٣  يكثر الأوربيون في رسائلهم الغرامية من سوقيات مبتذلة، كأن الحب حادثة يومية يراد تعيينها بمكانها ووقتها واسم شارعها.
١٤  المدرة: الطين اليابس يكون في حب القمح ونحوه.
١٥  المناسمة: كناية عن قرب المتكلمين أحدهما من الآخر ورقة كلامهما، كأن أنفاس كليهما نسيم يتصل بعضه ببعضه، ولذا تقال في حديث الصاحب للصاحب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤